الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد تكلمنا في المجلس السابق على ما يتعلق بمتعة المطلقة ومتعة المتوفى عنها زوجها، والنفقة.
ونتكلم هذا اليوم عن مسألة من المسائل المهمة، وقد جاءت هنا عرضاً في قول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246].
هذه الآية فيها جملة من المسائل المهمة التي نتكلم عليها لأجلها، ويظهر فيها مسالتان.
وقبل الدخول في هاتين المسألتين نتكلم على ما يتضمن هذه الآية من بعض المعاني، وكذلك أحوال الأمم السابقين.
الله سبحانه وتعالى ذكر بني إسرائيل وذكر أنبياءهم في مواضع عديدة من كتابه سبحانه وتعالى، وهذه الحكاية التي ذكرها الله عز وجل في هذا الموضع إشارة إلى نبي من أنبياء الله عز وجل من بني إسرائيل يعني: من بين موسى وعيسى عليهما السلام، والأنبياء بين هذين النبيين كثير، ذكر الله عز وجل وقص علينا شيئاً منهم، ولم يقصص الله عز وجل لنا كثيراً منهم.
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع نبياً من أنبيائه وكذلك حاله مع قومه، أضمر الله عز وجل اسمه ولم يذكره، وهذا فيه إشارة إلى كثرة الأنبياء؛ ولهذا قال الله جل وعلا: مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] أي: أن ثمة أنبياء كثر، من هؤلاء الأنبياء نبي قال له قومه: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، فتضمنت هذه الآية دلالة على وفرة الأنبياء بين موسى وعيسى.
وكذلك من الأمور المهمة أن يعلم أن سائر الأنبياء الذين بعد موسى إنما جاءوا لتجديد شرعة موسى، ولم يأتوا بشيء جديد إلا عيسى عليه الصلاة والسلام، فإنه جاء بشرعة جديدة من بعض الوجوه وليس بشرعة تامة، وهذا ظاهر في قول الله سبحانه وتعالى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50].
إذاً: فجاء بشيء من المغايرة عن شرعة موسى، وأما من كان من الأنبياء من قبل عيسى عليه السلام فإنهم يجددون ما اندثر، ويبينون ما انطمس أو بدل أو حرف من شريعة موسى عليه السلام، فيحيون ذلك، فهم كحال المجددين، يبعث الله عز وجل إلى قوم نبياً، وإلى قوم نبياً، وربما بعث الله عز وجل في زمن واحد عدة أنبياء في تلك الحقبة، وربما بعث الله عز وجل إلى قوم عدة أنبياء وهم في بلدة واحدة.
الله سبحانه وتعالى قص هذه القصة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، والمقصود من ذلك الاعتبار لما تتضمن فيه جملة من المسائل ويأتي الإشارة إليها.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ [البقرة:246] يعني: يا محمد، إلى هذه الحكاية وحال ذلك النبي من بني إسرائيل، وهذا النبي جاء في بعض الإسرائيليات تسميته ومنها ما يصح إلى قائله، ومنها ما لا يصح إلى قائله، منهم من يقول: إن اسمه شمويل بن بالي بن علقمة، وهذا جاء عن بعض المفسرين ممن يهتم بجانب الإسرائيليات، كـوهب بن منبه، ومنهم من قال: إنه شمعون، ومنهم من قال: إنه يوشع بن نون، وهذا قول قتادة وغيره من المفسرين، وهذه من جهة الأصل لا دليل عليها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من أقوال بعض المفسرين من السلف، ومردها والله أعلم إلى بعض الإسرائيليات.
وإنما ذكر أيضاً في قوله هنا: مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] إشارة إلى أن ما وقع من ذلك إنما هو في شرعة موسى كذلك، وهذا يتضمن أن الجهاد في سبيل الله هو في شرعة موسى كما هو في شرعة الأنبياء من بعده؛ لأن الأنبياء يجددون من اندثر من تلك الشريعة، والأدلة على ذلك في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن شرعة الجهاد شرعه الله سبحانه وتعالى لكثير من الأنبياء، ومنها هذه الآية.
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه الله عز وجل ببعض الخصائص في مسائل الجهاد كمسألة الغنائم، فإن الله عز وجل أحلها لنبيه عليه الصلاة والسلام ولم يحلها لمن قبله من الأنبياء الذين يقاتلون في سبيل الله.
ومن العلماء من يقول: إن القتال على نوعين: هو قتال طلب ودفع، والذي شرع على الأمم السابقة هو قتال الدفع لا قتال الطلب، وأما الطلب فهو خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أيضاً نظر.
ويأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل في موضعه، وتقدم معنا الإشارة إلى شيء من هذه المسائل.
في قوله هنا: إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] في هذا إشارة إلى مسألة وهي المرادة من إيرادنا هنا، وإشارة إلى مسألة أخرى في قوله جل وعلا: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246] هاتان المسألتان: الأولى: مسألة الخليفة والتأمير على القتال في سبيل الله، والذي طلبه قوم ذلك النبي من ذلك النبي، فقالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246].
المسألة الثانية: وهي مسألة القتال لأجل البلد؛ لأجل الأرض، فهم يقاتلون لأجل أرضهم وسماه الله عز وجل قتالاً، كما نقلوه، فذكره الله سبحانه وتعالى في سياق الإقرار: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فسماه الله عز وجل قتالاً، وكذلك في سبيله لأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، فالقتال لأجل الدفاع عن الأرض أو الدفاع عن الدم، أو الدفاع عن العرض، هو جهاد في سبيل الله.
المسألة الأولى: وهي ما تتعلق بمسألة التأمير في القتال، هؤلاء القوم طلبوا من نبيهم أن يبعث إليهم ملكاً يقاتلون في سبيل الله، فهم ينتظرون الملك الذي يتأمر عليهم للقتال، في هذا أهمية التأمير للقتال، وهذا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وحظ عليه في مواضع عديدة، حتى في سفر الأمن، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( كان إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله )، وجاء أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم )، وجاء في حديث أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله قال: ( إذا خرجتم وأنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم )، وهذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر الأمن، فكيف في سفر الحرب، ثم إن الحرب والقتال يحتاج إلى الجماعة، وذلك أن الحروب تعتمد على المخادعة، وكذلك المؤازرة، المؤازرة تكون فيما بين المسلمين والمخادعة، وكذلك التربص إنما يكون بين المسلمين وبين عدوهم، فهم بحاجة إلى الاجتماع، فلو كان أمر المقاتلين في ذلك كل واحد إلى نفسه؛ لأصبح أمرهم في ذلك إلى شتات، فكل واحد له جهة يقوم بها، إما بحراستها وحمايتها، أو بالرمي فيها، فربما تقاتلوا وتراموا، فإذا تفرقوا وأصبحوا أوزاعاً أصبح في ذلك ضرر عليهم في داخلهم وتشتت أمرهم، ومكر بهم عدوهم، وكلما كان المكر في ذلك والخديعة في مسألة القتال والمناورة، والتورية في القتال، فإنه يكون في ذلك الغلبة في الأغلب، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح قال: ( الحرب خدعة )، يعني: الأصل فيها المخادعة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( الحج عرفة )، يعني: هي أم الأمر من جهة المناسك، كذلك في مسألة الحرب إذا لم يكن ثمة مخادعة ومناورة وتورية، فإنه لا يكون في ذلك انتصار وقوة وغلبة.
وفي هذا إشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب المادية في مسألة المغالبة من جهة الرأي، والسياسة، فإن الناس في ذلك يتباينون، وبحسب أخذهم بهذه الأسباب.
والتأمير في القتال واجب، وإذا قلنا بوجوبه في الأمن فإنه يقال في الحرب والجهاد من باب أولى، وتشريعه في ذلك ظاهر لا يختلف فيه، وإنما ثمة خلاف في بعض السور التي يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى، وتدل هذه الآية على أن شرعة التأمير في الجهاد شرعة مقترنة بأصل تشريع الجهاد، وإلا لا يتحقق الجهاد بقتال الناس أوزاعاً، خاصة ما يتعلق بجهاد الطلب، فإن ذلك يحتاج إلى التأمير أكثر وأظهر من جهاد الدفع، وذلك أن جهاد الدفع يشق ربما على الناس في بعض الأحوال التواطؤ والاجتماع، باعتبار أنهم يدفعون، وكل واحد يدفع بحسب قرب عدوه، أو بحسب الثغر الذي ينال منه من جهته.
وكانت بنو إسرائيل فيهم ملوك وفيهم أنبياء، والملوك يأتمرون بأمر الأنبياء، فطلبوا من النبي أن يبعث إليهم ملكاً من ملوكهم حتى يأتمروا بأمره، وإقرار ذلك النبي لهم على سؤالهم، ومراجعته لهم في هذا الأمر إشارة إلى أنه لا يكون الجهاد إلا بالاجتماع.
وفي قوله هنا: قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، هنا نبيهم خشي عليهم أن يفرض عليهم القتال وألا يقاتلوا، وإنما أخذ ذلك النبي في ظاهر السياق مما يعلمه من حالهم، من عدم الثبات والعزيمة والقوة، ومخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، أو ما سلف من حالهم من نقض العهد، فهم أعطوه وعداً بالقتال، وأرادوا ملكاً يقاتلون معه، فخشي عليهم أنه إن كتب عليهم القتال ألا يقاتلوا، فيأثمون حينئذٍ وهم في سعة من أمرهم.
وفي هذا دلالة على أنه ينبغي لأمير المسلمين أو أمير الجيش ألا يتخذ مقاتلاً إلا وهو صاحب عزيمة وقوة حتى لا تخذل الأمة به، ولهذا راجعهم في هذا الأمر فيما يعلمه من حالهم، وتكون المفسدة في ذلك على حالين: مفسدة خاصة في ذات الإنسان في دينه، وهي أنه إن انتكس في حال التقاء الصفين ويوم الزحف أثم وارتكب موبقاً من الموبقات، وهذا من الآثام الخاصة، ومفسدة عامة على الأمة بعمومها، بحيث تؤتى الأمة من قبل ذلك الضعيف أو غير الثابت، فإن الأمة إذا غلبت في ذلك كانت من قبل فرد كانت المفسدة في ذلك عامة.
وقوله هنا: قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:246]، في هذا إشارة إلى أن الأمير إذا وضع على الجيش وجب عليهم أن يأتمروا بأمره، وذلك أنه في ظاهر هذه الآية أنهم طلبوا ملكاً يقاتلون معه، فأرجعهم وراجعهم نبيهم في ذلك وأصروا على أمرهم، فبين لهم أنه إن بعث ملكاً ليقاتلوا معه ظاهر الأمر أنه يكتب عليهم القتال، فلا يجوز لهم أن يرجعوا حينئذٍ إلا بإذنه، وإذا رجعوا من غير إذنه أثموا.
وفي هذه الآية دلالة على أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ بما سلف من أحوال الناس، وذلك كحال المنتكسين أو حال الضعفاء، أو غير ذلك، فينظر إلى أحوالهم، ثم يحكم فيها الحال، فهذا النبي نظر إلى حالهم في السالف بنقض العهد، وعدم الثبات، والقوة والعزيمة، شكك بأمرهم في أمر الحال، وهذا هو الاعتبار، وكذلك سبر الأحوال السالفة والحكم على الأمر الحالي لأجل ما سلف.
قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246].
المسألة الثانية في هذه الآية، ونتكلم عليها بتفصيل بعد استيعاب المسألة الأولى، ذكرنا المسألة الأولى وهي ما يتعلق بمسألة التأمير بالجهاد، وأما المسألة الثانية هي مسألة القتال لأجل الأرض، نتكلم عليها بالتفصيل بعد إتمام المسألة الأولى.
ذكرنا التأمير ووجوبه من جهة الأصل في الجهاد، ونقول: إن الجهاد على نوعين: جهاد طلب وجهاد دفع، وأما جهاد الطلب فلا يختلف العلماء في وجوب التأمير فيه؛ لأن أمر المسلمين في ذلك على سعة، وهم الذين يملكون أمرهم من جهة الخروج ومن جهة الإمهال والإنظار، وكذلك في المبيت ولقاء العدو، وكذلك المعاهدة والسلم بخلاف جهاد الدفع فإنهم يدفعون عن أنفسهم، وذلك لصولة العدو عليهم.
يتفق العلماء على وجوب التأمير في جهاد الطلب، ولا خلاف عندهم في ذلك، ووجوبه في ذلك هل هو موجب لشرعية الجهاد، بحيث أنه لا يشرع الجهاد إلا مع تأمير، أم أن ذلك واجب منفك عن أصل التشريع؟
فنقول: اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في مسألة مشروعية أصل الجهاد على عدة أقوال هل الجهاد من جهة الأصل لا يشرع إلا بأمير، إذا قام موجبه إلا بأمير، وإذا لم يكن ثمة أمير يؤمر على المسلمين ويقوم بذلك الأمر، أو كان فقامت طائفة بالقتال من دونه، فهل وجود الأمير في جهاد الطلب من جهة الأصل هو شرط لصحة تحققه في الشريعة وإلا لا يسمى جهاداً؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: ذهب جمهور العلماء إلى وجوبه، وهذا هو قول الحنفية، والمالكية وهو المشهور عند الحنابلة في أن الجهاد لا بد فيه من أمير بكل حال، وثمة استثناءات يأتي الإشارة إليها.
القول الثاني وهو قول الشافعية، أنهم قالوا: إن الأمير في وجوده في ذلك الوجوب منفك عن صحة القتال، وأن القتال من دونه مكروه ولا يحرم، فلو قاتل الإنسان في ثغر قام موجبه من غير إذنه صح عمله من غير إثمه، ويحملون ذلك على الاستحباب، وهذا في حال عدم قيام الأمير على المسلمين، وذلك أن المسلمين إذا قاموا في قتال وتأمر عليهم أمير تحقق وجود الأمير فوجب عليه الطاعة، فحينئذٍ قالوا بوجوب طاعته وعدم الخروج عنه، وأما إذا لم يقم موجب الجهاد، فأراد طائفة من المسلمين أن يقوموا بالجهاد، فنقول: هذه مسألة ليست داخلة في هذا الخلاف.
القول الثالث وهو قول الظاهرية: إذا قام موجب الجهاد ولم يكن ثمة أمير أو لم يأمر الأمير بالجهاد في حال قيام موجبه، فالجهاد حينئذٍ جائز ولا يأثم صاحبه.
وتحرير هذه المسألة وتحقيقها أنه ينظر إلى أحوال:
الحالة الأولى: أنه في حال تأمر أمير على المسلمين في جهاد أنه يجب عليهم أن يطيعوه، ولا تحمل هذه المسألة التي نتكلم عليها على هذا التقرير.
الحالة الثانية: في حال عدم قيام موجب الجهاد، فمنع منه أمير المسلمين فإنه يجب في ذلك أن يطاع لعدم قيام موجبه من جهة الأصل، وأما الكلام على هذه المسألة في حال قيام موجب الجهاد وعدم وجود أمير يأمر به، فيتحقق حينئذ قول الشافعية عليهم رحمة الله، وكذلك قول الظاهرية في هذا الباب.
وأما جهاد الدفع في حال ورود عدوٍ على بلدٍ من بلدان المسلمين، أو قرية من قراهم، أو أن يستبيح حرمةً من حرماتهم، كأن يستبيح مالاً أو بستاناً، فيسطو عليه أو نحو ذلك، فإنه يجب أن يدفع قدر الطاقة، وهل يجب في ذلك أن ينتظر الناس أميراً أو ملكاً عليهم؟ يقال: إنه لا يجب في ذلك، بل الدفع في ذلك على قدر الحال، وجهاد الدفع هو من جنس دفع الصائل، فإذا أوجبت الشريعة دفع الصائل فإنه يكون من باب أولى ما يتعلق بدفع المشركين، ودفع الصائل هو الذي يصول من المسلمين أو من السباع، أو غيرهم على إنسان من الناس، فإنه يجب أن يدفع عن ماله، أما إذا كان عدواً كافراً فإنه يسمى بجهاد الدفع، ولهذا نقول: لدينا مسألتان تتشابهان في الصورة:
المسألة الأولى: دفع الصائل، فهذا إذا أطلق فيطلق في الغالب على الصائل الذي يصول على مسلم أو جماعة، ويكون الصائل في ذلك مسلماً، فاسقاً، أو يكون في ذلك حيواناً مفترساً كأن تأتي ذئاب أو سباع أو نحو ذلك فتدفع قدر الوسع، أو ربما بعض البهائم الإنسية التي توحشت، فحينئذٍ ربما تصول على الإنسان أو على ماله أو نحو ذلك، فتدفع ولو أهلكت، فيدفع الإنسان عن نفسه ويدفع الإنسان عن ماله قدر وسعه وإمكانه.
وأما الصورة الثانية: وهي جهاد الدفع، إذا صال عدو من المشركين على بلدٍ من بلدانهم فيجب عليهم أن يدفعوا عن ذلك البلد.
وأما على من يجب جهاد الدفع؟
يجب على من صيل عليه ومن حوله، وتتسع دائرة الوجوب حتى يكتفى في ذلك، وهذا يظهر في حديث قابوس بن أبي المخارق عن أبيه كما جاء عند الإمام أحمد وكذلك النسائي لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! إن الرجل يأتيني يريد مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعطه مالك، قال: فإن غلبني، قال: فاستنصر بالسلطان، قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: فبمن حولك من المسلمين، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين، قال: قاتل دون مالك )، فيقاتل دون المال، وهذا يكون بمن حوله، فإذا كان ثمة قرية فيستنصر بمن حوله، ويجب على من حولهم، ويجب كذلك على من حولهم، ويجب على من حولهم، حتى تقوم في ذلك الكفاية.
ونقول: في مسألة الوجوب هو شبيه بمسألة حق الجوار، وذلك أن حق الجار يجب على أدناهم، وهذا حتى في مسائل التحريم وحماية العرض، ولهذا قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( لما قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك ) ، فالزنا بحليلة جار الأدنى أعظم من الزنا بحليلة الجار الأبعد، والزنا بحليلة الجار الأبعد أعظم من الزنا بحليلة الجار الذي هو أبعد منه وهكذا، فكلما دنا عظمت حرمته لعظم حقه، وكذلك في مسألة النصرة، فإذا كان ثمة عدو من الأعداء صال على بلد من المسلمين، فيجب على أهل البلد عيناً، ويجب على من حولهم، ويعظم الحق في ذلك مع اتساع الواجب وعظم الأمر، وهذا بحسب الحال في بلدان المسلمين، وبحسب النوازل، والنوازل في ذلك تتباين.
وفي قوله هنا قال: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، المسألة الثانية وهي مسألة الدفاع عن الأرض، أن يدافع الإنسان عن أرضه، وهو جهاد في سبيل الله، ونقول كما تقدم: إن الجهاد على نوعين: جهاد طلب وجهاد دفع، جهاد الطلب لا بد فيه من توفر النية، أن تكون كلمة الله هي العليا، وهذا ظاهر كما جاء في الصحيح، في قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )، يعني: من قاتل بغير هذه النية فليس في سبيل الله، فالذين يقاتلون في قتال الطلب، فيطلبون عدواً لأجل الثروات، أو لأجل ملك الأراضي أو نحو ذلك، فهذا ليس في سبيل الله، فجهاد الطلب لا بد فيه من نية، وجهاد الدفع لا يشترط فيه نية، ويقوم الإنسان بالدفع عن حقه في ذلك، سواءً كان فرداً دهمه عدو، أو كانوا قرية صغيرة، أو كان بلداً كبيراً، فيدفعون قدر وسعهم وإمكانهم ذلك العدو.
والدليل على ذلك: ما جاء في حديث سعيد بن زيد وهو في السنن وأصله في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قاتل دون ماله فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فهو شهيد، ومن قاتل دون نفسه فهو شهيد )، فالذي قاتل دون نفسه، والذي يقاتل دون ماله، والذي يقاتل دون أهله فهو شهيد، فإذا جاء عدو وخرج الانسان ليدفع عن عرضه، أو يدفع عن ماله، أو يدفع عن أرضه فهو في سبيل الله، وهو شهيد كذلك إذا قتل ولو لم يستحضر الإنسان في ذلك نية.
وهذا ظاهر أن الإنسان إذا فاجأه عدو من الأعداء، فدخل عليه في داره، ودخل عليه في بلده، لا يستحضر الإنسان في ذلك نية، ولهذا نقول: إن الشروط في ذلك تسقط، وهي شروط الولاية، ووجود أمير على المسلمين، وكذلك النية لا يشترط في ذلك الأمر.
كذلك أن يدفع الإنسان بما يستطيع أن يدفع، ولا يوجد شرط فيما يقابله، وأما بالنسبة لجهاد الطلب فإنه يدعوهم إلى قول: لا إله إلا الله، على خلافٍ في المشركين وفي أهل الكتاب فيما بعد ذلك، فيدعو الجميع إلى قول: لا إله إلا الله، فإن امتنعوا، أما المشركون فيقاتلهم في كل حال على قول عامة العلماء، وأما بالنسبة لأهل الكتاب فإنه يعرض عليهم بعد ذلك الجزية، فإن قبلوها فعاهدهم على ذلك، وأما المشركون فقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في مسألة أخذ الجزية منهم، ويأتي الكلام على هذه المسألة بإذن الله تعالى وهذا إشارة إلى أن جهاد الدفع لا يشترط فيه شرط، وإنما يدفع الإنسان قدر وسعه وإمكانه وما مقدار المدفوع عنه الذي يدفع عن الإنسان؟ الإنسان أريد على شيء من ماله يسير، نقول: من جهة الدفع فإن الإنسان يدفع عن ماله ولو قل؛ لأنه حق له، ولهذا جاء في حديث قابوس عن أبيه لما قال: ( إن الرجل يأتيني يريد مالي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تعطه مالك ) ، ما سأل مقدار ذلك المال، فإذا أريد عن ماله ولو شيئاً يسيراً، كأن يكون الإنسان يراد من ماله وهو صاحب غنم، يراد منه شاة، أو يراد منه ناقة، أو من بستان يراد منه ثمراً يؤخذ منه، فيدفع عن ماله، ولو قتل في ذلك فهو شهيد، إلا أن هذا من جهة حقه في دفعه عن ماله، وأما في مسألة أن الإنسان يضع من ماله ما شاء ليسلم في نفسه، يرجع في ذلك إلى أمر سياسته والنظر في الفاضل والمفضول في ذلك، ويرجع في ذلك إلى سياسة الإنسان وإدراكه لما صلح من أمره وما يفسد كذلك.
ومرد ذلك ليس إلى قيم الأشياء، ربما إلى المعاني، ربما أن يراد من بلدٍ من بلدان المسلمين شيئاً يسيراً، شبراً، وهذا فيه كسر لشوكة المسلمين، وقد يقال: بأنه شبر.
إذاً: الأمور المعنوية ربما تغلب الماديات، فينتصر له ولو كان شبراً، وربما يتقاتل المسلمون لأجل واحدٍ من المسلمين، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عثمان بن عفان إلى أهل مكة وبلغه خبراً لم يكن صحيحاً أنهم قتلوا عثمان، جمع النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين وبايعهم على الموت لأجل عثمان عليه رضوان الله لما بلغه أن مشركي قريش قتلوه، ولهذا يرجع في هذا إلى الأمر، وذلك أن عثمان بن عفان أولاً لمنزلته وقربه من النبي عليه الصلاة والسلام، الثاني: أنه رسول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قتله إهانة، بخلاف لو قتل أحدٌ من المسلمين ولم يكن ثمة أمان أو عهد كحال الرسل أو قتل عابراً، أو كان راعياً، أو نحو ذلك، ينظر في ذلك بحسب المصالح التي تكون للمسلمين، وذلك من الأمور المادية والمعنوية.
وقوله هنا: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، هذا على ما تقدم فيه الدفاع عن الأهل والعرض على ما جاء في حديث سعيد بن زيد، وكذلك أيضاً في الدفاع عن المال بمسألة الديار ونحو ذلك.
وقوله هنا: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]، هذا فيه إشارة إلى صدق ما ظنه النبي فيهم، وذلك أنه ظن بنظره إلى حالهم في السابق أنهم لن يقاتلوا في حال كتب الله عز وجل عليهم القتال، فلما كتب الله عز وجل عليهم القتال تولى أكثرهم عن المقاتلة، وكانوا في ذلك ظالمين لأنفسهم وظالمين لغيرهم.
وهنا في هذه الآية من المسائل ما تقدم الإشارة إليه، وثمة تتمة هنا في مسألة الولاية في الجهاد والتأمير، وذلك أن نبيهم قال لهم: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247]، بعث الله سبحانه وتعالى لهم ملكاً بحسب ما أرادوا، لأنهم رغبوا القتال، فأرادوا من ذلك أن يكون أميراً عليهم.
وفي هذا إشارة إلى معنى من المعاني الذي يحتاج إليه، وهي: مسألة القيادة والإمارة في الجهاد، ذكر الله سبحانه وتعالى خصلتين لـطالوت: الخصلة الأولى: العلم، بسطة العلم.
الخصلة الثانية: بسطة الجسم، وهذا ظاهر، وفيه يقال: إن أولى ما يؤمر في الجهاد من جمع بين هاتين الخصلتين، وهي: بسطة العلم وبسطة الجسم، أما بسطة العلم وذلك ليجتمع الناس على قوله وفتياه، فلا يليق أن يكون قائداً وأميراً ويستفتى من دونه، ويتوجه الناس إليه؛ لأن الفتيا أمر في مسألة الغنائم، وأيضاً في الأمر بالنظر في حال الأسرى، والنظر في الإقدام والإحجام، ومعرفة الصلوات، والإمامة فيها وغير ذلك، فإذا قصر الأمير في ذلك قصر إجلال الناس له، فالأولى في ذلك أن يكون عالماً، والعلم في ذلك لا يلزم أن يكون الإنسان عالماً بالشريعة، وإنما عالم بما أنيط به، فإمام الناس في الصلوات إذا كان عالماً بأحكام الصلاة فقد أوتي بسطة في العلم في هذا الباب، ولا يلزم من ذلك أن يكون عالماً في أحكام البيوع والنكاح، ومسائل السياسة الشرعية، وإنما يكون عالماً بما أنيط به.
كذلك الأمير في الجهاد أن يكون عالماً بمسائل الجهاد وأحكامه، وما يتعلق فيه، فحتى يجتمع الناس عليه، والإنسان يجب عليه أن يتفقه فيما وجب عليه وما تلبس به، ولهذا جاء عند الترمذي رحمه الله في كتابه السنن عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا يبع في سوقنا إلا من فقه في ديننا، يعني: أن الإنسان إذا كان يريد أن يتلبس بعمل وجب عليه بعينه، فالذي يبيع وجب عليه أن يتفقه في أحكام البيوع، ولو لم يفقه فهو أولى منها، كأن يكون في الحج لأنه لم يتلبس في الحج، أو أدى الحج لا يجب عليه عيناً أن يتفقه الحج لأنه سقط عنه التكليف، فعيناً لا يجب عليه، ويكون حينئذٍ من فروض الكفايات أن يحمى ويحفظ هذا العلم، ولهذا جعل الله جل وعلا في طالوت هاتين الخصلتين، وهي: بسطة العلم، وأما بسطة الجسم فذلك إشارة إلى أن أمير الجيش يجب أن يكون مقاتلاً كذلك، وإلا ما ذكرت بسطة الجسم هكذا حتى يكون فيه قوة، فإذا كانوا في سير كان أمامهم، وإذا كانوا في لقاء عدوٍ كذلك أن يكون مشاركاً وأن يكون معهم، ولا عبرة لما عدا ذلك، وذلك من الأنساب أو الأحساب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم من صغار السن كحال أسامة وغيره، فلا ينظر إلى حسب ولا ينظر إلى نسب، وإنما ينظر إلى هذه وهي أولى الصفات.
وفي هذا أيضاً إشارة إلى الاختلاف الذي يقع في حال التأمير، ولهذا قال: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، يرون أنهم أولى به، ولكن مقياسهم مادي، فنظروا إلى المادة، والله سبحانه وتعالى أشار إلى أمر آخر يتعلق فيه وهو أن الله عز وجل آتاه بسطة العلم، وآتاه الله جل وعلا بسطة الجسم، حتى يتحقق في ذلك النصر.
والعلماء عليهم رحمة الله يذكرون في أبواب السياسة الشرعية أن الولايات لا تتفق من جهة شروط صاحب الولاية إلا ما يتعلق بأمر الإسلام والأمانة، وما عدا ذلك فكل ولاية تختلف عن الأخرى، فالجهاد إذا اختلف في الجهاد بين أميرين: بين عابدٍ صالح ضعيف ليس بجريء، وبين جريء ولكنه قليل الديانة، يقال: في هذا الموضع الأمة بحاجة الجريء المقدام، ولو كان قليل الديانة في هذا الأمر، وهو أذخن في هذا الأمر، وكذلك ولاية المال فلها شروط تتعلق بأمر الأمانة أكثر من مسألة بسطة الجسم وكذلك العلم، فإن لها تعلقها، وكذلك ما يتعلق بولاية اليتيم، والولاية على النساء، وولاية الحسبة، كل ولاية لها شروطها عند العلماء.
الآية الثانية في هذا في قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]، هذه تتضمن معنى وربما يأتي معنا في سورة التوبة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، في مسألة زكاة عروض التجارة.
الله سبحانه وتعالى أمر بالإنفاق مما رزق الإنسان، وما يرزق الله عز وجل الإنسان من مال، منه ما يكون من النقدين، أو من بهيمة الأنعام، أو ما كان من الزروع والثمار، أو كان من التجارة فالله سبحانه وتعالى عمم بوجوب الإنفاق مما رزق الله الإنسان فأوجب فيه الزكاة.
يؤخذ من هذا زكاة عروض التجارة لدخولها في هذا المعنى، فهي مما رزق الله عز وجل الإنسان، فزكاة عروض التجارة واجبة في حال توفر شروطها، وهذا الذي عليه عامة العلماء، وثمة خلاف يسير في هذه المسألة، وهي على قولين:
عامة العلماء وهو قول الأئمة الأربعة وعمل الخلفاء كـعمر بن الخطاب عليه رضوان الله أن عروض التجارة فيها زكاة؛ لظاهر آية التوبة، وكذلك لظاهر هذه الآية، أن الله عز وجل عمم بوجوب أخذ الصدقة والزكاة، ووجوب إخراجها في كل ما رزق الله عز وجل الإنسان من مالٍ، وكذلك أيضاً من رزق، فيجب على الإنسان أن يخرج زكاته، وهذا على ما تقدم هو قول عامة السلف، وهو قول الأئمة الأربعة، ويستدل بذلك لما جاء عند أبي داود في حديث سمرة بن جندب أنه قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع )، وهذا الحديث فيه كلام يأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل بمزيد تفصيل في هذه المسألة في سورة التوبة.
القول الثاني: هو قول للظاهرية قالوا بأن عروض التجارة لا زكاة فيها، باعتبار عدم ورود دليل صحيح صريح فيها، فحينئذٍ لا تجب فيها الزكاة، وذلك كسائر ما يملكه الإنسان، ويردون على من يقول بالأخذ بأدلة العموم هنا، قالوا: فلو أخذنا بالعموم لوجب أن يخرج الإنسان زكاته في ماله الذي يقتنيه، وذلك كمركبه وملبسه، ومسكنه، وداره، فإنه يجب عليه أن يخرج ذلك؛ لأن الله عز وجل رزقه إياه، فنقول: هذه من مسائل الإجماع أنه لا زكاة فيه، ثم هو معدود من أبواب عموم النعم، ولم يقل أحد لا من السالفين ولا من المتأخرين بوجوب إخراج الزكاة فيها إلا فيما يتعلق بما يسكنه الإنسان أو يعمره ويعزم على المتاجرة فيه بعد عامٍ أو عامين، أو ثلاثة، أو نحو ذلك، فيدخله العلماء في أبواب زكاة عروض التجارة.
وهنا مسألة من المسائل ما يتعلق بزكاة عروض التجارة وهي مسألة المتربص، وهي: الإنسان الذي يكون لديه المال يريد المتاجرة فيه، ولكنه يتربص به، يعني: أنه ينتظر به فلم يعرضه، فينتظر به أعواماً كخمسة أو عشرة أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يريد بيعه، فهو عازم على بيعه حينئذٍ ليس مما يستعمله الإنسان.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
ذهب جمهور العلماء، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه تجب فيه الزكاة كلها، وذلك أن مال الإنسان على حالين:
مال يستعمله الإنسان، فهذا لا زكاة فيه، ولو كثر قيمة، الإنسان لديه مركب والمراكب تتباين، فيها بالآلاف وفيها بمئات الآلاف، ولديه مسكن فيه بالآلاف وفيه بالملايين، فما دام مستعملاً له فلا تجب فيه الزكاة، وما لا يستعمله الإنسان وإنما يريد به التجارة، إما حالاً أو مآلاً، كحال الإنسان الذي يشتري أرضاً، ثم يتربص بها حولاً أو حولين أو عشرة، فيقال: ماذا تريد بعد ذلك: أتعمرها لتسكنها أم تزرعها لتأكل منها؟ يقول: لا، أريد أن أبيعها، هذا هو المتربص وجمهور العلماء على أنه يزكيها.
والقول الثاني وهو قول المالكية قالوا بعدم وجوب الزكاة فيها، وذلك أنهم يجعلون المال على حالين: مالٌ مدار ومالٌ غير مدار، المال المدار: الذي يحركه الإنسان هو الذي يجعلونه من عروض التجارة، والمال غير المدار الذي يبقى عند الإنسان والذي يتربص به، فيقولون بعدم وجوب الزكاة فيه إلا إذا باعه فإنه يزكيه عاماً مرة واحدة.
والصواب في ذلك: أن المال الذي لا يستعمله الإنسان فإنه لا يخلو من أحوال:
الحالة الأولى: أن الإنسان لا يريد السكن أو الانتفاع منه، ولكنه يريد بيعه ولم يستطع، يريد يبحث يقول: إن هذه الأرض بعيدة، أو هذا البستان بعيد، أريد أن أبيعه ولكن لا يوجد من يشتري هذا، أو وجد من يشتريه لكن بثمن بخس، فحينئذٍ يقال بعدم وجوب الزكاة عليه.
وهل إذا بخس ثمنه يجب عليه أن يزكيه بالثمن البخس بقيمته المبخوسة؟
نقول: نعم، بالحد الأدنى في ذلك؛ لأنه مال محفوظ لو احتاج إليه لباعه وانتفع منه، وأما الذي لم يجد مشترياً في ذلك، لا ببخس ولا بغيره، فإنه حينئذٍ يقال بعدم وجوب الزكاة فيه، إلا إذا باعه فإنه يزكيه مرةً واحدة.
الحالة الثانية: أن يتربص به قصداً مع وجود من يشتريه، فنقول: هذا يجب عليه أن يزكيه كل عام، وكيف تعرف قيمته؟
يقال: إنه يؤخذ بسعره لو باعه عند الحول، ثم يقوم بتزكيته، ولهذا نقول: إن المال مهما تعدد وتنوع إنما هو كحال الأوعية التي يحمل فيها المال، الإنسان لديه عملة نقدية، وحوله كما هو معلوم عام، وهذه العملة النقدية بعد أربعة أشهر اشترى بها أرضاً للتجارة، ثم بعد شهرين اشترى بها ذهباً، ثم بعد ثلاثة واشترى بها فضة، ثم بعد شهر واشترى وقلبها إلى نقد، أو غير ذلك، فهذه قوالب تشكل بها هذا المال، وهي أوعية، فإذا حال الحول فلا اعتبار بتغير المال وتقلبه، فما يجب عليه إذا حال عليه الحول؟ نقول: ما هو المال؟ قال: ذهب، زكه بمقادير الذهب قال: فضة، زكه بمقادير الفضة، قال: أرضاً، كذلك أيضاً، وإذا غيرَّه فاشترى به غنماً، أو اشترى به إبلاً، أو اشترى به بقراً، فما هي زكاته؟
نقول: هي زكاة الإبل والبقر والغنم، كأن يكون لديه عملة نقدية، مليون ريال، أو مائة الف ريال، وهي واجبة فيها الزكاة والمال محفوظ لديه، ثم قبل الحول بشهر اشترى غنماً، وبعد الشهر حال الحول.
نقول: هذه أوعية لتغير المال، فيجب عليه أن يزكيها زكاة الغنم، ولو لم يكن كذلك لأصبح مهرباً لأهل الأموال، يكون لديه المال عشرة أشهر ثم بعد ذلك يشتري بالنقد فضة، ثم إذا قرب من الحول الثاني اشترى بها غنماً، وإذا قرب الحول الثالث اشترى بها إبلاً، أو اشترى بها بقراً، أو اشترى بها أرضاً، على هذا لا يزكي الناس، ولهذا نقول: تغير المال لا اعتبار به، ولهذا جاءت الشريعة بتسمية الزكاة الذي يؤخذ منها من المال وكذلك الرزق من المال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، والمال يدخل في ذلك النقدين ويدخل في ذلك بهيمة الأنعام، ويدخل في ذلك عروض التجارة، وكذلك الرزق كما في قول الله سبحانه وتعالى هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]، وما رزق الله عز وجل الإنسان من سائر المتاع.
وأما ما يتعلق بما يستعمله الإنسان ولو شابه ما يزكى، بمعنى: أنه لدى الإنسان شيء عادة يزكى كعروض التجارة ولكنه يستعمله ولم يعرضه للتجارة، كأن يكون لدى الإنسان سيارات، لديه ثلاثة، أربعة، خمسة، يستعملها، واستعماله لها مسقط لزكاتها.
كذلك في مسألة حلي المرأة في الذهب، حلي المرأة لا زكاة فيه على الصحيح، وثمة خلاف عند العلماء في هذه المسألة، ذهب جمهور العلماء وهو قول الإمام أحمد و الشافعي و مالك، وهو قول أيضاً جماعة من الصحابة صح عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قاٍل ذلك الإمام أحمد إلى أن حلي المرأة لا زكاة فيه، وذهب الحنفية إلى وجوب الزكاة وهو قول أهل الكوفة.
والصواب عدم وجوب الزكاة، وذهب جماعة من الفقهاء أيضاً إلى أن زكاته عارية عند وجود من يحتاجه، إذا وجدت امرأة تحتاج الحلي في استعمالها في مناسبة ونحو ذلك، أن تعيره، فهذا مسقط للزكاة عندهم، قالوا: وإذا لم يعر عند وجود من يحتاج، فإنه حينئذٍ تجب فيه الزكاة، والأرجح في ذلك عدم وجوب الزكاة مطلقاً، ومن النساء من يكون لديها الحلي للاستعمال، ولكن لم تعرض لديها مناسبة، أن يكون ليس لدى المرأة يحصل في هذا الحول مناسبة زواج، أو وليمة، أو غيرها، فلم تحتج لذلك، فنقول: إنه لا عبرة بحدوث المناسبة وإنما العبرة بالقصد من الاقتناء، يكون لدى الإنسان سيارة لكن مر حول أو حولان وما استعملها لعدم حاجته إليها، لوجود كفاية له عن ذلك، فنقول حينئذٍ: العبرة بقصد الاقتناء في ذلك، هل قصدتها لأجل التجارة، أو قصدتها لأجل الاقتناء، أو كحال دار يكون لدى الإنسان دار هي مسكن له، ولكنه ما سكنها، فجلس سنة أو سنتين، نقول: لا زكاة فيها؛ لأن الأصل في ذلك أنه أراد الانتفاع منها واستعمالها، فلا يقال بوجوب الزكاة فيها.
وأما حلي المرأة إذا اقتنته وقصدت به توفير المال أو ادخاره أو كنزه، فنقول حينئذٍ. بوجوب الزكاة ولو كانت حالته من جهة الظاهر هو حلي، فنقول: يجب في ذلك الزكاة.
وبالله التوفيق والإعانة والسداد، ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر