الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله جل وعلا قد أنعم على هذه الأمة، وأكرمها بنعم عظيمة جليلة، ومن أعظم هذه النعم أن الله جل وعلا قد خصها بخير الرسل، وأنزل عليها أتم وأشمل كلام وهو الكتاب العظيم، وهذا لا شك أن له أثراً في عاقبة هذه الأمة عند ربها، ولهذا كان من أعظم آثارها أنها من أقل الأمم دخولاً للنار، وأكثرها دخولاً للجنة، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار عديدة.
وقد جعل الله جل وعلا كتابه العظيم دليلاً وحجة للناس يعرفون به الحق من الخطأ والباطل، وكذلك يعرفون به الخير من الشر، وجعله الله جل وعلا شفاءً للناس من الأسقام والأمراض، سواءً كانت أمراضاً حسية أو معنوية، أما المعنوية فما يمكن أن يطرأ على الإنسان في نفسه من العوارض التي تكون داخلة على النفس أو الروح، وأما ما كان من الأمور الحسية فمما يطرأ على الإنسان من جراحات وآلام يحس بها في جسده، كل ذلك قام الدليل في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه شفاء له، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما جاء في حديث أسامة بن شريك قال: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته: أنتداوى؟ قال: نعم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما من داء إلا جعل الله له دواءً إلا داءً واحداً. قيل له: ما هو يا رسول الله؟! قال: الهرم )، والمراد بذلك مقدمات آجال الناس في أواخر أعمارهم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يجعل لعلامات موت الإنسان ظهوراً للناس في غالب الأحيان، وذلك معلوم كما جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقدير الآجال على سبيل التقريب كما في السنن وغيرها: ( أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين )، وكذلك ما جاء في ذكر المشيب، والهرم الذي يطرأ على الإنسان، وغير ذلك مما يظهر على الإنسان من ضعف حواسه مما يدل على قرب أجله وبعده عن مواضع القوة في الحياة.
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]، قال غير واحد من المفسرين منهم عكرمة فيما رواه ابن جرير الطبري من حديث سماك عن عكرمة قال: هل ثمة راقٍ يرقيه؟ يعني: إذا كانت حاله كذلك, وهذا لا يدخل في أبواب الرقية، وهي من المستثناة كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السالف في قوله: ( ما أنزل الله داءً إلا أنزل الله له دواءً إلا الهرم )، وجاء في معنى هذا جملة من الأحاديث، وهو ظاهر من جهة الدلالة في كلام الله سبحانه وتعالى.
والكلام على مسألة الرقية والاستشفاء ينبغي أن يقدم له بمقدمة، وهي أنه تقرر في الشريعة أن الإنسان لا يصاب بمصيبة من المصائب سواءً كانت حسية أو معنوية مما يصاب به في نفسه وماله وولده وعرضه، لا يكون هذا إلا بذنب اقترفه الإنسان، وقد جاء في ذلك جملة من الآي، وكذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقرير هذا المعنى، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وهذا يدل على أن الإنسان ما نزلت به مصيبة إلا بما كسبت يداه.
وزوال ذلك السبب العارض الذي طرأ على الإنسان يزول بزوال ذلك الأثر، فإذا علمنا أن الذنوب التي يقترفها الإنسان بأحد حواسه سواءً من الأفعال أو الأقوال، أو كان ذلك مما يسره الإنسان من خبيئة نفسه، أو النية التي يصرفها لغير الله جل وعلا، فإن الإنسان يصاب بالذنوب والأسقام والأمراض جراء تلك الذنوب، فإذا تقرر لدينا هذا، وعلم هذا باليقين والنص من كلام الله عز وجل، وأصبح من الأمور المقطوعة، علم أن إزالة ذلك السبب مزيل لذلك الأثر.
ومن المتقرر أصلاً بإجماع الأمة أن الاستغفار يغسل الذنوب، وإذا كانت الذنوب جالبة للمصائب والأسقام والأمراض، فإن التوبة دافعة لتلك الأسقام والأمراض، والاستغفار وذكر الله جل وعلا مما يدفع البلاء عن الإنسان على سبيل العموم.
وقد دلت الأدلة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ورود بعض الأذكار والأدعية التي ينبغي للإنسان أن يقولها في بعض المواضع التي تطرأ عليه فعلاً أو قولاً، أو حالاً أو زمناً، فينبغي للإنسان أن يحرص عليها، وهي مما يدفع عن الإنسان البلاء، وهي داخلة في عموم الرقية، فهي علاج قبل نزول البلاء أو قبل احتماله، فإذا نزل البلاء بعد ورود الأخذ بتلك الأسباب من الأذكار، أو تلاوة آي القرآن كان نزول ذلك البلاء يسيراً وأثره يسيراً، وزواله سريعاً، فإذا نزل ذلك البلاء من غير دفع ذلك السبب بإيراد تلك الأذكار من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نزول ذلك الأثر على الإنسان عظيماً، وكان زواله أشق وأعظم.
ولهذا ربما يطرأ على الإنسان شيء من السحر وشيء من العين وهو يذكر الله جل وعلا، فيكون زواله إذا كان قد أخذ بالأسباب قبل ورود تلك الآثار عليه أخف وأيسر، وكحال ورود السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك العين عندما تقع على كثير ممن يذكر الله جل وعلا، فإن زوال ذلك الأثر لمن أخذ بالسبب الشرعي أسرع ممن لم يأخذ بذلك السبب الذي يدفع ذلك المرض، الذي دل الدليل على وروده في حال عدم الاحتياط.
هذا ما يتعلق بمسألة الاحتياط قبل ورود الأسباب التي يعالجها الإنسان بالرقية التي ينبغي للإنسان أن يحترز بها، والنصوص في ذلك كثيرة، ويحرص الإنسان على ما يحمي على سبيل العموم أكثر مما يحمي على سبيل التخصيص.
والنبي عليه الصلاة والسلام بين أن ثمة أذكاراً تحمي الدار بكاملها، ولو بشيء يسير كذكر بسم الله الرحمن الرحيم، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله: ( أن الرجل إذا دخل داره، فقال: بسم الله، قال الشيطان: لا مبيت )، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: ( أن الرجل إذا دخل داره ولم يذكر اسم الله دخل الشيطان، وإذا أكل طعاماً ولم يذكر اسم الله، قال الشيطان: لكم مبيت ولكم عشاء، وإذا ذكر الله جل وعلا عند دخوله البيت، وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت اليوم ولا عشاء )، يعني: أن الحرز شمل البيت وأهله، وهذا مما ينبغي للإنسان أن يعتني به، وهو لفظ يسير يحمي الإنسان من ورود العوارض عليه.
كذلك العناية بالأذكار التي دل الدليل عليها بخصوصها من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تحمي الدور، فتلاوة بعض آي القرآن من سورة البقرة وآل عمران تحمي البيت، وكذلك تقي الإنسان وأهله من السحر، وكذلك آخر آيتين من سورة البقرة، وغير ذلك من الآي التي تتعلق بالدور، ولذا ينبغي للإنسان أن يعتني بذلك حتى يحمي أهله وذريته.
وأما ما يتعلق بمسألة العلاج بالرقية فيقال: إن الرقية يقصد بها ما يتداوى به الناس من لفظ، وكذلك ما يتداوى به الناس من أمور محسوسة، سواءً كان ذلك من أبخرة أو مطعومات ونحو ذلك، فإنها تسمى رقية.
وهي من جهة الأصل مشروعة إلا ما كان شركاً، وقد جاء في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! إنا كنا في الجاهلية لنا رقى نرقي بها، فما ترى في ذلك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بها ما لم تكن شركاً، أو ما لم تكن من الشرك )، وهذا دليل على أن الأصل في الرقى الإباحة.
والرقى قد تكون من كلام الله، وقد تكون مما يعرض من كلام العرب، وقد تكون أيضاً من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تكون متضمنة لمعانٍ قد دلت عليها النصوص في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعاني المحمودة، فإن هذا مما يجوز أن يرقى بها.
الرقية شاملة لكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاملة كذلك للألفاظ العربية المفهومة من جهة المعنى، ولو لم تكن من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفعت عنها الشبهة والظنة من أن تكون من الطلاسم وغير ذلك، فإنها مما لا حرج فيه، ولهذا كانت العرب ترقي النملة التي تطرأ على بعض الناس، وهي داء يخرج في جنوب الناس، وتطرأ على النساء أكثر، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على تعليم هذه الرقية، وهي من ألفاظ العرب الدارجة المسجوعة، وقد جاء هذا عند الإمام أحمد و أبي داود و البيهقي من حديث عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز -وهو ابن الخليفة الراشد- عن صالح بن كيسان عن أبي بكر بن سليمان عن الشفاء بنت عبد الله أنها كانت عند حفصة عليها رضوان الله تعالى قالت: ( دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة عليها رضوان الله تعالى، فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: علميها رقية النملة كما علمتيها الكتابة )، ورقية النملة عند العرب كما جاء في قول المرأة: تكتحل وتنتعل وتختضب، وكل شيء تفتعل إلا أنها لا تعصي الرجل، ورقية النملة عند العرب من جهة المعنى سليمة وصحيحة، ولا يقال بمنعها.
وقد جاء في رقية البهيمة قوله: ( اذهب إليها فانفث في منخرها الأيمن أربعاً، وفي الأيسر ثلاثاً، وقل: اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا يرفع الضر إلا أنت، فعل ذلك فبرئت )، مما يدل على أن الرقية أيضاً كما أنها تكون على الإنسان كذلك تكون على بهيمة الأنعام.
وكذلك لا حرج فيها أن تكون على الجماد، وهذا مما دل عليه الدليل، وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن حنظلة عليه رضوان الله تعالى أنه كان يرقي البهائم، ويضع يديه على الضرع وعليها فيرقيها، فتبرأ مما هي فيه، وجاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال: (كنت أرعى غنماً لـعقبة بن أبي معيط ، فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر وكنت غلاماً، فقال: أعندك حليب؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ائتني بشاة لم يضربها فحل، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ضرعها فذكر الله جل وعلا، فحلبها عليه الصلاة والسلام ثم رجعت كما كانت )، وهذا يدل على أن البهيمة تشفى مما يطرأ عليها، وكذلك فيه من آثار الإعجاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هناك شيء من الألفاظ مما لا يدل عليه الدليل مما عرف تجربة ولم يكن من الشرك، فإنه يقال: لا حرج على الإنسان أن يتداوى وأن يرقي به.
وأعظم الرقى هو ما كان في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دل عليه الدليل من الوحي فإنه أعظم شفاء، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن قد أنزله شفاء للناس، قال الله سبحانه وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].
وهنا مسألة: هل يجوز للمسلم أن يأخذ رقية عند يهودي أو نصراني أم لا؟
الصواب في ذلك الجواز، وهذا الذي قال به أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى كما صح عند الإمام مالك في كتابه الموطأ من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها كانت تذهب إلى يهودية ترقيها، فدخل عليها أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى فقال: أرقيها بكتاب الله، وهي يهودية، مما يدل على أن الكافر إذا رقى بالقرآن غيره، أو بشيء من السنة وهو شيء معروف أن هذا لا حرج فيه، وقد جاء عند البيهقي أن امرأة عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى كانت تذهب إلى امرأة يهودية ترقي عينها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه دليل على جواز رقية أهل الكتاب إذا عرفت، ولم تكن من الألفاظ الشركية.
وفي هذه المسألة ينبغي أن يقال: إن على الإنسان أن يبتعد عن هذه المواضع إلا فيما كان فيه حاجة، فإنه يقال: إذا كان ثمة حاجة فلا حرج على الإنسان، كأن يكون هناك رجل عرف أنه يعالج من شيء معين بعلاج معروف ولفظ معروف، فإن هذا مما لا حرج فيه، وما دام أنه ثبت عن خير الخلق بعد أنبياء الله عز وجل وهو أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، فلا مجال للقول بمخالفته، وقد قال بجواز ذلك غير واحد من العلماء كالإمام أحمد عليه رحمة الله، و الشافعي كما في كتابه الأم، وقد سئل عن ذلك كما جاء في رواية الربيع بن سليمان أنه سئل عن ذلك، فقال: لا بأس به، قد جاء عن أبو بكر الصديق، وليس له مخالف، يعني: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض الأئمة مال إلى كراهته، فإنه يخشى أن يكون مما بدلوا من ألفاظهم التي يرتجلونها مما ليس من كلام الله جل وعلا، وقال بكراهته غير واحد من العلماء كالإمام مالك عليه رحمة الله، والصواب في ذلك الجواز.
والرقية مشروعة، ولا خلاف عند العلماء في ذلك، ولكن الخلاف عند العلماء في مسألة: أيهما أولى أن يصبر الإنسان أم يرتقي؟ ولا أعلم أحداً من العلماء قال: إن الرقية لا تجوز، أو قال: إنها محرمة، وإنما الخلاف في مسألة: أيهما أولى، أن يصبر الإنسان على مرضه الذي هو فيه، ويدعو الله جل وعلا، أم يرتقي؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على عدة أقوال:
فذهب جماعة من العلماء إلى أن الرقية جائزة، يستوي فيها الأخذ بالرقية وعدمها، وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء، وهو قول الحنفية والمالكية، واستدلوا بجملة من الأدلة مما يدل على جوازها من غير ترغيب أو حض، وقالوا: قد استوت الأدلة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث والإمساك.
وذهب بعض العلماء إلى أن الرقية مستحبة، وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من الحنابلة، وهو قول جمهورهم، ونص عليه الإمام الشافعي عليه رحمة الله، قال: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بعض أصحابه بالرقية، وكما جاء في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى قالت: ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسترقي من العين )، وهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب الرقية، وهذا فيه دليل على الاستحباب، وهذا هو الظاهر أن الإنسان يرقي نفسه، إلا أنه إذا أراد التمام والكمال فلا يتجاوز نفسه إلى غيره، وإنما يرقي نفسه بنفسه، وهذا هو الأولى، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يطلب من غيره، فإذا طلب غيره منه أن يرقيه فإنه لا حرج عليه، ولا يمتنع، كما كانت عائشة عليها رضوان الله تعالى ترقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الصحيح عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أقرأ عليه المعوذتين، وأنفث في يده، ثم أمسح بها على جسده؛ وذلك لأن يده فيها من البركة أعظم مما في يدي )، وهذا يدل على أنه يجوز للإنسان أن يرقي غيره، وكذلك أن يرقي نفسه، وهذا هو الأولى.
ومن العلماء من قال بالكراهة، وأن الأولى للإنسان أن يصبر، وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء، واستدلوا بجملة من الأحاديث، من ذلك حث النبي عليه الصلاة والسلام المرأة السوداء ألا تطلب الرقية، كما جاء في الصحيح من حديث عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، قال: (قال لي عبد الله بن عباس : أتريد أن ترى امرأة من أهل الجنة؟ قلت: نعم. قال: هذه المرأة السوداء. قال عليه رحمة الله: ثم قال لي: إنها أتت النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت تصرع، فقالت: يا رسول الله! إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن شئت صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئت دعوت الله لكِ، فقالت: يا رسول الله! أصبر، ولكن ادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم )، قالوا: فلما اختار النبي عليه الصلاة والسلام لها الشيء الفاضل وترك المفضول دل على أن الأفضل هو عدم الرقية، ولكن يقال: إن هذا فيه طلب رقية، وليس فيه رقية، وهو أمر زائد عن حد الرقية، وذلك أن الرقية أن يرقي الإنسان نفسه، وكذلك أن يرقي غيره من غير طلب، ولكنها لما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبت منه الرقية، فهي مسألة خارجة عن مسألتنا، وهي أن الإنسان ينبغي له أن يكتفي برقية نفسه من القرآن، وهذا قدر مستحب ومشروع، وهو خارج عن مسألتنا.
وأما قصد الإنسان لغيره أن يرقيه على سبيل الانتقاء والاستدامة فإنه خلاف الأولى، وهذا ما جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الصحيح من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، وبينما أنا كذلك إذ رأيت سواداً عظيماً فظننت أنها أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم رأيت سواداً عظيماً قد ملأ الأفق، فقيل: انظر يمنة وانظر يسرة، هذه أمتك. قال: ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. قالوا: ومن هم يا رسول الله؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ).
وفي هذا دليل على أفضلية أن يعتني الإنسان برقية نفسه، وأن يبتعد عن الإكثار من طلب الرقية من الغير، وهذا هو في غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يشرع للإنسان إذا رأى مصاباً أن يبادر برقيته والنفث عليه، أو طلب رقيته، فإن هذا من النفع الذي يستحب أن يبذله الإنسان، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما جاء في الصحيح من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلدغت رجلاً منا عقرب، فقال رجل: أرقيه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه )، يعني: أنه يستحب للإنسان أن يبادر بهذا النفع إن كان لديه علم بالذي يزيل ذلك المرض. وهذا يدل على استحباب المبادرة بالرقية.
وأما طلب الرقية فهو خلاف الأولى، وذلك لمجموعة من المفاسد:
أولها: أن ذلك مما يضعف التوكل، وقد جاء في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وغيره، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( ما توكل على الله من استرقى أو اكتوى )، وإسناده لا بأس به، والمراد بهذا إذا كان الإنسان يكثر من طلب ذلك، أو يعلق قلبه بالذي يرقي فهذا مناف للتوكل، وهو الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث عبد الله بن عباس السابق: ( وعلى ربهم يتوكلون )، يعني: أنهم توكلوا توكلاً تاماً، ولم يجعلوا بينهم وبين الله جل وعلا بأخذ الأسباب أحداً، فالقرآن منزل بين أيدي الناس، فينبغي أن يأخذوه على السواء، ومن لم يكن من أهل المعرفة فيه فإنه يسأل عن مواضع الشفاء فيه حتى يكون من أهل البصيرة.
والسؤال عن مواضع العلم في القرآن أمر محمود، وأما طلب القراءة والاستشفاء من الغير بأن يقرأ عليه فهو الذي في مسألتنا هنا إلا أنه من جهة الأصل جائز، ولهذا لم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك المرأة التي جاءت إليه وطلبت منه أن يرقيها عليه الصلاة والسلام.
المفسدة الثانية: أن في هذا إضعافاً لنفس الراقي، وغرساً لتعظيمه لنفسه، وذلك بكثرة الواصلين إليه، وهذا معلوم، وقد جاء عن سعد بن أبي وقاص (أن رجلاً أتاه فقال: ارقني؟ فقال: أجعلتني نبياً؟ ارق نفسك)، وهذا فيه إشارة إلى أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يكونوا يعرفون أن الإنسان يضع له دكاناً أو نحو ذلك ويرقي الناس، فهذا خلاف السنة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يصنع هذا، ولهذا كانوا ينكرون أن الإنسان يقصد، وتطلب منه الرقية، إلا أن القرآن شفاء، فعلق قلبك بالله سبحانه وتعالى واستعمل القرآن.
والأولى إذا كان الإنسان لا يحسن الرقية أن يسأل أهل العلم والمعرفة: أي القرآن أقرأه على نفسي؟ فيقال: اقرأ على نفسك سورة البقرة، واقرأ على نفسك سورة آل عمران، واقرأ على نفسك سورة كذا وآية الكرسي والمعوذتين، وغير ذلك مما دل الدليل على اختصاصه بمزيد خصوصية، حتى لو كان الإنسان لا يحفظ القرآن فإنه يفتح القرآن ويقرأه، فكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من حفظة القرآن إلا عدداً قليلاً منهم.
وينبغي للإنسان أن يحرص على مرتبة الكمال في ذلك، وهو ما كان عليه الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وكان عليه سلف الأمة قاطبة، وبه نعلم أن ما يفعله كثير من العامة، وكثير من الناس أو من القراء الذين يفتحون الدور أو الدكاكين، أو يتغررون برقية الناس ونحو ذلك أن هذا من الأمور المخالفة التي ليس بمحمودة.
وأما استدلالهم بالعمومات وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه )، فهذا أمر قد وضع في غير موضعه، وهو أمر محمود على الصفة التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أن يبادر الإنسان في حال رؤيته لمصاب، لا أن يتفرغ لرقية الناس، وأن يبحث أو يدعو الناس إليه، ولهذا سعد بن أبي وقاص عليه رضوان الله تعالى أنكر على من قصده أن يرقيه مع علمه بأنه يعلم من القرآن، فقال: (جعلتني نبياً؟) يعني: أن هذا يورث القارئ شيئاً من العجب والثقة بنفسه مما لا ينبغي أن يكون، وهذا إذا كان في سعد بن أبي وقاص وهو من علية الناس فإنه في غيره من باب أولى.
المفسدة الثالثة: من المفاسد أن الإنسان ربما يعلق نفسه بذلك القارئ من دون الله جل وعلا، فإذا لم يعلق به في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة تعلق به فيما بعد ذلك.
ولابد أن نعلم أن الشيطان هو سبب لكثير من الدواخل والعوارض التي تطرأ على الإنسان، فإذا كان يريد كبح الإنسان عن مواضع الطاعة، أصابه بنفس أو بآهة ونحو ذلك، فرأى أو علم أن الإنسان يفسد ذلك الرجل بصلاحه ونحو ذلك، فإنه ربما يكون من مداخل الشيطان أن يزيل منه ذلك المرض إذا كان الشيطان من أسباب تلك المصيبة وذلك العمل الذي طرأ على الإنسان، فيزيله منه عند إتيان ذلك الرجل الصالح أو الرجل الخير، الذي يقرأ عليه ولو كان من عامة الناس؛ لأن المفسدة الأعظم أن يعلقه بذلك الشخص، فإذا بعد عنه عاد إليه، ويريد من ذلك أن يعلقه بذلك الرجل حتى يزول معه التوكل، ويزول معه قوة الإيمان حتى ربما يتعلق به من دون الله جل وعلا، فربما يشرك في مثل ذلك، وهذا من مكائد الشيطان وحبائله.
وينبغي للإنسان وينبغي للقراء الذين يتفرغون للقراءة أن يتقوا الله جل وعلا في هذا الأمر، وأن يقدروا الأمور التي جاءت في النصوص الشرعية بقدرها، وأن يدرك الإنسان أن تفرغه لذلك فيه ما فيه من المفاسد.
كذلك فيما يتعلق بمسألة أخذ المال، أخذ المال من جهة الأصل جائز، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وإن أعظم ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، وهذا يدل على جواز أخذ ذلك، ولكن التفرغ تفرغاً تاماً لأخذ المال، أو التفرغ لهذه التجارة وقصدها، والاستدلال بما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وغيره هو استدلال بقضية عين على مسألة مقننة تامة تقديراً، وهذا فيه ما فيه من الخروج عن النص.
أما مبالغة كثير من القراء والرقاة أو العامة بفرض مبالغ طائلة فهذا من الأمور المخالفة التي لا ينبغي أن يلجأ إليها الإنسان، ولا يقال بتحريمها إلا أنها من الأمور المذكورة التي ليست محمودة، وربما كان دافع الإنسان أولاً توكله على الله، وربما ابتدأ فيها الإنسان مخلصاً لله، ثم كان مع استكثار المال، ومنح الناس له، ويقع فيه إعجاب في نفسه وعدم توكل على الله جل وعلا، وكذلك تقصير في أبواب العمل؛ لأنه يرى من أثر طاعته وإيمانه ويقينه فيما يزعم شفاء الناس، فيذهب منه اليقين والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وكذلك المفسدة التي تطرأ على الناس من قاصديه، ونحو ذلك من استدرار أموالهم، وإخراجها من غير وجه حق، ومبالغة ذلك بمبالغ طائلة، ونحو هذا، فهذا من الأمور المذمومة التي ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها قدر وسعه.
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة من الرقية، فينبغي للإنسان أن يكون متبصراً فيها، وعلى علم بها، جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام صفات وهيئات في أبواب الرقية:
منها أن يضع النبي عليه الصلاة والسلام يده على المريض -كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى- على موضع الألم، (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يضع يده على موضع الوجع، أو على رأس المريض، فيقول: اللهم اشفه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً )، وقد جاء في الصحيح من حديث ثابت عن أنس بن مالك نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الراقي ينبغي له أن يضع يده على المريض سواءً على رأسه وكتفه، ويحذر أيضاً من المحذورات، ومن المحذورات في هذا الموضع أن يضع الإنسان يده على موضع عورة المريض، وهذا من الأمور المحرمة، كأن يمس فرجه، أو أن يمس دبره، ويقول: إن هذا من مواضع المرض، وهذا من الأمور المحرمة، وذلك أن الشارع عليه الصلاة والسلام إنما وضع يده على المريض تارة، وعلى موضع المرض تارة، وتارة يمكث النبي عليه الصلاة والسلام من غير وضع شيء، وهذا يدل على أن وضع اليد في ذاته ليس من الأمور المفيدة للرقية، وحبسها ليس من الأمور الحابسة للرقية، ويدل على أنها من مواضع التمام، ومواضع التمام لا تستحل بها الحرمات.
ومن الأمور المحرمة كذلك مس المرأة الأجنبية، سواءً كان ذلك بحائل أو بغير حائل، وهذا محرم، ولا خلاف عند العلماء في ذلك، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الصحيح في قوله: ( اليدان تزنيان وزناهما البطش ) وجاء في رواية: ( المس )، وهذا يدل على حرمة مس الرجل للمرأة الأجنبية، ولا يجوز أن يفعل ذلك الرجل برقية أو بغيرها.
ومن المحذورات في ذلك أن يضع الرجل يده على المريض، ولكنه لا يذكر شيئاً من ألفاظ الرقية المشروعة، أي: كأنه يجعل يده سبباً من أسباب الشفاء، وهذا فيه ما فيه، أو يضع الإنسان يده على شخص عن يمينه وشخص عن يساره، فيضع يديه على الاثنين، ويرقي الذي عن اليمين، ولا يرقي الذي عن شماله، وهذا قصور في الفهم، فينبغي للإنسان أن يتعمد الاثنين بالرقية، ولو كان اللفظ واحداً.
كذلك من صفات الرقية التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يرقي بها الناس ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه كان يضع أصبعه في التراب، ثم يضع يده فيما هو عليه، ثم يضعها في التراب حتى يعلق بها التراب، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( تربة أرضنا بريقة بعضنا )، وجاء في بعض الألفاظ: ( باسم ربنا يشفى مريضنا )، وهذا يدل على أن الإنسان يستشفي بالتراب، وفي هذا إشارة إلى ما يفعله بعض الرقاة أنهم يأخذون تراباً ويضعونه فيما ينفثونه، ثم يخرجون منه الحصى، ويبقى فيه شيء من رذاذ التراب وغباره ونحو ذلك، ويشربه المريض، فهذا من الأمور التي لا بأس بها.
كذلك ينبغي أن يحرص الإنسان على الرقى التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء فيها الدليل، فهي أولى ما تكون، من ذلك القرآن الكريم أو الشفاء للناس على سبيل العموم، ومن ذلك الألفاظ أو الأدعية التي يرقى بها المريض، ومن ذلك ما جاء في الصحيح من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري (أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: أتشتكي شيئاً؟ قال: نعم. قال: أرقيك؟ قال: نعم. فقال جبريل: بسم الله أرقيك من كل عين حاسدة، ومن كل نفس، الله يشفيك، باسم الله أرقيك )، يعيد بسم الله أرقيك مرة، فهذا استفتاحه فيها، فيقول: (بسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك، من كل عين، ومن كل نفس بسم الله أرقيك)، وهذا يكررها مرتين في ابتداء الرقية، وكذلك في آخرها، وكذلك يقول ما جاء في حديث عائشة، وفي حديث أنس بن مالك يقول: ( اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً ).
وكذلك يذكر الآيات التي جاء فيها النفث وينفث، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفث، ينفث في يديه، ونفثت عائشة عليها رضوان الله تعالى في يده عليه الصلاة والسلام، ثم مسحت جسده، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يمسح جسده عند نومه، فيرقي نفسه عليه الصلاة والسلام بقراءة المعوذتين والإخلاص، ثم يضع كفيه على ما أمكنه من جسده، وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان يمسح جسده إلا أنه لا يمسح جسد غيره إلا محرمه، كما فعلت عائشة عليها رضوان الله تعالى.
وكذلك ينبغي للإنسان أن يقصد الأمراض المعروفة ببعض الأذكار والأدعية التي دل الدليل على أن هذا شفاء لها بذاتها، كمسألة السحر والشياطين والمس، وهذا قد جاء فيه أدلة، منها قراءة البقرة وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( سورة البقرة لا تستطيعها السحرة )، وقيل: الشياطين، وكذلك قراءة المعوذتين، فإنها علاج من السحر، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد رقي بالمعوذتين، فشفاه الله سبحانه وتعالى مما كان به من سحر، كما جاء في الصحيحين وغيرهما.
وكذلك يحرص الإنسان على الأفعال التي كان يفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أقرب الناس بمعرفة هديه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك الكتابة، كالكتابة بالزعفران، أو الكتابة بالأحبار التي لا تضر الإنسان، ووضعها في الماء، وغسلها، ثم شربها، فقد دل الدليل عن عبد الله بن عباس كما رواه الإمام أحمد من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه كان يكتب على ورق من الزعفران فيقول: بسم الله، الحمد لله رب العالمين، ويذكر الدعاء المعروف للمرأة إذا تعسر عليها حملها، وجاء هذا عن غير واحد من السلف، كما رواه الإمام أحمد عن ليث عن مجاهد بن جبر ، ورواه خالد عن أبي قلابة وغيرهم من السلف، فلا حرج على الإنسان أن يكتب ثم يضعه في ماء، ثم يشربه، وهذا في الزعفران أو في غيره مما يكتب به، حتى ولو كان من الأحبار؛ فما ثبت منها فإنه لا يضر الإنسان، والاستشفاء ليس بهذا الزعفران أو بهذا الحبر أو غيره من المداد الذي يخط به، وإنما هو بمكتوب من ذكر الله سبحانه وتعالى.
وكذلك يحرص الإنسان على الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعرفة أحواله عليه الصلاة والسلام في الإكثار من الرقية وتكرارها، فإن هذا من الأمور المحمودة، فالقرآن قد جاء بالشفاء بالأمور المحسوسة، وجاء بالشفاء للأمور العضوية، كما جاء في الصحيح من حديث عمرو بن العاص عليه رضوان الله تعالى: ( أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو وجعاً وجده منذ أسلم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: بسم الله، ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر، سبعاً )، أي: أن يحرص الإنسان على ذكر التسبيح، وأن يكون ذلك وتراً كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يحرص على الوتر في أذكاره، وهذا يدل على أن الإنسان ربما يصاب بوجع يحدث له، ولو كان في ابتداء إسلامه، فـعثمان عليه رضوان الله تعالى لما دخل الإسلام طرأ عليه ذلك الوجع, وهذا يكون من الشيطان، فيضع الإنسان يده عليه سواءً كان في جسده بجنبه أو برأسه أو بيده أو بضرسه أو بعينه، فيقول ذلك الذكر المعروف، والتكرار هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكرر على النحو والقدر المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا مبالغة.
وكذلك أن يجتنب الإنسان الأمور والتكلفات التي يفعلها بعض الناس ويتجوزون فيها، وخاصة ما يتعلق بمسائل المس، ومسائل المس مسائل متشعبة، وكثيرة جداً، ولكن هدي النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك رقية الممسوس بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعد عن التكلف في هذا الأمر مما يسمى بخنق المريض أو ضربه، أو نحو ذلك، أو جرحه بإرادة قتل الجان ونحو ذلك، فهذا من أنواع التكلفات، لكن يلتزم ما يعرف من الرقى المعلومة.
والرقى هي ما ثبت في كلام الله، وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرف من كلام العرب، وأن يحرص أيضاً على النفث، والنفث هو إخراج الهواء من غير ريق، ويعرفون بأن الإنسان ينفث بأن يكون حاله كحال الإنسان إذا أكل زبيباً، فإنه يخرج ما فيه من حرارة زائدة، وما في لسانه من رذاذه من غير إخراج الريق، ولا عبرة بمن كره الريق أو بمن كره النفث عند قراءة القرآن من السلف، وهذا جاء عن بعض أصحاب عبد الله بن مسعود كما روى ابن أبي شيبة عن المغيرة عن إبراهيم أنهم كانوا يكرهون النفث عند الرقية، ومراد إبراهيم النخعي بقوله: (يكرهون النفث عند الرقية) أي: أصحاب عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، ولا عبرة بهم فإنه قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من فعله، وكذلك من تقريره عليه الصلاة والسلام، ولا عبرة بمن خالف في هذا الباب أو في غيره ما ثبت في ذلك الدليل، وصرح من جهة الدلالة.
وينبغي للرقاة أن يحذروا جملة من المحذورات: منها أن ينصبوا أنفسهم للناس ويتفرغوا لهذا، وأن يجعلوا ذلك تكسباً لهم ويتفرغوا له؛ فإن هذا من الأمور المذمومة ما وجد للإنسان موضع للتكسب والرزق، وقد عرف بالتجربة أن من سلك هذا الطريق وتفرغ له، وجعله تكسباً أنه في غالب أمره يصاب بالاعتلاء بالنفس والغرور، وربما كان ذلك في آخر أمره لانتكاسه عن الطريق السوي، والبعد عن الحق، وعن المنهج القويم، وعن التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فيعلق قلبه بهذا الأمر، فيعظم ويغتر بنفسه حتى يقع في الكبر شيئاً فشيئاً حتى يبتعد الإنسان عن الحق، والعياذ بالله.
كذلك أن يبتعد الإنسان عن المواضع التي لا دليل عليها مما يسمى بخنق المريض عند القراءة عليه، ويريد بذلك أنه يخنق الجان.
ولا بد أن يعلم أن الجان إذا تلبس بالإنسان أن الإنسان لا يحس بذلك الأذى الذي يكون، فإذا ضرب فإن الذي يحس هو الجان، ولكن الأذية تتعدى من طريق بعد زوال المس، فإذا خرج الجان منه بقيت الآلام في الإنسان، وهذا من الأذية، ولكن العلاج يكون بالقرآن، ولهذا ربما تزهق روح الإنسان، وذلك لضربه ما يصيبه من الأذى وهو يظن أن الأذى يلحق الجان، وربما مات الإنسان من الخنق، أو ربما من الجراحة، وهو يريد بذلك أن يقتل الجان.
وكذلك أن يحذر الإنسان من الخوض مع الجان بالكلام وسؤاله ونحو ذلك، فإنهم كذبة، وقد أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، ويكفي في هذا أن خبر الإنسي المجهول لا يقبل، فكيف بالجني المجهول الذي لا يعلم حقيقته هل هو من أهل الإيمان أو من غيره؟ وقد جاء في الصحيح قصة أبي هريرة: ( أنه جعله النبي عليه الصلاة والسلام حارساً على الزكاة، فجاءه الشيطان بصورة فقير فحبسه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما فعل أسيرك يا أبا هريرة البارحة؟ فقال: إنه اشتكى الحاجة، فأطلقته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد كذبك وسيعود. قال أبو هريرة: علمت أنه كذب وسيعود، فعاد إليه )، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أما إنه كذب ) مع أنه شكى الحاجة والفاقة والعيال ونحو ذلك، والمسكنة، فهذا شيطان مارد قد كذب على أبي هريرة، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة أنه كذب وسيعود لما كان إليه، فإذا كان قد أعطاه العهد أنه لا يعود ثم عاد بعد ذلك فهذا يدل على أن الإنسان ينبغي له ألا يخوض مع الشياطين بالكلام، فإنهم كذبة لا يؤخذ منهم قول، ولا يؤخذ منهم فعل، لهذا يعلم أن الخوض معهم خوض مع كذبة، فهم متمرسون بالكذب، وهو من الأمور المحذورة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على النبي محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر