الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالله سبحانه وتعالى قد أتم على هذه الأمة النعمة، وأكمل لها الدين، وما جعلهم في حيرة وتعلق بغير الحكم الشرعي؛ لهذا كانت هذه المنة أعظم منة من الله سبحانه وتعالى بها على هذه الأمة، قال الله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، فالنعمة هي الدين، وتمامها كمال الدين؛ لهذا حسد اليهود هذه الأمة على تمام هذا الدين.
ومن تمام هذا الدين وكماله: صلاحيته لكل زمان ومكان؛ فلا يحتاج في كل موضع وفي كل حال وفي كل نازلة إلى نص بتلك النازلة، وإنما جاءت أصول عامة تجري على فروع كثيرة؛ لهذا أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم كما قال عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: ( إنما بعثت بجوامع الكلم )، وهذا كما أنه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو لكلام الله عز وجل من باب أولى؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم دون كلام الله جل وعلا بياناً وفصاحة وبلاغة وكمالاً؛ فالكمال هو لله جل وعلا من غير نقص بأي نوع من أنواع النقص؛ لهذا كان من كمال هذا الدين أن جعل الله عز وجل فيه قواعد كلية وأصولاً عامة تحمل على أفراد وعلى نوازل؛ فتصلح هذه الأصول مرجعاً في كل زمان ومكان، وفي كل مسألة وفي كل نازلة؛ لهذا بقيت أحكام الشريعة ظاهرة بينة والأدلة الشرعية يستدل بها في كل حال وفي كل نازلة وفي كل عصر وفي كل مصر، ومن تأمل الأعصار الماضية -وكذلك بقاع العالم- وجد أن الشريعة والأدلة من الكتاب والسنة هي مدار الاستدلال على اختلاف النوازل، وتنوع الحوادث وغير ذلك.
الشريعة هي المرجع، وهذا هو ثمرة كمال هذا الدين، وإتمام الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة النعمة.
ومن تمام نعمة الله عز وجل: أن سهل لهذا الأمة وجود الاستنباط، وكذلك وجود العلماء الربانيين الذين يستنبطون من الأحكام الشرعية أدلة للفروع وللأحكام النازلة؛ لهذا كثرت فتاوى العلماء في الأحكام النازلة في المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها؛ فكانت الأدلة من كلام الله سبحانه وتعالى هي الأصل، والفتاوى التي تؤخذ منها إنما تنزل بصيغة النوازل وبيان أحكامها، والمستند من جهة الأصل هو كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كلامنا في هذه الليلة عن نوازل الصيام.
نوازل الصيام متعددة ولها فروع متشعبة، وكلمة الصيام تعني: الإمساك، وما يتعلق بالإمساك، وليست النوازل محصورة في المفطرات فحسب؛ بل ثمة نوازل متعددة فيما يتعلق بالفلك وما يتعلق بالرؤية، وكذلك بسبل وطرق الإمساك، كذلك في المفطرات, ومنها ما يتعلق بالمكلف بنفسه.
ومعلوم أن للصيام أركاناً منها: الصائم، وكذلك الإمساك، وكذلك الزمن الذي يمسك فيه، وكل هذه لها متعلقات ولها نوازل.
النوازل عند العلماء محل عناية واهتمام، وقد صنفت فيها جملة من المصنفات، وهي موجودة متواترة في المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها؛ ولهذا من أصول الدين والملة ما يسميه العلماء بالقياس؛ وهو الاعتبار؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، والاعتبار هو القياس؛ أن يقاس فرع على أصل لعلة جامعة بينهما، وهذه العلة ينبغي أن تكون محل اتفاق, وقد دل الدليل من الكتاب والسنة عليها.
كلامنا في هذه الليلة على النوازل، وإلحاق هذه النوازل وهذه الفروع بأصولها من غير كلام على الأصول؛ لأننا لو تكلمنا على الأصول، وبينا كلام العلماء والخلاف الوارد في هذه المسألة، وأدلة كل قائل، ورد كل قول على الآخر؛ لما اتسع الوقت، ولاحتاج الموضوع إلى أضعاف مضاعفة من الزمن الذي سنقضيه هذه الليلة، وإنما كلامنا في هذه الليلة عن إلحاق تلك النوازل بالأصول، وإلحاق تلك الفروع بأصولها، ونبين الراجح في الحكم الشرعي في ذلك الأصل من غير أن نخوض في الخلاف، وإنما يشار إلى الخلاف بالجملة من غير دخول في التفصيل.
وقد تكلمنا على أحكام الصيام من جهة الخلاف الأصلي، والأدلة التي جاءت في هذا الباب من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تشبث به أصحاب الأقوال من المذاهب الفقهية الأربعة، وإنما نبين الصواب في هذه الليلة فقط، ولا ندخل في مسائل الخلاف، وإنما نبين النازلة، وكذلك أوصافها, وإلحاقها بالأصل والعلة الجامعة بينهما، ثم نبين الحكم الشرعي، وهذا هو الاختصار في هذا الباب، والخوض في مسائل الخلاف في الأحكام الأصلية في هذا الباب قد تكلمنا عليه في مواضع عدة من عدة كتب من شرح كتاب الصيام من دليل الطالب، وشرح كتاب الصيام لزاد المستقنع، وشرح كتاب الصيام من المحرر، وغيرها من الكتب، وكذلك في محاضرات متنوعة يمكن أن يرجع إليها، كذلك يمكن أن يرجع إلى كلام العلماء عليهم رحمة الله تعالى من السابقين واللاحقين في أحكام الصيام في المسائل العصرية وأدلة كل قول.
مظان المسائل النازلة في مصنفات العلماء هي في كتب الفتاوى، والفتاوى -في الغالب- تطلق على ما أفتى به الإنسان في نازلة من النوازل، وذلك أن الإفتاء لا يكون بالجملة إلا في فتاوى نازلة؛ ولذلك تنسب هذه الفتوى لفلان. أما ما كان فيه نص شرعي من كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس المجال لأحد، وإنما يورد الدليل من الكتاب والسنة، ومواضع الخلاف يكون فيها الاجتهاد، وما ظهر فيه الدليل فالفتوى ليست لصاحب ذلك الكلام وإنما هي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو إمام المفتين؛ ولذلك جمع ابن القيم عليه رحمة الله تعالى رسالة سماها فتاوى إمام المفتين, وهو النبي عليه الصلاة والسلام جمع فيها أقواله، وما سئل عنه عليه الصلاة والسلام وأجوبته في هذا الباب.
وثمة مصنفات عن المذاهب الفقهية الأربعة في مذهب أبي حنيفة وكذلك الإمام مالك و الشافعي والإمام أحمد في النوازل، فثمة فتاوى عديدة في هذا مذهب أبي حنيفة كالفتاوى البزازية لـمحمد البزاز الحنفي ، وكذلك فتاوى خير الدين الرملي ، وكذلك فتاوى الظهرية لـظهير الدين ، وكذلك في مذهب الإمام مالك ثمة البيان والتحصيل لـابن رشد ، وكذلك النوازل لـابن رشد أيضاً، وكذلك النوازل الكبرى والنوازل الصغرى، وكذلك جاء في مذهب الإمام مالك كتاب مذاهب الحكام في نوازل الأحكام للقاضي عياض ، وفي مذهب الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى ثمة جملة من المصنفات في الفتاوى في النوازل كفتاوى السبكي ، وكذلك فتاوى ابن الصلاح و ابن حجر العسقلاني و ابن حجر الهيتمي ، وغيرها من المصنفات، وكذلك في مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى مسائل متعددة مطبوعة كمسائل ابن هاني ومسائل مهنا، وأكثرها نوازل نزلت لم تكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
وأقل العلماء فتيا في النوازل وإلحاق الفرع بالأصل هم: الظاهرية، ومن أخذ بظواهر النصوص من أئمة الإسلام كبعض الفقهاء من الحنابلة.
النوازل في الصيام لها عدة أقسام:
القسم الأول: ما يتعلق بالفلك والحساب؛ وذلك أن الإنسان لا يمكن أن يصوم إلا بمعرفة الوقت الذي يصوم فيه، وابتدائه و انتهائه، وعلامة الابتداء وعلامة الانتهاء.
القسم الثاني: ما يتعلق بالمكلف بذاته بآلية التكليف، والعوارض الحادثة والنازلة في هذا الباب.
القسم الثالث: النوازل من المفطرات.
وهذه الأقسام الثلاثة سنتكلم عنها بالإجمال، ثم نلحقها بأصولها ونبين الحكم الشرعي فيها.
أما القسم الأول وهو: النوازل في الفلك والحساب؛ فيقال: إن الله عز وجل كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متعددة، قد ربط الحكم في هذا، أي: في باب الإمساك والإفطار بالرؤية؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم أو غبي عليكم فاقدروا له )، على خلاف عند العلماء في معنى (فاقدروا له)، والخلاف في هذه المسألة خلاف ضعيف جداً، وقد حكي الإجماع على أنه لا عبرة إلا بالرؤية، حكى إجماع العلماء على ذلك غير واحد كـابن المنذر وابن عبد البر والقرطبي ، وغير واحد من أئمة الإسلام.
والخلاف الذي قد طرأ في هذه المسألة إنما طرأ متأخراً، ولم يعرف عند أهل الفلك النظر لحال الهلال ظهوراً وانصراماً وحساب دخول الأشهر القمرية وانصرامها في الجاهلية وفي صدر الإسلام، ولم يكونوا ينظرون حتى علق الشارع الحكيم الرؤية بدخول الشهر وانصرامه، بدأ بعض علماء الفلك بالنظر في حساب الأهلة ودخولها.
وحساب الأهلة واعتبار الإمساك وكذلك الفطر بها غير معتمد عند عامة أهل الإسلام، والخلاف الذي قد جاء في هذه المسألة خلاف ضعيف منه ما لا يصح عن قائله، ومنه ما يصح وهو قول ضعيف لا يعول عليه؛ وذلك إما أن يكون ذلك العالم الذي قد قال بهذه المسألة لا يعول عليه بالإطلاق؛ لكثرة مخالفته وشذوذه، وإما أن يكون قد بناه على أمر توهماً، ولا يثبت هذا الأمر.
ممن روي عنه القول بالحساب بعض أهل العلم كـمطرف بن عبد الله بن الشخير ، وهو أول من قال بالحساب في دخول الشهر وانصرامه، ومطرف بن عبد الله بن الشخير من أجلة التابعين، ومن أهل الورع والزهد والصلاح، ونسبة هذا القول إليه فيها ضعف، وقد ضعف هذا القول عنه ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى في كتابه التمييز والاستذكار, وقال: لا يصح عنه هذا القول.
وممن قال بذلك من العلماء: ابن سريج وهو من أئمة الشافعية, واعتمد في قوله هذا على قول حكاه ظناً عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى أنه قال بالحساب فيمن كان من عادته أن يحسب أنه لا حرج عليه أن يعمل بالحساب، وفي هذا الكلام نظر!
أولاً: في نسبة هذا القول للإمام الشافعي نظر، وقد أنكره غير واحد من الأئمة كـابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى في كتابه التمييز والاستذكار، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى في عدة مواضع، ثم مما يبين صحة نقض هذا القول: أن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى قد جاء عنه في مواضع عدة في مصنفاته ككتابه الأم، وما ينقله في بعض أقواله مما ينقل عنه من أئمة الشافعية كـالمزني وغيره أنه لا يقول بالحساب، ثم إن قول الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى مقيد بحالة, وهذه الحالة أنه إذا كان الإنسان من عادته أن يعتد بالحساب؛ فإنه يكون مكلفاً هو بنفسه ولا يتعدى هذا التكليف إلى غيره، وإنما الأمة مخاطبة بالرؤية وليست مخاطبة بالتكليف، وكذلك في ظاهر كلام الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى أنه يعتد الإنسان بالحساب إذا غمي أو غبي عليه، كأن يكون يحول بين الإنسان ورؤية الهلال غيم أو قتر أو نحو ذلك هذا قول محتمل، وقد مال إلى هذا القول وصحة هذا القول من الأئمة: النووي عليه رحمة الله تعالى، وكذلك ابن دقيق العيد وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم في مسألة الاحتياط إذا حال دون الرؤية غيم أو قتر.
وكذلك الحالة الثانية: إذا كان الإنسان من عادته أن يحسب فإنه مخاطب هو بما يحسب به, وليست مخاطبة به الأمة وهذا من باب التكريم، وإلا لا يقول بهذا الأئمة، ولكن يصححون هذا القول, ويصححون هذا الخلاف عمن يقول من العلماء في هذه المسألة كالإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى، وكذلك ابن سريج من أئمة الشافعية، وقد عرف بالمخالفة والشذوذ في جملة من المسائل، وقد أحدث جملة من المسائل انفرد بها في هذا الباب، وذكرها غير واحد ممن ترجم له، كمسألة الدور في الطلاق كأن يقول الرجل لامرأته: كلما طلقتكِ، فأنت طالق، فهل تكون طلقة واحدة أو أكثر من ذلك؟! وهذه من المسائل المحدثة في دين الله ولا يعتد ولا ينبغي أن ينظر إليها، بل هو طلاق بدعي حادث لا يعتد به، والمرأة باقية على أصلها، ويقع عليها طلقة واحدة على الصحيح من أقوال العلماء.
وممن قال بهذه المسألة أيضاً من العلماء: عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، وهو من الأئمة الذين قد اعتنوا بالحساب؛ وهذا الإمام له كتاب سماه علم الأنواء، أي: علم النجوم، وقد اعتنى بالحساب، وقد مال إلى هذا القول.
وابن قتيبة ليس من الأئمة المحققين الكبار الذين يعتد بقولهم في أمثال هذه المسائل؛ ولذلك يقول ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى: وإن ثبت عنه هذا القول فليس هو ممن يعتد به في مثل هذه المسائل؛ وذلك أن الأمة قد أطبقت على أنه لا عبرة إلا بالرؤية.
ومما يحتج به بعض المعاصرين ونحو ذلك: أن علم الحساب والدقة فيه إنما هي حادثة طارئة على الأمة وينبغي أن يؤخذ بالجديد ونحو ذلك! فيقال: إن هذا غلط!
وعلم الحساب معروف حتى في الجاهلية، وكانوا يحسبون ويقدرون المنازل ونحو ذلك، ويعرفون المواضع والأماكن وكذلك دخول المواسم، ونحو ذلك بحساب الأفلاك والأجرام والنوازل والأنواء، وكما هو معروف في الجاهلية، هو كذلك معروف بعد ذلك في الإسلام؛ ولهذا قد اعتنى بعض المنتسبين للإسلام بهذا العلم كـابن سيناء وكذلك الفارابي و الكندي وغيرهم من الأئمة المنتسبين للإسلام، وقد صنفوا في ذلك جملة من المصنفات.
وإنما حذر العلماء من هذا العلم والتقليل من شأنه؛ لأنه يعلق القلب به فربما يقع الإنسان في شيء من المخالفات وادعاء علم الغيب، وكذلك مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، إما أن يكون ذلك بالأصول بادعاء علم الغيب ومنازعة الله عز وجل في حقه، وإما أن يكون ببعض المسائل الفرعية كمسألتنا هذه، ومسألة معرفة دخول الشهر وانصرامه بالحساب.
أولاً يقال: إن أهل الفلك وأهل الحساب في الجاهلية وفي صدر الإسلام لم يكونوا يعتنون بحساب الأهلة حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بالهلال، بعد ذلك اعتنى أهل الحساب بذلك؛ لأن معرفة دخول الهلال وانصرامه عند أهل الفلك مسألة ظنية وليست مسألة قطعية، وإلى هذا ذهب غير واحد من علماء الفلك كـابن سيناء وكذلك الفارابي والكندي وغيرهم من العلماء، وقد صنف ابن سيناء كتاباً في ذلك سماه النكت في إيضاح خطأ أهل الفلك، وكذلك قد صنف الفارابي رسالة في ذلك، وكذلك لـابن قتيبة عليه رحمة الله تعالى رسالة في هذا وسماها إبطال أحكام الفلك، وبين عليه رحمة الله تعالى الأخطاء الواقعة عند أهل الفلك في هذا الباب، وعلم الفلك ليس بحادث؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أشار إليه بقوله: ( نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ).
وقد يقول قائل: النبي عليه الصلاة والسلام قد علق الحكم بعلة والعلة قد زالت، وهذه الأمة لم تبق أمة أمية بل صارت تحسب، ويقال: الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فلما تزول هذه العلة يزول معها الحكم ويرجع الناس إلى الحساب إذا كان الناس أهل حساب، ولكن يقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لما علق الحكم بهذا الأمر لم يعلقه بأن الأمة أمة أمية، ولكن يقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام علق الأمر بعدم معرفة الحساب، وعدم معرفة الحساب هو عام عند جل الناس لا يحسبون ولا يعرفون منازل الأجرام والأنواء والنجوم والكواكب والفلك، وإنما يعرفها الخاصة وهذا ما قصده النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إن الأمة قد أطبقت وأجمعت من الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباعهم على عدم الاعتداد والأخذ بعلم الفلك بمعرفة دخول الشهر وانصرامه.
ثم أيضاً المتقرر عند أهل الفلك قبل غيرهم أن الحساب ظني وليس قطعياً، وإن قال بعضهم: إن معرفة دخول الهلال وانصرامه قطعي وليس ظنياً؛ فهذا غلط من وجهين:
الوجه الأول: بتصريح بعض علماء الفلك أن المسألة ظنية وليست قطعية، وكذلك بالنظر إلى علامات معرفة دخول الشهر وانصرامه عند أهل الفلك، ومعلوم أن ولادة الهلال هي بظهور شيء من نور الشمس على طرف القمر؛ فيظهر كالهلال المقوس ويكون حينئذ ولادة الهلال، وهذا الضوء الذي يظهر على طرف من جرم القمر يكون هلالاً، قد يكون بسطوع الشمس على ذلك الجرم، وقد يكون بظهور ذلك الضوء الذي قد مر بجوار القمر؛ فظهر وسطع على الجرم، وولادة ذلك تختلف بحسب الطبيعة صيفاً وشتاءً، وكذلك تختلف بحسب حال الجو، فقد يكون فيه غيم أو قتر أو نحو ذلك، فيظهر الضوء على القمر ومنها ما لا يظهر؛ ولذلك لو سلط ضوء على موضع ولم يسلط على موضع بجواره قد يظهر في بعض أيام السنة على ذلك الجدار شيء من الضوء وقد لا يظهر وإن كانت قوة الضوء وبعده عن ذلك الجدار هي جميع في جميع فصول السنة؛ وذلك لأن انتقال الضوء يختلف صيفاً وشتاء، وكذلك اقتباس الجرم لهذا الضوء يتباين في الصيف والشتاء، وكذلك بتباين الجو وحالة الطقس وهذا معروف عند أهل البلد.
الأمر الثاني: لمعرفة أن الأمر ظني وليس قطعياً، أن أهل الفلك كثيراً ما يجزمون في بعض الأحوال بأن الهلال قد ولد أو باستحالة ولادته؛ فيثبت باليقين خلاف ذلك، ومن ذلك في أعوام سابقة قد قطع أهل الفلك أنه يستحال ولادة الهلال ويولد، ومن ذلك ما في عام (1406) قد أطبق علماء الفلك على استحالة ولادة الهلال، فشهد في هذه البلاد عشرون شخصاً على أنهم رأوا الهلال؛ فصام الناس مع أنهم أطبقوا على ذلك، وقبل مدة ليست ببعيدة بنحو السنة أو السنتين كذلك قالوا باستحالة رؤية الهلال ثم رؤي الهلال.
كذلك من القرائن في هذا الباب اختلافهم أنفسهم في هذه المسألة.
مسألة النوازل في الفلك وما يحدث فيها يقال: إن ثمة جملة من المسائل فيما يتعلق بالنوازل في هذا الباب:
أولها: مسألة الاعتداد بالوسائل الحديثة التي تعتمد على التوقيت كالتقاويم والساعات، وكذلك أخبار وسائل الإعلام عن دخول الشهر وانصرامه، يقال: إنه لما كان الأصل الشرعي مرتبطاً بالرؤية؛ فإذا كانت هذه العلامات وهي التوقيت أو إخبار وسائل الإعلام توفرت فيه الشروط الأصلية في هذه المسألة، وهي: رؤية عدلين للهلال، وتوفرت كذلك شروط العدالة في هؤلاء النقلة، فإنه حينئذ لا حرج من الاعتداد بذلك كالتقاويم، وكذلك الأخذ بالساعة، وأكثر الناس في وقتنا يفطرون على التقاويم، فينظرون إلى الساعة فإن دخل الوقت أفطروا وإن لم يسمعوا آذاناً ولم يروا قرص الشمس قد غاب، فيقال هذا من المسائل النازلة في هذا الباب، فيقال: إذا كان الذي قد وضع هذا الحساب من أهل الثقة والعدالة وقد اعتمد في ذلك على الرؤية الشرعية، وتوفر هذان الشرطان في هذا الموضع فإنه لا حرج من الأخذ بذلك، وكذلك أيضاً في الاعتداد بنقل وسائل الإعلام لمسائل رؤية الهلال من الإمساك وكذلك الإفطار بدخول شهر شوال فإنه يقال لا حرج بالأخذ بذلك إذا توافرت فيه هذه الشروط.
إذاً فمرجع هذه المسألة إلى عدالة النقلة، وكذلك مصدر اعتدادهم في هذا هل هو الرؤية أم أهل الحساب؟ فإذا كان بالرؤية فإن هذا محل اتفاق عند العلماء، وإذا كان الحساب فإن هذا مردود ولا يعتد به.
ومن المسائل النازلة في هذا الباب: إذا انتقل شخص من بلد إلى بلد آخر، وكان قد رأى الهلال في هذا البلد، فأمسك على حسابه ثم انتقل إلى بلد آخر، فهل يكون صيامه على صيام ذلك البلد الذي قد نزل فيه أم على البلد الذي انتقل منه؟! فربما يكون الشهر في البلد الذي انتقل إليه ناقصاً كأن يكون ثمانية وعشرين، ويكون في البلد الذي قد انتقل منه تسعة وعشرين، فهل يمسك على ذلك البلد، أم لا؟!
يقال: إن هذه المسألة مردها إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم - كما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة - قال: ( صوموكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون)، وكذلك ما رواه أبو داود و الترمذي من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون )، قال غير واحد من العلماء: إن العبرة في ذلك الجماعة، كما نص على ذلك غير واحد من العلماء كالإمام أحمد و الشافعي وحكاه الترمذي عليه رحمة الله تعالى في سننه عن غير واحد من الأئمة. قال الترمذي عليه رحمة الله تعالى: فسر غير واحد من العلماء هذا المعنى أن ذلك على جماعة الناس وسواد المسلمين، أي: أنه ينبغي أن يكون على سوادهم، وهذا الذي عليه جمهور العلماء.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يعتد برؤيته الأولى؛ لأنه مخاطب بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )، وفي قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وقد شهد ابتداء الشهر في ذلك البلد فيجب عليه أن يأخذ به. ويقال: إن هذه الشهادة في ابتداء الصيام لا في انتهائه.
كذلك أن من أصول مسائل القياس أن الفرع يلحق بالأصل إذا كانت العلة محل اتفاق وأن لا تكون محل خلاف، وإذا كانت محل خلاف فلا يعتد بمثل هذا القياس؛ لأن القياس إنما هو محل اتفاق عند عامة العلماء؛ فلا يقبل قياس قد اختلف في علته عند العلماء.
والصواب في ذلك أنه يعتد بالبلد الذي قد انتقل إليه وإلى رؤيته، وهذا ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما جاء عن السلف، من ذلك ما رواه الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى في صحيحه من حديث كريب مولى عبد الله بن عباس أن أم الفضل أرسلت به إلى الشام قال: فدخل عليّ رمضان في الشام، فرأيت الهلال ورآه الناس وصاموه، وذلك في خلافة معاوية عليه رحمة الله ورضوان الله تعالى، قال: ثم ارتحلت إلى المدينة فلقيني ابن عباس فسألني وقال: أرأيت الهلال وصام الناس؟ قال: نعم، صمت مع الناس، رأيناه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس : إنا قد رأينا الهلال ليلة السبت فقال ابن عباس لـكريب : أأنت رأيت الهلال؟ قال: نعم، رأيته، ورآه الناس، وصامه الناس، وصامه معاوية عليه رضوان الله تعالى، فقال كريب لـعبد الله بن عباس : ألا نصوم على صيام معاوية ؟! قال: لا، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا في حكم المرفوع، بل هو مقطوع به، وهو أن العبرة بحال انتقال الإنسان إلى البلد الذي ينتقل إليه، ورؤية الهلال فيه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صوموكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون ).
وذهب بعض الفقهاء -وهو قول لبعض الفقهاء من الشافعية وهو الصحيح في مذهبهم، وذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من الحنابلة- إلى أن العبرة بالبلد الذي قد رأى فيه الهلال، وشهد فيه الصيام، وهذا قول مرجوح.
ومن المسائل النازلة في هذا الباب: مسألة الإمساك للصائم في الطائرة حينما يصوم على اليابسة، ثم يرتفع ويرى الشمس.
فيقال: إن الإنسان لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: إذا كان إمساكه في حال بقائه على الأرض، يريد صوم يوم السبت، فلا يحل له أن يفطر إلا بغروب شمس ذلك اليوم، ما لم يدخل عليه يوم آخر، فإذا كان الإنسان مفطراً، في الليل وكان يطعم، ثم ارتفع ورأى الشمس ظاهرة، هل يكون ذلك خاصاً بالنسبة له، أم حسابه بالنسبة لأهل الأرض؟! يقال: إن ذلك خاص به، وليس خاصاً بأهل الأرض وهو مخاطب به، وهذه من المسائل النازلة التي لم يتكلم عليها العلماء؛ لعدم حدوث هذه المسألة، وإنما تكلموا عن المسألة السابقة فيمن ركب الفلك (سفينة) ووصل إلى بلد سريعاً، وفي أثناء هذا الشهر، هل يعتد برؤية ذلك البلد، أم يعتد بالبلد الذي قد سافر إليه؟! وهذه المسألة قد تقدم إلحاق فرعها بأصلها، فيقال: إن العبرة بالنسبة للصيام أن الإنسان يجب عليه أن يمسك إذا كان قاصداً صيام ذلك اليوم.
وكذلك إذا كان الإنسان في النهار، وكان ممسكاً، ثم ارتفع فرأى الشمس طالعة، فيقال: لا حرج عليه أن يفطر، وإن لم يفطر أهل الأرض، وإذا أفطر ثم وصل إلى البلد الذي يريده أو رأى الشمس بازغة في سماء ذلك البلد فلما نزل البلد وجد الناس ممسكين، هل يقال: إنه قد أفطر ذلك اليوم؟ يقال: نعم، أفطر ذلك اليوم بوجه صحيح وقضاء ذلك اليوم بالنسبة له؛ لأنه قد تحقق فيه طلوع الفجر وغروب الشمس من وجه شرعي صحيح لذلك اليوم، وهذا البلد هو خاص بهم وليس خاصاً به بذاته.
ومن المسائل النازلة في هذا الباب: تغير طلوع الشمس من بلد إلى بلد. فمن البلاد التي يعيش فيها بعض المسلمين من يكون الليل فيها سرمداً، وفي بعض البلدان من يكون فيها النهار سرمداً، وفي بعضها من يطول النهار طولاً فاحشاً، ويقصر الليل قصراً مفرطاً، فكيف يكون هذا الحساب؟ يقال: إن هذه البلدان لا تخلو من ثلاثة أنواع:
النوع الأول: البلدان التي تكون بين خطي عرض (45 و 48) درجة شمال وجنوب خط الاستواء، وهذه أكثر بلدان العالم، وأكثر البلدان الإسلامية هي على هذا الأمر باستواء الليل والنهار، وإن زاد الليل قليلاً، أو زاد النهار كذلك فهذا يجب عليهم أن يكون إمساكهم وفطرهم بحسب طلوع الفجر، وكذلك يفطرون بغروب الشمس، وهذا لا خلاف فيه؛ لظاهر كلام الله سبحانه وتعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].
والقسم الثاني: البلدان التي بين (48 - 66) درجة شمال وجنوب خط الاستواء، وهذه البلدان يطول فيها النهار طولاً مفرطاً، ويقصر فيها الليل قصراً مفرطاً، وهذا كبعض البلدان في شمال القارة الآسيوية، وكذلك القارة الأوربية كحال بعض المسلمين في روسيا كموسكو وكذلك في بعض البلدان في شمال أوربا كبروكسل ولندن وكذلك باريس ونحوها.
فيقال: إن أمثال هؤلاء في بعض مواسم السنة عليهم أن يعتدوا بتوقيت أقرب بلد يصح صيامهم بطلوع الشمس وغروبها، وهذه البلدان في بعض الأحوال يشترك فيها وقت المغرب مع وقت العشاء والفجر، فيكون الليل وقتاً يسيراً ويكون الوقت كله شفقاً، ومعلوم أن وقت المغرب ينتهي بغياب الشفق ويدخل العشاء بمغيب الشفق ويدخل الفجر بطلوع الفجر وينتهي بطلوع الشمس، ولكن الليل في بعض الأوقات في هذه البلدان يكون الليل شفقاً وحمرة إلى طلوع الشمس، فلا يعرف وقت العشاء ولا وقت المغرب ولا وقت الفجر.
فيقال: المغرب هو أظهرها باعتبار ظهور الشفق فيصلي الإنسان، لكن العشاء بمغيب الشفق، والشفق لا يغيب. كذلك بالنسبة للصيام يقال: إنهم يعتدون بأقرب بلد، وهذا يلحق بقاعدة يذكرها العلماء قال: ما قرب من الشيء ألحق به، وهذه أقرب قاعدة تصلح لهذه المسائل، وهذه المسألة ترجع إلى خبر قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينما أخبر بخروج الدجال فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أوقات الصلوات قال: ( فاقدروا له قدره ) وهذا الحديث قد رواه الإمام مسلم من حديث عبد الرحمن بن زبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان قال: ( ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عندنا الدجال ، فرفع فيه وخفض، وأكثر من ذكره حتى ظنناه في طائفة النخل، فذهبنا ورجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف ذلك في وجوهنا، فقلنا: يا رسول الله! إنك ذكرت الدجال ، فرفعت فيه وخفضت وأكثرت فيه حتى ظننا أنه في طائفة النخل، فقال: إني أخوف ما أخاف عليكم الدجال ، وإنه ظاهر فيكم، وإنه إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجكم دونه، وإن ظهر ولست فيكم فالله خليفتي فيكم - ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه شاب قطط، عينه ناتئة، أشبهه بعبد العزى بن قطن، فإن لقيتموه فاقرؤوا عليه فواتح سورة الكهف، فقال الصحابة عليهم رضوان الله تعالى: كم بقاؤه فينا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعون يوماً، فقال عليه الصلاة والسلام: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة - فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتكفينا الصلوات الخمس؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا، اقدروا لها قدرها ).
بالنسبة للصلوات يقدر لها قدرها كذلك بالنسبة للصيام تبع؛ لأن الصلاة آكد، فلما كان التقدير في الصلاة وهي مؤكدة آكد من الصيام، كذلك في الصيام من باب أولى، وهو أجوز وأظهر بأن يقدر له قدره وإن كانت الشمس ظاهرة.
ففي مثل هذه الدول يقال: يقدر الإنسان بالنسبة للصلاة بحسب توقيت أقرب بلد يصوم أو يصلي صلاة صحيحة، وإن كانت الشمس ظاهرة لا حرج عليه أن يطعم، وإذا علق الأمر بالإمساك فإن في هذا ضرراً على بدن الإنسان فقد يكون الليل في بعض البلدان ثلاث ساعات أو ساعتين أو أربع ساعات، ويكون صيامه عشرين ساعة، وفي هذا من الضرر على الإنسان ما لا يخفى.
القسم الثالث: الدول التي هي فوق خط عرض (66) شمال وجنوب الاستواء، كالقطبين الشمالي والجنوبي، كالدول الاسكندنافية، وما حولها فهذه يكون فيها الليل سرمداً بنحو ستة أشهر ويكون فيها النهار سرمداً بنحو ستة أشهر، وهذا يرجع فيه إلى الحساب والتقدير كما تقدم في حديث النواس بن سمعان عليه رضوان الله تعالى في قوله عليه الصلاة والسلام: ( فاقدروا له ) أي: من جهة الحساب.
هذا فيما يتعلق بالقسم الأول من النوازل في الصيام فيما يتعلق بالفلك وأمورها.
القسم الثاني: ما يتعلق بالمكلف من نوازل.
فمما يتعلق بالمكلف من نوازل: ما يطرأ عليه من رفع التكليف عنه، سواء باختياره أو بغير اختياره، ممن لم يكن سببه قد وجد فيما سبق.
ومن ذلك: أنواع التخدير الطارئة، هل تلحق هذه بالإغماء -ومعلوم أن الإغماء ليس اختيارياً- أم تلحق بالنوم، والنوم اختياري بالجملة؟! يقال: إن هذا ينظر فيه بحسب الحال، فثمة أحوال متعددة في هذا النوع من النوازل المتعلقة بالمكلف، فيقال: من الأنواع ما هو اختياري، فيلحق بالنوم، كالتنويم المغناطيسي، وهو التنويم بالإيحاء أو التنويم بالإبر كأن تغرز إبر في بعض الأماكن ويسمى بالإبر الصينية توضع في بعض الأماكن لتصل إلى بعض مواضع الإحساس بالإنسان التي تتحكم بوعيه، فإذا وصلت إليه نام الإنسان واستغرق في نومه وهذا يستعمل قديماً وحديثاً، إلا أن العلماء عليهم رحمة الله تعالى لم ينصوا في المسائل الفقهية على مثل هذا النوع، فيقال: لما كان اختيارياً يلحق بالنوم.
وخلاصة هذه المسألة، وخلاف العلماء عليهم رحمة الله تعالى فيها أن يقال: إن النائم لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: إذا كان قد أجمع النية من الليل نوى الصيام، ونام بعد ذلك النهار، فيقال: إذا كان قد أجمع النية من الليل وكان مستيقظاً جزءاً من النهار فقد اتفق العلماء على صحة صيامه.
وأما إذا كان قد أجمع النية من الليل، ولم يستيقظ شيئاً من النهار، فيقال: إن عامة العلماء على صحة صيامه وذهب بعض الفقهاء إلى عدم صحة الصيام، وذهب إلى هذا بعض أهل الرأي، والصواب مما عليه العامة أن صحة صيامه ظاهرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة ) وأخبر أن صحة الصيام متعلقة بتبييت النية من الليل؛ وقد توفر فيه ذلك.
وهذا يخرج عما يتعمده الإنسان من ترك الصلاة؛ فهذه مسألة أخرى قد اختلف فيها العلماء فيمن تعمد ترك صلاة واحدة في رمضان، وما يترتب على هذا، وهذا يتفرع من مسألة من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها هل يكفر أم لا؟ إذا كفر بطل صيامه تبعاً لذلك، وإذا لم يكفر فإن صيامه يكون صحيحاً، وقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب. وهذا فرع عن ذلك الخلاف.
من نام ولم يبيت الصيام من الليل، كأن يكون نام من نهار واستيقظ في الليلة التي تليها فيقال: إن هذا الصيام غير مقبول عند عامة العلماء، وهذا قد حكي فيه الاتفاق.
وأما النوع الثاني: وهو ما لم يكن اختيارياً، أي: أن الإنسان ليس مختاراً له، كأن يخدر الإنسان أو يبنج أو يستعمل له بعض الأبخرة من غير اختياره؛ فيخدر، هذا لا يلحق بالنائم، وإنما يلحق بالمغمى عليه، والمغمى عليه إذا بيت النية من الليل ثم أغمي عليه قد اختلف العلماء فيه على أقوال:
فمنهم من اشترط الإمساك ولو شيئاً يسيراً من النهار، ومنهم من اشترط إمساك أكثر النهار، وهذا مذهب الشافعية.
ومنهم من اشترط شيئاً يسيراً وهذا مذهب الشافعي وكذلك أبي حنيفة .
ومنهم من لم يشترط شيئاً، وهذا ظاهر مذهب أبي حنيفة شريطة أن يكون قد بيّت النية من الليل.
الحال الثانية: أن لا يكون قد بيّت النية من الليل، وأغمي عليه أو قد بنج وخدر بغير اختياره، فيقال: إن هذا صيامه ليس بصحيح، وقد نص على ذلك الإمام أحمد في بعض مسائله قال: إذا أجمع الصائم النية من الليل، ثم صام شيئاً من النهار، ثم أغمي عليه فلا يقضي ذلك اليوم، ويقضي ما بعده من رمضان في حال أنه قد أغمي عليه أياماً متتالية؛ فإن ذلك اليوم الذي قد أغمي فيه، وأمسك شيئاً من النهار وأجمع النية من الليل، فإن صيامه ذلك اليوم الذي قد أجمع فيه الصيام صحيح وما بعده صيامه ليس بصحيح، وقد نص عليه الإمام أحمد، وهو ظاهر مذهب الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله تعالى: أبي حنيفة والإمام مالك وكذلك الإمام الشافعي عليهم رحمة الله.
ويلحق في هذا سائر الأسباب التي توصل الإنسان إلى مثل هذه الحالة كمسألة الإغماء أو التنويم أو نحو ذلك بجميع أنواعه الحادثة أو التي تلحق بهذا الأصل.
وأما القسم الثالث من النوازل: النوازل في المفطرات.
يقال قبل الحديث في هذه المسألة: إن العلماء قد اتفقوا على مفطرات من جهة الأصل، واختلفوا في بعضها، فاتفقوا على خمسة مفطرات:
الأول: الأكل.
الثاني: الشرب.
الثالث: الجماع، وفيه خلاف يسير.
الرابع: الردة، إذا ارتد في أثناء صيامه ثم رجع.
الخامس: الموت. إذا مات الإنسان في أثناء صيامه؛ فإن موته مفسد لصيام ذلك اليوم؛ لأن الصيام عبادة كاملة، إمساك وفطر. ولا بدّ من توفر ذلك ولا تتوفر هذه الأركان.
وثمة بعض المسائل قد حكي فيها الإجماع وهي محل خلاف كالقيء في رمضان للصائم، وكذلك ثمة مسائل قد وقع فيها خلاف وليست محل اتفاق، كالكحل للصائم ويتفرع عنه مسائل نازلة يأتي الكلام عليها كالقطرة في العينين ونحو ذلك.
كذلك من المسائل: الاحتقان في الدبر وكذلك في القبل وكذلك تقطير المرأة في فرجها، وكذلك الحجامة، وكذلك الفصد، وكذلك مداواة الجراحات إذا كان الدواء يصل إلى العروق والشرايين، هذه محل خلاف عند العلماء، ونتكلم عليها ونلحق كل مسألة بأصلها.
قبل الكلام على المسائل النازلة في هذا الباب ينبغي أن نتكلم على بعض الأصول في هذا الباب.
فنبدأ بإجمال الكلام في الأصول حتى يفهم الكلام في النوازل وإلحاقها، فلا نحتاج إلى إعادة كل فرع إلى أصله مع بيانه.
يقال: إن المنافذ إلى جوف الإنسان على نوعين:
النوع الأول: منفذ أصلي، وهو محل اتفاق عند العلماء وهو الفم والأنف، وهذا محل اتفاق عند العلماء.
النوع الثاني: المنافذ غير الأصلية، والمنافذ غير الأصلية كالعين والأذن، كذلك الإحليل، والدبر، وقبل المرأة، وما يحلق في ذلك من نوافذ ما يصل إلى جوف الإنسان عن طريق الأغذية الصناعية بشق البطن وإرسال الطعام إلى معدة الإنسان مهضوماً أو عن طريق الأوردة ونحو ذلك.
قبل الكلام في هذا حتى يسهل علينا الكلام في النوازل نلحقها بأصلها بسهولة يقال: إن العلماء قد اتفقوا على أن الفم والأنف منفذ أصلي للجوف، وإذا تناول الإنسان شيئاً من الطعام عن طريق هذين ووصل إلى جوفه فإنه قد أفطر باتفاقهم، ويحرم عليه أن يدخل الطعام في هذين المنفذين، إلا لضرورة، أو ما يغلب عليه عدم وصوله كتذوق الإنسان للطعام كذلك استعمال السواك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن بالمضمضة، والمضمضة فيها الماء، والماء هو أصل في التفطير اتفق العلماء عليه وهو الشرب، ولما أذن النبي عليه الصلاة والسلام بذلك دل على جواز الإدخال من غير قصد وصول شيء إلى الجوف وكذلك تذوق الطعام ونحو ذلك.
أما المنافذ غير الأصلية وهي العين والأذن وما يلحق في ذلك من خلاف حادث عند بعض المتأخرين كمسام الجلد، وكذلك الشرايين هل هي منفذ للجوف، والأوردة هل هي منفذ وموصل للمعدة؟ كذلك بالنسبة للدماغ هل ما يصل إلى الدماغ يصل إلى جوف الإنسان أم لا؟ نحقق الكلام في هذا.
فنقول: أما المنافذ غير الأصلية فهي: أولاً: العين، وهي محل اتفاق عند أهل التجربة وكذلك عند عامة الفقهاء أنها منفذ ظني إلى الأنف، والأنف منفذ متفق عليه إلى الجوف، وذلك أن الأنف متصل بالبلعوم، والبلعوم متصل بالمعدة، ولما كانت العين منفذاً إلى الانف والأنف منفذ إلى البلعوم والبلعوم منفذ إلى المعدة كانت العين منفذاً، لكن في الغالب أن العين لا تصدر الأجرام، إذاً الكلام على مسألة التقطير في العين استعمال الأدوية ونحو ذلك، هل تفطر أم لا؟ يقال: لما كان العين لا تنقل الأجرام، ولا يوضع فيها عادة من جهة الاستشفاء والتطبب إلا شيء يسير فيقال: إن مثل ذلك لا يصل، وحكمه كحكم من تمضمض بشيء يقيني وهو لا يصل إلى جوفه، وذلك أن تلك القطرات قطرات يسيرة تمتصها العين أو ما بعد العين من قنوات فإنها لا تصل إلى الجوف، وإن وصل وصل شيء يسير ليس بأولى من المضمضة التي تصل لربما يصل شيئاً من أجزائها، بل يصل شيء يسير منها إلى جوف الإنسان ولا يكون مفطراً لما كان ذلك يكون من باب أولى أنه لا يفطر.
وأما الكلام على القطرات فيتكلم بعض الفقهاء فيمن صنف في هذا الباب في القطرة ويذكرون أن التقطير في العين من المسائل النوازل وليس فيما مضى، التقطير في العين ليس من المسائل النوازل، بل تكلم عليه الفقهاء من الحنفية والمالكية قديماً.
كذلك في مسألة الأبخرة في الدخان: استنشاق بعض الهواء، ونحو ذلك. يذكرون أنه من النوازل، وهذا ليس من النوازل، بل قد تكلم عليه بعض الفقهاء من المالكية على مسألة بخار القدر عند الطبخ، وهذا لا أعلم فيه أحداً من الفقهاء تكلم عليه لا من الحنفية ولا من الشافعية، ولا من الحنابلة، وإنما حصلت بعض الخطى من المالكية، فقد وجد في المدونة عن الإمام مالك عليه رحمه الله تعالى شيء من ذلك في أبخرة القدر إذا استنشقه الإنسان.
إذاً فالخلاف موجود من قديم وليس من المسائل النازلة كذلك مسألة التقطير بالعينين وجد عند بعض الفقهاء من الحنفية وكذلك الشافعية، فالخلاف موجود ويرجع هذا إلى ما تكلمنا عليه.
وهذه المسألة -إن قلنا بنزولها- يلحقها بعض المعاصرين بمسألة الاكتحال، ويأتي الكلام على هذه المسألة وكلامنا هنا إنما هو على المنافذ من البدن بوجه الإجمال.
المنفذ غير الأصلي الثاني هو الأذن.
يذكر أهل الطب قديماً وحديثاً أن الأذن على ثلاثة أقسام أو ثلاث درجات:
الأذن الخارجية.
والأذن الوسطى.
والأذن الداخلية.
والأذن الوسطى هي فيصل بين الداخلية والخارجية، فلا ينفذ شيء من الأذن من الخارج إلى الداخل إلا في حالة واحدة: إذا كانت طبلة الأذن مشقوقة، وما عدا ذلك فلا يمكن أن يدحل شيء إلى الأذن.
والأذن هي منفذ إلى البلعوم الأنفي، والبلعوم الأنفي منفذ إلى البلعوم، والبلعوم منفذ إلى الجوف، وهذا يتلخص في مسألتنا، ويأتي الكلام عليها في التقطير في الأذن، هل يفطر أم لا، هذا فرع عن هذا الكلام يأتي الكلام عليه.
ومن المنافذ غير الأصلية: الدماغ، والدماغ يتكلم العلماء أنه منفذ إلى الجوف، وقد نص على هذا الإمام أحمد عليه رحمه الله تعالى وغيره.
وبالنظر أن الدماغ منفذ إلى الأنف، ثمة منفذ من الأنف إلى الدماغ؛ لما كان ثمة منفذ من الأنف إلى الدماغ، والأنف منفذ إلى البلعوم، والبلعوم منفذ إلى الجوف، دل هذا على أن الدماغ منفذ إلى الجوف، وما يوصله الإنسان عن طريق السعوط ونحو ذلك بالاستنشاق، إن وصل إلى الجوف -وقد تعمد ذلك- فإنه يفطر.
قد يقول قائل: ما هي الثمرة إذا كان لا يصل إلى جوف الإنسان عبر هذه المنافذ شيء؟ نقول: ثمرة هذا الخلاف وهذا التحقيق أن الإنسان إذا تيقن أن هذا منفذ إلى الجوف، وأدخله عن عمد فإنه يفطر بذلك، وإذا كان لا يعلم أنه منفذ إلى الجوف فاستعط ووصل إلى جوفه، لا يفطر بهذا الفعل، هذه هي ثمرة هذا الخلاف.
ومن المنافذ غير الأصلية: الشرايين والأوردة، ولا أعلم كلاماً للسلف في هذا ولا من أئمة الفقهاء، وإنما يتكلمون في مداواة الجراح، كالجراحة ونحو ذلك، قالوا: إذا داواها بدواء فإن الدواء قد يجري مع الدم، وبعضه جعله من المفطرات.
وأما الأوردة والشرايين فهل هي من المنافذ إلى الجوف؟ يقال: إن الأطباء قالوا: إن الجوف منفذ إلى هذه الشرايين، وليس العكس؛ فإن ما في جوف الإنسان في المعدة خلاصة ما فيه من غذاء يوصله إلى الشرايين، وكذلك إلى الأوردة، ولا يصل ما في الأوردة إلى جوف الإنسان، وإنما يصل إلى قلبه، هذا هو المقرر بالنظر، وكذلك المقرر عند أهل الطب.
إذاً ما يصل إلى الأوردة وإلى الشرايين ليس منفذاً إلى الجوف، وهذه الأوردة والشرايين هي أصل قوة الإنسان، بهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء ).
الوجاء أي: تضييق مجاري الدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )، لما كان الشيطان يجري مجرى الدم دل على أن الجوع قابض لهذه الشرايين ومغلق لها والطعام يزيد من قوتها ونشاطها، والحكم الشرعي يتعلق بالغايات كما أنه يتعلق بالوسائل والابتداء أيضاً، وهذا يأتي الكلام عليه في مسألة الحقن عن طريق الأوردة سواء بالإبر المنشطة أو المغذية أو الأدوية ونحو ذلك.
من المنافذ غير الأصلية أيضاً: الجلد، ودهان الجلد بالكريمات، ودهانه بالمهدئات باللصقات ونحو ذلك، أو وضع بعض الكمادات المطعمة ببعض المغذيات من السكريات والأملاح ونحو ذلك التي تعذي جسد الإنسان وتغنيه، وهذا يستعمله في حال شدة عطش الإنسان وخشية هلاكه، فإنه لا ينصح بإعطائه الماء؛ لأنه إن أعطي الماء وقد شارف على الهلاك مات، وإنما يضع أهل الطب عليه شيئاً من الكمادات المغذية بشيء من أنواع الأملاح والسكريات على جسده لكي تغنيه عن الماء؛ حتى يزول شيء من الجفاف الذي قد وجد في جسده، ثم يقطر بعد ذلك في جوفه، ثم يشرب الماء على طبيعته وسليقته.
وهل الجلد منفذ إلى الجوف أم لا؟
يقال: إن العلماء وأهل الطب اتفقوا على أن الجلد ليس منفذاً إلى الجوف، ولكن يقال: إذا قلنا: إن ما يصل إلى جلد الإنسان يغنيه عن بعض الغذاء بداخله، كحال العطشان شديد العطش، عُرف بالتجربة أن ما يوضع على جسده يغنيه في داخله ويقل الجفاف فيه، يقال: إن هذا قد وجد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله من المفطرات، بل رخص النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال بإطلاق من غير تقييد، والاغتسال هو وضع الماء على جسد الإنسان، ومن ذلك الوضوء، حتى في حال صيامه، وهذا مما يغني الإنسان ويقلل من حاجته إلى الماء في جوفه، ومعلوم أن الماء الذي يشربه الإنسان يمتصه الجسد، ثم ينتشر في جسده، وكلما كان جسد الإنسان متشبعاً بالماء قلت حاجة الإنسان في جوفه إلى الماء، فإذا تشبع بالماء من خارجه على جلده، قلت حاجته إلى الشراب، فهل يقال: إن وضع الماء على الجسد من المفطرات؟ هذا لم يقل به أحد من أهل العلم أو أهل النظر بالإطلاق.
ومن المنافذ غير الأصلية التي تكلم عليها العلماء: الدبر.
فهل هو منفذ إلى الجوف أم لا؟
أولاً: يقال: إن أهل الطب قد اتفقوا على أن الدبر ليس منفذاً إلى الجهاز الهضمي؛ وذلك أنه لخروج الأذى والقذر وليس لدخول شيء؛ وعليه يقال: ما تفرع من هذه المسألة مما يستدخله الإنسان في دبره عند حاجته كما يوضع لمن به مرض في الحرارة من المسكنات أو التحاميل أو الحقن أو ما تستعمله بعض النساء في قبلها، فيقال: إن العلماء قد شددوا في قبل المرأة كما لم يشددوا في الدبر، وقبل المرأة هو محل خلاف بخلاف الدبر، فأكثر العلماء على أنه ليس منفذاً إلى الجوف، مع أن الأطباء قد قالوا: إن قبل المرأة ليس منفذاً إلى الجهاز الهضمي بالنسبة للإنسان، ولكن قد يصل إليه بتكلف وهذا صعب جداً لا يمكن إلا بتقصد وتعنت، ومع هذا قالوا: لا يمكن أن يكون الإنسان في حال يقظة، بل لا بد أن يصاحبه إغماء، وغير هذا يتعذر عليه.
والعلماء الأوائل قد اختلفوا فيما يوضع في قُبُل المرأة من قطرات ونحو ذلك، كذلك ما تستدخله في قُبُلها، هل يكون من المفطرات أم لا ؟ هذا يأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل، ونحن نقرر هذا حتى يتبين الكلام في مسألة هل القبل والدبر من المنافذ إلى جوف الإنسان أم لا؟ الطب قد قرر أنه ليس من المنافذ، أي: منافذ الطعام. وأما من جهة وصوله بعسر، فإنه يصل بعسر ولكنه من جهة الغذاء والطعام لا يصل.
ومن المنافذ غير الأصلية: الإحليل، وهي فتحة ذكر الرجل، هل هي منفذ إلى الجوف أم لا؟
الأطباء قالوا -وهذا محل اتفاق عندهم-: إن إحليل الإنسان وذكره ليس منفذاً إلى الجهاز الهضمي، بل اتفقوا على أن جميع المسالك البولية ليست منفذاً إلى الجوف، وعليه ما يضعه الإنسان مما يحتاجه من قطرات أو مراهم ونحو ذلك في إحليله ليس من المفطرات.
وكذلك من المنافذ ما يذكره بعضهم -وهذا ينظر الحاجة إليه- وهو ما يتكلم عليه بعض المعاصرين من أهل الطب ونحو ذلك في مسألة فتح الرأس وإيصال بعض الأدوية إلى دماغ الإنسان ونحو ذلك، هذا قد تقدم الكلام عليه، هل الدماغ منفذ إلى الجوف أم لا، ولا حاجة إلى إعادته.
والمفطرات بعد هذا التقرير للمنافذ الأصلية وغير الأصلية نجمل الكلام عليها بذكر المفطرات النازلة في الصيام، يقال: إنها متعددة.
أولها: الدخان.
الدخان يستعمله الإنسان وينفذ إلى جوفه بواسطة الفم والأنف، والفم والأنف منفذ إلى الجوف بالاتفاق، وهل الدخان يفطر؟
يقال: إن العلماء قد اتفقوا على أن استنشاق الدخان إذا كان عن عمد -والدخان المراد به التبغ، وهو الذي يحمل النيكوتين، وكذلك القطران- فإنه إن وصل إلى جوف الإنسان فهو مفطر.
بخلاف ما يضعه الإنسان في فمه ثم يخرجه، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن الدخان مفطر، وقد جاءت النصوص في كتب الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم على أن الدخان مفطر، وقد حكاه في مذهب الإمام أحمد وغيره في كتاب كشاف القناع، كذلك المرداوي في كتابه الشرح الكبير، كذلك الشرح الكبير للدسوقي في حاشيته، وكذلك الشربيني في كتابه المغني وغيرهم من العلماء قد ذكروا أن الدخان من المفطرات.
وهل يلحق في هذا ما يستنشقه الإنسان من الأكسجين وهو ما يستعمله بعض مرضى الربو ونحو ذلك وفيهم ضيق التنفس أو يحتاجون إلى التعرض لحال إغماء ونحو ذلك؟
يقال: الأكسجين معروف أنه يحتوي على ماء وهواء وغاز، أو ماء وأكسجين ومواد مضافة إليه، فيقال: إنه لما كان هواءً وليس له جرم، وإذا قصد الجمع بذلك الجرم بشيء لا يساوي شيئاً، وقد حده بعض أهل الطب بأنه جزء يسير لا يتجاوز نصف عشر ملم وهذا شيء لا يقدر، بل إن ما يصل إلى جوف الإنسان عن منفذ أصلي بالمضمضة أكثر من هذا الجزء الذي يوجد في الأكسجين؛ وعليه يقال: إن ذلك الأكسجين الذي يستعمله الإنسان لا يفطر الصائم، ويلحق فيه ما يسمى بخاخ الربو والبخاخ يستعمل عن طريق الفم، وفي الندرة يستعمل دواء للأنف، ويستعمل للحساسية ونحو ذلك؛ فيقال: إن هذا البخاخ إذا كان هواءً وليس له جرم فإنه لا يفطر، وإن وجد الإنسان طعمه في حلقه ولم يجد له جرماً فلا يفطر، ومعلوم أن الحلق هو مرحلة بين الفم والبلعوم وبين جوف الإنسان وهو المعدة.
وفي الغالب أن الشيء اليسير في الحلق كالنصف الملي أو الملي ونحو ذلك يذوب فيه ولا يصل إلى جوف الإنسان، والحلق في أول الفم ثم ينتهي بابتداء البلعوم، وقال بعض العلماء: الحلق أوله موضع نطق حرف العين وآخره موضع نطق الهمزة، فما ينطق به الإنسان يقول: عين، فهذا أوله وآخر الحلق هو مخرج الهمزة فيقول: الإنسان ألف أو آ، فهذا آخر الحلق، وهذا يحس به الإنسان حال نطقه، هذا هو الحلق، وإذا قيل بذلك: إنه ليس بجوف الإنسان، قد يجد الإنسان بعض الحليمات في أوائل حلقه وفي آخر اللسان ما يستطع به الإنسان، وهذا ليس بحكم جوف الإنسان، وإنما هو من حكم خارجي وما يجده في حلقه ليس بالضرورة أن يصل إلى جوفه.
وما يستعمله الإنسان من بخاخ في فمه أو في أنفه ولا يصل إلى جوفه وليس له جرم، فإنه ليس من المفطرات.
ومن المفطرات أيضاً - وتقدمت الإشارة إليها - القطرات في العين.
تقدم الكلام في العين، وهل هي منفذ أم لا؟ يقال: إن العين مدخل يسير نادر ظني، وإذا دخل شيء يمتصه في طريقه ولا يصل إلى الجوف، خاصة أن ما ينفذ إلى العين ليس له جرم أصلاً. ثم إن ما يصل إلى جوف الإنسان قدر يسير ربما لا يصل إلى الجوف، وإنما يمتص قبل ذلك بقنوات كقناة البلعوم أو في بعض الأوعية في العين ونحو ذلك، فلا يصل إلى حلق الإنسان فضلاً عن أن يصل إلى جوفه؛ لأن ما يصل إلى العين يصل إلى البلعوم الأنفي من الأنف إلى البلعوم الأنفي، ثم إلى الحلق، ثم إلى البلعوم، ثم إلى المعدة، وهذا لا يمكن إلى شيء من الجرم، لا يستحيل إلا في المعدة.
والعلماء قد اختلفوا في قطرات العين وألحقوها بأصل وهو الاكتحال، والاكتحال هل هو جائز للصائم أم لا؟ يقال: إنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفطير أو عدم تفطير المكتحل شيء، وما جاء في هذا الباب كله ضعيف، وقد روى الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الرحمن بن النعمان عن أبيه عن جده: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالإثمد وقال: فليتقه الصائم )، وهذا الخبر منكر، قاله الإمام أحمد و يحيى بن معين ، وفي إسناده عبد الرحمن بن عثمان قال أبو حاتم : صدوق، وقال يحيى بن معين : ضعيف، وقد جاء حديث آخر بعدم تفطير الاكتحال للصائم وقد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن عن أبي العاتكة عن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل، فقال : إني أشتكي عينيَّ، أفأكحتل، وأنا صائم؟ قال: نعم ) هذا الخبر ضعيف أيضاً؛ وذلك لضعف أبي العاتكة، وقد قال فيه البخاري : منكر الحديث، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد وغيره، وكذلك أشار إلى ضعفه الإمام الترمذي عليه رحمه الله تعالى لما أخرجه في سننه، وعليه لما كان لا يثبت في هذا الباب شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الاكتحال الأصل فيه الجواز، وهذا الذي ذهب إليه الأئمة من السلف والخلف.
وقد ذهب المالكية وهو قول الحنابلة إلى أن الاكتحال من المفطرات، مع أن الإمام أحمد قد ضعف الحديث الوارد في هذا الباب، وذهب الشافعية والحنفية إلى أن الاكتحال ليس من المفطرات.
وهذا هو القول الصواب.
والإنسان حينما يضع في عينه شيئاً من القطرات أو يضع شيئاً من المواد المطحونة كالإثمد ونحو ذلك وجرمها صعب أن يصل إلى المعدة أهون من المضمضة التي أصل الإفطار قد جاء فيها وهو الشرب، وقد أزال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) ما يدل على جواز أصل المضمضة إلا أنه لا يبالغ في ذلك، فإذا تمضمض الإنسان ووصل إلى جوفه لا يفطر باتفاق العلماء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد رخص في المضمضة، وهذا الدليل فيه ظاهر، فلما كان هذا في المضمضة فهو من باب أولى في الاكتحال، ويلحق بهذا مسألة القطرة والخلاف في القطرة هو كالخلاف في الاكتحال على السواء، فلما كان الاكتحال ليس من المفطرات كان كذلك التقطير في العين ليس من المفطرات وإن وصل إلى جوف الإنسان ووجد الإنسان طعمه، كذلك ليس كل ما يجد الإنسان طعمه في حلقه أنه يصل إلى جوفه وينبغي أن يتنبه إلى هذه المسألة.
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى وكذلك ابن حزم الأندلسي لهم كلام في مسألة المنافذ إلى جوف الإنسان، قالوا: إن المنافذ الأصلية إلى جوف الإنسان هي الفم والأنف، وهذه التي قد دل عليها الدليل، وما عدا ذلك من التشدد والتنطع كمسألة المخ والدماغ، وكذلك جسد الإنسان، وكذلك الشرايين ونحو ذلك، هذا لا تعلق به أحكام شرعية، ثم الذي يصل إليه أجزاء يسيرة، ثم إن المتقرر أن ما يصل إلى جوف الإنسان عن طريق أنفه وهو منفذ أصلي محل اتفاق، وكذلك الفم وهو منفذ أصلي ومحل اتفاق أيضاً، فما يصل عن طريق المضمضة أو عن طريق تذوق الطعام قد دل الدليل على جوازه وأنه لا يفطر الصائم، فكيف بمنفذ غير أصلي ويصل إلى جوف الإنسان فهو من باب أولى، كذلك أن السلف على كثرة حاجاتهم إلى أمثال هذه المسائل مع كثرة صيامهم وتعبدهم هم أكثر الأمة صياماً وعناية بالعبادات لم يذكر عنهم أمثال هذه المسائل، هذه المسائل شيء، وإنما جاء بعد ذلك.
الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى قد سئل عن الاكتحال، فقال: أخبرني رجل أنه اكتحل في ليلة ثم أصبح فوجد الاكتحال في فمه. وكأنه يريد أن يبين أن العين منفذ إلى الجوف، ولكن يقال: إذا كانت العين منفذاً إلى الفم فلا يعني أن ما يصل إلى الفم يصل قطعاً إلى جوف الإنسان، ثم إن هذا شيء يسير لا يعلق به حكم شرعي.
ومن المفطرات الحادثة في هذا: الإبر أو الحقن التي يستعملها الإنسان، وهذه الإبر والحقن لها ثلاثة مواضع في جسد الإنسان: في العضل، وفي الشرايين، وفي الأوردة، أما ما كان في الأوردة والعضل والشرايين يقال: إذا لم يكن مغذياً فإنه ليس بمفطر عند عامة العلماء كالذي يستعمله من به مرض السكر، وكذلك من به مرض الحساسية ونحو ذلك، يأخذ بعض الإبر ويضع الأدوية بالحقن، أو بعض التطعيمات ونحو ذلك التي هي من جملة الدواء، وليست مغذية، فهذه سواء كانت في الوريد أو الشرايين أو في العضل فإن هذا مما لا يفطر الصائم.
أما إذا كانت مغذية أو منشطة فيقال: إن هذا لا يخلو من مواضع أما إذا كانت الأوردة فهذا هو المقصود من الصيام، وهو تضييق مجاري الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام لذلك لما كانت الأوردة تضيق لقلة الطعام، وتتسع لكثرته كان ما يصل إلى هذه الأوردة مما هو ثمرة للطعام في حقن ذلك الأصل وهو الطعام الذي يصل إلى جوفه ويكون من جملة المفطرات، أما ما يستعمله الإنسان في وريده مما ليس بغذاء فإنه لا يفطر الصائم كما تقدم.
أما المنشطات التي ليست مغذية التي يستعملها الإنسان في غير الأوردة ما يستعمله الإنسان في الشرايين أو العضل فإن هذا ليس بمفطر حتى يكون في الأوردة فما كان في الأوردة سواء كان مغذياً أو منشطاً فإنه مفطر.
ومن المفطرات الحادثة: التبرع بالدم، وكلام العلماء في هذه المسألة فرع عن الكلام في مسألة الحجامة، وكذلك الفصد عند بعض السلف وخلافهم فيه.
أولاً: الخلاف في الحجامة: قد تقدم الكلام عليه في مواضع عدة، والأدلة فيه، وخلاصة القول أن الأصوب في هذه المسألة أن الحجامة لا تفطر الصائم؛ لحديث أبي سعيد عند الطحاوي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص بالحجامة للصائم ) وكذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عباس عند الطحاوي ، وعند غيره أيضاً، وهذا هو القول الصواب، وأن تفطير الحجامة للصائم الخبر فيها منسوخ، وآخر الأمرين عدم التفطير، فلما كان كذلك كان إخراج الدم من الأوردة تبرعاً لا يفطر الصائم إلا إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه يضعف في هذا فيقال: إنه لما كان من ثمرة خروج الدم ضعف الإنسان وعدم قدرته على استمرار الصيام يحرم عليه أن يتبرع بالدم إلا لضرورة، والضرورات تقدر بقدرها، ولكن إذا لم يكن ثمة ضرورة كان إخراج الدم بحكم تناول المفطر، كأن يكون الإنسان قد اتخذ ذلك التبرع للدم وسيلة للضرر، وذلك الضرر وسيلة لتفطيره وهذا مما لا يجوز.
وكذلك في حكم الفصد. والفصد يختلف عن الحجامة: فالفصد يكون بإخراج الدم من العروق، وهو كذلك في التبرع، والحجامة هي إخراج الدم من الأوردة والشرايين، وخروج الدم من الأوردة والشرايين هو من جهة الأثر عن الإنسان كخروج الدم من الأوردة إلا أن الأوردة لها أثر أبلغ من الشرايين، والحكم سواء في الفصد والتبرع بالدم مرجعها إلى الحجامة، والصواب في الحجامة أنها لا تفطر الصائم كما تقدم.
ومن المفطرات ما يتكلم عليه العلماء مما يدخله الإنسان في المنافذ الأصلية بنصح طبيب أو بغيره مما لا يلحق بأصل.
معلوم أن ثمة أصولاً في المنافذ الأصلية قد دل الدليل على جوازها كالتذوق والمضمضة، ثمة مما لا يلحق في هذا الغرغرة، والغرغرة لا تلحق بالمضمضة؛ لأنها أبلغ من المضمضة، فهل الغرغرة من المفطرات أم لا؟ والغرغرة ينصح بها الأطباء لمن به مرض في أسنانه أو مرض في حلقه من التهاب ونحو ذلك، ينصح ببعض هذه الأدوية ونحوها.
هل الغرغرة من المفطرات أم لا؟ يقال: إن الغرغرة لا تتعدى الفم، وإن تجاوزت وصلت إلى حلق الإنسان ولا تصل إلى بلعومه، ولما كان ما يصل إلى حلق الإنسان ولا يصل إلى البلعوم ليس من المفطرات، وكانت الغرغرة في هذا الحكم فإن الغرغرة لا تفطر الصائم لأي سبب كان، سواء كانت في علاج الأسنان أو لعلاج حساسية ونحو ذلك.
ومما يلحق في هذا الحكم: ما يستعمله الإنسان من المنظفات كفرشاة الأسنان والمعجون الذي يجد فيه بعض الأطعمة كالليمون أو البرتقال أو النعناع ونحو ذلك فهذا يلحق بالتذوق، والتذوق قد دل الدليل على الترخيص فيه.
ويلحق في هذا أيضاً مسألة من المسائل، وهي إذا تعمد الإنسان استنشاق بخار الطعام، بأن يضع الإنسان فمه وأنفه عند قدر ونحو ذلك ويستنشقه عن عمد، هل يصل ذلك إلى الجوف، وله جرم أم لا ؟ قد ذهب الفقهاء من المالكية وهم من بحث هذه المسألة - فيما أعلم - ولم يبحثها أحد من المذاهب الفقهية الأربعة، فقالوا: إن استنشاق الطعام عن عمد، والإكثار من ذلك من المفطرات، قالوا: وذلك أن استنشاق الطعام في حال جوع مما يسكن الإنسان وينشطه ويكون حينئذ في حكم الطعام، وهذا يكون من المفطرات، وهذا فيه نظر فربما يزكي الإنسان وينشطه الرائحة الطيبة من الأبخرة أو الطيب ونحو ذلك، وإن كان جائعاً، فتنشيطه لا علاقة له بوصول شيء إلى جوفه. وهذا قد يتفرع عن مسألة استنشاق بعض الدخان ونحو ذلك الذي لا يكون له جرم، إذا جمع كالنكوتين والقطران ونحو ذلك، وأخف من هذا كله استنشاق الطيب، كالعود ونحو ذلك، إذا استنشقه الإنسان هل يكون من المفطرات، أم لا؟ يقال: إنه ليس من المفطرات، ولا زال المسلمون في الصدر الأول لا يطبخون طعاماً إلا على الحطب وما فيه من دخان وما يصل إلى جوفه قط، فالتشدد في مسألة من المسائل بوصول الطيب وكذلك أبخرة العود ونحو ذلك إلى فم الإنسان وأنها من المفطرات، فيه ما فيه.
كذلك ينبغي أن يعلم أن العلماء عليهم رحمة الله تعالى قدا اختلفوا فيما يصل إلى جوف الإنسان من غير المفطرات، هل يكون مفطراً أم لا؟
يقال: إن ما يصل إلى جوف الإنسان من المفطرات محل اتفاق عندهم، وما يصل إلى جوف الإنسان وله جرم وليس من المفطرات هل يفطر الإنسان أم لا، كأن يوصل الإنسان إلى جوفه شيئاً من الأجرام، كأن يضع في جوفه حبلاً أو أنبوباً أو يضع الأطباء في جوف الإنسان شيئاً من الأسلاك التي تصور حلق الإنسان وبلعومه أو معدته، كالمناظير ونحو ذلك، هذه ليست من المغذيات، وليس من المطاعم ولها جرم، هل تفطر أم لا؟
ذهب الأئمة الأربعة إلى أن ما دخل جوف الإنسان وله جرم وليس بمفطر فإنه في حكم المفطر، وقد حكي اتفاق الأئمة على ذلك.
وذهب بعض العلماء -وهو قول ابن حزم وقول شيخ الإسلام ابن تيمية- إلى أن ما وصل إلى جوف الإنسان مما ليس من المفطرات أنه ليس بمفطر، كأن يبلع الإنسان نواة أو يبلع تراباً أو يبلع قطعة معدن أو يبلع حبلاً ونحو ذلك، وهو هو الصواب؛ لأنه مضر للإنسان وليس بنافع له، كذلك أن الإنسان ربما استغنى بشيء ليس من المفطرات بخارج جسده مما يغنيه، ولا زال العرب في حال جوعهم يضعون الحجر على بطونهم، ويربطونه؛ مما يسد جوعهم، حتى يجدوا طعاماً، ولم يكن ذلك يعد من المفطرات.
وربط الحجر على البطن أظهر لسد الجوع من بلع شيء من الأجرام اليسيرة في جوف الإنسان، وإذا كان هذا هو الحكم، فمن باب أولى ما يصل إلى جوف الإنسان مما يضع الأطباء من المناظير التي توضع للتصوير ثم تخرج، فإنها لا تفطر الإنسان على الصحيح من أقوال العلماء.
وخلاصة كلام العلماء في هذه المسألة: أن ما يصل إلى جوف الإنسان مما لا يفطر، بعضهم قال: إنه يفطر وبإطلاق، وبعضهم قال: إنه يفطر شريطة أن لا يكون يخرج بعد ذلك، فإذا وضع الإنسان في جوفه حبلاً ثم أخرجه قال الحنفية: إنه لا يفطر، وقالوا: وإذا لم يخرجه فطر، كأن يكون بلعه ثم يخرج من دبره، فيقال: إن هذا يفطر باتفاق المذاهب الفقهية، وفي حكاية هذا الاتفاق نظر؛ فالخلاف موجود وخلاف ابن حزم الأندلسي في هذه المسألة معروف، وكذلك ما مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى أن غير المغذي ليس بمفطر، وهذا هو الصواب والأرجح.
ومن المفطرات أيضاً: غسيل الكُلى بالضم، وليست بالكسر كما هو شائع نقل بعضهم أن ذلك غلط وخطأ، وغسيل الكلى يقال: إنه لا يخلو من حالين:
إذا كان الغسيل -وهذا هو الأغلب- بإخراج الدم من أوردة الإنسان، وتنظيفه من الشوائب فيه ثم إعادته عبر آلة تسمى الكلية الصناعية، ثم يعود إلى جسد الإنسان، إذا كان إخراج هذا الدم وتنظيفه يطعم بشيء من المغذيات كالجلوكوز ونحو ذلك، فإن هذا من المفطرات؛ لأنه مغذٍّ ويسد عن الإنسان جوعه.
وثمة نوع من الغسيل -وهو قليل- وهو أن ينظف الدم من غير أن يضاف مع التنظيف أو التنقية شيء، وهذا لا يفطر، ولكن المستعمل -في الغالب- هو أن يضاف إلى المواد شيء مما يغذي الإنسان من السكريات ونحو ذلك، وإذا احتاج الإنسان إلى الغسيل واضطر إليه فلا حرج في ذلك؛ فإن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الضرورة تقدر بقدرها، وإذا كان الإنسان يستطيع تأجيل ذلك إلى الليل وجب عليه تأجيله من غير ضرر يلحق به.
ومن المفطرات أيضاً: القطرات عن طريق الأذن، تقدم الكلام على أن الأذن ليست منفذاً أصلياً، وخلاف العلماء في ذلك هو أن من الأئمة من قال: إن كل منفذ غير أصلي لا يفطر، إلا إذا تيقن الإنسان أنه يصل وتعمد إيصاله فهذا يفطر، أما ما يستعمله على الاتفاق والدواء ونحو ذلك فإنه لا حرج عليه أن يقطر القطرات في أذنه؛ لأنها في الغالب ليست منفذاً.
تقدم الكلام أن الأطباء قد اتفقوا على أن الأذن ليست منفذاً إلى الجوف، ولكن قالوا: إن الأذن على نوعين:
أذن مشقوقة الطبلة، فهذه منفذ إلى الجوف. وأذن ليست مشقوقة.
وأما المشقوقة فإنها منفذ، وهذا الذي عليه الأطباء فيقال: إذا قطّر الإنسان وهو يعلم أن أذنه مشقوقة، ووصل إلى جوفه وهو يعلم بذلك فإنه يفطر.
وأما إذا قطّر في أذنه وهو لا يعلم أنها ليست مشقوقة أو يعلم أنها مشقوقة، ولا يعلم أنه يصل فإنه لا يفطر بذلك.
ومن المفطرات أيضاً: القطرة عن طريق الأنف، والقطرة عن طريق الأنف إذا أخذها الإنسان بقدر يسير ففي الغالب أنها تمتص القطرة قبل الوصول إلى جوفه.
وقد تقدم الكلام على أن الأنف منفذ إلى الجوف باتفاق، وهذا لا خلاف فيه عند العلماء، وعند أهل الطب، ولكن استعمال هذه القطرات إذا كان الإنسان يعلم أن ذلك المقدار سيصل إلى جوفه فإنه يفطر بذلك. وإذا كان يستعملها بقدر لا يصل إلى الجوف وإنما يستطعمها في حلقه، فما يستطعم في الحلق ليس في الغالب أنه يصل إلى جوف الإنسان فيقال: إنه في مثل هذه الحالة لا يفطر، وصيامه صحيح.
ومن النوازل في هذا: ما يستعمل في الأوردة والشرايين من الأدوية فإن الإنسان إذا جُرح فإنه يوضع على جرحه شيء من الأدوية التي تحمل بعض المغذيات وهذه الأوردة في حال الجرح تمتص هذه المغذيات فيقال: إن هذا شيء يسير لا يعلق به حكم شرعي.
وتقدم الكلام على الأوردة أنها ليست منفذاً إلى الجوف، وإنما الجوف هو منفذ إليها، وهو موصل إليها، وما يصل إليها هو ثمرة جوف هذا في الأوردة وكذلك في الشرايين.
وكثيراً ما يتكلم بعض العلماء في أمثال هذه المسائل، ويذكرون مسائل هي مردها إلى مسألة الشرايين هل هي منفذ أم لا، ويتكلمون عن مسألة استئصال الأسنان واستئصال الضرس، وكذلك ما يضع الإنسان من بعض البنج في حال استئصال الأسنان فيوضع مع ذلك البنج شيء من المغذيات ونحو ذلك، فيقال: إن الغالب في البنج أنه لا يوضع في الأوردة إلا البنج الكلي، والبنج الكلي هو الذي يوضع في الوريد، أم الموضعي فهو إما يوضع في العضل، والعضل هو مظنة الشرايين، وقد يكون مظنة للعصب ونحو ذلك، فيؤذي الإنسان ولا يضره، يقال: إن هذا كأي حال وضع ما لم يوضع في الوريد أنه لا يفطر الصائم.
في هذا تكلمنا على مجموع وجملة المفطرات النوازل، والنوال على وجه العموم بالنسبة للصيام بقسميها أو بأقسامها الثلاثة: في القسم المتعلق بالفلك والرؤية، والقسم المتعلق بالمكلف بنفسه، والقسم المتعلق بالمفطرات ونكتفي بهذا القدر، وإنما أمكسنا عن الكلام والخوض في الأصول، لأن الكلام في أصول هذه المسائل ظاهر بين، وتكلمنا عليه في مواضع وعدة، وإنما نحن هنا نلحق الفروع بأصولها والكلام على الأصول يطول جداً، فيرجع إلى مظانه في كتب أهل العلم، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: نحن نعمل محتسبين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل الأفضل الاعتكاف، أم الأمر بالمعروف؟
الجواب: الأمر بالمعروف أفضل، وقد جاء فيه فضائل كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في هذا ظاهرة، ولم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في فضل الاعتكاف، وإنما جاء من فعله عليه الصلاة والسلام، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل خاصة مع انتشار المنكرات وكثرتها عند كثير من الناس وعدم استحياء كثير من الناس خاصة في جانب المحارم، وتفشي السفور ونحو ذلك.
كذلك ظهور بعض المخالفات في المجتمع من ظهور الاختلاط عياناً جهاراً، في بعض الأماكن، وينبغي للإنسان أن يخشى هذه الأماكن وأن ينكر بالحسنى واللين ونحو ذلك، وقد بلغ الأمر مبلغاً لا يمكن أن يحتمل معه صاحب الغيرة مثل هذا.
وقد اتصلت بي امرأة قبل أيام وقالت لي: إني وجدت عملاً في البنك الأهلي في المقر الرئيس.
تقول هذه المرأة -وقد سمت نفسها من أسرة كريمة- تقول: فلما حضرت وجدت النساء اللاتي يرغبن بالعمل قد اجتمعن، وقام يتكلم المسئول مع النساء، قال: أنتن عن ثلاثة آلاف موظف تجلبن الزبائن، وتأتين بهم إلى البنك، وتستطيع الواحدة أن تأتي كل يوم بعشرة عملاء عن طريق نبرة صوتها، فانظرن أحسنكن صوتاً، وأرقكن كلاماً، فهي التي تتكلم مع الرجال، ونحن نعطيكن أرقاماً عشوائية تتصلن بها وتصفن المكان ويقابلكن العميل وتعطونه البطاقات حتى يفتح حساباً في البنك.
وهذا الأمر مخالف لأمر الله عز وجل وأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك الأوامر المعروفة في هذا البلد، والشخص الذي يقوم على هذا الأمر قد وضع النساء بأوساط الرجال ويعمل أكثر من عشرين امرأة إلى الآن، وتقوم النساء بجولات في سيارات على حساب البنك، ويذهبن إلى الشركات ويدخلن على الموظفين، ويقلن: نحن مندوبات، وتقول هذه المرأة: إنهم يشترطون علينا أن نأتي بعشرة رجال، كل يوم يقابل المرأة في غرفة مستقلة خاصة، ويتحدث معها وتقول: إن كل النساء خلال أسبوع واحد عشرون امرأة في خلال أسبوع واحد أصبح لهن أصدقاء من هؤلاء الرجال، تقول: أخذت أسبوعاً في العمل ثم تركت هذا العمل، ثم أبرئ إلى الله عز وجل مما يحدث، مكان في وسط مدينة الرياض في البطحاء في المقر الرئيس يتولاه رجل قد بلغ من موت الغيرة، وقلة الدين، والقوادة على نساء المسلمين مبلغاً، حتى إنه وضع للنساء أرقاماً خاصة وسيارات تذهب إلى الشركات وزود النساء ببعض البرامج التي تضعها عند الإشارات لجلب أرقام من يريد معاكسة النساء في الطرق كأنها قوادة على الأعراض، تقول: تأتين عند الإشارات فإذا وقفت عند الإشارة فضعي ما يسمى بالبلوتوث باسم جيد، ثم يرسلون الأرقام، وإذا أتيت إلى المكتب تتصلين على هذه الأرقام تقول: نحن مندوبة، ثم يأتون إليك قد تكونين علاقة لمدة يوم ثم تقطعين هذه العلاقة وأنت مأمونة، لكن تكسبين زبوناً للبنك، وكذلك تربحين من المال، هذا ما يدار حقيقة، ولا زال التوظيف مستمراً، وقد توظف إلى الآن إلى أكثر من عشرين امرأة.
والمكان هو في المقر الرئيس للبنك الأهلي ينبغي للمحتسبين أن ينكروا بقدر الإمكان، وقد سعيت بشيء من هذا الأمر، ولم يزل ذلك، والرجال في وسط النساء، ولا زال هذا الأمر قائماً حتى هذه الساعة...
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر