الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك, وله الحمد, وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أولاً: لقد ذكر أخونا المقدم بعض التنبيهات على جملة من متعلقات هذه المحاضرات، وأنها محاضرات شهرية, وستكون على الأغلب في أول ثلاثاء من كل شهر بإذن الله تعالى.
ثانياً: بالنسبة لما ذكر فيما طبع على الإعلان من وصف المتحدث بأوصاف مبالغة, لا ينبغي لشخص يقدر العلم أن يدونها، وأشكر للمتحدث والطابع إحسان الظن، ولي مع ذلك العتب؛ صوناً للشريعة، وحفظاً للسنة، وتوقيراً للعلم، ووضعاً للأمور في ميزانها.
ثالثاً: لا أنسى الشكر للقائمين على اللجنة العلمية في المبادرة باختيار أمثال هذه العناوين، والحث عليها، وقد بقي أخونا الشيخ بلال ملازماً لفترة حول هذه المحاضرات، وأشكر له صبره، وأشكر له أيضاً إعانته للنفس؛ أن دفعني إليها, وأنا أرى في ذلك المصلحة الراجحة في المبادرة فيها، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
باكورة هذه المحاضرات هي كما هو مدون في هذا الإعلان: (الذريعة بين السد والفتح), وهذه المسألة مسألة عريضة كثر الكلام حولها، سواءً بالنص أو بالمعنى، ومن نظر في أصول الشريعة وجد أن ذلك من دعائم التشريع الإلهي فيما أوحاه الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما أوحاه الله عز وجل على سائر أنبيائه، ولما كان كذلك جعل الله عز وجل شريعته تامة، فأنزل الله عز وجل على نبيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3], فحينما أتم الله عز وجل على الأمة النعمة, وأكمل لهم الدين؛ دل على أن ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله على أنه من الدين, ومن صلبه، فيجب إقامة هذا الحد، وبيان قدره وحقيقته والتدليل عليه، ومعلوم أن شريعة الله عز وجل إن لم يكن لها منافحون يبينون الحق, ويزيلون الباطل -الذي كثر في الناس في الأعصار المتأخرة مع انتشار القلم، ونطق الرويبضة في الناس- فإنه يحدث في الأمة انتشار الجهل.
ومن تأمل النصوص التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتشار العلم في آخر الزمان, وقبض العلماء كذلك؛ يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد وصف آخر الزمان بوصفين: انتشار القلم, وقبض العلم، وذلك يشير أن ورود القلم عند كثير من حملته لا يدل على العلم، وأنه قد يدل على جهل الإنسان, وكثرة الفتنة في الناس، وأن ( الله عز وجل يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ), كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمرو وغيره.
وانتشار القلم في الناس له مفاسده، وله مصالحه، لكن مفاسده كثيرة، ومن مفاسده: لبس الحق بالباطل، وعدم تمييز الخير من الشر، وعدم اتضاح سبل الهداية؛ لأن مَن حمل القلم في غير علم الشريعة أخذ يجره على سطور الشريعة ومعالمها؛ حتى طمست الشريعة بكثير من سواد الأقلام ومدادها، فحرفت الشريعة عن مسارها, وقد أخبر غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعم في الناس العمل بالجاهلية, ومخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بزعم أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينبغي قبل الولوج في الكلام عن موضوع هذه المحاضرة أن ينبه على أمر مهم، وقاعدة جليلة؛ وهي أنه قد جاء في النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغير واحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين: أن عمل الناس من جهة الأصل يتردد بين أن يكون من الأعمال الضعيفة والصحيحة، وبين أن يكون متردداً أيضاً بين القبول والمسامحة, والرفض والرد، والعمل المقبول هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما كان عليه أئمة الإسلام، وما كان عليه إجماع الأمة, فينبغي أن يصار إليه، فإذا كثر في الناس الجهل, وغاب الدليل -وخاصة مع تقادم الزمن, وانقراض القرون المفضلة، وتعصب كثير من الناس لآراء واستحسانات عقلية، وتمسكهم بقواعد يظنونها من الشريعة فيضربون بها كثيراً من النصوص- يظهر حينئذٍ الجهل في الناس، ويلحق كثير من الناظرين والقارئين لقواعد الإسلام وكلام العلماء المتقدمين بالاعتبار بالعمل وأخذه, وعدم مخالفة القائلين به؛ يحمل هذه الأقوال على أعمال كثير من المتأخرين التي تخالف السنة، ولهذا روى الدارمي من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير والصغير، ويعمل بها بغير السنة، حتى إذا عمل بالسنة قال الناس: قد بدلت السنة. قالوا: كيف ذلك ومتى؟ فقال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: إذا كثر قراؤكم, وقل فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقل الأمناء فيكم). وهذا يدل على أن انتشار القلم في الناس لا يعني التزام العلم، وأن كثرة الذين يقرءون الحروف لا يعني بذلك انتشار المعرفة الحقة، وتمييز الحق من الباطل، ولهذا من نظر في نصوص الشريعة التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: انتشار القلم, وقبض العلماء في أحاديث متفرقة، يظن الناظر أن في انتشار القلم انتشاراً لعلم الشريعة، وأن هذا معارض لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبض العلماء، بل أن فيه إشارة أصرح وأظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أشار إلى القلم بخصوصه، ولم يعبر بذلك عن العلم دل على أن انتشار القلم معنى أعم من ذلك، وأنه يدخل فيه تلبيس الشريعة بغيرها، وكذلك القراء الذين يقرءون النصوص، ولكنهم لا يقيمون الحدود، فيضل بأفعالهم كثير من الناس، فيلتبس حينئذٍ الحق بالباطل، وخاصة في سرعة انتشار المكتوب والمقروء، وخاصة في زمننا هذا تكثر الأهواء، ويلتبس الحق بالباطل، ويشح حينئذٍ تمييز الحق من الباطل عند كثير من الناس، فيتبع كثير من الخلق أناساً يحسنون الظن بهم، وهم أبعد ما يكونون عن العلم بالشريعة وفقهها، وتمييز الحق من الباطل، وإقامة حدود الله عز وجل.
ونلحظ في الأزمنة المتأخرة هجوماً عريضاً على نصوص الشريعة الواضحة البينة, فضلاً عن المتشابهات عند كثير من الناس, وهي محكمات عند كثير من العلماء, ففي قول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين وغيرهما- من حديث النعمان بن بشير: ( إن الحلال بيّن, والحرام بيّن, وبينهما أمور مشتبهات ), قال غير واحد من العلماء: إن الشريعة لا يوجد فيها مشتبهات على الإطلاق، وإنما يوجد فيها مشتبهات عند أكثر الناس، وهي من المحكمات البينات عند أهل العلم، وقد يتحقق عند بعض العلماء من أحكام الشريعة من البينات ما لا يتحقق عند غيرهم، فشريعة الله عز وجل من جهة الإجمال بينة ظاهرة، ولكنها قد تكون عند بعضهم من المشتبهات، ولهذا لما طعن في أصول الشريعة الظاهرة البينة المحكمة عند عامة المسلمين, وما استقر عليه الإجماع من المتقدمين والمتأخرين؛ دل على أن التلبيس والتدليس فيما كان دون ذلك من باب أولى، وهذا ما ينبغي أن يحترز منه.
الشريعة الإسلامية ابتداءً من الوحيين الكتاب والسنة، وانتهاءً بآراء أئمة الإسلام، وقبل ذلك إجماع الأمة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم يواجه هجمة ليست باسم الإلحاد والزندقة؛ فإن ذلك بيّن، وإنما باسم إسلام جديد؛ لأن الهجوم على الإسلام صراحة باسم الكفر غير مقبول، ولكن الهجوم على الإسلام بصياغة جديدة وإسلام جديد هو الذي يتغلغل على أفهام كثير من الناس، ويختلط معهم حينئذٍ الصواب مع الخطأ، فلا يكون حينئذٍ ثمة تمييز.
والمرحلة التي يخطط لها أعداء الله عز وجل في هذا الوقت هي انتزاع نصوص الخلاف في كلام العلماء, وضرب النصوص الشرعية التي جاءت بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استنزفت مسائل الخلاف وجعلت الأقوال الشاذة في مصاف الخلاف المتحقق المقرر مما يقبل قوله، وهذا مشاهد في كثير من المسائل التي يعد فيها الخلاف هو من الخلاف النازل الذي لا يعتد به، فتصعد هذه الأقوال, وتظهر للناس؛ حتى يكون هذا من جملة الخلاف المعتبر بإظهاره للناس، ولكن العلماء الحق الذين يستضيئون ويستنيرون بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الحق من الباطل, حتى وإن كثر المنادون بالباطل في مصافة الحق.
ولهذا لا يغتر الناس بعمل المجتمعات, ولا يغتر العلماء وطلاب الدليل بما يؤطر عليه الناس من أقوال فقهية، ولهذا أخرج الخطيب البغدادي من حديث عبد الله الجعفري عن عبد الله بن الحسن وكان جليساً لـربيعة، وكان يتحدث معه في عمل الناس، فقالوا بمسألة فقال بها عبد الله بن الحسن، فقال رجل عنده: إن هذا ليس عليه عمل الناس، فقال عبد الله بن الحسن: أرأيت لو كان على الأمة حكام فأجبروا الناس على العمل بالجهل, هل يقال: إن هذا ليس عليه عمل الناس إذا أفتي بخلاف ذلك؟ فقال ربيعة: إن هذا لكلام أبناء الأنبياء. ومراده بذلك: ورثة الأنبياء، فإن ( الأنبياء ورثوا العلم, فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر )، وأولى من يرث الرجل هم أولاده من البنين والبنات.
ولهذا شريعة الله عز وجل لا تخضع لعمل الناس ولا لسوادهم، وهذا كما تقدم الإشارة إليه في كلام عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى في أناس عملوا بغير السنة، فإذا عمل بالسنة قيل: تركت السنة، وجعل ذلك في زمن يكثر فيه القراء، ويقل فيه الفقهاء، ويقل فيه الأمناء، ويكثر فيه الأمراء، وهذا مشاهد ملموس في الأعصار المتأخرة من تشتت دول الإسلام إلى دويلات متعددة، وكذلك كثرة المذاهب, وترأس كثير من الرويبضات الذين نطقوا بأحكام الله عز وجل، والنصوص الظاهرة البينة على أنها تحتمل احتمالات متعددة، وجردوا ذلك عن فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين.
هذه المقدمة يحتاج إليها في هذه المحاضرة، وما يأتي بعدها بإذن الله عز وجل من محاضرات قادمة.
عنوان هذه المحاضرة كما هو معلوم: (الذريعة بين الفتح والسد).
الذريعة المراد بها: هي الوسيلة والطريق والسبيل الموصل إلى المقصود، ولهذا الإنسان قبل ذهابه أو قصده إلى الغايات لابد أن يلتمس لها طرقاً ووسائل، فهذه الطرق والوسائل هي الذرائع التي يتذرع الإنسان بها للوصول إلى غاياته.
وقد جاءت الشريعة ببيان هذه الوسائل سواءً في باب السد أو في باب الفتح، والعلماء عليهم رحمة الله تعالى يكثرون من قولهم: سد الذرائع. ويغلبون هذا المعنى؛ باعتبار أن الشريعة جاءت بما يدل على هذا المعنى أكثر من أبواب فتح الذرائع؛ لأن فتح الذرائع متعلق بالغايات، فإذا كانت الغاية مباحة دلَّ ذلك على أن الذريعة إليها لا حاجة إلى النص بالوسيلة إليها، لكن إذا كانت الغاية من المحرمات كانت الذريعة إليها من جملة المشتبهات على الإنسان، فلذلك كثرة النصوص في بيان كثير من الوسائل الموصلة إلى كثير من المحرمات؛ لأن هذا من جملة المشتبهات على كثير من الناس، فإن من قصر نظره عن بيان كثير من ذوات الأحكام يلتبس عليه كثير من الوسائل والطرق والسبل الموصلة إلى كثير من الأعمال التي تفضي إلى كثير من المحرمات؛ لعدم البصيرة عند كثير من الناس التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يهتدي بها وأصحابه، كما في قول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]. فالبصيرة هو أن يكون العامل والمفتي والمتعلم على بصيرة من السبل؛ كما يكون على بصيرة من الغايات، فإن الشريعة تعطي الوسائل أحكام الغايات، فإذا كانت الغايات من المباحات كانت الوسائل من المباحات من باب أولى, ما لم تكن تلك الوسيلة من المحرمات بذاتها؛ لضرر يطرأ عليها, سواءً مما يرجع إلى الإنسان بذاته أو يرجع إلى غيره، كما يأتي بيانه بإذن الله.
إذاً: تغليب العلماء عليهم رحمة الله في بيان سد الذريعة, والإكثار من هذا النص, وعدم الإشارة إلى الفتح؛ باعتبار أن قاعدة فتح الذرائع لا حاجة إليها؛ لأن الفتح متعلق بأصل الغاية، فإذا كانت مباحة فسائر الذرائع إليها مباحة, هذا على الأغلب، وإنما يعلِّقون السد باعتبار أن هذا متعلق بالغايات، فإذا كانت الغاية محرمة احتاج العلماء لبيان سد هذه الغايات الموصلة إلى محرم واحد، فكانت نصوص الشريعة تدل على الإكثار من سد الذرائع, وبيان خطرها.
ولهذا يشير العلماء عليهم رحمة الله تعالى في بيان الذرائع وأحوالها والتدليل عليها من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأئمة الإسلام وفقهاء الدين، فإن هذه القاعدة -وهي قاعدة سد الذرائع- معمول بها، والأدلة على ذلك ظاهرة في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, والخلفاء الراشدين الأربعة عليهم رضوان الله تعالى، وكذلك أئمة الإسلام ممن جاء بعدهم.
فهذه القاعدة من أصول الدين، وقد حكي الإجماع عليها، كما حكى ذلك غير واحد من العلماء؛ كالإمام الشاطبي والقرافي، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله, وابن القيم، وغيرهم من أئمة الإسلام، وجاءت عملاً بالنص عن غير واحد من أئمة الإسلام من الأئمة الأربعة؛ كـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وكذلك إسحاق بن راهويه، وغيرهم من العلماء الذين يعملون بها، وإن كانوا لا ينصون بها بالنص.
وهذه القاعدة يقلل من شأنها من لم يأخذ بما هو أعظم من هذا الأصل -كأصل المصالح المرسلة أو القياس وغير ذلك- من الأئمة كـابن حزم الأندلسي، وغيرهم من أهل الظاهر الذين يأخذون بظواهر الأدلة، ويلحقون بعض الوسائل بأصولها؛ باعتبار أنها موصلة ومفضية إليه، أو باعتبار الضرر المتحصل عليها بناءً على القياس الأولى، وهذا الكلام مما هو معلوم ومتقرر، والسبيل في الرجوع إليه متيسر، وليس بمتعذر لمن أراده.
إذاً: القاعدة عند العلماء معمول بها، والنصوص في كلام الله سبحانه وتعالى معلومة مشاهدة في كثير من الأحكام، كما يأتي بسطها بإذن الله، وقبل تقرير الأدلة وذكرها, وبيان كلام العلماء عليهم رحمة الله، وما نسب إلى بعض العلماء من عدم الاعتداد بهذه القاعدة، وكذلك ذكر شبهات الذين طعنوا بأمثال هذه الأصول في الشريعة، وكذلك الشبهات التي تنقدح عند كثير من المتعلمين بعدم الأخذ بهذه القاعدة، وعدم إعطائها حقها، سواءً بالتطبيق في باب السد أو في باب الفتح.
أولاً: الشريعة متعلقة بمعرفة المقاصد، وهذه القاعدة هي فرع عن تلك القاعدة التي تقدم الكلام عليها، فما من شيء من قواعد الشريعة إلا وهو يفتقر إلى معرفة المقاصد، ومعرفة نصوص الأدلة، ولهذا يذكر بعض الأئمة عليهم رحمة الله -كالإمام الشاطبي عليه رحمة الله في الموافقات والاعتصام-: أن المجتهد لا يمكن أن يكون مجتهداً إلا إذا تحقق فيه وصفان:
الوصف الأول: أن يكون عارفاً بالأدلة والنصوص من كلام الله عز وجل, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أدلة الإسلام الأصلية من إجماع الصحابة، والقياس.
الوصف الثاني: أن يكون عالماً بمقاصد الشريعة, وما ترجوه وتطلبه من تحقيق تلك المقاصد، فإذا كان عالماً بهذين الأصلين كان متحقق الآلية في باب الاجتهاد، وإذا كان مقصراً في أبواب الأدلة عالماً بالمقاصد اضطرب ولم ينصف، فغلب جانب المصالح مع وجود نصوص الشريعة.
ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يقسمون الذرائع التي جاءت في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدة أقسام: ذرائع منصوص عليها بأنها محرمة؛ وهي قطعية، وذرائع منصوص عليها على أنها ليست معتبرة، وذرائع مترددة بين القبول والرفض باعتبار المصالح التي تئول إليها، فإن كانت من المصالح الراجحة فإنه يؤخذ بها، وإذا كانت من المفاسد الراجحة فإنه لا يعتد بها، ويقال حينئذٍ بالقطع.
لما انتشر القلم في الناس، وكثر المتحدثون في كلام الله عز وجل بغير علم، وكثر القراء والكتبة الذين لا يعتنون بنصوص الشريعة من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، استهوى كثير من الناس الحمية للدين بسد الذريعة التي قد أذن الشارع بفتحها في بعض الأحوال، وحمل بعض الناس عدم الاعتبار بسد الذريعة هروباً من بعض المصطلحات التي يطلقها كثير من المتأخرين أو جملة من المنافقين؛ سواءً بالوصم بالتشدد أو الغلو ونحو ذلك، لكن كل ذلك ينبغي للعالم ألا يصرفه عن الأخذ بالأدلة من الكتاب والسنة، وإعمال القاعدة وفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنحن حين ننظر إلى الأحكام التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعمال المصالح والأخذ بها، نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخذ بكثير من الأحكام الشرعية إعمالاً للغايات, وسداً للذرائع.
فمثلاً: نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور، وهذا في ابتداء الأمر؛ لما كان ذلك يفضي إلى عبادتها وتعظيمها، ولما كانت قلوب الناس متعلقة بعبادة الصالحين والأولياء، وعبادة الأحجار والأصنام والأوثان، لكن لما زالت تلك المفسدة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يحذر لأجلها من زيارة القبور ترك النبي عليه الصلاة والسلام المنع من زيارة القبور، فقال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر بالآخرة )، فلما غلبت المصلحة على المفسدة أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بزيارة القبور.
إذاً: الذريعة مترددة بين السد والفتح بحسب المصلحة التي ينظر إليها العالم؛ فإذا كان العالم ممن يقصر نظره في تلك المسألة فقد يفتي بالحق وعدم موافقة النص العام الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ينبغي للمفتي أن يكون محيطاً بسائر أعيان النوازل التي ترد على الناس، وأن يعرف مآلاتها، وأن يكون بصيراً بذلك من غير أن يشوب ذلك هوى، وألا ينظر إلى أحوال الناس وأفعالهم سواءً في إعمال النصوص بباب الحق أو باب الباطل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قد هدم مسجد ضرار، وهو في ظاهر الأمر مسجد قد عمل ليعبد به الله جل وعلا، لكنه هدمه تعظيماً للذريعة المفضية إليه من شق صفوف المسلمين، فهذه الذريعة التي أخذ بها النبي عليه الصلاة والسلام وسدها, وجعل كل مصلحة دونها مفسدة؛ لتحقق تلك المفسدة العظمى، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام كل مفسدة في طريق تلك المفسدة العظمى إزالتها من المصالح الراجحة في الشريعة.
ولهذا أمثال هذه القاعدة ينبغي على المؤمن أن يأخذها بالنظر إلى المآلات, لا النظر إلى ذوات النوازل التي تنزل في الناس، ولهذا قد يعظم كثير من الناس المساجد، وكيف تهدم وقد بنيت لله، والله عز وجل قد أمر بعمارة المساجد، وحث عليها، وجعل عاقبتها الجنة.. إلى غير ذلك من النصوص، لكن لما كانت تلك تفضي إلى ذريعة عظيمة من الشر, ومن تفريق المسلمين, وهدم صفوفهم، وكذلك تقوية شوكة المنافقين؛ جعل ذلك من سبل النفاق، وأن ذلك من المساجد التي لم تقم لأمر الله عز وجل، ولا على تقوى منه، ولهذا منع الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من الإقامة في ذلك المسجد.
والأدلة على هذا الأصل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عريضة، وكذلك الخلفاء الراشدين, وقد يتأتى ذلك في العبادات المحضة, فقد يترك العالم عبادة قد تقررت في الشريعة, وظهر منها الدليل؛ لعظم المفسدة المترتبة عليها، كما ترك جملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أحكام الشريعة؛ للمفسدة المترتبة عليها عند الناس، وذلك لما تحقق عندهم أن الترك أولى من الفعل مع ثبوت النص، وهذا يأتي بيانه.
إذاً: قد تحققت في نصوص الشريعة هذه القاعدة, ومن ذلك: منع الله سبحانه وتعالى لأهل الإسلام من سب آلهة المشركين، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، فمنع الله سبحانه وتعالى سب آلهة المشركين، مع أنه من المعلوم أن آلهة المشركين وثن يعبد من دون الله، وهو طاغوت أمر الله عز وجل بإتلافه، ومقاتلة من ركع لها من دون الله سبحانه وتعالى، ومن نذر لها، لكن نهى الله جل وعلا المؤمنين عن سب آلهة المشركين؛ لأن ذلك يفضي إلى مفسدة أعظم من تلفظ المؤمن بالسب؛ وذلك أن يتجرؤوا على سب الله جل وعلا.
قد يقول قائل: إن المشركين ممن يسبون الله عز وجل عملاً، وهذا من أعظم الظلم الذي جعله الله عز وجل ظلماً في قوله جل وعلا على لسان العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فهذا ظلم للإنسان لنفسه، وهضم لحق الله عز وجل, فهو ضرب من ضروب السب لله عز وجل، والإشراك مع الله عز وجل غيره، فإذا تلفظ المشركون بالسب لله عز وجل فلن يزيد ذلك من كفرهم، ولكن يقال: إن المصلحة في ذلك ألا يظهر في مجالسهم كفر زائد عن كفرهم، فإنهم في كفر؛ وهو عبادة غير الله عز وجل، لكن ظهور سب الله جل وعلا ليس بظاهر في مجالسهم، فإذا تجرأ المسلمون على سب آلهتهم؛ سُبَّ الله عز وجل عدواً بغير علم؛ فجعل الله عز وجل من تسبب في ذلك كحال من سب الله عز وجل؛ لأنه تذرع بذلك، والشريعة تنص على جعل المتسبب في حكم الفاعل في بعض الأحيان، كما منع الله سبحانه وتعالى من أن يسب الرجل أبا الرجل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لعن الله من لعن أباه! قالوا: يا رسول الله! أو يلعن الرجل أباه؟! قال: نعم، يسب الرجل أبا الرجل فيسب الرجل أباه )، فجعل المتسبب في حكم الفاعل، فهذا ينظر إليه الناظر من جهة المآل، ولهذا لو لم يرد نص في كلام الله عز وجل: لا تسبوا آلهة المشركين فيسب الله عز وجل، فقد يقول بعض قصار النظر: إن ذلك لا يزيد في كفرهم شيئاً، وهذا من أبواب إثبات العقيدة, وإظهار أنهم كانوا على الكفر، لكن يقال: إن ذلك لا يقتضي إضمار عقيدة التوحيد، ولا بيان خطر الشرك، وإنما يقتضي عدم الإفضاء إلى سب الله سبحانه وتعالى، وإظهار ذلك في مجالس الناس وأنديتهم؛ لأن الله عز وجل يتنزه عن ذلك، مما يدل على أن الشريعة جعلت ذلك من المعتبرات؛ لأن أصل التشريع محافظ عليه، وهو حماية التوحيد, وحماية جنابه.
وقد يلحق في هذا عدم سب الطواغيت من الحكام الظلمة؛ الذين يأطرون الناس على الكفر والإلحاد والزندقة ونحو ذلك؛ لأن ذلك يفضي إلى قمع الحق, مع أن الحق ظاهر ببيانه وبذاته؛ ببيان التوحيد والتحذير من الشرك، فسب الطواغيت والتحذير منهم بأسمائهم صراحة، إذا كان ذلك يفضي إلى سب أعلام الإسلام، ومضايقتهم، ومضايقة الشريعة بذاتها فلا يصح؛ قياساً على حرمة سب آلهة المشركين؛ لأن هذا يفضي إلى هدم الشريعة بذاتها، فيقال: إن هذا من أبواب سد الذرائع، وقد جاء تفسير ذلك عن غير واحد من السلف؛ كما روى ذلك ابن جرير الطبري من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: كان المؤمنون يسبون آلهة المشركين، فسب المشركون الله جل وعلا, فمنعهم الله سبحانه وتعالى من ذلك، وجاء هذا عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, كما جاء من حديث عمرو بن دينار عن عكرمة عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري، وكذلك جاء أيضاً في تفسير مجاهد بن جبر في هذا المعنى من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر على هذا النحو.
وروي عن غير هؤلاء من المفسرين كـعبد الرحمن بن زيد، والسدي ومحمد بن كعب، وغيرهم من أئمة التفسير.
ومن الأدلة على هذا: ما جاء من أمر الله سبحانه وتعالى لمن آمن من المؤمنين بمكة أن يهاجروا إلى المدينة, وكانوا قد كتموا إيمانهم؛ وذلك لأن ذلك يفضي إلى أخذ المشركين لهم في أنديتهم، وتكثير سوادهم، وأن ذلك يفضي إلى أخذهم في معاركهم حتى يقاتلوا معهم، وقد جاء تفسير ذلك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, كما رواه ابن جرير الطبري من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وجاء أيضاً من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى قال: (قاتل فئام ممن يكتم إسلامه من المؤمنين بمكة مع المشركين إذ أخذوهم فقتلوا في صفوفهم، فقيل لهم: استغفروا لهم، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله جل وعلا: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97] ). فبيّن الله سبحانه وتعالى حجتهم في ابتداء الأمر، ثم بيّن عدم العذر وظهور هذه المفسدة: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[النساء:97]، لما كانت هذه المفسدة ظاهرة، وهو أن المشركين قد يأخذونهم للقتال معهم، وإن لم يقاتلوا فهم يكثرون سوادهم في أنديتهم, فحرم الله عز وجل بقاءهم في مكة؛ مع أن هذا لا ينقص من إيمانهم بالظاهر فإنهم يؤدون الصلاة، لهذا ما علق الشارع الحكيم أمر ذلك بظواهر العبادات، وإنما درأ مفسدة أعظم من ذلك؛ وهي أن هذا يدل على تكثير سواد المشركين، وأنهم يقتلون عند ورود المقاتلة من المسلمين للمشركين.
والنصوص في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القاعدة كثيرة؛ من ذلك: ما جاء في الصحيح من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع من حبس فضل الماء ليمنع به الكلأ )، فمنع النبي عليه الصلاة والسلام من منع فضل المياه، وكان الرعاة في الزمن الأول -وما زال هذا عند أهل البوادي- إذا نزلوا عند ماءٍ منعوا من يأتي من أصحاب المواشي عن فضل هذا الماء؛ مع أن الماء كثير لكن قصدهم من ذلك: الكلأ الذي في هذه البلدة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تمنعوا فضل الماء؛ ليمنع به الكلأ )، وذلك أن البهائم إذا أكلت من الكلأ -وهو العشب- عطشت؛ لأنها بذلت جهداً، ثم تحتاج إلى الماء، والعرب إذا وجدت منبتاً ولا يوجد فيه ماء لا تبقى فيه؛ لأن البهائم تحتاج إلى الماء مع الكلأ، فيمنعون الماء ولا يمنعونهم من الكلأ؛ لأن هذا سبيل إلى المنع من الكلأ، فلما كان ذريعة له منعهم النبي عليه الصلاة والسلام من منع الماء، ولهذا يقول العلماء: إن الإنسان إذا جاء على ماءٍ لا يكفيه إلا هو فإنه حق له إذا كان ليس في ذلك كلأ، وإذا كان في ذلك كلأ فإنه لا يجوز للإنسان أن يمنع غيره منه؛ لأن هذا يفضي إلى منع ما أحله الله عز وجل للناس، وهذا من القواعد الظاهرة.
ومن ذلك: ما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها ). فنهي النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة أن تصف المرأة عند زوجها كأنه ينظر إليها؛ للمفسدة المترتبة في ذلك، والمفسدة في ذلك: أن يقع في قلب ذلك الرجل حب تلك المرأة، وأن يولع بها, ويزهد في امرأته، وربما يفضي ذلك إلى المفاسد الكبيرة، ولهذا الشريعة قد حرمت كثيراً من الأمور المفضية إلى كثير من المحرمات؛ كتحريم الشارع للمرأة أن تسافر بلا محرم، وأن يخلو الرجل بالمرأة، وكذلك اختلاط الرجال بالنساء، وأن ينظر الرجل إلى المرأة، ولكن أباح الشارع ذلك للحاجة، فأباح الشارع النظر للمخطوبة؛ لأن الحاجة في ذلك ظاهرة، والعلة من ذلك منتفية، وأباح الشارع للمرأة أن تسافر بلا محرم عند الحاجة والضرورة؛ كأن توجد المرأة في فلاة لا أحد معها فتركب مع غيرها ممن تأمن أن يوصلها إلى بلدها؛ كما فعلت عائشة عليها رضوان الله تعالى حينما ركبت مع صفوان عليه رضوان الله تعالى، فإنه لا حامل لها ولا أمان لها إلا بمثل هذه الحال، فيرخص حينئذٍ في أمثال ذلك للحاجة، فيقال: إن ما سد لأجل الذريعة يفتح لأجل ذريعة معلومة.
ولهذا يقول العلماء: إن الذرائع تنقسم إلى أقسام: ذريعة قد دل الدليل على تحريمها بذاتها، فإنها لا تحل بحال إلا للضرورة، كحال ما حرم لذاته، كالميتة والدم ونحو ذلك مما حرمه الله عز وجل.
والعلماء عليهم رحمة الله تعالى يقسمون المحرمات فيما حرمه العلماء ونص على تحريمه إلى قسمين: ما حرم لذاته, وما حرم لكونه ذريعة إلى محرم. فقالوا: ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وأما ما حرم لغيره فدل على أن التحريم ليس لذاته، فيجوز للعالم أن يرخص فيه للحاجة، بخلاف ما حرم لذاته فإنه لا يجوز بحال إلا في حال الضرورات، ومعلوم أن حال الضرورات أعلى من حال الحاجيات، فإن الإنسان إذا احتاج إلى أن يقضي شهوته لا يقال له بالزنا، لكن إذا أراد أن يخطب امرأة رخص له بأن ينظر إليها مع أنه كان محرماً عليه أن ينظر إليها قبل ذلك؛ لأن هذا من باب سد الذرائع فرخص للحاجة، وذاك من المحرم لذاته فإنه لا يحل بحال للإنسان، وهذا هو الفرق بين ما حرم لذاته, وما حرم لأجل سد الذريعة، ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يجعلون الذرائع هي ما بين سد وفتح، وأما ما دل عليه الدليل بنص ظاهر، فإن هذا يكون مما له حكم ما هو محرم لذاته، كحال الخمر مما حرمه الله عز وجل؛ لأن هذا يفضي إلى زوال العقل، فلما كان يفضي إلى زوال العقل حرم قليل الخمر، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أسكر كثيره, فقليله حرام )، فحرم القليل؛ لأنه يفضي إلى غيره، قد يقال بأن القليل هو من جملة سد الذرائع بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن حتى لا يكون ذلك من جملة ما يستهان به بنصوص الشريعة فيدخل في أبواب ما حرم لذاته، ولكن عند المفتي والعالم قد يرخص به للحاجة؛ كمسألة ما يستعمل في البنج أو التخدير ونحو ذلك, فيرخص في أمثال هذه الأحوال من باب الحاجيات لا من باب الضرورات، فإن الإنسان قد يتحمل على سبيل المثال: أن يجرى له عملية في أصبعه أو في رجله يسيرة من غرز لجرح ونحو ذلك مما يتحمله أكثر الناس، ولكن دفع ذلك الألم اليسير إذا كان من باب الحاجيات يرخص فيه؛ إذا لم يتحقق فيه مفسدة أعظم من ذلك؛ وهي زوال العقل، فإن زوال العقل لا يرخص فيه بحال إلا في حال الضرورة من حفظ نفس للإنسان، وهذا يقدر بقدره، والنصوص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة.
ومن الأدلة في ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاعدة سد الذرائع: ما جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من قطعه لشجرة بيعة الرضوان، وذلك أنها كانت وسيلة للإشراك مع الله عز وجل غيره، فلما كانت كذلك عمد عليه رضوان الله تعالى إلى إتلافها؛ لأن ذلك يفضي إلى عبادة غير الله عز وجل، فكان ذلك من جملة الأحكام الواجبة, ولهذا حرم الشارع تعليق التمائم والتولة, وكذلك قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول: لولا الله وفلان؛ لأن هذا يفضي إلى تعظيم ذلك الذي يتعلق به الإنسان كتعظيم الله عز وجل، فيكون حينئذٍ قد وقع في الكفر والشرك، وقد جعلت أمثال هذه من الشرك الأصغر؛ لأنها وسائل إلى الشرك الأكبر، ولما كان الشرك الأكبر هو أعظم المحرمات وأعظم الظلم على الإطلاق؛ كانت وسائله أعظم من سائر الكبائر، هذا من جهة الأصل، ولهذا ابن القيم عليه رحمة الله يقول: إن الشرك الأصغر هو باب بين الكبائر والشرك الأكبر، ولهذا اختلف العلماء في الشرك الأصغر هل يدخل في أبواب الغفران أو لا يدخل فيها؛ بمعنى: هل يدخل تحت التعميم في قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، أي: يدخل في باب الغفران كسائر الكبائر أم لا؟ على خلاف في هذه المسألة على قولين، ولشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى في هذه المسألة قولان: قول في عدم الدخول، وقول بالدخول، والذي يظهر والله أعلم: أن ذلك يدخل في باب الغفران، ومن العلماء من قال: إنه لا يدخل باعتبار العموم، ولكن يقال: إن الشرك إذا ذكر في كلام الله عز وجل فإنه ينصرف إلى الشرك الأكبر إلا لقرينة ظاهرة تصرفه عن ذلك، ولهذا حرم الله عز وجل على من أشرك معه غيره الجنة، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ[المائدة:72]، فإذا قلنا: إن الشرك الأصغر يدخل في كل لفظٍ شركي ورد في كلام الله عز وجل، فإنه يلزم من ذلك أن نحرم الجنة على من أشرك مع الله عز وجل غيره شركاً أصغر، وهذا لا يمكن أن يتحقق في كثير من المواضع التي حرم الله عز وجل الجنة على من وقع في الشرك أو الكفر.
وهذا كما أنه في الوسائل كذلك أيضاً يكون في العبادات, فقد يترك العالم مسألة ثبت الدليل فيها بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذريعة يخشى منها، وقد ثبت عن أبي بكر وعمر بن الخطاب -كما عند البيهقي وغيرهما- أنهما ترك الأضحية؛ مخافة أن يظن الناس أنها فريضة، ومعلوم أن صون شريعة الإسلام أن تختلط عند الناس من عدم تمييزها: أن هذه فريضة, وهذه سنة؛ صونها واجب، وأن الشريعة جاءت لحفظ أموال الناس وصونها، فلا يخرج الفقراء أموالهم وهم في حال حاجة لها من قوت ونحو ذلك, فلما كان هذا الأمر بهذه الحال صان الخلفاء الراشدون عليهم رضوان الله تعالى ذلك بترك الأضحية؛ فجعلوا ذلك دون ذلك؛ صوناً لأصل الشريعة.
وهذا يختلف فيه أنظار كثير من الناس بحسب المآلات، ولهذا يكثر عند كثير من المفتين، أو عند طلاب العلم الاختلاف في كثير من النوازل، والسبب في ذلك أنهم ينظرون إلى متعلقات النوازل بالنصوص، ولا ينظرون إلى متعلقاتها بالمآلات، فتجرد منهم أحد شرطي الاجتهاد؛ وهو معرفة المقاصد، فإذا تجرد من الإنسان معرفة المقاصد لم يكن أهلاً للفتيا، وقد يكون العالم من أهل المعرفة بالمقاصد، ولكنه يجهل مآل نازلة بعينها، ويفتي بها على عجل، ويقع حينئذٍ في الخلاف والاضطراب، ثم إن ذلك لا يمنع العالم من الرجوع إذا علم أن تلك المآل قد زالت، فإذا أفتى عالم من العلماء بسد باب من الأبواب لذريعة توصل إليه من المحرمات؛ فإنه إذا زالت تلك الذريعة ينبغي عليه -ديانة لله عز وجل- أن يفتي بإباحتها إذا زالت تلك الذريعة، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يمنع من زيارة القبور، ثم زالت تلك الذريعة؛ وهي خشية أن تبذل العبادة لغير الله عز وجل -وذلك خطر عظيم- فلما زالت تلك المفسدة وبقيت مصلحة لا تقاوم تلك المفسدة وهي التزهيد بالدنيا، وتذكر الآخرة، وهي مصلحة يمكن تحقيقها في غير ذلك؛ رخص النبي عليه الصلاة والسلام لأجلها؛ لزوال تلك المفسدة، واستقرار التوحيد وظهوره في الناس, وكذلك تحطيم أصنام الشرك في جزيرة العرب مع بقاء ذلك.
ولهذا قد يقال: إن العالم قد يفتي بتحريم زيارة الرجال للقبور إذا كان في بلد من البلدان ينتشر في ذلك الإشراك مع الله عز وجل غيره، فإذا وجد ذلك وجب عليه حينئذٍ أن يفتي بذلك؛ لأن هذا الأمر في ظاهر النص متعلق بالذريعة؛ كما هو ظاهر في النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمثلة فيه كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أئمة الإسلام.
وينبغي للعالم -وهذه مسألة مهمة- أن يتجرد لله عز وجل حال الفتيا، خاصة مع انتشار الأقوال، وكثرة النقدة، وعدم ميلهم إلى الحق، وأخذهم بظواهر الأمور، وكثرة الجهال، وكذلك علو صوت المنافقين بمهاجمة أهل الحق، وينبغي أيضاً ألا يتخذ العالم صوت المنافقين وسيلة لعدم إفتائه بالحق إذا وافق مع عليه المنافقون ظاهراً، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام منع من قتل بعض المنافقين؛ خشية أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وهذا ينبغي للعالم أن يتخذه بالنظر إلى المآلات, والنظر إلى النص، والنظر أيضاً إلى القرائن.
فبالنظر إلى النص: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقتل المرتد إذا ظهرت منه الردة، والنظر إلى المآلات: أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه, فامتنع النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وهو القائل: ( من بدل دينه فاقتلوه )، ولهذا رغب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإقدام على قتل بعض المنافقين, فمنعه النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك ولم يزجره؛ منع من ذلك تغليباً لهذه القاعدة: ( أتريد أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ), لكن ما قال: إنه دم معصوم، وإنما هو تغليب لتلك المصلحة.
والقرينة التي يؤخذ بها أيضاً: أنه لا يلتمس أيضاً لكل أحد تذرع بذلك بترك المرتدين بالاقتداء بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد من يترك المنافقين فيدع لهم المنابر بالحديث، وتصديرهم بالمجالس، ومواجهة الحق, وعلو صوته، وإذا قيل له بقتل المنافقين استدل بحادثة: ( لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ), فالنبي عليه الصلاة والسلام حجم دور المنافقين، وضايقهم, ولم يجعل عليه الصلاة والسلام لصوتهم علواً، وكذلك أصحابه عليهم رضوان الله تعالى مع إكرامهم في الظاهر؛ لأن الإكرام في الظاهر لا يعني علو الرأي، فإن علو الرأي أن تظهر أقوالهم على الملأ للناس من غير نكير، وهذا يؤخذ به بالحال باختلاف حال النبي عليه الصلاة والسلام, وكذلك حال كثير من الناس الذين يتساهلون في أبواب معاملة كثير من المنافقين.
ثم أيضاً ينبغي التجرد لله عز وجل حال الفتوى، ومعلوم في هذا الزمن نالت كثير من السهام النصوص الشرعية، ونالت كثيراً من العلماء أيضاً, ووصفهم بكثير من الأوصاف التي كان يخشى منها النبي عليه الصلاة والسلام أن يوصف، من التحديث بقتل أصحابه، وهذه ذريعة أدركها المنافقون فأرادوا أن يجلبوا بها بأن يحجموا من دور النصوص وإفتاء العلماء أخذاً بسنة أسلافهم الذين يطيرون بالأقوال كل مطار، ولهذا أحجم النبي عليه الصلاة والسلام عن جملة من الأحكام الشرعية تحقيقاً لمصلحة أعظم، ومن نظر إلى كثير من الأحكام التي فعلها النبي عليه الصلاة والسلام تحقيقاً لهذه القاعدة وعملاً بها؛ وجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظ للنص قدره، وحفظ للشريعة مكانها من غير تبديل، وهذا ما هو مطلب على كل عالم وكل حاكم؛ أن يحفظ للشريعة مقامها, وقد يتجوز الإنسان في أبواب التطبيق سداً للذرائع، كما حفظ عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى النص بقطع يد السارق، ولكنه لما كان عام الرمادة لم يقطع يد السراق؛ لأن ذلك عام فقر، ويفضي ذلك إلى الإضرار بالناس، فغلب جانب الإضرار بالناس بقطع يد السارق وأذيته على التطبيق من جهة النزول, واعتبار الشرع مع حفظ النص, وأنه محكم يجب تطبيقه، وعليه يقال: إن بعض نصوص الشريعة الثابتة في كلام الله سبحانه وتعالى بنص قاطع قد تدخل في أبواب الضرورات فتفتح لمصلحة يفتحها أهل العلم والمعرفة، ولهذا أخذ العلماء عليهم رحمة الله تعالى قاطبة من الأئمة الأربعة وغيرهم بهذه القواعد.
نكتفي بهذا القدر، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر