بسم الله الرحمن الرحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال المصنف رحمه الله: [ وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه، خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ].
الله جل وعلا هو الذي خلق الخلق، ومنهم الإنسان، وخلق الله عز وجل الأشجار والأحجار والرمال والجبال، وخلق الله عز وجل البحار والأشجار والأحجار، ويعلم حقيقتها وتفاصيلها ودقائقها وما تؤول إليه، وتكوينها، والله سبحانه وتعالى جل وعلا يعلم ما خلق، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14], بلى، بل نقول: إن الله سبحانه وتعالى يعلم جل وعلا حقائق ما لم يوجده الله جل وعلا لو أوجده ما يكون من آثاره، والله سبحانه وتعالى يعلم حال الخليقة قبل خلقها، ويعلم أحوال الخلق، ويعلم سبحانه وتعالى ما يتصرفون قبل خلقهم، فالله عز وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، وقدر الله عز وجل مقادير الخلق قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى أقرب لعبده من حبل الوريد، ويعلم الله جل وعلا أيضاً ما توسوس به نفسه من خواطر وهواجس وأحاسيس ومشاعر, مما يجده الإنسان في نفسه، وربما علم الإنسان ما في نفسه أو لم يعلم، فربما ما يتخالج من نفس من أفكار أو يطرأ عليه من مشاعر أو وساوس لا يعلم الإنسان كنهها وحقيقتها، فيتوجس الإنسان من نفسه شيئاً ويقول: لا أعلم ما في نفسي، ولا يعلم ما أوجده في نفسه من حرج أو ضيق أو هم، فيحزن ولا يدري لماذا حزن، أو اهتم ولا يعلم ما سبب همه، يعلم الله عز وجل ما أهمه ولو لم يعلمه الإنسان بنفسه، والله سبحانه وتعالى يعلم ذلك كله جل وعلا، وهو الذي خلق، و أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14]. نعم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى ].
والله سبحانه وتعالى مالك الملك, وعلى عرشه استوى، وعلى الملك احتوى, من جهة قدرته وتصرفه، وعدم خروج ذلك عن إرادته سبحانه وتعالى، وهو الذي يقلب المواد، ويقلب سبحانه وتعالى حقائقها وأحوالها وتغيراتها، ويعلم تراكيبها مما هي عليه، وما لم تكن عليه، لو امتزجت مع غيرها كيف تكون حالها، ولهذا لله جل وعلا العلم المطلق في ذلك. نعم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لم يزل بجميع صفاته وأسمائه, تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسمائه محدثة ].
له سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى، وله الصفات العليا، وكلها حسنى، فكل أسمائه حسنى وكل صفاته عليا، سبحانه وتعالى. نعم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته, لا خلق من خلقه ].
خلق الله عز وجل الخلق منه ما ذكره الله عز وجل لنا ومنه ما لم يذكره جل وعلا، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر عند الرفع من الركوع: ( ملئ السموات والأرض، وملئ ما بينهما, وما شئت من شيء بعد )، فلله سبحانه وتعالى من الخلق ما نعلمه وله من الخلق ما لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى.
وصفات الله عز وجل ليست بمخلوقة، تعالى الله عز وجل عن ذلك؛ لأن الذات هي الصفات، والصفات هي الذات، وإذا قلنا إن الصفات مخلوقة، فهذا يعني أن الذات مخلوقة, تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك، ولهذا نقول: إن الله عز وجل متفرد وواحد وهو الخالق الذي لم يخلق، وهو الواحد الفرد الذي لا ند له ولا نظير ولا شريك له ولا مثيل، والله سبحانه وتعالى في ذلك كله متفرد لا يجوز لأحد أن يصفه بشيء من الأوصاف إلا بما ثبت به الدليل من كلام الله أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمثال هذه الأشياء توقيفية, ومردها إلى السمع، من النص من كلامه سبحانه وتعالى وكلام نبيه وكل ذلك إليه. نعم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وتجلى للجبل فصار دكاً من جلاله، وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد ].
ولله عز وجل كلام، ومن كلامه القرآن، وله من الكلام ما لا يحصيه إلا هو سبحانه وتعالى، موصوف سبحانه وتعالى بالكلام، يتكلم جل وعلا متى شاء، وفيما شاء، وكيفما شاء جل وعلا، وينزل كلامه سبحانه وتعالى على من شاء، وكلامه صفة من صفاته، لا يجوز القول بأن كلام الله عز وجل مخلوق، وذلك أن كلامه صفة من صفاته، وإذا قلنا بأن كلام الله عز وجل مخلوق يلزم من ذلك خلق الذات؛ لأن الكلام صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وكلامه جل وعلا منه القرآن، ومنه التوراة، ومنه الإنجيل، ومنه الزبور، وما في صحف موسى وإبراهيم وغيرها من الكتب، ومنها ما لم ينزله الله عز وجل على أحد من عباده، فالله سبحانه وتعالى يتكلم ولا يزال متكلماً متى شاء، وكلامه سبحانه وتعالى صفة من الصفات، لا نقول كما يقول المبتدعة بأن كلام الله عز وجل مخلوق، وذلك كفر؛ لأن خلق الصفة خلق للموصوف، ولا نقول كما يقول المتكلمون؛ بأن الكلام معنى قائم في نفس الله عز وجل خلقه الله عز وجل خارجاً فأوجده، وهم يعبرون عن ذلك بتعبيرات، منهم من يقول: إن الله عز وجل خلقه خارجاً عنه وهو المعنى القائم في ذات الله عز وجل، خلقه الله عز وجل ليعبر عما في نفسه، والله جل وعلا ما قال ذلك وإنما نسب الكلام إليه كما في قوله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، فهو كلام الله جل وعلا والزيادة عن ذلك ضلال، ولا نقول إن كلام الله سبحانه وتعالى كذلك أوجده الله عز وجل وقذفه في جبريل, وجبريل قذفه في روح محمد أو روع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا معنى زائد عما جاء به الدليل، ومن قال: إن كلام الله مخلوق فقد كفر، ولو قال: إن حرفاً من كلام الله عز وجل مخلوق، وما يشكل عند بعض المبتدعة الذي دعاهم لأمثال هذه المعاني، الذين يقولون: إن كلام الله سبحانه وتعالى يوجد ويحفظ في الصدور، وتتلفظ به الألسن، ويكتب في الصحف والألواح، فهذا كلام الله جل وعلا فكيف يصل إلى مثل هذه الحال؟ نقول: إن كلام الله عز وجل يحفظ في الصدور، وقد ذكره الله جل وعلا في كتابه العظيم، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، فهو في صدورهم وهو كلام الله سبحانه وتعالى ولا يزاد عن ذلك، وما يتكلم به الإنسان كلام الله جل وعلا، ولكن الصوت صوت القارئ والكلام كلام البارئ، فتحريك الشفتين مخلوق، ولعاب الإنسان وهواؤه مخلوق، ولكن القول الذي يتلفظ به هو كلام الله والصوت للإنسان، كذلك بالنسبة لما يدون في الألواح والصحف، فما فيه من أحبار وأوراق هذه مخلوقة، والكلام كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا نقول: إن الزيادة عن ذلك إحداث وابتداع وضلال في الدين، وإنما دخل الناس في أمثال هذه التفصيلات في مسائل كلام الله جل وعلا لما توسع المبتدعة في تحليل أمثال هذه المسائل، وكان السلف الصالح عليهم رضوان الله من الصحابة في سلامة من ذلك؛ لأنهم كانوا يمرون ما جاء من النصوص من غير أن يصرفوها على غير ما أراده الله جل وعلا، فلما تكلف الناس التأويل وتوليد المسائل وغير ذلك أدخلوا أهل العلم في أمثال هذه التفاصيل؛ لينفوا عن الدين الشبهات، ويزيلوا ما ربما يصد به عن الحق، ولهذا كان السلف الصالح في ابتداء الأمر ينهون عن الخوض في مثل هذا حتى تكلم به الضلال، ولهذا بعض الأئمة يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن لفظي بالقرآن ليس بمخلوق فهو مبتدع؛ لماذا؟ لأن هذا شيء جديد، لماذا تدخل في أمثال هذه التفاصيل، لماذا تخوض في أمثال هذه التفاصيل وأنت في عافية منها؟ لكن لما ولدوها وقرروها قام العلماء عليهم رحمة الله تعالى بتقريرها وتفصيلها وإزالة الشبهات منها، وهي الفتنة العظيمة التي وقعت للإمام أحمد عليه رحمة الله حينما ظهرت, وقويت شوكة الجهمية حينما قالوا: إن كلام الله عز وجل مخلوق، وحدث في ذلك من المناظرات والفتنة والابتلاء لجماعة من أئمة السنة على رأسهم الإمام أحمد عليه رحمة الله، ولهذا نقول: إن كلام الله عز وجل موصوف بأنه الكلام, وكذلك قول الله جل وعلا كما في قوله سبحانه وتعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [آل عمران:55]، وَقَالَ اللَّهُ [المائدة:12]، فالله عز وجل يقول ويتكلم، وكذلك أيضاً ينبئ عباده.
وهنا في قوله: وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد؛ لأنه لا يبيد إلا المخلوق، وصفات الله سبحانه وتعالى هي ذاته جل وعلا، وإذا قلنا بأن صفة من صفات الله عز وجل تبيد، فهذا يرجع إلى الموصوف كذلك، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. نعم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن القرآن كلام الله ليس بخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد].
وذلك أن كلام المخلوق ينفد، له حدود، له بداية وله نهاية، وكذلك أيضاً كتابة الإنسان تنفد، الأحبار تنفد، الأقلام تنقضي؛ وذلك لقلة كلام الإنسان فله بداية وله نهاية، أما كلام الله سبحانه وتعالى ولو جعل الإنسان ما في الأرض من شجر أقلام والبحار مداد ما نفدت كلمات الله سبحانه وتعالى، وبهذا نعلم أن ما يقع في أذهان بعض المبتدعة من القول بخلق كلام الله عز وجل إنما حملهم ذلك التشبيه الذي طرأ على عقولهم فشبهوا كلام الخالق بكلام المخلوق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه ].
والله جل وعلا جعل الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؛ كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما لما سأله جبريل عن الإيمان، قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره )، فالله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق من جهة أحوالها وتقلباتها، وأعمارها، وابتدائها وانتهائها، وكذلك أيضاً تحولاتها، وقدر الله عز وجل مقاديرها من جهة الكسب، وقدر الله عز وجل لها الخير والشر، وقدر الله عز وجل الأسباب، وخلق فيها المسببات لتظهر الآثار فيه، وهذا لدقة صنع الخالق سبحانه وتعالى في الخلق، لا تخرج المخلوقات عن إرادة الله جل وعلا ولو قيداً يسيراً، ولا يتأخر الناس عما قدره الله عز وجل لهم من الآجال، ولو لحظة، ولا يسبقون آجالهم بالوجود من ولادة وحياة إلا بما قدره الله سبحانه وتعالى لهم، والله جل وعلا قدر المقادير وكتب الآجال وتقلبات الحياة بيده سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه، وسبق علمه به، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ].
وفي هذا نقول في إثبات القدر لله سبحانه وتعالى: يلزم من ذلك إثبات العلم، ومن نفى القدر فإنه يلزم منه نفي العلم، هذا من جهة النظر، ولكن هناك من ينفي القدر ولا ينفي العلم، وهذا ضرب من ضروب التضاد، ولهذا نقول: إن الله عز وجل يعلم كل شيء مما مضى ومما يأتي ومما هو حال في هذا الوقت، والله سبحانه وتعالى يعلم وهو الذي قدر، والعلم يتفرع عنه التقدير، والتقدير لازم للعلم؛ لأنه لا يقدر الشيء إلا من علمه، وهذا لكمال الله سبحانه وتعالى.
إن الذي حمل طوائف البدع في مسائل القدر على الانحراف أنه حملهم ذلك شيء مما وقع في نفوسهم من طلب تنزيه الله جل وعلا، فكانت الطوائف في ذلك طرفين ووسط، غلاة فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى جبر الخلق، وهم مجبورون على أفعالهم وليس لهم اختيار في أفعالهم، وأرادوا من ذلك قالوا: كيف يكون للإنسان مشيئة ويخرجون عن مراد الله سبحانه وتعالى؟ أرادوا تنزيهاً فوقعوا في أمثال هذا الضلال، وقع في هذا الغلاة من الجهمية الذين يقولون: إنه لا يكون في الكون إلا ما يريده الله عز وجل شرعاً وقدراً، أما الوقوع القدري فهذا لا خلاف في ذلك، أما الشرعي وهو ما يريده الله عز وجل فقد يكون في الكون ما لا يريده الله جل وعلا شرعاً، الله عز وجل أراد للناس الصلاة والصيام، لكن ألا يقع في الكون ما لا يريده الله عز وجل من ترك الصلاة؟ نعم، لكن هل هذا منافاة للإرادة الكونية أو للإرادة الشرعية؟ للإرادة الشرعية؛ لأن الله عز وجل لو أرادهم أن يفعلوا لجعلهم يفعلوا، ولكن جعل لهم اختياراً عليه يعذبون.
بناء على ما سبق نقول: إن المخلوقات لله عز وجل على نوعين:
النوع الأول: مخلوقات مسخرة مسيرة لا اختيار لها؛ وهذا كالكواكب والنجوم والأفلاك وغيرها, لا تخرج عن إرادة الله عز وجل الكونية، ولا تخاطب بإرادة شرعية.
النوع الثاني: ما له اختيار؛ كالإنس والجن، وكالملائكة، والملائكة لهم اختيار؛ لأن الله عز وجل مدحهم ولا يمدح إلا من له اختيار بالموافقة أو المخالفة؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وذلك لشدة الطاعة، إلا أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل من الابتلاء المعترض لهم كما جعله لبني آدم، وذلك من أمور النفس والشيطان وغير ذلك التي تحرف الناس، ولهذا الله سبحانه وتعالى مدحهم على ذلك ولا يمدح إلا من له اختيار فوافق، ولهذا نقول: إن الإنس والجن والملائكة لهم اختيار، فوقع في الإنس والجن عصيان، ومخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى, وهؤلاء لهم مشيئة ويخاطبون بالإرادة وبالأمر الشرعي؛ لأن الإرادة والأمر على نوعين: إرادة وأمر كوني، والثاني إرادة وأمر شرعي، الأول كوني لا يخرج عنه، والثاني: شرعي للناس فيه اختيار، قد يخرجون عنه، وقد لا يخرجون عنه، ومن خرج استحق العقاب والعذاب.
والطائفة التي تقول: إن الناس مجبورون ومسخرون أيضاً؛ أرادوا من ذلك تنزيه الله سبحانه وتعالى أن يقع ما لا يريد، وحينئذ هؤلاء أفرغوا الشريعة من حقيقتها، فلماذا ترسَل الرسل؟ ولماذا تنزل الكتب؟ ولماذا يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن قاتل من المشركين, هؤلاء ما هي أحوالهم؟ من عبدوا الأصنام والأشجار والأحجار ما هي حالهم؟
قالوا: هؤلاء ما عبدوا إلا الله، ثم قالوا: إن الله عز وجل حال في كل مكان، قالوا: حال حتى في الأصنام والأحجار، فإذا توجه الإنسان للصنم والحجر فقد توجه إلى الله، فجعلوا الكون يدور حول نفسه، بمعنى: أن ما في الكون إلا الله، حتى ضل منهم من ضل في هذا وجعل في ذلك جملة من اللوازم، في أن الله عز وجل حال في كل مكان ليقع لديهم ما يسمى بتبرير الشرك في الأرض والكفر، وما يتعلق بأمر الجنة والنار يتأولونها كذلك, وهذا فيه تعطيل لكثير من أحكام الله عز وجل وشرائعه.
الطائفة الأخرى أو الطائفة الثانية: الذين قالوا: لا يوجد قدر أصلاً، ومنهم من ينفي العلم، وهؤلاء الطائفة التي تنفي العلم قد اضمحلت، ولا قائل بذلك، ولكن نقول: إن الله عز وجل يعلم وهو المقدر جل وعلا، الذي حملهم على نفي القدر، قالوا: والله عز وجل يقدر على عباده الأقدار من خير وشر ثم يعذبهم على ذلك كيف يكون هذا؟ وهذه من المسائل التي وقع في لوازمها كثير من الضلال عند أهل البدع، قالوا: فالله عز وجل يقدر على عباده الخير، ولا يخرجون عن إرادته، إذا أثبتنا القدر يلزم من ذلك أنهم مسيرون ولا اختيار لهم، وإذا قلنا بهذا فيلزم منه أن الله عز وجل يأمر الإنسان ويلزمه بشيء ثم يعذبه عليه، قالوا: وهذا ينافي عدل الله سبحانه وتعالى.
أهل السنة يقولون: إن لله عز وجل مشيئة، ولعبده مشيئة، والله سبحانه وتعالى جعل للإنسان مشيئة واختياراً بعلمه سبحانه وتعالى، وهذه المشيئة هي التي يعاقب عليها وأيضاً يثاب عليها الإنسان، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فلهم مشيئة لكن بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وأما ما يتعلق بمن ينفي القدر تنزيهاً لله سبحانه وتعالى فنقول: إن الله عز وجل قدر المقادير وجعل للإنسان مشيئة يعاقبه على مخالفة الأمر الشرعي بمشيئته, لا لمخالفته لقدر الله عز وجل وقضائه، وينبغي أن نعلم أن من حكم الله سبحانه وتعالى ما لا يدركه الإنسان ولا يحصيه، وذلك في أمثال هذه القضية وهي قضية القدر، ولهذا يقول أبو حنيفة رحمه الله لما سئل عن هذه المسألة وهي مسألة القدر قال: هذه مسألة مقفلة وضاع مفتاحها.
ويقول ابن تيمية رحمه الله: هذه المسألة ما من أحد إلا وفي نفسه حسكة, يعني: في شيء من معانيها ولكنه لا يدرك ذلك؛ لأن الحقائق تتعلق بإدراك الإنسان، وعقل الإنسان، هو حاسة من الحواس الموجودة في ذات الإنسان، ونفس الإنسان هي نوع من المدركات، منها ما يدرك الإنسان الحقيقة ومنها ما لا يدركه، الإنسان إذا قلنا: إن عقل الإنسان وذهنه يستوعب شيئاً معيناً كحال هذا الكأس، فالكأس لا يمكنه أن يستوعب البحر، ولو أفيض إليه سيطويه ثم لا يستفيد شيئاً، ولهذا نقول: إن من حكم الله سبحانه وتعالى ما لا يدركه العقل ويحجبه الله عز وجل لعدم إدراكه, ولو أعطاه إياه لزاده تحيراً، ولهذا يقول بعض العلماء: إن من الحقائق كلما زاد الإنسان فيها تأملاً ازداد تحيراً.
إن الإنسان حينما ينظر في الشمس هل يزداد بصيرة أو يزداد ألماً وتحرقه الشمس ولا يستفيد؟! كذلك من حكم الله عز وجل ما تحرق الأذهان والعقول، لأننا لو قلنا: إن الإنسان يدرك كل حكمة فما الفرق بين علم الخالق وبين علم المخلوق؟ ولهذا ينظر الإنسان في مكتشفاته وإدراكه وما يفتح له وكذلك من تصرفات أهل العمل في الماديات وغير ذلك ما يعجب الإنسان منه, ثم بعد ذلك يستسيغه ويرى أنه شيء عادي ثم يبحث عن غيره، إذاً اندهاش الإنسان لا ينتهي, ومنه ما يدركه ومنه ما لا يدركه، وأمره الله عز وجل بأن يكل العلم إليه، وهل كل شيء يستطيع أن يسمعه الإنسان؟.. لا، ومن الأصوات ما لو أراد الإنسان أن يسمعه لصعق ومات؛ ولهذا إذا نفخ في الصور يصعق من في السماوات والأرض بسبب ماذا؟ أنه خارج طاقة الإنسان، خارج طاقة الإدراك، كذلك الضوء، من الضوء ما لو فتح على الإنسان لزال بصره, ومن الحكم أيضاً ما لو فتح وأفيض على العقول لتحيرت ولم تدرك من ذلك شيئاً، لهذا نقول: إن إدراك الإنسان وحواسه مثلاً لها إدراك معين كحال الكأس، ونقول: خلق الإنسان لا يستوعب أمثال هذه الحكمة؛ ولهذا الله عز وجل يحجب حكماً عظيمة عن عقل الإنسان أن يدركها، ولو أراد وقال: أريدها كحال الإنسان يقول: ضع البحر هنا, فلو وضع فيه لانغمس وتاه؛ ولهذا المتكلمون الذين يطلبون العلل للأحكام الشرعية والبحث عنها يعيشون في دوامات ثم يرجعون إلى دين وعقائد العجائز، لأن الله عز وجل ما حجب أمثال هذه العلل إلا لأن العقول لا تدرك، ولهذا ينبغي للإنسان إذا سمع شيئاً وعجز عن إدراكه هل له أن ينفيه وقد ثبت به النص أم يقول سمعنا وأطعنا؟ يقول: سمعنا وأطعنا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيء من أخباره دليلاً قائماً في الكون، ولكن ربما الإنسان يدركه وربما لا يدركه، فكفار قريش لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لم يدخل هذا في دائرة التصديق البشري في ذلك الزمان، ولما لم يدخل في أذهانهم كفروا وعاندوا وتهكموا بعقولهم، وفي زماننا هذا ممكن، فلو وجد قرشي في زماننا لن ينكره.
إذاً الذي نفى ذلك ووصف المثبت بالجنون لو كان في زماننا لأثبت ذلك ووصف النافي بالتخلف، أليس هو عقل واحد؟ هو عقل واحد, ولكنه قدم الإيمان بالمشاهدة على الإيمان بالغيب، ولهذا نقول: إن الإنسان إذا لم يدرك شيئاً من حقائق الشريعة وعللها عليه أن يسلم لا أن يقول لم أجد علة في ذلك؛ لأنه يريد أن يحاكم علم الله عز وجل في الغيب على علمه القاصر في المشاهد.
ومذهب أهل السنة والجماعة في مسألة القضاء والقدر أن الله عز وجل يقضي لعباده ويقدر لهم تقديراً ولا يخرجون عن ذلك التقدير في أمر تصرفات الكون, وجعل الله عز وجل عليهم أمراً وقضاء شرعياً، ولهم مشيئة بالعمل وعدمه ويثابون على ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يضل من يشاء فيخذله بعدله, ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله, فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد, تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد, أو يكون لأحد عنه غنى أو يكون خالق لشيء إلا هو ].
الناس في العمل ميسرون لما خلقوا له، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر بن الخطاب قال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )، ولله عز وجل في ذلك حكم, وله جل وعلا مقادير، يعلم أحوال العباد واختيارهم وما في نفوسهم ومطامعهم وما يعزمون عليه وغير ذلك، فيجعل الله عز وجل مقادير الخلق وفق علم دقيق سبحانه وتعالى لا يحيدون عنه ولا يخرجون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ رب العباد ورب أعمالهم, والمقدر لحركاتهم وآجالهم، الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم].
الله سبحانه وتعالى يرسل الرسل وينزل الكتب لإقامة الحجج على العباد, ولا يعذب أحداً إلا وقد قامت عليه الحجة، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يواجه أحداً أو يقتله إلا وقد أقام عليه الحجة؛ كما في قوله عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح: ( أمرت ( والآمر هو الله ) أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )، يقاتلهم وقد علمهم قبل ذلك كما في قوله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، يعني: أسمعه كلام الله ليتأمل ويتدبر, وهذا هو الواجب على الأنبياء وورثة الأنبياء والبلاغ للناس، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، وهي الرسالة التي جعلها الله عز وجل على الأنبياء واجبة, وعلى ورثتهم كذلك أن يبلغوا الحق للناس، وكلما كان الإنسان بالحق أبصر كان العقاب عليه عند المخالفة أعظم، ولهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أن الله عز وجل إذا وفقه إلى شيء من العلم أن الله أقام عليه الحجة، وإذا وفقه إلى علم وحرمه العمل فليعلم أن الله أراد به شراً؛ لأنه أراد أن يزيده في العلم ويعطله في العمل؛ حتى تشتد عليه العقوبة، ولهذا من أعلم الخلق إبليس، هذا من جهة العلم, وهو أقلهم أو معدوم العمل في الخير؛ ولهذا كان أشد الخلق عذاباً يوم القيامة، ولهذا من كثر علماً وقل عملاً فهو أكثر الخلق شبهاً بإبليس، ومن كثر علماً وكثر عملاً أقرب الناس شبهاً بمن؟ بالأنبياء لأنهم أكثر الخلق أو أكثر المكلفين علماً بالله سبحانه وتعالى وكذلك عملاً وامتثالاً لأمر الله جل وعلا.
ينبغي أن نفرق بين إقامة الحجة وفهمها، فإقامة الحجة هي: إسماع الدليل الذي يلقى على الإنسان على لغة يفهمها لو أراد أن يفهم، هذا به تقوم الحجة، أما فهم الحجة فمرده إلى القلب، فأنت إذا خاطبت أحداً بلغة يفهمها فقد أقمت عليه الحجة إذا كان مثله يفهم، لكن لو خاطبت الإنسان وهو مجنون, أو خاطبت إنساناً وهو نائم, فلا تقم عليه الحجة, لأنه لا بد أن يكون حاضراً، لكن لو خاطبت الإنسان بلغة لا يفهمها وهو حاضر الذهن؛ كخطاب العربي للأعجمي والأعجمي حاضر الذهن لم تقم عليه الحجة.
ثم أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، هذا من قامت عليه الحجة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يسمع بي )، معنى السماع أن يسمع بمحمد لا بغيره، فإذا سمع أحد من اليهود والنصارى بمحمد ولكن قيل له: هذا مفكر عربي أو هذا قائد عسكري لم بسمع بمحمد بل سمع بغيره، فما قامت عليه الحجة حتى يسمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم نبي أرسله الله جل وعلا إلى الناس كافة، ولهذا نقول إن الحجة تقوم بالسماع بمحمد صلى الله عليه وسلم كما أراده الله عز وجل له لا كما يصل إلى أذهان الناس مشوهاً، لهذا ربما بعض الطوائف أو بعض الملل يصل إليه أن محمداً إما قائد عسكري أو مفكر أو قائد جيش أو جند، فلا يسمع بمقام النبوة أو كونه يوحى إليه،ولهذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة )، المراد بذلك هو السماع الشرعي الحقيقي.
أما فهم الحجة فليس بمعتبر؛ لأن مرده إلى الباطن, ولا ندري هل الرجل معاند أو فاهم, أعطيناه مرة ومرتين وهو يقول: لم أفهم! هل نبقى معه عشرات السنين حتى يفهم، قوم شعيب قالوا له: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [هود:91]، يعني: ما نفهم، فلم يعذروا بذلك ونزل عليهم العذاب، لهذا نقول: نحن مكلفون بإيصال الحجة وإقامتها على وجه يفهمها لو أراد أن يفهم، ولهذا كفار قريش كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم أليس كذلك؟ إذاً لا يريد السماع فماذا نصنع به وهو لا يريد أن يسمع, ولا يريد أن يفهم، على هذا نقول: قامت عليه الحجة، لهذا من الناس من يُعرض، ومن يُعرض قامت عليه الحجة، كذلك أيضاً تقوم الحجة على العامة إذا علم الخاصة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يبعث بكتابه إلى كسرى وقيصر, ولا يأتي إلى النصارى واحداً واحداً إذا كانوا تحت راية ولواء واحد، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته كان يأتي الجميع؛ لأن مثل هذا يصل إلى الناس وقد انفتح الأمر في الزمن المتأخر, فأصبحت الفضائيات تبث للعامة وللخاصة بجميع اللغات، لهذا نقول: نحن مكلفون بإقامة الحجة وأما إفهامها فهي إلى من تلقى الحجة, شريطة أن نقيمها كما أراد الله سبحانه وتعالى, فلا يقيمها الإنسان بعجل ولا باختصار ولا باجتزاء, ولا يأتي بها مرة في حال انشغال الإنسان بل ينوع؛ كما كان نوح يأتيهم ليلاً ونهاراً, سراً وجهاراً، ينوع في ذلك فربما كان الإنسان منصرفاً, أو منشغلاً, أو غاضباً, أو ربما في حزن, أو في هم, ولا يدري ماذا تقول, وهذا يطرأ في الناس, ولكن يكرر عليهم حتى تقوم الحجة ويغلب على الظن أنهم فهموا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم, فجعله آخر المرسلين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ].
رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله عز وجل له جملة من الخصائص، منها أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا نبي بعدي )، وجعله الله عز وجل أيضاً رسولاً إلى الناس كافة, بخلاف الأنبياء السابقين, كل نبي يرسل إلى قومه، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، والله عز وجل أرسله إلى العالمين جميعاً، ولهذا نقول: إن من خصائص هذه الرسالة عمومها وكذلك خاتمتها، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأنزل عليه كتابه الحكيم، وشرح به دينه القويم، وهدى به الصراط المستقيم ].
وكتاب الله سبحانه وتعالى تقدم معنا كلام الله جل وعلا, ولكن هنا الكلام المخصوص بهذه الأمة وهو القرآن، وإذا أطلقنا الكتاب فيراد به القرآن والسنة، إذا قلنا كتاب الله فيراد به القرآن والسنة، وإذا فصلنا قلنا: الكتاب والحكمة، فالكتاب يعني القرآن, والحكمة تعني السنة، والدليل على ذلك ما جاء في حديث زيد بن خالد الجهني لما جاءه رجل وقال: ( يا رسول الله إن ابني كان عسيفاً على هذا، ( يعني: أجيراً عنده ) فزنا بامرأته, فقيل لي: على ابنك الرجم، قال: ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة، اقض بيننا بكتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الغنم والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ).
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( على ابنك جلد مائة وتغريب عام )، التغريب ليس مذكوراً في القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لأقضين بينهم بكتاب الله ), فيدخل في هذا السنة لأنها وحي، لأنها منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنزل الله عز وجل عليه القرآن، والقرآن أعظم نعمة, وأعظم ما ينبغي أن يسعى بالعمل به وامتثاله, الأفراد والجماعات، ولهذا يقول الله جل وعلا: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فضل الله الإسلام ورحمته القرآن خير مما يجمعون من آراء الرجال, ومن كنوز الذهب والفضة وغيرها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون].
الساعة آتية لا ريب فيها وهي قائمة إلى أجل لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى, والله جل وعلا جعل لها أجل, لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف:187], سبحانه وتعالى, ولكن الله عز وجل جعل لها علامات وجعل لها أشراطاً، جعل لها أشراطاً كبرى وأشراطاً صغرى، وكل ذلك جاء في الوحي، ومن علاماتها وأماراتها ما لم يذكره الله سبحانه وتعالى, ولم يذكر الله عز وجل زمناً, وإنما ذكر وصفاً وتقريباً؛ كيوم الجمعة مثلاً ولكن لا يعلم في أي أسبوع أو شهر أو عام، كذلك أيضاً في ساعتها من أي زمن من هذا اليوم، ولهذا نقول: إن الله عز وجل هو الذي يجليها لوقتها سبحانه وتعالى، وجعل لها علامات وأمارات حتى يقرب الإنسان من ربه سبحانه وتعالى ويستعتب ويستزيد من الطاعة ويقلل من المخالفة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات، وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر، وجعل من لم يتب من الكبائر صائراً إلى مشيئته، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ].
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن جعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وجعل السيئة بمثلها، وجعل الله عز وجل الحسنات تذهب السيئات، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، وكما أن الحسنات تذهب السيئات كذلك السيئات تمحو الحسنات، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم لغير تنقص ليس بكفر، وهو من ضعف الأدب، ليس المراد بذلك رد ولا استهزاء ولا احتقار ولا تنقص؛ لأن هذه الآية نزلت في الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وذلك أن بعضهم يرفع صوته على بعض والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم, فجعل ذلك موجباً لإحباط العمل.
كذلك أيضاً في قول الله جل وعلا: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، وما جاء أيضاً في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت: لـأم زيد بن أرقم لما تبايع بالعينة: ( أخبريه أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب )، ولهذا نقول: إن السيئة قد تمحو الحسنة, والحسنات تمحو السيئات، ولهذا نقول: إن بين الحسنة والسيئة مغالبة، هذه تغلب هذه وهذه تغلب تلك، ولكن محو الحسنات للسيئات أعظم من محو السيئات للحسنات؛ لأن الحسنات تضاعف، فإذا كانت حسنة واحدة تضاعفت وقويت من جهة المحو على غيرها، والسيئة تكون واحدة فلا تقوى على سيئة واحدة، ولكن نقول: إن الكبيرة تأتي على الصغيرة، والسيئات على أنواع:
النوع الأول: سيئات تتعلق بحق الإنسان بينه وربه؛ كشرب الخمر, وأيضاً ما يقع مثلاً من بعض المحرمات اللازمة في ذات الإنسان؛ مثلاً الزنا من غير إكراه من كبائر الذنوب، هذا بين العبد وبين ربه.
النوع الثاني: بين العباد فيما بينهم؛ مثل: الضرب، اللطم، اللعن، القذف, هذه حقوق الآدميين، الله عز وجل لا يغفرها لصاحبها إلا أن يتوب منها أو يتحلل من صاحبها أو القصاص، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها وليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء ). كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة , كذلك أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها )، ما قال فليستغفر وليتُب, قال: ( فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم )، يعني: لا يوجد مقاضاة بالدنانير والدراهم وإنما بالحسنات والسيئات, كذلك أيضاً ما جاء في حديث جابر و عبد الله بن أنيس , وحديث أبي هريرة , وحديث جابر , وحديث أبي قتادة وغيرها من الأحاديث في هذا الباب.
قال: (وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر, وجعل من لم يتب من الكبائر صائراً إلى مشيئة الله)، لهذا كانت الشرائع في الإسلام من جهة الأعمال الصالحة متوافرة في عمل اليوم والليلة حتى يكثر الإنسان منها، جعل الصلوات حتى تمحو السيئات، جعل الحج حتى يمحو، جعل صيام رمضان، رمضان إلى رمضان، جعل الجمع أيضاً حتى تمحو؛ لماذا؟ حتى تتغالب عجلة الحسنات على السيئات فينجو الإنسان، فأمر الله عز وجل بالإتيان بالحسنات حتى يفوز الإنسان ولا يهلك, وإذا فرط الإنسان في هذه الواجبات الكثيرة وقام بالإتيان بالسيئات غلبت سيئاته على حسناته وهلك، وكذلك فإن الله عز وجل جعل المكفرات للسيئات أكثر من المكفرات للحسنات، لهذا جعل الله عز وجل الأعمال الصالحة تكفر, وجعل التوبة والاستغفار تكفر, جعل الله عز وجل المصائب والهموم والغموم التي ترد على الإنسان كفارات أيضاً للإنسان, جعل الإنسان أيضاً دعاء غيره له رفعة وكفارة, يدعو بالغفران والتوبة يؤثر في ذلك أيضاً, لكن لو يدعو إنسان على إنسان بلحوق الإثم عليه أو نحو ذلك فهذا أمر لا يكون إلا بحق.
كذلك أيضاً حياة البرزخ, وما يأتي من فتنة الإنسان في قبره يكفر الله عز وجل عن المؤمن؛ لأنه لا يجمع للإنسان العذاب مرتين, كذلك أيضاً من عرصات وأهوال يوم القيامة, يخفف الله عز وجل بها عن عباده من ذلك؛ لأن الله عز وجل عدل سبحانه وتعالى.
وفي قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48], لأن أعظم ذنب يعصى به الله عز وجل هو الشرك, ولا يكفر الله عز وجل لعباده بهذه المكفرات كلها الشرك إلا بالتوبة, لا يكفره بالمصائب, ولا بالهموم, والأحزان التي ترد على الإنسان, ولا بالحسنات التي يفعلها الإنسان من الصدقة وبر الوالدين والصلاة إذا كان مشركاً؛ لأنه لا بد أن يتوب من ذلك بذاته, كذلك أيضاً فإن إحباط العمل إذا ذكر في القرآن فالأصل فيه أن موجبه الكفر إلا لقرينة صارفة في ذلك, لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن عاقبه الله بناره أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]، ويخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته ].
يقول: (ومن عاقبه بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله بها جنته), يعني: أن الله سبحانه وتعالى قد يغفر لعباده أو لعبد من عباده ولو لم يتب إذا شاء سبحانه وتعالى شريطة أن يكون من أهل الإيمان, أما الكفار فالله عز وجل قضى ألا يغفر لهم, ولا يأذن الله عز وجل لأحد أن يشرع لأحد إذا كان المشروع له كافراً, إلا أن الله عز وجل أذن لنبيه عليه الصلاة والسلام وقبل منه شفاعته في عمه أبي طالب فخفف عنه ولم يخرج من النار, ويروى مثل هذا أيضاً في أبي لهب , وفي الخبر كلام, وإن كان معلقاً في البخاري , وهو ( أنه يسقى في النار بمقدار هذه وأشار إلى أسفل إبهامه ), أنه يشرب فيها، والسبب أنه أعتق مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية, فهذا نوع تخفيف لا شفاعة إخراج.
أما المؤمن فإن الله عز وجل لا يخلد مؤمناً في النار, ومن كتب الله عز وجل عليه العذاب يعذبه سبحانه وتعالى ثم يخرجه منها لآجال يعلمها الله سبحانه وتعالى, وهو تطهير يشاءه الله عز وجل لعباده, ومنهم من يغفر له الله سبحانه وتعالى ولا يدخل النار لأسباب وحكم لا يعلمها إلا هو.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم، وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه، وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته ].
والله سبحانه وتعالى قد خلق الجنة والنار, وعقيدة أهل السنة والجماعة أن النار موجودة, والجنة كذلك, وجعلها الله عز وجل وهيئها لأهلها, والله سبحانه وتعالى قدر لها أهلها كذلك, والله سبحانه وتعالى جعلها دار خلود, فمن دخل الجنة لا يخرج منها, ومن دخل النار فيخرج منها إن كان من أهل الإيمان, وإن كان من أهل الكفر فخلود ولا موت فيها, والآجال فيما يقدر الله عز وجل لأهل النار من الدخول فيها آجال لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى, يضربها الله جل وعلا, يختلف الناس بعضهم عن بعض, وليس لهم أجل متحد, منهم من يعذبه الله عز وجل لأمد مقدر, ومنهم من يزيد عليه, وفي حديث آخر من يخرج من النار إشارة إلى أن مراحل التعذيب في النار ليست واحدة, عافانا الله عز وجل وإياكم من ذلك وأدخلنا رحمته سبحانه وتعالى.
قال: (وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم), والنظر إلى الله سبحانه وتعالى هو الحسنى التي ذكرها الله عز وجل في كتابه, وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون الرؤية لله جل وعلا, أن يُرى الله سبحانه وتعالى, فيراه أهل الجنة, وإنما وقع الخلاف في غيرهم, هل يرون الله عز وجل ثم يحجبون عنه لتعظم في ذلك الحسرة في قلوبهم, فإن من نظر في شيء ثم مكن منه ثم منع منه أشد وقوعاً في الحسرة ممن لم يره أصلاً, وهذا من مواضع الخلاف عند أهل السنة, وعامة أهل السنة على أن الكفار لا يرون الله سبحانه وتعالى في الآخرة ويراه أهل الإيمان, والله سبحانه وتعالى ذكر رؤيته في كتابه العظيم, وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].
وكذلك أيضاً في قول المصنف رحمه الله: (وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه), وهذا دليل على أن الجنة مخلوقة, موجودة الآن, خلقها الله عز وجل وهيئها لأهل الإيمان من عباده.
قال: وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به, يعني: أن أهل الإيمان لا يخلدون في النار, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ), يعني: لا يخلد في النار إلا من زال الإيمان من قلبه بالكلية.
قال: (وألحد في آياته وكتبه ورسله, وجعلهم محجوبين عن رؤيته), المراد بالإلحاد هو الميل, يلحدون, أي: يحرفون ويميلون عن منهج الحق. والمعنى: أن الله عز وجل أعد النار لمن كفر به وألحد بآياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته, قيل: هل الحجب في ذلك ابتداء, أي هم ابتداء محجوبون ولم يروا الله سبحانه وتعالى ولن يروه أم يرونه ثم يحجبون؟ هو على ما تقدم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا؛ لعرض الأمم وحسابها وعقوبتها وثوابها ].
والله سبحانه وتعالى يأتي يوم القيامة ويجيء سبحانه وتعالى ويقر عباده بذنوبهم, ويسألون عن كل ذنب, واختلف العلماء فيما يتاب منه؛ هل يقر عليه الإنسان إذا قبل الله توبته؟ هذا من مواضع الخلاف, ذهب جماهير العلماء من السلف إلى أن الإنسان إذا تاب من ذنب فإن الله سبحانه وتعالى لا يسأله عنه إذا قبل توبته, ومن العلماء من قال: إن الله عز وجل يسأله عنه ولكن لا يعاقبه عليه, قالوا وهذا مقتضى الإحصاء, فالله يحصي على عبده العمل, وذهب إلى هذا بعض العلماء؛ كـالحسن وغيرهم, والأظهر في هذا أن الله عز وجل إذا تاب على عبده فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له, أي: أنه لا يسأل عن ذلك, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام يجب ما قبله, والهجرة تجب ما قبلها, والحج يجب ما قبله ), يعني: يزول ولا يبقى منه شيء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ].
والميزان له كفتان, كفة للحسنات وكفة للسيئات, فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8-9], فمن ثقلت الحسنات لديه فإنه من أهل الفلاح, ومن خفت موازين حسناته فإنه من أهل الخسار, وخسرانه يكون بمقدار سيئاته, ولهذا نقول: إن العباد في أمر الميزان على أحوال:
الأول: منهم توزن حسناته وسيئاته, وهذا هم غالب المكلفين, باعتبار ورود الخطأ من الناس, يكون لهم حسنات وسيئات.
الثاني: من توزن سيئاته فقط وليس لديه حسنات, وعلى رأسهم إبليس وأتباعه من الكفرة؛ لأنه ليس لديهم حسنات, لأن الكفر يحبط ثواب العمل الصالح لو عملوه, لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65], إذاً أعمالهم تكون هباء منثوراً, إذاً ليس لهم إلا كفة واحدة من جهة الوزن.
الثالث: من ليس لديه إلا حسنات, ويدخل في هذا الأنبياء, ويدخل في هذا أيضاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, ليس في هذا موازنة, هل تغلب الحسنات أو السيئات, وذلك فضل من الله عز وجل ورحمة يعطيها ويهبها الله عز وجل من يشاء من عباده, جعلني الله عز وجل وإياكم منهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً، ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيراً ].
هنا في إتيان الناس الصحائف حتى يقرون بأعمالهم, ومنهم من تمد له الصحائف مد البصر حتى ينظر ما فيها من أمور السيئات, سواء كان ناسياً أم عالماً حتى يراها ويقر عليها, يعطى الإنسان كتابه إذا كان من أهل الخير بيمينه وإذا كان من أهل الشر بشماله, وقيل إنما ذكره الله عز وجل أنه يعطى من وراء ظهره أنه يريد أنه يضع شماله وراء ظهره حتى لا يوضع الكتاب بشماله فيجد الكتاب قد وضع في شماله, قال بهذا بعض المفسرين من السلف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن الصراط حق يجوزه العباد بقدر أعمالهم، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم ].
ونؤمن بالصراط, وأن الله عز وجل نصبه على متن جهنم, ولا بد لكل داخل إلى الجنة من وروده عليه, ولهذا يول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71], وهذا هو تحلة القسم, أن الله عز وجل أقسم أنه لا بد لكل أحد أن يمر على جهنم, ولكن الناس يتباينون, منهم كلمح البصر, ومنهم كالبرق, ومنهم كالخيل, ومنهم من يجري, ومنهم من يمشي, ومنهم من يحبوا, ومنهم من تخطفه كلاليب جهنم فيهوي فيها, ومنهم من يهوي من أول لحظة, ومنهم من يسير ثم يهوي, وتكون سرعتهم يومئذ بقدر إيمانهم وطاعتهم وقربانهم إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول: (فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم, وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم), فمن دخلها فأوبقه عمله, ووقع في النار فبقاؤه فيها بمقدار عمله, إن كان كافراً لم يخرج منها, وإن كان من أهل الإيمان يخرجه ما بقي من إيمانه وهو الحكم بطول بقائه إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بدل وغير ].
من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالحوض, وهو يكون بعد انصراف الناس من الحساب والوقوف في المحشر, وقد عطش الناس, وبعد الهول والفزع من المرور على الصراط يجعل الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم حوضاً يشرب منه أهل الإيمان, فمن شرب منه لا يظمأ أبداً, ومعنى لا يظمأ: أي: أن شرب أهل الجنة ليس للعطش؛ لأن العطش نقص, فيكون شرب أهل الجنة استمتاع, وأكلهم ليس لسد جوع, وإنما هو لذة, ولهذا ينتهي أمر العطش عندهم بالشرب من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا يكون بعد اجتياز جسر جهنم وقبل دخول الجنة.
وينبغي أيضاً أن نعلم أن الله عز وجل قد جعل قنطرة قبل دخول الجنة وبعد الخروج من النار لمن دخلها, يتقاضى أهل الحقوق في الدنيا حقوقهم, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يخرج المؤمنون من النار ), يعني: من كتب الله عز وجل عليهم العذاب, ( فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار, فيتقاضون حقوقاً كانت بينهم ), من جهة الدماء, من جهة المال, من الدنانير والدراهم, لا بد فيها من القضاء, فكثير من الناس يتوهم أن الحقوق المالية أو التعدي على الدماء والأبدان أن هذا تكفره الكفارات للذنوب التي بين الإنسان وبين ربه, من الاستغفار والتوبة والمصائب وغير ذلك, وهذا من الأوهام والخطأ, بل لا تكفر إلا بالاستحلال أو بإعادة الحق أو بالقصاص, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر حقوق الآدميين ولو كانت قليلة؛ لأنها مبنية على المشاحة فلا بد أن تؤخذ من الإنسان, لا يسامح أحد أحد حتى الأب ابنه, لأن كلهم يريد النجاة, لا يدري في ذلك اليوم هل ينجو بهذه الحسنة أو لا ينجو, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه يريد تقريراً لهذا المعنى, يقول: ( ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا دينار له ولا متاع ), لأن غالب نظرة الإنسان مادية, وهذا طبع بشري, ثم أيضاً الإفلاس كثيراً ما يستعمل للماديات, فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين معنى آخر, قال: ( ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا .. ), قال عليه الصلاة والسلام: ( المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كالجبال, ويأتي وقد ضرب هذا ( انظروا إلى السيئات هل فيها شيء يتعلق بحق الله المحض أم لا ) وقد ضرب هذا, ولطم هذا, وسفك دم هذا, وأخذ مال هذا, فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته, فإن لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ), فليس فيها شيء من حقوق الله جل وعلا، كلها حقوق آدميين, لا بد فيها من الوفاء, ولهذا لما أدرك بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى هذا المعنى فزع, لأن غلبة الظن أن الذنوب واحدة, أن الله عز وجل يغفرها لعباده متى شاء, الله عز وجل يعفو إن شاء ولكنه قضى كما قضى أن لا يغفر الشرك إلا بالتوبة قضى أن حقوق الآدميين لا بد فيها من الأداء, أو القصاص يوم القيامة؛ لأن هذا كمال العدل, يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً أن هذا الأمر لعدل الله عز وجل ودقته في ذلك أنه يشمل حتى البهائم, التي لا تكلف بالعبادات, يقول عليه الصلاة والسلام: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها, وليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء ), البهائم لا تحاسب بالنار ولا بالجنة, لكن الحقوق التي بينها يكون في ذلك قصاص ثم تكون تراباً لعدل الله سبحانه وتعالى.
جاء في البخاري معلقاً, ورواه الإمام أحمد في مسنده من حديث سعيد بن المسيب أن جابر بن عبد الله عليه رضوان الله قال: ( بلغني أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص, قال: فاشتريت بعيراً فركبت إليه مسيرة شهر كامل, قال: فأتيت إليه فطرقت الباب فخرج مولاه, فقال: من عند الباب؟ فقلت: جابر , قال: ابن عبد الله ؟ قال: قلت: نعم, قال: فإذا عبد الله بن أنيس فقال لي: ما الذي جاء بك؟ قلت: بلغني أنك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً في القصاص, قال: آلله ما جاء بك إلا هذا؟ قال: والله ما جاء بي إلا هذا, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً, فيناديهم الله عز وجل بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب فيقول: أنا الملك, أنا الديان, لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه حتى اللطمة ), لأنه ربما لو كان لديه حق عند أحد من أهل الجنة وأخذه رجحت كفته ولم يستوجب النار, ( حتى أقصه منه حتى اللطمة, ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة ), يعني: ربما كانت تلك السيئة تنقصه ثم يكون من أهل النار, ( قالوا: يا رسول الله, كيف وإنا نأتي الله عز وجل حفاة عراة؟ ( يعني: كيف يكون القصاص ولا يوجد دنانير, يظنون الأمور مادية, لا دنانير ولا عصي ولا حديد, والقصاص يكون بالمكافأة, بالعمل ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: بالحسنات والسيئات وإذا لم يكن لديهم حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ), ولهذا نقول: إن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة, وحق الله عز وجل مبني على المسامحة, لهذا ينبغي على الإنسان أن يعلم أن حقوق الآدميين هي أولى ما ينبغي للإنسان أن يستبرئ منه بعد الشرك بالله جل وعلا وتحقيق توحيد الله سبحانه وتعالى في ذات الإنسان ولوازم ذلك.
نتوقف عند هذا القدر, والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر