الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
قال الناظم رحمه الله تعالى:
[ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا فكلهم يعصي وذو العرش يصفح ]
قال: [ ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ]: الكفر في اللغة: هو التغطية، والمراد بذلك أنه قد غطى إيمانه وأظهر الكفر، ولذلك يسمى الكافر: كافراً، لأنه قد لاح وظهر خروجه عن الإسلام وغطى إيمانه.
قال: [ أهل الصلاة ]: فيه دليل على أن المصنف عليه رحمة الله تعالى يميل إلى كفر تارك الصلاة، وهذا الذي عليه الصحابة والتابعون، والأدلة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، من ذلك: ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة )، وكذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )، وهذا الذي عليه إجماع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، كما روى الترمذي ومحمد بن نصر المروزي من حديث الجريري عن بشر بن المفضل أن عبد الله بن شقيق قال: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، وهذا حكاية إجماع عن الصحابة، وكذلك قد أجمع عليه التابعون كما روى محمد بن نصر من حديث حماد بن زيد عن أيوب أنه قال: ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه.
وأما ما يحتج به البعض عند ابن ماجه والحاكم من حديث حذيفة بن اليمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، إلا أقوام يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، كنا نسمع آبائنا يقولونها فنقولها )، قيل لـحذيفة: ما تفعل بهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار لا أبا لك! احتج به البعض عن عدم كفر تارك الصلاة، وهو بموطن حجة؛ ولذلك ورد أنه قال في الخبر: (لا يدرى)، أي: أنه لا يعلم أن ثمة صلاة، وهذا ما يسمى: بالعذر بالجهل.
قال: [ وإن عصوا ]: تارك الصلاة كافر عند الصحابة والتابعين، والخلاف إنما طرأ بعد ذلك، ولا أعلم أحداً من السلف قال بعدم كفر تارك الصلاة سوى ما روي عن الزهري وهو أول من صرح في هذا، وبعد ذلك نشأ الخلاف، وعن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى أنه نص بكفر تارك الصلاة، والصواب أن تارك الصلاة كافر.
ومن صلى حيناً وترك حيناً كمن يصلي صلاتين في اليوم أو ثلاثة ويترك البقية، فإنه مسلم مذنب مرتكب كبيرة وليس بكافر، لأنه قد روى الإمام أحمد في المسند من حديث قتادة عن نصر بن عاصم: أن رجلاً حدثهم: ( أن قوماً جاءوا للنبي عليه الصلاة والسلام فاشترطوا أن يدخلوا في الإسلام وأن يصلوا صلاتين، فأذن لهم النبي عليه الصلاة والسلام ) .
وعقيدة أهل السنة والجماعة ألا يكفروا أحداً بذنب ارتكبه ما لم ينقض إيمانه بناقض، ولذلك قال: [ ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ]: ما دام أنهم يؤدون الصلاة وقبلتهم قبلتنا، فليس لك أن تكفرهم بذنب وإن عصوا خلافاً للخوارج والمعتزلة، فالمؤمن إن ارتكب المعصية وأذنب لا يكفر بذلك ما لم يقع في الشرك والكفر، وقد ذهب الخوارج والمعتزلة إلى كفر فاعل الكبيرة.
قال: [ فكلهم يعصي وذو العرش يصفح ]، أي: ما من أحد إلا ويعصي، وعلى هذا يقال بكفر وردة الناس عامة، وهذا ليس من معتقد أهل السنة والجماعة، بل يقال: بأنهم أهل إيمان وإسلام ولكنهم مقصرون، والإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، قال: [ فكلهم يعصي ]، أي: كل الناس يعصون [ وذو العرش يصفح ]، فما من أحد من الناس إلا وله حظ من المعصية، والله عز وجل يغفر ويتوب لمن تاب.
[ ولا تعتقد رأي الخوارج إنه مقال لمن يهواه يردي ويفضح ]
الخوارج يرون كفر فاعل الكبيرة، ويرون أن من فعل الكبيرة أنه خارج عن الإسلام وخالد مخلد في النار، وأهل السنة وسط بين الخوارج والمرجئة، فالمرجئة يرون أن الإنسان لا يكفر بعمل، والخوارج يرون أنه يكفر بالمعصية والكبيرة، وأهل السنة يرون أنه لا يكفر إلا بما دل الدليل على كفره، ولذلك لا يكفرون أهل القبلة بذنب، والخوارج إنما سموا: خوارج؛ لأنهم خرجوا عن منهج أهل الإسلام في هذا الباب، وهذا هو منهج الخوارج والمعتزلة.
يقول: [ مقال لمن يهواه يردي ويفضح ]، أي: يردي الإنسان ويجره إلى الحكم بردة شاملة للناس، وأهل السنة الوارد عنهم أن من ترك شيئاً من الواجبات لم يدل دليل على أن تاركه كافر أنه لا يكفر، ولذلك يقولون: إنه لا يلزم من ترك الواجب بغض إيجابه، ولا يلزم من فعل المحرم بغض تحريمه، خلافاً للخوارج فإنهم يقولون: إن من ترك الواجب دل الدليل على أنه أبغض إيجابه، ومن فعل المحرم دل على أنه أبغض تحريمه فهم يكفرون باللازم، وأهل السنة لا يقولون بذلك: لأن الإنسان ربما يغلبه هواه فيفعل الكبيرة لا بغضاً للتحريم، ويترك الواجب لا بغضاً للإيجاب ولكن تفريطاً واتباعاً للهوى، ولذلك كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشرب الخمر ويزني ويجلد ولا يقام عليه حد الردة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس: ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
ومسألة أركان الإسلام، من ترك شيئاً منها من الصيام والزكاة والحج، أما الصلاة فتقدم الكلام عليها فثمة قول لأهل السنة أن من ترك شيئاً منها فهو كافر، وهذا قول معروف قال به غير واحد من السلف كـسعيد بن جبير ونافع مولى عبد الله بن عمر والحكم بن عتيبة وابن حبيب من المالكية وإسحاق بن راهويه، بل قد ذهب إسحاق بن راهويه عليه رحمة الله إلى أن من قال بعدم كفر من ترك شيئاً من أركان الإسلام الخمسة أنه مرجئ، فيرى أن من لم يكفر تارك الزكاة وتارك الصيام أنه مرجئ، وهذه رواية - أي: كفر من ترك شيئاً من أركان الإسلام - عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.
وجماهير السلف على عدم كفر من ترك شيئاً من أركان الإسلام، سوى الركنين الأولين، وذهب إلى هذا أبو داود عليه رحمة الله تعالى، فيرى في مسألة الصلاة، من لم يكفر تارك الصلاة أن فيه بذرة إرجاء، كما في تراجمه في السنن.
[ ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ألا إنما المرجي بالدين يمزح ]
قال: [ ولا تك مرجياً ]: المرجي: مشتق من الإرجاء، وأرجأ الشيء إذا أجله وأخره، وكأنه أخر الإنسان ودفعه من الكفر عن الكفر إلى الإيمان وأبقاه فيه، وقيل: إنه أرجأ أمره إلى الآخرة ولم يحكم فيه.
والمرجئة هم شر المذاهب، بل قيل: إنهم شر من الرافضة والخوارج؛ وذلك أنهم قد لعبوا بالدين فلم يطلقوا على أحد كفراً، وهم على مراتب:
الطائفة الأولى: غلاة المرجئة الذين يرون أن الإيمان محله القلب فقط، التصديق القلبي، وأن الإنسان إن كفر بلسانه أو بجوارحه أنه لا يكفر، وهؤلاء شر الملل والنحل، واليهود والنصارى خير منهم، وذلك أنه بقولهم ذلك يلزم منه إدخال إبليس في الإسلام والإيمان، وإدخال فرعون وهامان وإدخال كفار قريش، وأنه لا يدخل في الكفر أحد أبداً؛ وذلك أنه ما من أحد إلا ويؤمن بربوبية الله سبحانه وتعالى، فإبليس آمن بقلبه قطعاً وصدق لكنه كفر بلسانه وجوارحه، فهو يعلم يقيناً أن الله عز وجل واحد والمستحق للعبادة، فهو على قول المرجئة أنه مؤمن.
كذلك فرعون مؤمن بصدق موسى عليه الصلاة والسلام وأن ما جاء به هو الحق، فلما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، خرج ما في قلبه على لسانه لما أدركه الغرق، ولذلك جبريل كان يقول للنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( لقد رأيتني يا محمد وإني لآخذ التراب وأضعه في فم فرعون خشية أن تدركه رحمة الله ) .
وعلى هذا القول، يلزم منه إدخال كفار قريش أيضاً في الإسلام، والله عز وجل قد وصف حال كفار قريش في مقابل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم مصدقون بقلوبهم، فقال الله عز وجل عن حالهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، ما الذي استيقنتها أنفسهم؟ هو بتصديق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل من نظر إلى كلام أبي طالب عم النبي عليه الصلاة والسلام، ونظر إلى تصديقه الذي بدا على بعض كلامه بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى قولهم هذا: يلزم أن يكون مؤمن، لأن الإيمان محله القلب.
فعليه: كل من آمن بقلبه وصدق بالشيء وإن كفر بلسانه وجوارحه فإنه مؤمن، وعلى هذا: كل الكفرة الذين حكا الله عز وجل أنهم في النار، وكذا النبي عليه الصلاة والسلام، أنهم لا يدخلونها على قولهم، وهذا شر المذاهب على الإطلاق، ولذلك أبو طالب مدح النبي عليه الصلاة والسلام ويبين أنه صاحب دعوة حق، بل ناصر النبي عليه الصلاة والسلام وما منعه من اتباعه إلا العار، يقول:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد بالتراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وزعمت أنك صادق ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك يقينا
على هذا يكون أبو طالب من أهل الإيمان ومن أهل التصديق، فإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، لأنه قد آمن بقلبه وكفى، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: هو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، نعوذ بالله من ذلك!
وهذه الفئة من المرجئة هم الذين ذهبوا إلى شر ما لم تذهب إليه ملة أو أصحاب شريعة كاليهودية والنصرانية، بل إن اليهود والنصارى خير منهم فهم أقرب إلى الإلحاد، وذهب إلى هذا من الملاحدة ابن هود وابن سبعين والتلمساني وغيرهم.
ثم الطائفة الثانية من المرجئة: الذين قالوا: إن الإيمان هو اعتقاد بالقلب وقول باللسان، فيرون أن عمل الجوارح لا علاقة له بالإيمان، وأن الإنسان لا يعاقب عليها، وإنما تزيد من عمل الإنسان مرتبةً في الجنة فحسب، وإلا هو يدخل الجنة وينجوا من النار باعتقاد قلبه وبقول لسانه، مع قولهم: إنه لو نقض قول لسانه بقول آخر لا يحاسب عن ذلك حتى يسأل ويقرر عما في قلبه، فهم أخرجوا العمل كله من الإيمان.
والطائفة الثالثة من المرجئة: الذين يقولون: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، إلا أنهم يرون أن الإنسان إن ترك العمل بالكلية لا يكفر، مع أنهم يرون أن العمل من الإيمان، أي: من كماله، يكمل بذلك إيمان الإنسان، وفرقهم عن الطائفة الثانية: أن الثانية يقولون: إن الإيمان تام بالقول والعمل، ولكنه يزداد حظوةً وقربى كلما ازداد عملاً وإيمانه كامل، أما الثالثة فيرون أنه من كمال الإيمان، وإن انتفى عمله بالكلية فإنه ليس بكافر.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل واعتقاد لا فرق بينها، فإن انتهى واحد منها كفر الإنسان، وأن الإيمان لا يمكن أن يقوم إلا على هذه الثلاثة، فلا يقال: إن العمل شرط للإيمان ولا كمال له بل هو الإيمان، وهذه مسألة لا يتطرق لها الكثير: من أن الإيمان شرط للعمل، فكأنه قد أخرج ضمناً العمل من الإيمان، بل يقال: إن العمل هو الإيمان، والقول هو الإيمان، والاعتقاد هو الإيمان، فلا بد من هذه الأركان أن تتوفر في إيمان الإنسان حتى يكون مؤمناً، وذلك كالصلاة: لا تكون صلاةً حتى يكون فيها ركوع وقيام وسجود، فإن انتفى وامتنع للقادر شيء منها لا تسمى صلاةً، فلا يقال: هذا شرط وإنما هي من ماهيتها وحقيقتها.
وما هو العمل الذي هو من الإيمان، ولا يتحقق إيمان الإنسان إلا بوجوده؟ هو ما اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره، قد يقول قائل: أن العمل لا بد منه لكي يتحقق الإيمان في قلب الإنسان، فأي عمل نريد؟ قد يقول: أن ذكر العمل هنا من الخلاف اللفظي، إذ أنه لا يمكن لأحد إلا ويعمل، كل يبذل سلام وتحية ويتصدق ويحسن، فما من أحد - حتى الملحد - إلا ويبذل خيراً، فيبر أمه ويحسن لجاره، يبذل تحية، يرحم ضعيفاً، يتصدق، هل هذا هو العمل المقصود؟ لا، المقصود هو عمل اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عن سائر الشرائع، فمما اختصت به الصلاة والصيام والحج والعمرة، وغير ذلك من أعمال الطاعات التي اختصت بها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد منها.
ولسوء فهم البعض، يقول: أنتم تقولون: إن العمل من الإيمان، ولذلك يكثر اللغط والقول في هذا والخلاف لفظي، حيث أنه لا ثمرة لذكر العمل هنا، فبما أنكم تقولون: أنه لا يكفر أحد بشيء من الأعمال إلا الصلاة، والصلاة موطن خلاف عند العلماء، هل يكفر صاحبها أو لا يكفر، وإذا قلنا: أنه لا يكفر، فالإنسان لا بد أن يعمل جنس خير، فلا بد لأي مسلم أن يعمل خيراً وهذا معلوم، فإما أن يبر أمه أو أباه ويتصدق على أخيه، أو يسلم على جاره، ويبذل التحية ويرحم الضعيف، ويميط أذى عن الطريق، وينظف نفسه، ويفعل الأمور التي جاءت بها الفطر واشتركت فيها الشرائع كلها.
فاشتركت سائر الشرائع بالأخلاق كلها، والعلماء عليهم رحمة الله يقولون: إن ما ينسخ في الشرائع هو الأحكام، وما لا ينسخ فيها العقائد والأخلاق والأخبار، فالفضائل والأخلاق لا تنسخ، فهي باقية من آدم إلى يومنا هذا، فإن الله عز وجل إن فضّل مكاناً أو بقعة بقيت هذه مفضلة إلى آخر الدهر، وإن فضل الله عز وجل تعاملاً وخلقاً كالصدق والأمانة وإماطة الأذى عن الطريق، فإنه فضل على سائر الشرائع، لأن هذه أخلاق مفطور الإنسان عليها، ولذلك يقول الله عز وجل: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة )، الفطرة: هي الميل إلى حب الخير ونبذ الشر.
ولا عبرة بالفطر الشاذة المنحرفة التي تميل عن مواطن الخير ونحو ذلك، وإن كانت لا توجد فطرة شاذة خالصة، فلا بد أن يوجد فيها شيء من بذرة الخير، من حب خير ونحو ذلك وإن كابر الإنسان وجعل من نفسه شاذاً، إلا أنه يوجد لديه بذرة من الفطرة، ولكن هذا لا يعدل الإنسان من دائرة الكفر إلى الإيمان إلا بالعمل الخاص التي اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول العلماء عليهم رحمة الله: إن من أعرض عن العمل بالكلية ولا يعمل، أي: ما اختصت به الشريعة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله ويعرض عن الأعمال التي أتت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أنه كافر بالله، ولذلك حكم الله عز وجل بكفره بقوله سبحانه وتعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، فانظر هنا! جعل التكذيب مقابل التصديق، وجعل التولي مقابل الصلاة، قال: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، أي: كذب ما يجب عليه تصديقه، وتولى عن العمل الذي مثّل له هنا بالصلاة.
فالتولي عن الدين والإعراض عنه وعن تعلمه والعمل به كفر بالله سبحانه وتعالى وإخراج من الملة، فمن قال: إن الإيمان والإسلام هو قول وعمل فحسب فهو من المرجئة، ومن قال: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، إلا أن العمل من مكملات الإيمان، وأن الإنسان يرفع بذلك درجة ولكن لا يكفر بترك شيء من الأعمال أو بتركها كلية، فهذا قول المرجئة وليس قول أهل السنة.
قال: [ لعوباً بدينه ألا إنما المرجي بالدين يمزح ]: وهنا أشار إلى أن المرجئ يتلاعب بالدين؛ وذلك أنه قد جعل من دينه حظوةً لغيره وضل بنفسه، يقول النضر بن شميل: الإرجاء دين يحبه السلاطين يصيبون به من دنياهم، فإن السلاطين وأرباب الدنيا يميلون إلى الإرجاء؛ وذلك أنه لا يكفرهم أحد مهما فعلوا، ومما يحكى أن مرجئاً قابل شارب خمر فلطمه شارب الخمر، فقال: هذا جزائي أن أدخلتك الإيمان وجعلتك من أهل الجنة! وذلك لأنه جعل صاحب الكبيرة مهما يفعل ليس من أهل النار وليس متوعداً فيها، وأن الله عز وجل قد قطع به أنه إلى الجنة، وليس المتوعد في النار مطلقاً، وهذا غاية في الضلال، وقد حذر العلماء عليهم رحمة الله تعالى من الإرجاء، والنصوص في هذا كثيرة.
[ وقل إنما الإيمان قول ونية وفعل على قول النبي مصرح ]
يقول: [ وقل إنما الإيمان ]: الإيمان: هو التصديق، ويكون التصديق بالقلب واللسان والجوارح، وكلها تسمى: تصديقاً، قال: [ قول ]: القول يختص باللسان، ويسمى أيضاً القول: فعلاً، ويسمى: عملاً، وخالف بعض الأصوليين بقولهم: إن القول لا يسمى: فعلاً، والصواب أنه يسمى: فعلاً، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، فسماه قولاً بقوله: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، فسمى القول: فعلاً، وقد خالف بعضهم وقالوا: إن القول لا يسمى: فعلاً وإنما يسمى: قولاً، وهذا قد يكون من الخلاف اللفظي، لكن يقال: إن العمل بالجملة يكون: عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح، أما الفعل فأخرج بعضهم القول عن الفعل، وقالوا: إنه لا يسمى فعل، ولكنه يسمى قولاً.
قال: [ ونية ]: والنية محلها القلب، واشتقاقها من: النوى، والنواة محلها قلب الثمرة، وسميت: نواةً لخفائها في جوف الثمرة، ذلك أن النية محلها القلب ولا ترى في الظاهر حتى تظهر، ما الذي يظهرها؟ يظهرها اللسان والجوارح، فهي لا تظهر عياناً، لكن علامةً عليها قول اللسان وعمل الجوارح، وتسمى النية: بعمل القلب، يقول البخاري عليه رحمة الله تعالى في الصحيح: باب: من قال إن الإيمان هو العمل، أي: الإيمان القلبي، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]، أي: عن: لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله محلها القلب واللسان ويصدق ذلك الجوارح، ويقول الله سبحانه وتعالى: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، والعمل هنا المراد به عمل القلب وعمل اللسان وكذلك الجوارح.
قال: [ وفعل ]: وأراد بذلك عمل الجوارح؛ لأنه قد جاء معطوفاً على القول والنية.
قال: [ على قول النبي مصرح ]: وبعضهم قد جعل الفعل يخالف العمل، قال: فالعمل أعم والفعل أخص، فالفعل متعلق بالجوارح والعمل متعلق بالجوارح واللسان والقلب، والذي يظهر والله أعلم أن ثمة عموم وخصوص بينها، ومن قال بالترادف فما أبعد.
قال: [ على قول النبي مصرح ]: ورد أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الإسلام كما في حديث جبريل، قال: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، وسئل عن الإيمان، قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره )، فالإسلام والإيمان متلازمان وهما بمعنى واحد إن افترقا اجتمعا، وإن اجتمعا افترقا ولا بد من توفر أركانهما في العبد إن أراد أن يتحقق فيه الإيمان.
[ وينقص طوراً بالمعاصي وتارةً بطاعته ينمي وفي الوزن يرجح ].
قال: [ وينقص طوراً ]: والمراد بالطور هنا: التارة، أي: في الأحيان، [ وينقص طوراً بالمعاصي وتارةً ]، أي: الإيمان ينقص بالمعصية ولا يزيل الإيمان إلا الكفر بالله سبحانه وتعالى، أما بالمعصية فإنه ينقص، ونقصانه بحسب عمل القلب، فإن وقوعه في المعصية مجرداً عن عمل القلب لا ينقص إيمانه ما لم يصاحب ذلك نية، فإن الإنسان قد يفرط في الصلاة وينساها، ففي الظاهر أنه ترك الصلاة، لكنه عند المحاسبة في الحقيقة لا يحاسب على فعله لأنه قد رفع عنه القلم؛ وذلك أن الإنسان يتفاوت عمله من جهة الفعل ومن جهة الترك بحسب عمل الجوارح، والناس لا يختلف أحد أنهم مأمورون بمؤاخذة الناس بالظواهر والله يتولى السرائر، ولكن نتكلم من جهة الحقيقة والتأصيل، فإن الإنسان لا ينقص إيمانه بدرجة معينة في كل عمل في الظاهر، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنه رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم المجنون والناسي والصبي.
قال: [ وينقص طوراً بالمعاصي وتارةً بطاعته ينمي وفي الوزن يرجح ]
الإيمان عند أهل السنة والجماعة يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يزيل الإيمان من قلب الإنسان إلا الكفر، وما يفسد الإيمان من نواقضه، ويزداد بالطاعات فكلما ازداد بالطاعة بلغ الإيمان، ولا يمكن أن يكمل إيمان العبد إلا وقد تحققت فيه سائر شعب الإيمان، هذا بالجملة، وقد يتحقق فيه ذلك دون ذلك ولكنه نادر.
أما الكفر فإنه يتحقق في الإنسان بوجود شعبة من شعب الكفر ولا يلزم وجود شعب الكفر كلها، فلو كان الرجل فيه سائر شعب الإيمان إلا شعبة قد نقضها بشعبة كفر فإنه يكفر بذلك، وهذا الفرق بين شعب الكفر وشعب الإيمان، وذلك أن الإنسان يبلغ كمال الكفر بشعبة واحدة ولا يبلغ كمال الإيمان إلا بتوفر الشعب كلها، ولذلك يجهل الكثير أن الإنسان كيف يكفر وهو يذكر الله ويصلي ويصوم ونحو ذلك إذا ظهر منه مكفر، فيقال: كيف يكون فلان كافراً ونحن نراه يصلي ويزكي ويصوم ونحو ذلك؟! بينما قد وجد فيه شعبة من شعب الكفر التي تخرجه عن الإيمان كتكذيبه بشيء من الوحي أو جحده لشيء مما تواتر أو استهزائه بالله وآياته ونحو ذلك.
فبهذا يتحقق الكفر كله في قلبه، ويكون قد وصل إلى أدنى دركات الكفر بشعبة واحدة، والكفر ملة واحدة، والإيمان لا يمكن أن يتحقق إلا بتوفر سائر شعب الإيمان، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: أن من كان من أهل الإيمان وتحقق إيمانه وثبت على قولهم، فإن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وأنهم في الجنة سواء، وهذا لا شك أنه قول شر.
[ ودع عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأشرح ]
يقول: [ ودع عنك آراء الرجال ]: وذلك أنه لا حجة في قول أحد أياً كان، فإذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يخفى عليهم شيء من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، وجاز ذلك على الصحابة فمن جاء بعدهم من باب أولى، ولا حجة بقول أحد غير النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن مأمورون باتباع الكتاب والسنة لا باتباع غيرهما، والإنسان يستأنس بقول الصحابة ويستأنس بقول أئمة الإسلام، ولكن هذه الأقوال لا تكون حجةً وفيصلاً.
فمن جعل أحداً من الناس حجة بقوله ويعزم ويحكم ويجعله كالوحي، فهو من الذين فرقوا دينهم شيعاً، وهو من شر أهل الفساد اعتقاداً، وفيه شبه من اليهود والنصارى الذين: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، ولذلك أمر الله عز وجل بالتحاكم إليه والتحاكم إلى رسوله عليه الصلاة والسلام، ويقول الله عز وجل في كتابه العظيم: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فيشترط لإيمان الإنسان: أن يتحاكم إلى الله ورسوله وألا يتحاكم إلى غيره مما هو من حق الله عز وجل، ويشترط أيضاً: أن يسلم تسليماً فيرضى في ظاهره وباطنه.
وأما الكره الفطري الذي في قلب الإنسان، فإن الإنسان لا يؤاخذ عليه، ولذلك أثبت الله عز وجل للإنسان كرهاً يقابل الفعل وهو كره فطري لا اختيار للإنسان فيه، يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ [البقرة:216]، والمراد بالكره: أن الإنسان هنا يحب الحياة ويكره التعرض للموت والجراحات ونحو ذلك، لكنه لا يعمل بذلك الكره.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد بين أن من أفضل الأعمال إسباغ الوضوء على المكاره، والمراد بالمكاره هنا: أي الإنسان يفعل ذلك وهو كاره، كأن يتوضأ الإنسان على وضوء فيتوضأ لكل صلاة، فإن ذلك ثقيل على النفس فيكرهها، لكنه لا يطاوع هواه لأنه يميل إلى الراحة والدعة، وقال بعضهم: إن معنى ذلك: أن يتوضأ في يوم بارد، فإن النفس تكره ذلك، وإن كان ذلك فإن هذا لا يؤثر على إيمان الإنسان.
كذلك إن كره الإنسان دخول الإسلام لأمر فطري كأن يكون على ملة غير الإسلام كاليهودية والنصرانية والبوذية ونحو ذلك، فأراد أن يدخل الإسلام فيدخله وهو كاره خشية أن يعير أو يسب من قومه، فإن هذا لا يؤثر عليه، روى الإمام أحمد في المسند: ( أن رجلاً قال له النبي عليه الصلاة والسلام له: أسلم، قال: يا رسول الله! إني كاره، قال: وإن كنت كارهاً )، لأن ذلك لا يؤثر، والإنسان مأمور باتباع الوحي من الكتاب والسنة، لا أن يقلد في دينه رجالاً من دون النبي عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان الصحابة أعلى منزلةً وأفضل هذه الأمة وأقربهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأقوالهم ليست بحجة، ومن قال: إن أقوال الصحابة حجة ووحي فإن هذا غاية البطلان بل هو كفر بالله سبحانه وتعالى، أما من قال: إن قول الصحابة حجة وليس بوحي فقد قال به بعض علماء الإسلام وليس بصواب، فإنه ما من أحد من العلماء إلا وله زلة وقد خالف السنة، فما من أحد من الصحابة إلا وقد جهل من سنة النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، وما من أحد من أئمة الإسلام كالأئمة الأربعة وغيرهم إلا وقد غاب عنه من سنة النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً وأشياء، فإذا علم ذلك علم أن قولهم يستأنس به ولكنه لا يكون حجةً قاطعة.
يقول: [ فقول رسول الله أزكى وأشرح ]: أزكى أي: يزكي النفوس وبه تزكوا، ولا تزكوا بقول غيره، وقيل: زكا فلان، أي: إذا نما وارتفع في الخير، قال: [ وأشرح ]: وأشرح للصدر، وذلك أن الإنسان إن اعتمد على قول غير النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ به مع ظهور كلام النبي عليه الصلاة والسلام فإن نفسه لا تطيب؛ لأنه يكون من جملة المتعصبة المنابذين لكلام النبي عليه الصلاة والسلام، ومن قال: إن أقوال العلماء حجة وإنه يسوغ للإنسان مخالفتهم مع ورود الدليل فتلك زندقة، وأما من يتتبع قول فلان وقول فلان وقول فلان ليأخذ من هذا رخصة ومن ذلك رخصة، حتى يكون له بذلك دين، فذلك بعد عن الحق وزندقة، يقول العلماء: من تتبع الرخص فقد تزندق، لأنه جعل له ديناً من كل واحد.
والعلماء الذين يتكلمون على التقليد وأنه يسوغ للعالم أن يقلد، لم يسوغوا له أن يقلد بهواه على التسليم بقولهم بجواز التقليد على الإطلاق، لم يقولوا: إنه يقلد ما يشاء ومتى شاء بهواه، ولكنه يقلد تديناً لا يقلد لهواه، وإذا احتاج لأمر علم أن فلان أباح فمال لقول فلان، فإنه قد يقلد واحداً ويأخذ بقوله، لا أن يأخذ من هذا جوازاً، فإن علم أنه قال بحرمةٍ تركه إلى الآخر، فيأخذ من كل مسألة أهونها وأقربها إلى نفسه، يقول الشاعر:
الشافعي من الأئمة قائل اللعب بالشطرنج غير حرام
وأبو حنيفة قال وهو مصدق في كل ما يروى من الأحكام
شرب المثلث والمربع جائز فاشرب على أمن من الآثام
والحبر أحمد حل جلد عميرة وبذاك يستغنى عن الأرحام
وأباح مالك الفقاح تكرماً في بطن جارية وظهر غلام
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج في كل مسألة بقول إمام
هذه هي الزندقة والإلحاد: أن يجعل الإنسان له ديناً في الإباحة في كل محرم، فيحتج بقول فلان وفلان، وقد يعذر ذلك الإمام لأنه قد استفرغ وسعه في تتبع الدليل ولا يعذر مقلده، وذلك أنه قلد لهواه وهذا ميل عن الحق، والله عز وجل إنما أمر بطاعته وطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام.
[ ولا تك من قوم تلهو بدينهم فتطعن في أهل الحديث وتقدح ]
يقول:
[ ولا تك من قوم تلهو بدينهم فتطعن في أهل الحديث وتقدح ]
هنا يشير المصنف عليه رحمة الله إلى أن من يطعن في أهل الحديث وهم أتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أنه رجل يلعب بدينه، وما أراد حقاً وما أراد صواباً وما أراد امتثالاً وتعبداً وإنما يلهو ويلعب بدينه، ولذلك يقول: [ ولا تك من قوم تلهو بدينهم ]، أي: جعلوا دينهم لهواً ولعباً كما فعل أسلافهم الذين استهزءوا بسنة الله سبحانه وتعالى في خلقه التي أوحاها الله عز وجل إلى أنبيائه، ولذلك من طعن في أهل الحديث بالإجمال أنه يغلب عليه أنه لا يكون من أهل الإسلام أصلاً؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يجمل طعناً في أهل الحديث ويكون مراده ذواتهم، فهم لا يشتركون إلا بالسنة، وإنما سموا بذلك لاقتفائهم لأثر النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام قد امتدح أتباعه، يقول عليه الصلاة والسلام: ( نضر الله امرئً سمع مقالتي فوعاها فبلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع )، ويقول عليه الصلاة والسلام: ( بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ولا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ) .
والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبليغ عنه هو خير العلم وخير الفضل، وأتباعه عليه الصلاة والسلام هم أهل الحديث وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة الذين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عنهم بقوله كما في الصحيح: ( لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي الله وهم على ذلك)، فمن طعن فيهم أو قدح فيهم أو عيرهم، فإنه على الأغلب ما قصد إلا سنة النبي عليه الصلاة والسلام وقصد الوحي، فهو حينئذ يكون ممن تلهى بدينه وتلاعب وليس هو على الحقيقة.
[ إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه فأنت على خير تبيت وتصبح ]
هنا ختم المصنف عليه رحمة الله منظومته بتنبيه: أن هذه العقيدة إن اعتقدها الإنسان فهو على خير يبيت ويصبح، وقوله: [ اعتقدت ]: مأخوذ من العقد، وهو دليل على شدة الإبرام والمسك، لهذا يقال فيما يبني به الإنسان اعتقاداً، أي: أنه قد ربط جأشه وعقيدته فيها، ولذلك قال: [ إذا ما اعتقدت الدهر ]، أي: لزمت ذلك، فقال: [ الدهر ]، أي: تبقى على ذلك على الدوام فلا تحيد عنه، فأن يكون الإنسان على الصواب هو أمر هين، لكن المداومة عليه أصعب، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله الثقفي، قال: ( دلني على عمل في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ قال: قل: آمنت بالله فاستقم ) .
قال: [ إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ]: يا صاح يعني: يا صاحبي، [ فأنت على خير تبيت وتصبح ]، أي: أنه متى ما جاءك أجلك من الله سبحانه وتعالى الذي لا تتقدم عنه ساعة ولا تتأخر، فأنت على خير وأنت على هداية، وأنه إن ختم لك بذلك فإنك على توفيق ورشاد.
وقد جاء عن المصنف عليه رحمة الله أنه قد ختم مؤلفه هذا بقوله: هذا قولي - يعني: عقيدته - هذا قولي وقول والدي وقول الإمام أحمد وسائر العلماء ممن أخبرنا عنهم، ومن أخبر بغير ذلك فقد كذب، وذلك أن عقيدتهم هذه، والمصنف عليه رحمة الله في عقيدته هذه قد جرى على منهج أهل الإسلام والسلف أهل السنة والجماعة حذو القذة بالقذة، وجاء بالإجمال وترك كثيراً من التفاصيل التي ربما لا يحتاج إليها البعض، فأغنت الطالب والمتعلم وكفت العالم.
فينبغي لطالب العلم أن يعتني بها حفظاً ومدارسة، والنظر فيها مداومةً حتى يسلم له دينه.
وبهذا نكتفي بهذا الشرح وهذا التعليق، وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ويسلك بي وبكم منهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً، وننتقل إلى الأسئلة.
السؤال: يقول: أين أجد نونية أبي طالب ؟
الجواب: النونية قد ذكرها بعض من صنف كـالسهيلي في الروض الأنف وغيره.
السؤال: يقول: ذكر في نهاية البيت الثامن عشر تعليقاً في الأسفل!
الجواب: هذا التعليق الذي ذكر في بعض المطبوعات هو ليس من منظومة المصنف عليه رحمة الله، وإنما لبعض الأئمة.
السؤال: يقول: حينما توفي بابا روما نجد من الناس من قال: اتركوه ولا تتكلموا فيه ولا تحكموا عليه، لأنه يمكن أنه أسلم قبل أن يموت، بل إن البعض عزى فيه، فما القول في ذلك؟
الجواب: مسألة العزاء في الكافر إذا توفي الكافر، هذه مسألة أخرى لا تعلق لها في شطر السؤال الأول، وهي موطن خلاف عند العلماء: هل الكافر يعزى بميته أم لا؟ هذه مسألة ليس لها علاقة في مسألة الاعتقاد، وأما من توفي من أعلام الكفر ورموزه وهو باق على كفره فإنه يحكم عليه بالكفر، وحال بابا الفاتيكان حينما توفي، فمن قال: إنه ربما أسلم خفيةً، فيقال: لو أسلم خفيةً ما ينفعه ذلك، لماذا؟ لأنه باق في موضع يهدم إيمان من أتى إليه ممن هو أكمل من أهل كمال الإيمان، وهو إمام النصارى وباق على ذلك، فضل به أمم وليس هو بمكره، وإن كان رغب في ذلك حظوة في دنيا ولذتها ومتاعها فإن ذلك ما ينفعه.
فلو ثبت بيقين بل أنه لو لم يثبت بيقين وإنما ظهر على لسانه، وقال: أعلن الإسلام لكني أبقى في هذا المكان كبيراً للنصارى، أجيبهم على ما يريدون وأدلهم عليه فهو كفر بالله سبحانه وتعالى فلا ينفعه، فيحكم عليه بالكفر لأنه مات وهو على هذه الحال، وهذا لا يأتي على أنك لو تعلم بكافر أنه مات على كفره لا تحكم عليه وإنما تقول: لو مات على الكفر فهو في النار، والكفار كلهم في النار كاعتقاد وكأصل عام فهذا يختلف، فلو أن ثمة كافر لا تعلم عنه، وتوفي على حالة لا تدري ما هي؟ ولكنه لم ينقل عنه خلاف ذلك، لا تحكم عليه بعينه، لأنه ربما دخل في الإسلام وربما اعتقد إيماناً وترك ما هو عليه، فيقال: إن كل من خرج عن دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو في النار، ومن مات على كفره فهو كافر، ومن تيقن موته على ما هو عليه بيقين لا يخالطه شك فيحكم عليه بالنار، وهذا يكون في الحالات النادرة كحالة البابا ورموز الكفر.
السؤال: يقول: ما هو مقصود المؤلف بقوله: [ وأن خير الناس ]، هل هم أمة محمد أم جميع الأمم؟
الجواب: المراد بذلك الصحابة عليهم رضوان الله تعالى هم خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة إلا الأنبياء والمرسلين )، فهم خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين.
السؤال: يقول: هل لهذه المنظومة شروح؟
الجواب: نعم لها شروح، ومن أوسعها شرح السفاريني وهو شرح موسع، وكذلك لـابن البنا شرح، وابن شاهين له شرح أيضاً.
السؤال: يقول: هل الشيخ الألباني كان يرى أن من ترك الأعمال والأقوال لا يكفر؟
الجواب: لا، الألباني عليه رحمة الله يرى أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، لكنه يرى أن من ترك العمل بالكلية أنه لا يكفر، فيرى أن العمل من الإيمان فلا يخرجه منه، ولكنه يقول: إن من تركه لا يكفر، أي: من ترك جنس العمل.
السؤال: يقول: ما التعليق على شيخ الإسلام ابن تيمية: من قال أو فعل كلمة الكفر كفر بذلك، سواءً أكان قاصد الكفر أم لا؟
الجواب: المراد بالقصد: هو أن يقصد أنه بفعله هذا يريد أن يكفر بالله سبحانه وتعالى، وذلك أنه لا يقصد أحد الكفر إلا ما شاء الله كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، وذلك أن الإنسان مهما بلغ في الضلال لا يفعل هذا الفعل وهو يريد أن يخرج من النجاة إلى النار، وإنما يفعل ذلك بمسوغ من المسوغات، وهذا مقصد شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.
السؤال: يقول: هل تحية المسجد فيها سجود سهو؟
الجواب: نعم، ... كغيرها فإن سها فيها الإنسان فإنه يسجد.
السؤال: يقول: ذكرت بالأمس أن الطوائف الثلاثة والسبعين هي ليست الجهمية والبهائية وغيرهم كالرافضة، فمن هي تلك الطوائف؟
الجواب: الطوائف الثلاث والسبعون التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث من طرق عدة، والحديث صحيح عند عامة العلماء خلافاً لمن أعلها كـابن العربي في كتابه: العواصم، وكذلك ابن حزم الأندلسي والصنعاني وغيرهم، والطوائف الثلاثة والسبعين هي الطوائف الداخلة في دائرة الإسلام التي لم يحكم عليها بالكفر، ويدخل في هذه الطوائف الطوائف البدعية التي بدعتها لا تكفرها، فكل طائفة لا يحكم بكفرها وأنها على الإسلام ولكنها ابتدعت فهي من هذه الطوائف الثلاثة والسبعين.
فإذا نظرت في كلام العلماء، فالعلماء مثلاً اختلفوا في الخوارج هل هم كفار أم لا؟ فمرجئة الفقهاء ليسوا بكفار بالطبع، الخوارج قد اختلف العلماء فيهم، والأشاعرة ليسوا بكفار، الماتريدية، هؤلاء من الطوائف البدعية، هؤلاء وأمثالهم مثلاً من الطوائف والأحزاب التي تدعي الإسلام، وهي على الحقيقة على الإسلام لكن لديها بدع وشوائب في الضلال ونحو ذلك، كالشيعة خفيفي التشيع الذي فيه تشيع لا يخرجه من الملة لكنهم يقعون في البدعة فهم من الطوائف الثلاثة والسبعين، فلا يحكم على أحد بعينه منهم أنه من أهل النار، ولكن يقال: الطوائف البدعية متوعدة بالنار إلا من رحم الله عز وجل منهم.
السؤال: يقول: ماذا أفعل مع الحاسد والذي يظهر ذلك، هل يهجر بالرغم من تذكيره؟
الجواب: الحاسد يذكر بالله سبحانه وتعالى وأنه ينبغي أن يذكر الله عز وجل، فقول الشخص إذا رأى شيئاً ما يعجبه ينبغي أن يذكر الله سبحانه وتعالى، لذلك حث الله عز وجل على ذلك أن يقول الإنسان: ما شاء الله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ [الكهف:39]، وهذا هو الأولى والسنة: إذا أعجب الإنسان شيئاً يقول: ما شاء الله، وإن لم يكن هذا ثابتاً بالسنة فهو ظاهر القرآن.
السؤال: يقول: جمهور العلماء يقولون: إن دم الإنسان نجس، فما دليلهم على ذلك؟
الجواب: يستدلون بعموم الآي بتحريم الدم المسفوح، وجاءت نصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام بتحريم الدم، قالوا: إن الدم نجس على الإطلاق، قوله سبحانه وتعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]، قالوا: فإنه يشمل سائر الدماء لأنها مشتركة بالتحريم، فلا يقال بجواز أن يشرب الإنسان أو أن يتداوى بدم غير مسفوح لأنه محرم بالإجماع، فدل ذلك على النجاسة عامة، وذهب ندرة وقلة من السلف إلى أنه ليس بنجس، ولكن هذه المسألة عند الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لم يشر إليها ظهوراً أنها نجسة أو ليست بنجسة، ولكن جاءت عن بعض الصحابة ما يفهم أنها ليست بنجسة، وجاء عن بعضهم ما يفهم أنها نجسة ولم ينص أحد من الصحابة صراحةً على ذلك، وذلك قد روي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة كذلك عن الحسن البصري من التابعين، أنهم مالوا إلى أنها ليست بنجسة.
السؤال: فيمن انغمس في ماء وليس على وضوء؟
الجواب: إن نوى فإنه يرتفع حدثه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر