الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي هذه المجالس نبتدئ بإذن الله تعالى بشرح أوائل حائية ابن أبي داود عليه رحمة الله، وهذه الحائية تبين مجمل اعتقاد أئمة السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم وسلك هديهم، والحائية قد جاءت بالمجمل في الاعتقاد وعددها ثلاثة وثلاثون بيتاً، وقد زيد في بعضها من بعض الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كـابن شاهين وابن البنا وغيرهم.
وقد أراد المصنف عليه رحمة الله أن يبين في هذه العقيدة ما كان عليه السلف والأئمة من أهل عصره، ولذلك قد ثبت عنه أنه قال بعد كتابته لهذه المنظومة، قال: وهذا ما أقول وهذا ما يقوله أبي وهذا قول سائر العلماء، ومن قال خلاف ذلك فقد كذب.
والمؤلف عليه رحمة الله هو بالمقام والمكان المعروف، فهو عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني أبو بكر صاحب المصنفات الشهيرة إمام حافظ جليل، له قدر معروف في السنة والاتباع وكذلك في الحفظ والدراية والرواية، وقد زكاه العلماء عليهم رحمة الله تعالى عامة، وهو من علماء القرن الثالث وأوائل الرابع فولد عام مائتين وثلاثين للهجرة وتوفي عام ثلاثمائة وستة عشر عن ست وثمانين سنة، وهو ابن أبي داود صاحب السنن، وقد اعتنى به والده وارتحل به وسافر به وطاف به البلدان ليتلقى عن العلماء.
وقد أثنى عليه سائر العلماء ولم يطعن به أحد منهم، وقد جاء عن أبي داود عليه رحمة الله تعالى صاحب السنن أنه أشار إليه وقال: كذاب، وقد روي تكذيبه أيضاً عن الأصفهاني عليه رحمة الله.
والمراد بالتكذيب: هو ورود الخطأ عليه من غير تعمد، وهي لغة عند العرب وقد اختص بها أهل الحجاز، وهذا وارد في أشعار العرب، وجاء على لسان النبي عليه الصلاة والسلام ولسان أصحابه أنهم يطلقون الكذب ويريدون به الخطأ من غير تعمد، ولذلك يقول الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالاً
فالعين لا تتعمد الكذب ولكنها توهم صاحبها، ولذلك يقول أبو طالب :
كذبتـم وبيـت الله نبـزى محـمـدا ولمـا نطاعـن دونــه وننـاضـل
وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في السنن وأصل الحديث في الصحيحين، لما أفتى أبو السنابل عليه رضوان الله تعالى سبيعة الأسلمية بخلاف السنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( كذب أبو السنابل )، والمراد بذلك: أخطأ، وكذلك عبادة بن الصامت عليه رضوان الله تعالى، لما قيل له: إن الوتر واجب، قال: من قال بذلك؟ قال: أبو محمد، قال: كذب أبو محمد .
وعلى هذا يحمل قول أبي داود عليه رحمة الله تعالى في المصنف عليه رحمة الله، وهو في الديانة والاستقامة وكذلك العلم والفضل بالمقام المعروف، بل قال الإمام الذهبي عليه رحمة الله تعالى حينما ترجم له في السير، قال: وليس هو في المقام دون أبيه وذلك لفضله ومكانته وعلو منزلته وكعبه، وله مصنفات شهيرة: ككتاب المصاحف وهو أشهرها، وكذلك له كتاب: البعث، وله كتاب: الناسخ والمنسوخ، وله هذه الحائية وغيرها، وكتبه مشهورة متداولة، وله أيضاً كتاب: السنن وليس هو بالمتداول.
والمصنف عليه رحمة الله تعالى إنما صنف هذه المنظومة الحائية - وسميت: حائية، لأن آخر قافيتها هو حرف الحاء - للحاجة إليها، فإنه قد وقعت في أوائل عصره فتن تموج، كالقول بخلق القرآن، وبذلك قد ابتدأ بعد التمهيد بالتمسك بالسنة وبكتاب الله عز وجل بذكر مسألة مهمة وهي القول بأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وذلك يريد به الرد على أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والكلابية وغيرهم الذين قالوا بخلاف ذلك، بخلاف ما عليه السلف من الصحابة والتابعين.
والدليل على ذلك أن المصنف عليه رحمة الله أول ما ابتدأ بعد التمهيد بالتمسك بالأصول هو الكلام على أن القرآن كلام الله، وذلك أن هذه الفتنة قد شاعت وذاعت في عصره، فاحتاج إلى نفيها ونبذها، وبيان أن الحق والصواب على خلافها.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام الحافظ عبد الله بن سليمان بن أبي داود السجستاني رحمه الله تعالى: [
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ولا تك بدعيا لعلك تفلح ].
قوله: [ تمسك ] : المراد بذلك هو الأخذ بقوة، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها النواجذ )، والإمساك: هو القبض باليدين، وكذلك العناية بالاتباع والاقتداء.
قال: [ بحبل الله ] : والمراد به ما ينجو به الإنسان، قال: [ واتبع الهدى ]، والهدى: المراد بذلك الدلالة والرشاد وهي على معنيين في كلام الله سبحانه وتعالى: تأتي بمعنى: التوفيق والهداية، وتأتي بمعنى: الدلالة والإرشاد، وسيأتي الكلام عليها.
قال: [ ولا تك بدعياً لعلك تفلح ] : الابتداع: هو إحداث شيء في الدين ما لم يأت به الكتاب والسنة، ويسمى: إحداثاً، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، والفلاح: هو النجاة والفوز.
فالمصنف عليه رحمة الله ابتدأ بهذه المعاني إشارة إلى أصل النجاة والفوز والفلاح، والذي ينبغي أن يكون عليه كل مسلم، هو أن يتمسك بالكتاب والسنة، ولذلك قال: [ تمسك بحبل الله واتبع الهدى ] : وأراد بذلك كلام الله - سبحانه وتعالى - القرآن الكريم، وقال الله سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) قيل: المراد بذلك كلام الله، وقيل: المراد بذلك الشهادتين، وكلاهما مروي عن السلف.
فالمراد بذلك هنا هو كلام الله سبحانه وتعالى، أي: القرآن الكريم، وعقبه بقوله: [ واتبع الهدى ]، والمراد بالهدى هنا: سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم )، فما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى: هدياً، لأن الإنسان يهتدي به ويستدل به على طريق الهداية والخير، وعلى هذا قيل: بأن المراد من قوله: [ بحبل الله ] : هو القرآن الكريم.
وهذه هي الأصول التي تتكئ عليها الشريعة، وهي أصل كل حكم شرعي لا يجوز لأحد أن يعتمد على شيء سواها ولا قول عالم ولا غيره، ولذلك من نصَّب أحداً من الناس غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يوالي لولائه ويعادي لعدائه فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، كما جاء هذا عن غير واحد من السلف كـعائشة عليها رضوان الله تعالى وغيرها، فالعبد مأمور باتباع الكتاب والسنة وهذا هو الأصل، وكأن المصنف عليه رحمة الله تعالى يريد أن يحاجج من يخالف هذا الاعتقاد: أن مردنا عند الاختلاف هو كلام الله سبحانه وتعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرن الله عز وجل طاعة نبيه بطاعته، قال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، ومن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خالف الله جل وعلا، وقد قرن الله سبحانه وتعالى معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعصيته، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد جاءت طاعة النبي عليه الصلاة والسلام مقرونةً بطاعة الله في مواضع عديدة، وجاءت معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرونة بمعصية الله في مواضع عديدة.
ويكفي أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي منزل، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي من الله جل وعلا نزل به جبريل كما نزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا محل اتفاق عند السلف عامة، وفي هذا رد على أهل البدع من المعتزلة وغيرهم الذين لا يحتجون بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار الآحاد التي صحت أحاديثها وأسانيدها، وفيه رد على من لا يحتج إلا بالقرآن، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر كغيره مأمور بأن يبلغ القرآن فحسب، وهذا غاية في الضلال والبدعة، والله عز وجل قد أمر بطاعته.
ولذلك يقول السلف كقول عبد الله بن مسعود وغيره: أن ما من شيء قد جاء به النبي عليه الصلاة والسلام إلا وهو في القرآن، ولما سئل عبد الله بن مسعود عن ذلك، قال: قال الله عز وجل: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، فأمر الله سبحانه وتعالى بطاعة نبيه، أي: بجميع ما جاء به، فمن عصى الله عصى رسوله، ومن عصى رسوله فقد عصى الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه ولم يأت بشيء من عنده.
والهدى: هي من أسماء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتسمى: السنة، وتسمى: الحكمة، وتسمى: الهدى، ولذلك قال الله عز وجل: مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]، الحكمة: هي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والهدى هي هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جابر في مسلم قال: ( وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم )، وكذلك يطلق على السنة ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لقوله: ( عليكم بسنتي )، وقد أمر الله سبحانه وتعالى باتباع سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأمر نبيه بالدعوة إليها بقوله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لما خط لأصحابه خطوطاً كما في المسند والسنن من حديث عاصم عن عبد الله بن مسعود قال: ( خط لنا النبي عليه الصلاة والسلام خطاً، وخط عن يمينه خطوطاً وعن يساره خطوطاً، قال: هذا الصراط المستقيم، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان، ثم تلا قول الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] )، السبل التي تصد عن سبيل الله عز وجل هي البدع والشبهات، فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره وابن أبي حاتم أيضاً من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر، قال: السبل: هي البدع والشبهات، ولم يذكر الشهوات؛ وذلك أن الإنسان تقع منه الشهوة عن علم بالمخالفة فهو أرجى إلى التوبة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى من صاحب البدعة؛ وصاحب البدعة يفعلها تعبداً وتديناً، فإن قلبه يشرب حباً لهذه البدعة، ولذلك أصحاب المعاصي والذنوب يتوبون إلى الله سبحانه وتعالى أكثر من أصحاب البدع والشبهات وهذا معلوم ملموس، وهم يذبون ويدافعون عنها لأنهم يعتقدون أنها دين.
وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة كما في السنة لـعبد الله بن أحمد وكذلك عند ابن أبي شيبة في الإيمان وفي المصنف وعند ابن خزيمة وغيرهم، وكذلك جاء في المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله من صاحب بدعة توبة )، والمراد بذلك أنه لا يوفق للتوبة كما فسره الإمام أحمد عليه رحمة الله، والقبول ليس المراد به أنه تاب وأناب بقلب خالص، ولكن المراد بذلك أنه لا يوفق إلى التوبة، وما جاء في هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت به أحاديث كثيرة لكن جلها واه، لا يصح منها شيء، وتأولها الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى ربما لكثرة طرقها وتعددها.
قال: [ ولا تك بدعياً ] : وهذا من القرائن التي تدل على أن مراد المصنف عليه رحمة الله بحبل الله والهدى: الكتاب والسنة، قال: [ ولا تك بدعياً ]، أي: تخرج عنهما، وابتداؤه الإحداث مأخوذ من البدعة، ابتدع فلان أي: ابتكر وأحدث، والبدعة مذمومة على الإطلاق، لم يأت عن أحد من العلماء أنه قال بمدح البدعة مطلقاً، بل مراده هنا البدعة الأصلية، والبدعة في الشرع: ما ليس له أصل في كلام الله سبحانه وتعالى ولا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاء في كلام الله سبحانه وتعالى ذكر الهدي على معنيين تقدم الكلام عليهما:
جاء بمعنى الهداية، أي: التوفيق والرشاد، وجاء بمعنى الدلالة والإرشاد، أما الأولى فهي مختصة بالله سبحانه وتعالى، فلا يوفق أحد إلا الله سبحانه وتعالى فهو المختص بذلك، ولذلك قال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
وأما المعنى الثاني وهو الدلالة والإرشاد، أن يدل الإنسان غيره على خير قد علم طريقه وسبيله، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى مبيناً أنه دل الإنسان إلى الخير بقوله: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وهدى الله سبحانه وتعالى ثمود، فقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17]، أي: أدللناهم طريق الهداية والرشاد، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، استحبوا العمى: أي الغواية والضلال عن طريق الله سبحانه وتعالى وعن سبيل الخير، وما نفاه الله عز وجل من هداية، المراد به التوفيق وهو مختص بالله سبحانه وتعالى وليس لأحد من الناس، وما يخالف ذلك، أي: من هداية النبي عليه الصلاة والسلام فهو البدعة.
والبدعة مذمومة بإطلاق في كلام الشارع، ولكن قد جاء في كلام بعض السلف مدح البدعة، والمراد بذلك البدعة اللغوية وليس البدعة الشرعية، والمراد بالبدعة اللغوية: هو إحداث شيء لم يكن موجوداً، سواءً كان أصله موجوداً في السابق أم لا، لكنه مندثر حال إيجاده، كما أحيى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى جمع الناس للقيام كما يسميه بعض السلف: التراويح، ولذلك قال: نعمة البدعة ابتدعها عمر !، وجاء مدح مثل هذا عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله وكذلك عن الشاطبي وغيرهم، وقد أشار الحافظ ابن رجب عليه رحمة الله تعالى في أوائل كتابه: جامع العلوم والحكم إلى هذه المعاني عند كلامه على حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )، وإلا فالأصل في البدع أنها مذمومة بإطلاق.
وكل ما جاء في أبواب التعبد مما ليس له أصل في الكتاب والسنة فهو بدعة مذمومة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وجاء في مسلم وفي البخاري معلق: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، والمراد بذلك: مردود عليه، وهذا نظير قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات )، أي: إنما قبولها وردها بالنيات.
فلا بد لقبول العمل من شرطين:
- الإخلاص.
- الموافقة
شرطان لازمان بلا مفارقة في كل عمل يعمله الإنسان، فلا بد من الإخلاص لله وكذلك الموافقة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للقرآن تشترك معه أنها كالقرآن من جهة الاحتجاج ومن جهة لزوم الطاعة، ومن جهة التفصيل فإنها تأتي مقررةً لما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى، وكذلك تأتي مبينةً لما أجمل، وتأتي كذلك مقيدةً لما أطلق، فالسنة لا غنى عنها، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بها كما روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من حديث العرباض بن سارية ويرويه عنه السلمي وحجر بن حجر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ )، وهذا تأكيد للتمسك بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( عليكم بسنتي )، وعليكم: هنا دليل وعلامة على وجوب اللزوم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها ) : وهذا تأكيد، ( وعضوا عليها بالنواجذ )، ثم أكد بمؤكد ثالث: بيان شدة خطر المخالفة، قال: ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة ) .
قال: [ لعلك تفلح ] : الفلاح: هو الفوز والرشاد، فلا يمكن لناج أن يكون ناج إلا بهذا الوصف، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى شرط الفلاح: التقوى، فلا يمكن للإنسان أن يفلح إلا وقد اتقى الله سبحانه وتعالى، وتقوى الله عز وجل لا يمكن أن تحقق في العبد إلا بتمسكه بالكتاب والسنة، وأراد المصنف عليه رحمة الله تعالى بذلك أن يبين أن ما يأتي من تفاصيل الاعتقاد مبناه على كلام الله سبحانه وتعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حبل الله وهدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال رحمه الله: [ ودن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله تنج وتربح ].
قوله: [ ودن بكتاب الله ] : ودن أي: من باب الديانة أو الاعتقاد، من باب: دان يدين ديانةً، ولذلك يسمى ما يعتقده الإنسان: ديناً، قال: [ بكتاب الله ] : كتاب الله عند إطلاقه يراد به كلام الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل: الكتاب، فالمراد به الوحيين: القرآن والسنة، وإذا عطف عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يختص بالقرآن، والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني : ( أن رجلاً أعرابيا جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته )، أي: أجيراً عليه يرعى له الغنم، ( اقض بيننا بكتاب الله، إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فقيل لي: على ابنك القتل والرجم، قال: ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما الغنم والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام )، وجاء في رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لأقضين بينكما بكتاب الله ) .
فمن نظر لحكم النبي عليه الصلاة والسلام حكم بأحكام: أولها: ( أما الغنم والوليدة فرد عليك )، وهذا بالنص لا بالإجمال، ليس في كلام الله سبحانه وتعالى القرآن لكنه جاء بالإجمال بإعادة الحقوق إلى أهلها، ( أما الغنم والوليدة فرد عليك )، هذا الحكم, الحكم الآخر: ( وعلى ابنك جلد مائة )، جاء في كلام الله سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، الحكم الثالث: هو تغريب عام، وهذا ليس في كلام الله سبحانه وتعالى، مع قوله: ( لأقضين بينكما بكتاب الله )، الحكم الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها )، والرجم في كلام الله سبحانه وتعالى كما في الصحيحين في حديث عمر وهو مما نسخ لفظه وبقي حكمه: ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) .
وكتاب الله إذا أطلق على هذا الإجمال فالمراد به كلام الله عز وجل وكلام نبيه، وهذا يدل على الاقتران في الاحتجاج والمساواة، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لكلامه مزيةً ليست لغيره، فقد جعل كلامه الحرف بحسنة إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وهذا ليس لكلام أحد غير الله سبحانه وتعالى، واختص به في بعض العبادات كالصلاة وغيرها والأوراد ونحو ذلك.
وأما السنة فاجتمعت مع القرآن بهذا الوصف: بكتاب الله، وكذلك اجتمعت مع القرآن من جهة الاحتجاج، فهي من جهة الاحتجاج سواء، فمن احتج بها فهو محتج بالقرآن لا فرق بينهما، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، ومن ردها فقد رد القرآن، واقترنت مع القرآن أنها تتلى كالقرآن، فقد وصفها بالتلاوة غير واحد من العلماء كالإمام الشافعي عليه رحمة الله كما في كتاب: الأم، وكذلك ابن حزم الأندلسي في كتابه: الإحكام، قالوا: والسنة وحي يتلى، والمراد بذلك أنها تقرأ ويتعبد بقراءتها.
واشتركت مع القرآن بوصف آخر: وهو الإنزال، أي: أنها منزلة من السماء، فالله عز وجل قد أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، وهذا محل إجماع عند العلماء: أن السنة نزل بها جبريل كما نزل بالقرآن، فقد روى الخطيب البغدادي في الكفاية وابن عبد البر في كتابه: الجامع، وكذلك أبو داود في: المراسيل من حديث الأوزاعي عن حسان أنه قال: نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بالسنة كما نزل عليه بالقرآن.
ومما تشترك فيه السنة مع القرآن: أنها وحي، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وقد وصفها بالإنزال كثير من العلماء، لذلك في أوائل مصنفاتهم حينما يتكلمون بالحمدلة يصفون السنة بالإنزال كما وصفها الإمام العراقي عليه رحمة الله تعالى في أوائل كتابه: طرح التثريب، قال: الحمد لله المنزل الوحيين، والمراد بذلك الكتاب والسنة.
فكل شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل فهو عن الله سبحانه وتعالى بواسطة جبريل، إلا الصلاة فقد أخذ حكمها بالإجمال من الله سبحانه وتعالى بلا واسطة، فقد روى الخطيب البغدادي في الكفاية وابن عبد البر في كتابه: الجامع وعبد الله بن أحمد في: السنة وغيرهم: أن أحمد بن زيد بن هارون قال: إنما هي، يعني: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هي صالح عن صالح، وصالح عن تابع، وتابع عن صاحب، وصاحب عن رسول الله، ورسول الله عن جبريل وجبريل عن الله، فما من شيء يقف دون الله سبحانه وتعالى، ولذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن الله جل وعلا، فالأصل في أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وفي أفعاله أنها وحي من الله، فأقوال النبي عليه الصلاة والسلام على الإطلاق وهذا هو الأصل، إلا ما علم يقيناً أنه جرى على العادة وهذا نادر.
كذلك في أفعاله، فأفعال النبي عليه الصلاة والسلام على أقسام:
الأول: فعل عبادة وهذا هو الأصل، وكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عبادة من أفعاله، ولا يخرج ما يلي من الأقسام عن هذا القسم إلا بقرينة أو نص ظاهر، ولا بد أن تكون القرينة قوية، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى بالاقتداء بسنته، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالامتثال، كما جاء في أحكام عدة: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ( خذوا عني مناسككم )، وقوله: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، وغيرها من الأحاديث.
الثاني: فعل عادة: وهذا لا يخرج عن الأول بنص أو لقرينة ظاهرة، أو لمخالفة إجماع الصحابة له، وهذا يعرف بالنظر في القرائن ولا بد للقرائن أن تكون قوية، ففعل العادة مما يشترك فيه الناس، سواء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنهم وكافرهم كلبس الإزار والرداء والعمامة ولبس الجبة وكذلك الصندل من النعال وغيرها، فهذا من العادات، وقد يدخل في هذا على قول البعض تربية شعر الرأس، وهو على قول بعض الأئمة أنه من العادة التي يفعلها العرب، بل كانوا يمدحون في جاهليتهم من كان له جمة، مما يدل على قوته وبأسه وشدته وهذا معروف.
الثالث: فعل جبلة، وهو ما جبل عليه الإنسان من غير اختيار، كحركته الفطرية التي لا يملكها الإنسان من نوم ويقظة، وكذلك هيئته في مشيته، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد وصف أنه إن مشى كأنما يمشي في منحدر، والمعتاد أن الإنسان بمشيته لا يتكلف، فالناس يعرفون فلاناً بمشيته وإن كان بعيداً فيقال: هذه مشية فلان، فلا يقال: إن الإنسان يتكلف ويمشي مشيةً غيره، فالإنسان مجبول على المشية ومجبول على هيئة ونحو ذلك وليس له الاختيار فيها.
ويدخل في هذا أصل النوم وأصل اليقظة وأصل الأكل والشرب، لا ما جاء في تفاصيلها كالنوم على الجنب الأيمن، أو استقبال القبلة حال النوم ولا يصح فيه حديث على قول البعض، وقد جاء فيه حديث: ( قبلتكم أحياءً وأمواتاً )، وهو حديث منكر، ولا ما جاء في تفاصيل الأكل، وإن كان أصله جبلة جبل الإنسان على حبه، أي: كل الناس، وما في تفاصيله كالأكل باليمين وحب تناول الطعام في وقت معين كالأسحار ونحو ذلك في الصيام، فإن هذا جاء بدلالات باللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك بقرائن عدة.
ويدخل في هذا الفعل حب نوع من الأكل كحب الثريد وحب الدباء وحب الكتف من الشاة ونحو ذلك، فإن هذا يجبل عليه الإنسان فيحب نوعاً من الطعام، وهذا لا يكون من السنة إلا إذا اقترن بقرينة أخرى تدل على أنه إنما فضله لمزية أخرى.
فإن فعل الإنسان هذا الفعل من باب التعبد، فإنه يثاب على محبة النبي عليه الصلاة والسلام التي دفعته لذلك، ولا يثاب لذات الفعل.
وإنما خرجت سنة النبي عليه الصلاة والسلام من قوله: [ كتاب الله ] هنا، لأنه قد جاء بعدها بالسنن، قال: [ والسنن التي ]، والسنن: هي جمع سنة، والسنة: هي ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ويضيف بعض المتكلمين من الأصوليين وغيرهم، وبعض أهل الحديث من الأئمة المتأخرين وغيرهم، قولهم: أو صفة خَلقية أو خُلقية، وهذا فيما يظهر لا حاجة لإيراده؛ وذلك أن الصفة الخَلقية لا يملكها الإنسان، فالله عز وجل قد خلق الناس في أحسن تقويم، والصفة الخُلقية داخلة إما في القول أو في الفعل، فقد تكون الخلقية قولاً كالصدق والإحسان، وقد تكون فعلاً كالبشاشة والتبسم وغيرها من الإكرام ونحو ذلك.
أراد بعضهم إضافة هذه الجمل من قولهم: صفة خلقية أو خلقية، قالوا: الخلقية قد جاء فيها أشياء منها: إعفاء اللحى، وعلى قول بعضهم: أن يجعل الإنسان له جمة، فيقال: إن هذه داخلة في أبواب التروك، وأبواب التروك داخلة في باب الأفعال، والدليل على ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )، فيلزم من هذا أن نقول: إن الأعمال يثاب الإنسان عليها بنيته، أما التروك فلا يثاب عليها بالنية، فيقال: هذا لا يسلم، بل إن التروك والأفعال لا بد فيها من النية إذا أراد الإنسان الإثابة، لكنه يرتفع عنه الإثم في باب التروك وإن عدمت النية.
ولذلك الوازع الطبعي والوازع الشرعي عند التحذير من المحرم سيان لا فرق بينهما، أما من جهة الحض على أفعال الخير فلا بد أن يكون وازعاً شرعياً فحسب، والمراد من ذلك أن يقال: إن الإنسان يثاب على تركه المحرم وإن لم يحتسب، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد ذلك بالأعمال، فيقال: الأعمال والتروك كلها سواء تسمى: أعمالاً، فالإنسان لا يثاب على تركه المحرم إلا بالنية، لذلك قال: ( إنما الأعمال بالنيات ) .
وقد احتج بعضهم كـالأوزاعي وكذلك أبو حنيفة، وقالوا: إن الإنسان في باب التروك لا يدخل في قوله: ( إنما الأعمال بالنيات )، ولعل من أورده وجعل من التمام ذكر صفة خَلقية أو خُلقية، قال: من باب نزع الخلاف، ولكن عند النظر أنه لا حاجة إليها، والصفة الخلقية تدخل في باب الأعمال أو في باب التروك فهي داخلة من باب الأفعال من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خُلقية: الخلقية من باب الأخلاق، فالأخلاق تأتي في باب الأقوال وتأتي في باب الأفعال ونحو ذلك، فقد جاء تلخيصها في كلام الله سبحانه وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقيدها بوصف معين: باب الأخلاق، ولا حاجة إليها عند النظر وكذلك في اللغة وفي الشرع.
قال: [ والسنن التي أتت عن رسول الله تنج وتربح ] : قيّد هنا عن رسول الله؛ وذلك أن السنة قد جاء الوصف بها فيما جاء عن الصحابة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، قيدها قال: [ أتت عن رسول الله ] : لبيان أنه لا حجة بقول أحد ممن يوصف بالسنية أن فعله سنة كبعض الصحابة كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض، فأراد نزع الخلاف هنا، فلا يتبادر إلى الذهن أن المراد السنة بالإطلاق مما وصف في حديث العرباض، قال: من السنن التي أتت عن رسول الله أي: فحسب، ليست أي سنة تأتي؛ وذلك لأنه لا حجة بقول أحد في العبادات، إلا بكلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما من وصف فعله أو قوله بالسنية كالخلفاء الراشدين فهذا ليس بحجة إلا إذا أجمع الصحابة فإجماعهم حجة، ولذلك يقول الإمام أحمد عليه رحمة الله: الإجماع إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم تبع لهم.
قول الصحابي ليس بحجة من وجوه:
الوجه الأول: أن الصحابة اختلف بعضهم مع بعض، ولو كان قول واحد منهم حجة لقيل باختلاف الحجة مع بعضها ولا خلاف في ذلك.
الوجه الثاني: لو قيل: إنه حجة لقيل: إنه وحي، ولا قائل بذلك.
الوجه الثالث: أنه ثبت عن الصحابة قولان في مسألة واحدة، والوحي لا يتعدد، وهذا يدل على أن قول الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ليس بحجة.
وقد يقال: أنه حجة من باب الاستدلال والاستئناس لا من باب حسم الخلاف ونزعه ورفعه، فخلاف الصحابة عليهم رضوان الله تعالى موجود ومعلوم، فقد اختلفوا مع بعضهم.
الوجه الرابع: أن الصحابة اختلفوا مع بعضهم مع علمهم بأنهم قد خالف بعضهم بعضاً، ولو كان قول أحدهم أولى من الآخر لكان محل تسليم، ولم يقل بذلك أحد منهم عليهم رضوان الله تعالى.
قال: [ تنج وتربح ] : النجاة: هي السلامة، أن يسلم الإنسان من الشر، والإنسان إن أراد أن يدخل في مسابقة في شيء من أمور الدين والدنيا، فإن بقي بنفسه ولم يخسر شيئاً فهو ناج، والنبي عليه الصلاة والسلام قد وصف من لم تخطفه كلاليب جهنم، قال: ( فناج مسلم )، أي: نجا منها وإن لم يحصل له فوز، وأما ما زاد عن ذلك فهو الربح، ولذلك الإنسان يدخل في تجارة فإن سلم له رأس ماله فإنه ناج وإن زاد على ذلك فإنه رابح؛ ولذا وصفها، أي: وصف من تمسك بكلام الله سبحانه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ناج ورابح، أي: حاصل له كمال النجاة وكمال الربح، وهذا أفضل ما يسعى إليه الإنسان.
وحينما أورد المصنف عليه رحمة الله تعالى هذين البيتين، أراد بذلك أن يبين أن ما جاء في هذه الأبيات إنما هو اعتماد على الكتاب والسنة، وأن الحجة فيها ولا حجة في غيرها، فيقطع الاستدراك عليه أن يقول: إنه احتج بقول أحد غير كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ وقل: غير مخلوق كلام مليكنا بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ].
بدأ المصنف عليه رحمة الله بالكلام على هذه المسألة، وهي من المسائل العظام التي وقعت فيها الفتنة ووقع فيها البلاء، فهذه المسألة لم تكن موجودةً في عصر النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأت حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا اللفظ: مخلوق أو غير مخلوق، وبهذا اللفظ جاء فيها من حديث عبد الله بن مسعود وهو منكر جداً، لكنه قد جاء عن بعض الصحابة.
وأعلى ما جاء في هذا الباب ما رواه ابن جرير الطبري من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى: أنه قال في قول الله سبحانه وتعالى: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28]، قال: غير مخلوق، وكذلك ما أخرجه الدارمي وغيره من حديث عمرو بن دينار قال: أدركت الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم نحواً من سبعين كلهم يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ونشأ القول فيها بعد ذلك ووقعت الفتنة واشتدت في عصر الإمام أحمد عليه رحمة الله، وكان فيها القول شديداً في أوائل عصر المصنف عليه رحمة الله ابن أبي داود ؛ وذلك ابتدأ فيها لأنها كانت الفيصل بين أهل البدع وبين أهل السنة.
فابتدأ فيها بقوله: [ وقل ]، أي: إنها أصبحت علامة، أي: فيصلاً بين أهل السنة وبين أهل البدعة، قال: [ وقل: غير مخلوق كلام مليكنا ]، أي: يجب عليك أن تعتقد وتقول بلسانك: إن كلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق، وكلام الله سبحانه وتعالى قد أثبته الله عز وجل في كتابه العظيم في مواضع عدة، منها قول الله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقول الله سبحانه وتعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقوله سبحانه وتعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، وقوله سبحانه وتعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ [مريم:52]، وقول الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [المائدة:116] .
فالله عز وجل موصوف بالقول والمناداة والكلام، وكلام الله سبحانه وتعالى وقعت فيه الفتنة والفرقة، فأصبح فيصلاً بين أهل الضلال وأهل الحق والهداية، وقد ضل في هذه الصفة طوائف: ضل فيها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والكلابية وغيرهم، على ثلاث طوائف:
الطائقة الأولى: الجهمية وهم أتباع الجهم بن صفوان الذين أخذوا بدعتهم من اليهود، فـالجهم بن صفوان أخذ بدعته من الجعد بن درهم، والجعد بن درهم أخذ بدعته عن أبان بن سمعان وأبان بن سمعان أخذ بدعته من طالوت ابن أخت لبيد الأعصم الذي سحر النبي عليه الصلاة والسلام، وطالوت قد أخذ بدعته من لبيد الأعصم اليهودي، ولذلك أصل بدعتهم من اليهود عليهم لعنة الله، والجهمية قالوا: بأن كلام الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم مخلوق.
الصورة الأولى من صور الضلال: ضلال الجهمية، فإنهم نفوا أن يكون لله كلاماً، فتأولوا ما جاء في القرآن الكريم وتحايلوا على كلام الله سبحانه وتعالى كما تحايل الجهم بن صفوان على قول الله سبحانه وتعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فنصب كلمة: اللهَ، فجعل المتكلم موسى: وكلم اللهَ موسى تكليماً، ولكنه يخاطب بقوله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، فالله سبحانه وتعالى هو المتكلم، فأضاف الله عز وجل الكلام إليه بقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] .
فنفوا إضافة الكلام إلى الله وقالوا: إن القرآن مخلوق، وقد وقعوا في ضلالين: أنهم قالوا: إن القرآن مخلوق، وكذلك نفيهم أن يكون لله كلاماً.
وأما الطائفة الثانية: فهم المعتزلة، الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، وأضافوا الكلام إلى الله سبحانه وتعالى إضافة المخلوق إلى الخالق، قالوا: فالإضافة هنا في قوله سبحانه وتعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، كإضافة سائر المخلوقات إلى الله، وإضافة الشيء إلى الله تكون على حالين، يأتي الكلام فيهما بعد ذكر الطائفة الثالثة.
الطائفة الثالثة: التي ضلت، والصورة الثالثة من أحوال الضلال في هذه المسألة: ضلال الأشاعرة والكلابية الذين قالوا: إن لله عز وجل كلاماً لكنه بغير حرف ولا صوت، قالوا: فالكلام على نوعين: كلام نفسي يحدث في النفس وليس فيه حرف ولا صوت فهذا هو كلام الله، وكلام بحرف وصوت وهذا ليس بكلام الله.
واعتقاد أهل السنة: أن القرآن كلام الله، غير مخلوق بحرف وصوت، ولذلك كلام الله سبحانه وتعالى يسمع، ونداؤه مسموع من الله سبحانه وتعالى، والقرآن منه نزل ومنه بدأ وإليه يعود، ولذا كلام الله عز وجل هو القرآن الكريم، فالله عز وجل موصوف بالقول وبالمناداة وبالكلام وبالصوت، ثبت هذا كله في أحاديث كثيرة، روى الإمام أحمد في المسند وغيره من حديث عبد الله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلا، فيناديهم الله عز وجل بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد )، فنداء الله عز وجل يسمعه الناس سواسية، من بعد كما يسمعه من قرب، وهذا يبطل قول الأشاعرة والكلابية الذين يقولون: أن الكلام نفسي ليس فيه حرف ولا صوت، فكلام الله عز وجل مسموع، ويقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، ولذلك أضاف الله عز وجل الكلام إليه في قوله: كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، والإضافة إذا أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى لا تخلوا من حالين:
الحالة الأولى: إضافة الصفة إلى الموصوف، وهي المرادة هنا في كلام الله سبحانه وتعالى بقوله: كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، كسائر الصفات، كسمع الله وبصر الله وغير ذلك، يقال: كلام الله.
الحالة الثانية: إضافة المخلوق إلى الخالق، كأن يقال: الخلق عيال الله أو خلق الله وصنع الله وعباد الله ونحو ذلك، أي: مخلوقون من خلق الله.
والفرق بين الحالة الأولى والثانية، إذ أن كلاً منهما مضاف فيقال: يفرق بين الحالة الأولى والثانية بين إضافة الصفة إلى الموصوف، وإضافة المخلوق إلى الخالق: أن المضاف إذا كان لا يستقل بنفسه فإنه من إضافة الصفة إلى الموصوف، فالكلام لا يمكن أن يكون بنفسه، لا بد أن يقوم به قائم، فيقال: كلام فلان وكلام الله ونحو ذلك، فالكلام إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وإذا كان المضاف يقوم بنفسه ويستقل بها يكون من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، فيقال: خلق الله وعباد الله، فهؤلاء لهم مشيئة أثبتها الله عز وجل لهم كقوله سبحانه وتعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] .
ومن حجج أهل الضلال في هذا الباب في قولهم: أن القرآن مخلوق: احتجوا بشبه واهية سواء من أشعار العرب أو ببعض الظواهر من كلام الله سبحانه وتعالى، أو بعض لزوم هذه الصفة:
الحجة الأولى لهم، قالوا: أن الله سبحانه وتعالى وصف قوله بوصف حيث قال: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13]، فقال: مني، كما قال الله سبحانه وتعالى في قوله جل وعلا: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، فما في السماوات وما في الأرض من الله، فالقول من الله أيضاً، أي: أنه مخلوق من الله، وهذه حجة واهية! وذلك أن الإضافة بمن هنا كما تقدمت الإضافة في إضافة الصفة للموصوف، فيقال بقوله: منه، لا يمكن أن تكون من خلق الله لأنها إضافة لله سبحانه وتعالى؛ لأن الكلام يضاف إلى الله عز وجل كإضافة الصفة إلى الموصوف، وأما قوله: جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، إضافة المخلوق إلى الخالق.
يقول أهل السنة: إن عيسى كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، فقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، هل هو من الله؟ فعيسى كان بكلمة الله، كان بكن ولم يكن هو كن، فمن قالوا: أنه هو الله، قالوا كالنصارى أن المسيح هو الله، والله عز وجل يقول: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، أي: من الله، وكذلك من قالوا: إنه ابن الله، إذاً: فالجهمية وافقوا النصارى في هذا الباب ومن جهة هذا الاحتجاج، ولكن هذا جهل بلغة العرب أولاً، وجهل بمعاني القرآن، وجهل بأصول الإسلام ثالثاً، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، أي: كل هذه منشأها من خلق الله سبحانه وتعالى خلقها، نضير قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، أي: من الله، أي: خلقها، فعيسى ليس هو: كن، أي: كلمة الله، وإنما كان بكن، وهذا يجوز أن يقال: إنه من فلان.
الحجة الثانية التي احتجوا بها، أن القرآن ليس كلام الله، احتجوا ببعض أشعار العرب أن الكلام هو ما في الفؤاد، قالوا: قال الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وقال بعض الحلولية: إن كل قول يقال: هو من خلق الله سبحانه وتعالى ومن ذلك: قول الله جل وعلا، وذلك أن كلها موصوفة بالقول، ولذا قال بعض أئمة الملاحدة من الحلولية وغيرهم: والكلام منا كله كلامه سواء منا نثره ونظامه، قالوا: فالمنثور والمنظوم بما في ذلك قالوا: كلام الله سبحانه وتعالى كله من الله مخلوق، وهذا على قول في الاحتجاج بكلام الأخطل، يجري على كلام من قال: إن الكلام هو ما في النفس، وهذا يجري على كلام الأشاعرة والكلابية.
فالمعتزلة قد وافقوا وخالفوا الجهمية، فوافقوهم بأن كلام الله مخلوق لكنهم خالفوهم بإثبات كلام الله وإضافته إلى الله، قالوا: لكنه مخلوق، والجهمية نفوا أن يكون لله كلاماً أصلاً، وتأول الأشاعرة والكلابية الكلام فقالوا: لله عز وجل لكنه كلام نفسي من غير حرف ولا صوت، وهذا كله ضلال.
الحجة الثالثة من حججهم، قالوا: نحن نتكلم بكلام الله، ونتكلم بغير كلام الله، فهل نقول: إن كلامنا بكلام الله ليس بمخلوق وكلامنا الذي هو كلامنا يكون مخلوقاً، فنقول حينما نتلوا القرآن: هذا كلام الله ليس بمخلوق، وحينما نتكلم بكلامنا يكون مخلوقا وهو سيان، وهذا من اللوازم التي لا يلزم منها.
ولذلك اعتقاد أهل السنة، قالوا: حينما يقرأ القاري القرآن يقال: الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري، فالكلام كلام الله والصوت صوت القارئ، ويأتي كلام المصنف عليه رحمة الله على هذه المسألة.
ويحسن التنبيه هنا: أن أهل البدع أساس ضلالهم هو تشبيههم الخالق بالمخلوق، فالمعطلة مشبهة والمشبهة والمؤولة قد عطلوا النص عن حقيقته لكنهم صرفوه عن حقيقته فليسوا بمعطلة خلّص لكنهم مشبهة أيضا، فكل معطل مشبه، كيف يكون ذلك؟ كل من عطل صفة من الصفات لا بد أن يكون مشبهاً، لم؟ لأنه قد استقر في نفسه وفي علمه تشبيهاً فأراد تنزيهاً فوقع في التعطيل، فمن قال: كلام الله مخلوق، أو قال: ليس لله كلاماً، قالوا: نحن نتكلم بكلام الله، فإذا تكلمنا بكلام الله وتلونا القرآن ونتكلم بكلامنا ونتلوه، فهذا يكون ليس بمخلوق وهذا مخلوق؟! وكذلك حينما يعطلون صفات الله عز وجل كلها كصفة العلو، قالوا: حينما يعلو الله عز وجل وينزل إلى السماء الدنيا، هل يخلوا عرشه أو لا يخلوا منه؟ وكذلك قالوا: حينما يستوي الإنسان على عرشه يكون العرش مساوياً له، أو أكبر منه، أو أصغر منه؟
هذا كله بسبب تشبيههم وإهمالهم لقول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فوقع في قلبهم تشبيهاً فأرادوا تنزيهاً فوقع منهم تعطيل حيث أرادوا التنزيه، ولذلك لا يصرح المعطل بالتشبيه لأنه أراد البعد عنه والنفرة منه فوقع في التعطيل، فيقال: إن ما استقر في ذهنك وأردت أن تهرب منه وقعت فيما هو أخطر منه وهو التعطيل، فيجب عليك أن يستقر في ذهنك أصلاً قبل أن تنظر في شيء أن الله ليس كمثله شيء، فلا تنظر في مسألة خلو العرش ولا المساواة ولا كيفية النزول وغير ذلك، ولذلك يقال: إن الله عز وجل له علو ويستوي على عرشه وينزل إلى السماء الدنيا، والليل ينقلب من بلد إلى بلد وثلث أخير باق في الدنيا على الدوام، كيف ينزل الله عز وجل؟ هذا ليس من منهج أهل السنة والسؤال عنه بدعة وضلال.
ومن خطر في ذهنه أن الله عز وجل إن نزل خلا عرشه منه، فقد استقر في ذهنه تشبيه الخالق بالمخلوق، لكنه لا يستطيع أن يبوح به فباح بالتعطيل، وهذا أساس بدعة المعطلة وهذا هو الضلال، والمشبهة شبهوا فصرحوا باللزوم وخالفوا قول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] .
والكلام في تقريب خلاف أهل البدع في هذه المسألة كلام يطول، لكن خلاف أهل البدع في هذه المسألة خلاف له أصول طويلة، قد يأتي الإشارة إلى كثير منه.
والبدعة في قول خلق القرآن قد ابتدعها الجهم بن صفوان وأخذها عن الجعد بن درهم، ومن قال: بأن كلام الله عز وجل مخلوق فقد كفر بالله سبحانه وتعالى أصلاً وضل عن منهج الله سبحانه وتعالى، وكذب الله عز وجل فيما أخبره عن نفسه حيث أضاف الكلام إلى الله، ولذلك حكا غير واحد من أئمة الإسلام أن الجهمية ليسوا من الطوائف الثلاث والسبعين فرقة لأنهم كفار، والطوائف الثلاث والسبعون هم الطوائف البدعية، وثبت عن سفيان الثوري ويوسف بن أسباط قالوا: الجهمية ليسوا من الطوائف الثلاث والسبعين، وذلك أنهم كفروا وكذبوا بما ثبت في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكى كفرهم غير واحد من العلماء، ونص الإمام اللالكائي عليه رحمة الله على كفر الجهمية في كتاب: أصول اعتقاد أهل السنة، ويقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله تعالى في نونيته:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عن هم بل حكاه قبله الطبراني
وقد حكي عن أكثر من خمسمائة من أئمة الإسلام أنهم قد حكموا بكفرهم، لكنه لا يتجرأ بكفر أعيانهم حتى تقام عليهم الحجة وترتفع الشبهة التي قد وقعت عندهم، والإمام أحمد عليه رحمة الله كفّر الجهمية لكنه ما كفر أعيانهم، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، فمن قال: كلام الله مخلوق فقد كفر بالله سبحانه وتعالى، بل من قال: حرفاً من كلام الله مخلوق فهو كافر بالله، وهذه الكلمة كفرية والجهمية ليسوا من أهل الإسلام، وليسوا من الطوائف المتوعدة بالنار، والطوائف الثلاث والسبعون هي الطوائف التي تنتمي للإسلام وداخلة في دائرة الإسلام لكنها موغلة في البدعة، ويدخل في هذا الطوائف الإسلامية، ويخرج منها الطوائف التي تزعم إسلاماً وهي خارجة من الإسلام.
يقول: [ وقل: غير مخلوق كلام مليكنا ] : ويجب على المؤمن أن يصف الله عز وجل بما وصف به نفسه، بل في كلام الله سبحانه وتعالى ويجب على المؤمن أن يثبت أن القرآن غير مخلوق، وأن يضيفه إلى الله: [ كلام مليكنا ] .
قال: [ كلام مليكنا ] : فيه إثبات صفة الملك لله سبحانه وتعالى، وهي الملك المطلق والكمال الذي لا يعتريه نقص، فكل شيء تحت ملك الله سبحانه وتعالى وقدرته ومشيئته.
قال: [ بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ]، أي: بهذا الاعتقاد قد دان الأتقياء من أهل الإسلام والإيمان، وثبت عن المصنف عليه رحمة الله أنه قال في آخر رسالته هذه، قال: [ هذا ما أقول وهذا ما يقول أبي ]، يعني: صاحب السنن، وهذا ما يقول علماء الإسلام، ومن قال خلاف ذلك فقد كذب.
والأتقياء: من جمع: تقي، مشتق من التقوى، وهو أن يتقي الإنسان مواطن الشر أو مواطن الشبهة، ولذلك التقوى: هي أن يحترز الإنسان من المحرمات وأن يتبع ما أمر النبي عليه الصلاة والسلام به ويجتنب ما نهى عنه، والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وقد عرف التقوى غير واحد من السلف كـطلق عليه رحمة الله، قال: تقوى الله: أن تطيع الله على نور من الله ترجوا ثواب الله، وأن تجتنب معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، وهذا من أجمل وأحسن التعاريف لتقوى الله سبحانه وتعالى.
قال: [ بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ]، أي: يجب على المؤمن أن يفصح بهذا القول، والإفصاح: هو أن يبين الإنسان ما يعتقد، وليس المراد بذلك المعنى الخاص، فعند أهل اللغة: الفصاحة: هو أن يكون الإنسان بليغاً، وهذا معنى أدق من المعنى الأصلي، فالإفصاح: هو أن يبوح الإنسان، لا أن يكتفي بقلبه فقط، ولذلك قد جمع بين الأمرين، قال: وقل، ثم قال: وأفصحوا، أي: بينوا من غير شبهة ومن غير إضمار، بل يجب على المؤمن أن يبين قوله.
ولا يفهم من قول المصنف عليه رحمة الله تعالى بقوله: [ قل غير مخلوق كلام مليكنا ]، ولا قوله: [ وأفصحوا ] : أن الإنسان لا يعتقد ويكتفي بالقلب كلا، وهذا له أصل في كلام الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله عز وجل: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136]، فالإنسان يقول لأن الأصل في قوله أنه يوافق ما يعتقد، لذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الإسلام، قال: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله )، والشهادة: هو أن تعلن وتخبر بما وقر في قلبك.
نقف عند هذا القدر ونكمل إن شاء الله عصراً.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر