الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
نبتدئ باستنباط الأحكام من آيات سورة البقرة, وذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30], هذه الآية نتكلم فيها أولاً على المعنى العام حتى يتضح ثم بعد ذلك نذكر الحكم, وهذه الطريقة نأخذها على سبيل الاطراد في كل آية نمر عليها بإذن الله تعالى.
الله جل وعلا يقول هنا: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30], عطف الله عز وجل هذه الآية على ما قبلها, وهذا يستفاد منه شيء وهو أنه ينبغي لمن أراد بيان حكم من الأحكام أو مسألة من المسائل أن يبتدئ بالشيء من أوله, فالله عز وجل أراد أن يبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة الإنسان وقيمته عند الله جل وعلا, فإنه إذا فهم الإنسان مكانته عند الله فهم الأحكام المتوجهة إليه, وأعظم ضلال البشرية هو لجهلهم بقيم الأشياء, فإنهم إذا جهلوا قيم الأشياء ضلوا؛ ولهذا بيع يوسف النبي عليه السلام بثمن بخس, فالجهل به جعلهم يضلون فيه, والله عز وجل أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم وهو بشر، ثم بعد ذلك يأتي من البشر من يسجد لصنم؛ لأنه جهل قيمة الحجر الذي سجد له, وجهل قيمة نفسه عند الله وعند الملائكة، فعجز عن تحقيق المعرفة بالأشياء التي أمر الله عز وجل بالتعامل فيها بمعرفة قيمة الناظر وقيمة المنظور, فإذا أدرك ذلك عرف العدل في نفسه، والعدل مع الله عز وجل؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى في الآيتين قبل هذه الآية: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28], فبين الله سبحانه وتعالى تقلبات الإنسان بين حياة وموت في الابتداء, ثم بين الله عز وجل أنه خلق له ما في هذه الأرض, هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29], أي: خلق الله عز وجل للإنسان كلما في هذه الكون من شمس وقمر وجبال وأشجار, ثم كيف بك تقوم بالسجود لحجر خلقه الله لك, وهذا إذا جهل الإنسان قدره وقدر من يقابله فإن حاله كحال السيد الذي يطيع عبده إذا جهله وظنه سلطاناً, فإذا جهل الإنسان قيم الأشياء ضل؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى أراد أن يعرف الإنسان بقيمته في ذاته فساق له ابتداء حال الإنسان, من خلق البشرية في ذلك, وكذلك تقلبات أطوار الإنسان أنه مر بعدم, وأنهم كانوا أمواتاً, أي: لا وجود لهم, ثم أحياهم, ثم يميتهم, ثم يحييهم, ثم إليه يرجعون, أي: إلى الله سبحانه وتعالى, وهذه التقلبات التي تمر بالإنسان تشير إليه من جهة ضعفه, كذلك أيضاً عرفه الله عز وجل بما حوله في الكون من مخلوقات, وأنها كلها مخلوقة للإنسان، ثم بين بداية منشأ الإنسان, فقال: (وإذ قال), أي: بعد ذلك كله, بعد أن خلق الله عز وجل الخليقة, قال الله عز وجل للملائكة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30], وهنا الله سبحانه وتعالى وجه الخطاب للملائكة, والله سبحانه وتعالى إنما وجه الخطاب للملائكة؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يُسأل ابتداء, لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23], ولهذا أراد الله عز وجل أن يعلم الملائكة بأمره لأمرين: الأول: لأن الملائكة لا يسألون الله عز وجل عن شيء يفعله وإنما يجيبون, فلذا أخبرهم أن يسألوا عن شيء مما يتضمنه الخطاب؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].
الثاني: أن الملائكة هم من سيقومون بأمر هؤلاء في الأرض وكذلك في الجنة, في الأرض بما يتعلق بنفخ الروح, وما يتعلق بالكتابة, والشقاوة والسعادة, والرقابة عليهم, وما يتعلق بأمرهم في كونهم من ملائكة السحب وملائكة الجبال وملائكة الرياح وغير ذلك, فهؤلاء لا بد أن يعلموا.
ونأخذ من ذلك مسألة وهي المسألة الأولى: أنه ينبغي للوالي إذا ولى أحداً على قوم أن يعرفه بهم قبل أن يوليه عليهم, فالملائكة لما تولوا شأن البشرية عرف الله عز وجل الملائكة بحال هؤلاء البشر, وأن الله سبحانه وتعالى يجعلهم في الأرض, وفي قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30], جاعل, قيل: إن المراد بذلك خالق في الأرض خليفة, وقيل: إن الله سبحانه وتعالى فاعل في الأرض خليفة, وأن ابتداء الخلق لم يكن في الأرض, وإنما كان في السماء, وإن كان من تربة الأرض.
وفي قوله: جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30], يؤخذ منه أن البشر لا يمكن أن يتخالفوا في غير الأرض, وألا يعيشوا في غيرها, وفي قوله سبحانه وتعالى: جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30], المراد بكلمة خليفة في كلام الله سبحانه وتعالى, وكذلك أيضاً في لغة العرب: أن يخلف بعضهم بعضاً؛ ولهذا قال الله عز وجل في كتابه العظيم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف:169], أي: جعل من بعدهم خلفاً, ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14], كذلك أيضاً ما جاء في الصحيح: ( اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ), فالخلفاء: هم الذين يأتون واحد بعد الآخر, وأراد الله سبحانه وتعالى أن يبين للملائكة أنه سيجعل في الأرض أقواماً يتناسلون, يأتي واحد بعد الآخر, ومقتضى التخالف في ذلك هو التكاثر, أي: أنهم يتكاثرون, ومسألة الخلافة في هذا أخذ منها بعض العلماء حكماً وهو وجوب التأمير على الناس في الحضر والسفر, وسيأتي الكلام تفصيلاً على هذا بإذن الله سبحانه وتعالى.
ثم يأتي الاستفصال من الملائكة: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30], هذا استفصال من الملائكة من الله سبحانه وتعالى وليس من الاستفهام الذي يتضمن الإنكار, وذلك أن الله جل وعلا أخبرهم عن ذلك, وهم يعلمون بذلك, وإنما أرادوا استفهاماً, وفي هذه الآية دليل على القياس, وعدم الأخذ به, فهو دليل على المسألتين, ففي قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30], معلوم أن الأرض عمرت قبل البشر بالجن, حيث أوجد الله عز وجل فيها الجن, وجاء ذلك تفسيراً عن غير واحد من السلف, فجاء عن عبد الله بن عباس فيما رواه ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم عن الضحاك عن عبد الله بن عباس , قال: إن الجن كانوا في الأرض قبل ذلك, فكانوا يتخالفون فأفسدوا فيها.
وجاء هذا أيضاً عن الحسن البصري, وجاء أيضاً عن أبي العالية رفيع بن مهران كما روى ابن أبي حاتم و ابن جرير الطبري من حديث ربيع عن أبي العالية رفيع بن مهران أنه قال: جعل الله عز وجل الجن في الأرض قبل بني آدم, فكان فيهم الملائكة فتقاتلوا فيما بينهم, يعني: الجن, والملائكة حينما سمعوا بوجود خلائف في الأرض فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30], وإنما استفهامهم في ذلك هل يكونوا كحال الجن أم لا, وهذا دليل على صحة القياس, وأن القياس من الأمور المعتبرة؛ ولهذا الله عز وجل ما أنكر عليهم قياسهم وإنما ما أخذ الله عز وجل بالقياس, وهذا دليل على اعتبار القياس من جهة الأصل وعدم الأخذ به في بعض الأحيان, وعدم الأخذ به في ذلك لوجود مصلحة تقوى على العلة الجامعة بين الأصل والفرع.
فالأصل: الجن, والفرع: الإنس, والعلة الجامعة بينهما أنهم خلائف في الأرض, فإذا كانوا خلائف فيلزم من ذلك الفساد, وبيان ذلك أن الناس إذا تخالفوا فإن ذلك دليل على وجود التنافس, أي: أن عنصر التكاثر وجد, فهناك نوع مغالبة, هذا يحب الأكثر وهذا يحب الأكثر, هذا له أبناء أكثر وهذا له أبناء أكثر, فإذا كان ثمة أبناء أكثر فيلزم من ذلك التكاثر بالمال والأرض وغير ذلك, ويلزم من ذلك أيضاً الوفاة, فإنهم ما كانوا يتخالفون إلا وقد مات الأول, فإذا كان الناس يتخالفون فيموت الأول ثم يأتي بعده غيره إشارة إلى الحرص على البقاء, وأن الإنسان إذا علم أنه سيهلك فإن يختلف عن الآمن, فإن الإنسان إذا كان آمن في سربه لا يقلق, ولا يجد وجلاً, ولا يقوم بالتعدي على غيره, ولا ظلم غيره, وأما إذا وجل وخشي الموت اعتدى على غيره, إما بالسرقة والبغي والظلم, وكذلك أيضاً سفك الدم إذا خشي أن يعتدي عليه هذا قام بقتله حتى لا يعتدي عليهم من الغد, أو خشي على ماله أن يؤخذ فلا يتقوت, فإنه إذا فقد القوت فأنه سيموت, فيقول: ولهذا يؤخذ في أمر الخلائف المنافسة، فعرف الملائكة أن كل الخلفاء سيقع بينهم الفساد لوجود التخالف.
والعلة الأخرى التي يؤخذ منها وجود التخالف وارتباطه بالفساد: أن الإنسان إذا كان يعمر ويخلد في الأرض لا يقع في الغالب في الخطأ إلا مرة أو مرتين ويتعظ ثم يستمر في ذلك على اتعاظه الأول؛ كحال الإنسان إذا وجد في هذه الأرض لأول وهلة سكينة فجرحته المرة الأولى فإنه سيحذر ولن يجرحه بعد ذلك, حتى يموت ويأتي ولده وينجرح ولده بعد ذلك, ويأتي الولد وحفيده وينجرح الولد بعد ذلك.
إذاً: الذي يعمر ويخلد في الأرض إذا أبقاه الله عز وجل من غير أن يستخلف إلى أن تقوم الساعة, فهؤلاء لا ينتشر فيهم الفساد؛ لأنهم يتعظون من أول زلة, وأما الذي يخلف بعضهم بعضاً, فإنه يموت هذا ويموت خبر السوء معه, ويأتي ابنه جديداً إلا بشيء من موروث العلم, ثم بعد ذلك تقع الأخطاء ويقع الفساد؛ لأنهم ما ذاقوها بأنفسهم كما ذاقها آباؤهم؛ لهذا يوجد في الناس الذين يكثر فيهم التخالف الفساد.
ونأخذ من ذلك فائدة أنه كلما قصرت أعمار الأمم كثر الفساد فيهم, وكلما طالت أعمار الأمم قل الفساد فيهم, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ), فإذا لدغ في أول عمره فلا يلدغ في آخره ولو ارتد الأمر؛ لأنه يعلم ذلك ويدرك أنه أصيب به من أول الزمن, ولهذا فهم الملائكة من وجود خلائف في الأرض أنه سيوجد فساد، وسيوجد تقاتل لوجود التنافس في هذا الأمر.
نأخذ من ذلك حكماً وحكمة سياسية في هذا الأمر أنه ينبغي للساسة والحكام ألا يكثر الناس في المدن والأمصار, فإن الناس كلما كثروا واجتمعوا على نوع من التخالف كثر الفساد فيه, وعلم بالتجربة أن المدن كلما كثر فيها الناس كثر فيها الفساد, وإذا قل فيها الناس قل فيها الفساد, ولهذا تجد القرى يقل فيها الفساد لقلة العدد, فكلما كثر العدد وزاد التخالف في الناس والتكاثر وقربهم مع بعضهم فإنه يزيد فسادهم ويجسر بعضهم بعضاً على الشر, وهذا من أمور السياسة الشرعية.
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30], بدأ بعموم الفساد مع أن سفك الدماء داخل في ذلك وهذا من عطف الخاص على العام, وأرادوا بذلك أن يدخل فيه عموم الفساد في الأرض: الفساد اللازم في الإنسان, والفساد المتعدي إلى غيره على اختلاف أنواعه, وخصوا القتل لعظم منزلته, فأعظم جرم يفعله الناس فيما بينهم هو القتل؛ ولهذا خصه الملائكة بذلك..
قالوا: يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30], فالملائكة قاسوا أنفسهم بالخليفة الذي يكون في الأرض, وظنوا في ذلك أن الله عز وجل أراد منهم العبادة المجردة, وأنهم أرادوا مزيد بيان للحكم في إيجاد هؤلاء الخلفاء في الأرض, فإذا كان غير التسبيح والتحميد فما المراد يا رب؟ ولكن الله عز وجل قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30], يعني: الحكم هي أعظم من أن تستوعبوها وتدركوها, وهذا في الإشارة إلى ما تقدم الكلام عليه, أن الله سبحانه وتعالى لا يبين الحكم ربما حتى للملائكة؛ لأن ما كل حكمة يدركها المخلوق, فقد يكون عقل الإنسان وعقل المخلوق صغيراً والحكمة عظيمة جداً كما تقدم الإشارة إليه, فإذا بين الله عز وجل الحكمة تحير الإنسان وعجب من ذلك, فالحكمة لا تتحقق للإنسان في نظره إلا بسبر طويل لا يستوعبه؛ لهذا تجد الإنسان المعمر الذي يعمر مائة سنة مائتين سنة وهو بشر مخلوق, لديه من البشر والعبر ما يقولها باختصار لمن دونه ولا يأبه بها, ويأسف أن من دونه لم يفهمها كما يفهمها هو, والسبب في ذلك أنه عُمِّر مائة سنة, فأعطاه الله عز وجل من الحكم ما لا يستوعبه من دونه, فكيف بالخالق جل وعلا وله المثل الأعلى أن يبين لمخلوق حكمة جعلها الله عز وجل في إيجاد بشر أو إيجاد خليفة, وهؤلاء الخلفاء لا تظهر فيهم الحكمة لمخلوق إلا بعد سبر حالهم إلى قيام الساعة, وذلك مما لا يدركه الإنسان؛ ولهذا جعل الله عز وجل عقول البشر بحسب أعمالهم, لا تزيد عن ذلك, ولهذا علم الإنسان يناسب حجمه في الكون, ومن أراد أن يعلم قدر علمه فلينظر إلى حجمه في الكون وسيعرف أن علمه على هذا النحو بالنسبة للكون كله؛ ولهذا كثير من الحكم لا تبين.
وفي سؤال الملائكة لله جعل وعلا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30], جواز السؤال عن الحكمة لمن أمر بعمل؛ ولهذا الله عز وجل بين للملائكة هذا الأمر, ويلزم من ذلك أن يعلموا أن لديهم مهمة في الأرض ستأتي تبعاً لذلك, وهذه المهمة ما تقدمت الإشارة إليها من الكتاب, والله عز وجل يعلم ذلك كله, ولكن ... الكون, وكذلك أيضاً من ضبط أحوالهم ومعيشتهم, وكذلك أيضاً أرزاقهم وقبض أرواحهم, هذا مما جعله عز وجل في أمر الملائكة, فيه إشارة إلى أنه يصح من المحكوم أن يسأل الحاكم إذا أمره بأمر عن علة هذا الأمر, فهذا ما حدث بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوق من الملائكة, وما كان من المحكوم مع الحاكم ليس بأعظم مما كان بين الله سبحانه وتعالى وبين الملائكة, فإن التقارب بين الحاكم والمحكوم من البشر أمر معلوم؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى ما عاتب الملائكة على سؤالهم ذلك, وإنما أحجم سبحانه وتعالى عن بيان الحكمة من إيجاد الخليفة. وهل يجب على الحاكم أن يفيد المحكوم بعلته؟
الجواب: نعم يجب عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما جوز للملائكة أن يسألوه عن حكمته من إيجاد الخليفة لم يجبهم لعدم إدراكهم للعلم, فبين أن العلة في ذلك أنه يعلم ما لا تعلمون, وأما بالنسبة للمخلوق الحاكم فإنه يدرك ما يدركه المحكوم فوجب عليه أن يجيب, فإنه لكل سؤال جواب.
كذلك أيضاً من مقتضيات ذلك ولازمه أنه يجب على الحاكم إذا أمر بأمر أن يقرنه بوجود العلة من ذلك, وهذا مقتضى السياق, وفي سؤال الملائكة الله سبحانه وتعالى عن الحكمة من إيجاد البشر إشارة إلى أنهم علموا أن الله سبحانه وتعالى لا يأمرهم بأمر إلا والحكمة ظاهرة لديهم فيه, وإذا لم تظهر لديهم سألوا الله عز وجل عنها وإذا لم يكن ذلك كذلك لكان السؤال في ذلك فضولاً ولا يكون أبداً.
وإنما قلنا بصحة ذلك لأن الله عز وجل وصف الملائكة بأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون, أي: أن هؤلاء الملائكة لا يسبقون الله جل وعلا بقول إلا بإذنه, فلما أذن لهم بذلك دل على أنه يجوز للمأمور أن يسأل الآمر عن حكم أمره.
وفي قوله هنا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30], قد اختلف في المراد بتسبيح الملائكة هل المراد التسبيح باللسان, بقول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم, أو سبوح قدوس وغير ذلك؟ أم المراد بذلك الصلاة؟
فمن العلماء من قال: إن المراد بذلك التسبيح, ومنهم من قال: بأن المراد من ذلك الصلاة, ومن قال: إن المراد بذلك التسبيح استدل بما جاء في الصحيح من حديث عبد الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الذكر, قال: ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله وبحمده ), قالوا: فهذا هو تسبيح الملائكة, ولكن الملائكة كما أنهم يسبحون فإنهم كذلك أيضاً يسجدون لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أطَّت السماء وحُق لها أن تئط, ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد أو راكع ), ولهذا فالملائكة يركعون ويسجدون لله جل وعلا, وتلك صلاتهم لله سبحانه وتعالى.
وقد نقول: إن المراد بذلك العموم باعتبار أن القرآن شامل لهذه المعاني كلها؛ كما في قوله هنا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30], أي: نعظمك بسائر أنواع التعظيم, سواء كان بالذكر أو كان بالصلاة.
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30], وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا علم علماً لا يدركه المتعلم أن يحبسه عنه؛ لضعف في إدراكه أو ربما لردة فعل منه ونحو ذلك؛ ولهذا الله عز وجل حبس تمام العلة من الإيجاد عن الملائكة وأحال ذلك إلى علم لديه خاص في قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30], يعني: لا تدركون العلة حتى لو أخبرتكم إياها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما لا تدركونه, ولهذا إنما منع الله سبحانه وتعالى الملائكة من تمام الحكمة من إيجاد هؤلاء الخلائف في الأرض؛ لأنهم لا يدركونها بتمامها, ولو أدركوها بتمامها كما أراداها الخالق لما كان ثمة فرق بين خالق ومخلوق من جهة العلم, ولهذا فالله سبحانه وتعالى له علم لا يدركه المخلوق، ولو أراد أن يدركه ما استطاع ذلك, ولهذا يحجب الله عز وجل عن البشر كثيراً من الحكم والعلل؛ لأنهم لا يدركونها, ولو ذكرت في كلام الله لتحيروا؛ لأنها لا تدرك على الحقيقة إلا بسبر تام, وإذا كان عقل الإنسان يضعف وأيضاً بصره وسمعه, لا يستطيع الإنسان أن يسمع كل الأصوات, ولا أن يبصر كل المرئيات ولهذا موسى عليه السلام لما قال لربه: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143], فتجلى الله عز وجل للجبل فجعله دكاً, وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143],, هذا المراد به أن الله سبحانه وتعالى حجب رؤيته عن موسى؛ لأنه لا يدرك الرؤية بخلقته التي خلقه الله عز وجل عليها, ولهذا الإنسان لا يدرك كثيراً من الأحكام, فكان من الحكمة العظيمة ألا تذكر, ولو ذكرت لأصيب الإنسان بالتحير وضاع فيها كما يضيع الإناء إذا أفيض عليه البحر العظيم.
في قوله سبحانه وتعالى: خَلِيفَةً [البقرة:30], يؤخذ من ذلك وجوه التعمير, وذلك من وجوه متعددة:
الوجه الأول: أن الملائكة قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30], ووجود الفساد لا بد من دفعه, ودفعه بضبط الناس على حكم الله عز وجل وشرعه, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وما لا تدرأ المفسدة إلا به فإيجاده وتحقيقه واجب, ولهذا ضبط حياة البشر في الأرض بدفع الفساد, وكذلك منع القتل لا يتحقق على وجه التمام إلا بحكم الله سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن الله عز وجل جعل هؤلاء خلائف في الأرض، وسيأمرهم بأمر, وهذا الأمر لا بد فيه من حاكم ومحكوم, من شخص يخاطب وشخص يستمع, والمخاطب لا بد له من الاصطفاء, وهذا الاصطفاء هو الولاية التي يجعلها الله عز وجل في الناس, والله سبحانه وتعالى قد بين للملائكة أن وجود هؤلاء ليسوا للفساد, وإنما أراد الله سبحانه وتعالى ضبط أحوالهم فيما بينهم, ولهذا نقول: إن وجود الخلائف في الأرض إذا كان ذلك يتسبب في الفساد فإن ذلك الفساد يدفع بوجود الخليفة فيه.
الوجه الثالث: أن كلمة خليفة من معانيها: الأمير, ولهذا تسمى الولاية خلافة.
وقد جاء عند ابن أبي شيبة وغيره من حديث قيس أن عمر بن الخطاب قال: لولا الخِلِّيفة لأذَّنت, يعني: لولا الخلافة لقمت بمهمة الأذان.
والمراد بالخلافة هي: الإمارة التي يتولاها الإنسان بعد غيره, ولهذا يسمى: أبو بكر الصديق خليفة رسول الله, ويسمى: عمر بن الخطاب بخليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا من وجوه معاني الخلافة, وبهذا نقول: إن ذكر الفساد في الأرض مع ذكر الخليفة دليل على وجوب التأمير.
والتأمير يتحقق بخمسة أنواع, إذا توفر واحد منها تحققت فيه الخلافة والولاية:
أولها: أن تتحقق الخلافة بالنص من كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, والنص في ذلك على نوعين:
نص خاص, ونص عام.
النص الخاص أن يأتي في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاب يتوجه إلى فرد بعينه أنه خليفة رسول الله, كما توجه إلى أبي بكر فإن خلافته أخذت بالنص, وذلك في مواضع عديدة منها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءته تلك المرأة فقالت: من آتي بعدك؟ قال: ائت أبا بكر ), كذلك أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم جعله خليفة له في الصلاة, والصلاة جزء من الإمارة, فكان في السابق لا يصلي إلا الأمير.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما روى عبد الرزاق من حديث سعيد بن جبير و أبي سلمة أن أبا سلمة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله, وإمامهم أميرهم ), يعني: يلزم من ذلك أن الإمام يكون أميراً تبعاً لهذا.
وأما النص العام وذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم ( الأئمة في قريش ), فإذا وجد خليفتان في الأرض واستويا في الأحقية والأهلية, وكان أحدهما قرشياً والآخر غير قرشي, فالنص يتوجه إلى تنصيب القرشي على غيره, فنقول حينئذ: إنه أخذ الخلافة بالنص في مثل هذا الموضع, فهو لم يأخذها بعينه ابتداء, وإنما أخذها بابتداء من جهة أهليته بالعلم والصدق والديانة والأمانة, فلما استوى مع غيره أخذها عنه بالنص, ولهذا نقول إن النصوص بذلك عامة, وخاصة.
الثاني: أن يكون ذلك بالاستخلاف؛ وذلك كخلافة عمر بن الخطاب , فإن أبا بكر أوصى إليه بالخلافة.
الثالث: أن يكون ذلك شورى بين المؤمنين, وهذا لا يكون إلا فيمن اشتهر بالصلاح, فيكون ذلك شورى بينهم فيرجحون فيهم من تحقق فيه الأولوية بالولاية, فمن اجتمعوا عليه فإنه يترجح, أو من يجتمع عليه الأكثر وتوافرت فيه الشروط الشرعية فإنه يستحق بذلك الخلافة.
الرابع: أن يكون ذلك في فئة من أهل الحل والعقد, دون عموم الناس, وذلك كما وضع عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى الأمر في ستة من أهل الحل والعقد, فما يرونه خليفة يكون خليفة, وهذا يصلح في حال اتساع البلدان وكثرة الناس, وكونهم ألوفاً مؤلفة وملايين, مما يصعب في ذلك أخذ رأيهم بكاملهم, فينتدبون في ذلك أصلحهم, ثم بعد ذلك يرشحون من يرونه أصلح لولاية المسلمين.
الخامس: من أخذ الملك بالغلبة, فإذا أخذ الملك بالغلبة من غير نص أو استخلاف أو شورى أو رأي أهل الحل والعقد، ونفذ أمره عليهم وسطوته وجبت بيعته, لأن في مخالفته فساداً في الأرض, ومخالفة للمقصود من الأمر بالاستخلاف, لأن الله عز وجل أمر بإيجاد الخليفة لدفع الفساد, فإذا كان قد بسط نفوذه على الناس, واستوعبه أمراً ونهياً, فإنه يجب حينئذ السماع, وعدم الخروج عليه تحقيق لما أوجد الله عز وجل الخلافة لأجله, شريطة أن يكون الذي بسط نفوذه ممن يتوفر فيه شروط الخلافة, وأولها: الإسلام.
وينبغي أن يعلم أن الخلافة والإمارة إذا كان المسلمون على رأي سواء, فإنه يأخذها أصلحهم في ذلك, وينظر إلى أعلى درجات الكمال من الصفات, وإذا كان في ذلك مشقة وفتنة واقتتال فإنه ينظر إلى الأدنى ويقتصر عليه ولو كان مقصراً في أمر دينهم.
والخلافة والإمارة كما أنها في الحضر فهي كذلك في السفر, كما جاء في حديث أبي سعيد وأبي هريرة من حديث أبي سلمة عن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان ثلاثة في سفر فليأمروا عليهم أحدهم ), وهذا الحديث قد اختلف في رفعه, وفي وصله وإرساله.
قد جاء في المسند والسنن من حديث محمد بن عجلان عن ابن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
وقد جاء مرسلاً من حديث محمد بن عجلان عن ابن نافع عن أبي سلمة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصوب الإرسال في ذلك أبو زرعة و أبو حاتم وهو الأشبه بالصواب, ولكن يغني عن ذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بعث سرية أو جيشاً إلا أمر عليهم أميراً ).
ويؤخذ هذا من قول الله عز وجل: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246], فإن الملأ من بني إسرائيل طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله, ففيه إشارة إلى أن الناس إذا كانوا في سفر أو كانوا في غزوة لا بد من قائد لهم, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية أو جيشاً أمر عليهم أحدهم, وهذا كما أنه في السفر فهو كذلك أيضاً في الحضر.
وإذا كان القوم في السفر يجوز لهم أن ينزعوا الولاية من هذا ويضعونها في هذا, بحسب حاجتهم, ولو وضعوا أميراً لهم كل ساعة, لا بأس بذلك, قد جاء عند عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث عبيد بن عمير عن عمر بن الخطاب أن قوماً جاءوا إليه فقال: من أين أتيتم؟ قال: فقام شاب فيهم فقال: من الفج العميق, قال: إلى ماذا تريدون؟ قال: إلى البيت العتيق, قال: تأولها, يعني: من كلام الله سبحانه وتعالى, من أميركم؟ قال: هذا الشيخ, قال: أنت أميرهم, فنزع الولاية منه ووضعها في هذا الصبي.
وفيه إشارة إلى أن الولاية في السفر ينبغي أن تكون في الأعلم, وليست في الأكبر, كذلك أيضاً من حق الوالي العام أن ينزع ولاية الثلاثة في السفر, وأن يجعلها في واحد منهم، وأمره في ذلك نافذ ولو أبوا, ولهذا عمر بن الخطاب هو الخليفة نزعها من الكبير وجعلها في الصغير, مع أن الأمر شأن بينهم, ولهذا نقول: إن الخليفة الأكبر الذي له الولاية العظمى إذا كانوا قد جعلوا على بلدتهم خليفة منهم بشورى منهم لم يجز له أن ينقلهم إلا إذا كان أمر الخليفة الأعظم, وإذا كان بغير شورى جاز أن ينقل غيره, وإلا نقض الأحق بشيء دونه, والأحق في أمر ولايتهم إذا ارتضوه أن يكون واليهم من جهة الأصل قد تولاها بشورى بين المسلمين.
الآية الثانية نأخذها على عجل قول الله سبحانه وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36], هذه الآية فيها حكاية ختام حال آدم وزوجه في الجنة حينما سمع شَوْر إبليس ورأيه فأكل من هذه الشجرة, وبين أن الله سبحانه وتعالى قد أزلهما عن هذه الجنة التي خلقها الله عز وجل لآدم ولذريته بسبب مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.
وفيه إشارة إلى أن الشيطان إذا كان عدو للإنسان في الجنة وهو فيها فهو عدو له أشد إذا كان في الأرض, فهو عدو وهو قريب من رب العالمين فكيف بعداوته وهو على الأرض ليس على السماء؟ ولهذا نقول: إن آدم وحواء إنما خرجا من الجنة بسبب الأكل من الشجرة, والله جل وعلا إنما منعهما من الأكل من الشجرة لعلة وحكمة عظيمة, الله عز وجل أعلم بها, وجعل الله سبحانه وتعالى سبب الخروج هو وجود تلك الزلة.
وفي هذا دليل على جواز النفي من الأرض, وأن يكون ذلك عقوبة, كذلك أيضاً عقوبة المخالف بالسجن, فالله عز وجل قد نفى آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض, فنفى الله آدم وزوجه مرحومين, ونفى إبليس مطروداً ملعوناً, فالنفي حينئذ يكون بسبب المعصية, وهذا فيه جواز إنزال العقوبة تأديباً حتى على التائب منها إذا وجدت علة وحكمة من إنزال العقوبة, وفي قوله هنا سبحانه وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة:36], دليل على جواز سلب ما يملكه الإنسان والانتفاع به إما سلباً كلياً أو جزئياً, وذلك أن إخراج الله عز وجل لآدم وزوجه من السكنى في الجنة بسبب ذنب, والإخراج من السكنى على حالين: منع من الحق بالكلية بسبب الذنب؛ وذلك بقتله, فلا ينتفع بسكنى ولا حياة, أو أن يخرج من بيته إلى سجن أو نفي من الأرض إلى أمد محدود, والله عز وجل قد أخرج آدم وذريته من الجنة, وفي هذا حكم أيضاً؛ أنه يجوز أن ينفى الإنسان, وأن يسجن وأن يكون سجنه معلقاً بتوبته ورجوعه, فالله عز وجل قد أخرج آدم وبين بعد ذلك أن رجوعه إلى الجنة مقيد بسماع أمر الله, وفي قوله جل وعلا: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38], أي: أن الهدى سيأتي بعد ذلك وسأنظر إن رجعتم إن كنت على حق أنت وذريتك رجعتم إلى الجنة, وإن لم ترجعوا بل بقيتم على ذلك فإن مصيركم النار, فمن ذرية آدم من رجع إلى الحق وآب واتبع توبة أبيه آدم فرجع إلى الجنة, ومنهم من لم يرجع فبقي منفياً مطروداً منها لم يعد إليها أبداً, ولهذا نقول: إن في هذه الآية جواز النفي من الأرض, والسجن, كما نفى الله عز وجل آدم وحواء وإبليس, فنفى آدم وحواء مرحومين, ونفى إبليس ملعوناً مطروداً.
وفي قوله جل وعلا: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف:24], إشارة إلى ما كان بين آدم وحواء وإبليس وأن آدم وحواء قد تابا من فعلهما قبل هبوطهما إلى الأرض, وبين العدواة بينهما وبين إبليس, كذلك أيضاً أن المؤمن ولو عصى فهو أقرب إلى الكافر, فإن العداوة باقية, ولا ينبغي أن ينفى ويلحق مع غيره؛ ولهذا آدم وحواء مع كونهما قد عصيا الله عز وجل بالأكل من هذه الشجرة إلى أن الله عز وجل قد بين أن إبليس هو عدو لكما أيضاً وما زال مستمراً على هذا.
وفي قوله: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف:24], فيه دليل على أن الحاكم إذا سجن أحداً أو نفاه أنه يجب عليه أن يتكفل بمعيشتهم في الأرض المنفي فيها, وأن يتكفل برزق ذريته, ولهذا الله عز وجل ما نفى آدم وزوجه إلى أرض لا عيش فيها, وإنما بين الله عز وجل أني نفيتك إلى الأرض ولك فيها مستقر, والقرار المراد بذلك السكن, ولهذا لا يجوز أن ينفيه شريداً طريداً في الأرض, إما إلى صحراء, أو إلى فلاة لا مكان يأوي إليها ونحو ذلك؛ لا بد له من قرار, وَمَتَاعٌ [الأعراف:24], أن يضمن له الملبس, وأن يضمن له المأكل, وما يستمتع به الإنسان.
وهنا قد يسأل سائل فيقول: ما المراد من الحبس والسجن إذا كان الإنسان يستمتع بالمأكول والسكن؟
نقول: إن النفي من الأرض, وكذلك السجن هو أن يبتعد الإنسان عن مسكنه في أمر النفي, وأما بالنسبة للسجن ألا يملك الإنسان تصرفه بنفسه؛ ولهذا نقول: إن النفي: هو سجن موسع, أن يبتعد الإنسان عن أرضه وأهله؛ ولهذا فالله جل وعلا قد جعل الإخراج من البلد مقترناً بالقتل, ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85], يعني: أن القتل وإخراج الأنفس من الديار يتساويان من جهة الشدة في العقوبة, وشدة العقوبة هذه دليل على أنها لا تنزل إلا على شيء عظيم.
ونتكلم فيما يتعلق بالنفي وكذلك السجن, فمن العلماء من قال: إنه لا يوجد نفي ويوجد سجن, وقالوا: إن في قول الله جل وعلا: أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33], المراد بذلك طردهم لأجل الإمساك بهم, وأنهم إذا مسكوا أقيم عليهم الحد, وأما طلبهم في الأرض فهو ألا يدخلوا هذه البلد, وتلك عقوبة يسكن في أي بلد أخرى, وهذا قد جاء عن غير واحد من المفسرين, فجاء عن عبد الله بن عباس؛ كما رواه عبد الرزاق وغيره, كذلك ابن حزم الأندلسي من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33], قال: يطلب منها فإذا أمسك أقيم عليه الحد وإلا فذاك نفيه, فكأنه فسر النفي هو بألا يدخل المدينة, فإذا طلب وأمسك به فإنه يقام عليه الحد, فكأن النفي ليس عقوبة بذاته, وهذا جاء عن غير واحد من المفسرين, ومنهم من نفى ذلك على الإطلاق وقال: لا عقوبة في النفي أيضاً, وهذا قول لا يعول عليه مع ثبوته في كلام الله وظهوره في غير موضع من الآي.
وفي ما ذكره الله سبحانه وتعالى من النفي في الأرض معنيان: المعنى الأول: النفي وتقدم الكلام عليه.
المعنى الثاني: هو ما يتعلق بالسجن, والسجن هو عذاب للنفس وعذاب للعقل وعذاب للبدن, أما عذاب النفس فإن النفس حرمت التلذذ بمن حولها, بالأهل والذرية والأولاد, وأما عذاب العقل فإن العقل يحبس عن التأمل في الكون, والنظر في الأفلاك وإطلاق البصر ونحو ذلك, وهذا من عذاب العقل, فإن العقل يسرح ويسبح في الكون, وأمره الله عز وجل بالتأمل, وكذلك عذاب للبدن, فإن البدن إنما خلقه الله عز وجل ليضرب في الأرض وينطلق ويذهب ويجيء, فإذا لم يملك الإنسان ذلك تضرر بدنه، وأوذي في هذا, وهذا جعله الله عز وجل مقروناً كما في قصة يوسف بالعذاب حيث قال: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25], فبين الله سبحانه وتعالى أنها في قولها قرنت السجن بالعذاب الأليم, بل قدمته على العذاب, وذلك أن السجن عذاب, بل أشد الأنواع الثلاثة كما تقدم, وهو أطول زمناً, بخلاف العذاب الذي ينزل على الإنسان بالجلد وغيره, فإنه يأتي يوم ثم يزول ضرره بعد ذلك فيما يأتي من أيام وأشهر وسنوات, بخلاف السجن؛ ولهذا نقول: إن عقوبة السجن لا تقع إلا على الجرم العظيم, ولهذا جعله الله سبحانه وتعالى عقوبة للزنا, فالمرأة إذا وقعت في الزنا ابتداء تحبس في البيت حتى يتوفاها الموت, وجريمة الزنا من الكبائر, ولهذا قال غير واحد من العلماء: لا يجوز أن يسجن الإنسان إلا على كبيرة, وهذا يأتي الكلام عليه.
وينبغي أن نتكلم على مسألة، وهي: السجن للشبهة والتهمة من غير بينة, فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه قيد رجلاً بتهمة يوماً وليلة ), كما رواه الحاكم في مستدركه, وأما بالنسبة للحد الأعلى في ذلك فأعلى ما تكلم فيه الفقهاء في ذلك أربعة أشهر, ولا يجوز الزيادة في ذلك.
والتهمة يشترط فيها أن تكون قائمة, وهنا مسألة: وهي في قوله جل وعلا: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة:36], ذكر هذا بعد قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [الأعراف:19], والمراد بذلك الأكل, ويسبق الفعل العزم والهم, فإذا عزم الإنسان على باطل وهم به لا تحل عقوبته على همه وعزمه, ولهذا الله عز وجل جعل عقوبة آدم إذا أكل من الشجرة إخراجه من الجنة إلى الأرض, فعزم وهمَّ وما نزلت به العقوبة حتى فعل, ولهذا إذا نوى الإنسان الباطل لا يعاقب عليه, والعقاب عليه محرم بالاتفاق, وهو من الظن, وإذا هم الإنسان وعزم فإنه يمنع من عزمه عليه, من فعله ذلك.
وأما بالنسبة لمعنى السجن في الشريعة, فيقول ابن تيمية عليه رحمة الله, وهو ممن جرب السجون كثيراً رحمه الله, حيث سجن نحو سبع سنين يقول: وليس السجن أن يوضع الإنسان في مكان ضيق, فهذا ليس في الشريعة, وإنما هو أن يحبس في بيت أو يحبس في مسجد ونحو ذلك فلا يملك التصرف في نفسه, أما السجون الموجودة أن يوضع الإنسان في متر في مترين أو متر ونصف؛ فهذه ليست سجوناً شريعة, وليست سجون دين, ولم يقل بذلك أحد من أئمة المسلمين, بل المقصود من السجن هو ألا يملك الإنسان تصرفاً في نفسه, فلا يستطيع أن يذهب, ولا يستطيع أن يبيع, ولا يستطيع أن يشتري, إما أن يكون في بيته, أو يوضع مكان يسجن فيه الناس, أو في المساجد ونحو ذلك, فلا يوضع الإنسان في مكان ضيق.
وهنا مسألة في السجن وهي: الحد الأقصى والأدنى له, بالنسبة للأدنى هذا لا حاجة إلى الخوض فيه باعتبار أن الحد الأدنى في ذلك هو أمر متسع.
أما الحد الأعلى في هذا فاختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال, فذهب جماهير العلماء وهو قول الحنابلة والحنفية والمالكية وهو قول الإمام أحمد, ونص عليه جماعة من الأئمة؛ كـابن ... وكذلك الماوردي وغيرهم إلى أنه لا حد لأقصاه, إذا كان لا يرتدع الإنسان أو لا يكف الإنسان عن شره إلا بذلك, وظاهر كلام الشافعي وذهب إليه جماعة من فقهاء الشافعية أنه يقيده للحر بسنة إلا في حد.
ومنهم من قال: ستة أشهر حتى لا يشابه حد الزنا من جهة التغليب, وقالوا: لا يجوز أن يزيد فيما هو أكثر من ذلك.
وبهذا نقول: أن المسألة على قولين, والمترجح في هذا أنه لا حد لذلك, فلا يسوغ عقلاً أن إنساناً يعزم على قتل إنسان ويهدده بقتله, ثم يوضع في الحبس, ويقول: إن خرجت سأقتل فلاناً, أن يطلق، هذا لا يطلق حتى يرجع عن عزمه عن قتل فلان.
وإنما مراد الأئمة عليهم رحمة الله في تحديد المدة في ذلك أنه من جهة تأديب الإنسان الذي لا يظهر منه عزم على ذات الباطل.
ويظهر لي من تأمل النصوص فيمن لا يظهر منه عزم على الباطل أنه من البغي الزيادة عن سنة, وقد ظهر عند المتأخرين من قوانين وضعية, من يسجن عشرين وثلاثين وأربعين سنة, وقد قرأت أن رجلاً حكم عليه خمسمائة سنة, وهو في زمننا, فهذا لا يمكن أن يكون إلا من الكائنات السلحفات, التي تعمر ثلاثمائة وخمسين كما يقول أهل الطبيعة!! أما البشر فلا يمكن، وهذا دليل على ضعف هذه القوانين وتخلفها, وكذلك أيضاً دليل على شدة الظلم والبغي, وتيه العقول إذا ابتعدت عن هدي الله سبحانه وتعالى, فالشريعة جاءت بضبط الناس وهدايتهم وإرشادهم, والرحمة والشفقة بهم, وإصلاحهم وليس إفسادهم, ومثل هذه الأمور لا ينبغي الأخذ بها ولا الالتفات إليها.
وفي قوله: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف:24], فيه وجوب تحديد الآجال في السجن, فما جعل الله الإنسان يسجن هكذا, إنما قال: إِلَى حِينٍ [الأعراف:24], وهذا الحين معلوم عند الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: يجب أن يعلم السجين كم سيسجن, وهذا حق له, وأن عدم إعلامه مخالف لظاهر قوله سبحانه وتعالى.
نكتفي بهذا القدر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لمرضاته, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر