بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي عدة مجالس سنتكلم بإذن الله عز وجل على هذه الرسالة المختصرة التي جعلها المصنف رحمه الله مقدمة لكتابه الرسالة, وهي في فقه الإمام مالك رحمه الله, ومعلوم أن هذا الإمام هو من أئمة المالكية, ومن أجلتهم وصفوتهم، ومن متقدميهم ومحرري مذهب الإمام مالك رحمه الله، وعقيدته هذه من أنفس العقائد التي دونها المالكيون، جرى بمجموعها مقتفياً آثار السالفين من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وهذا من توفيق الله عز وجل وتسديده.
وكذلك أيضاً فيه إشارة إلى أن عقائد الأولين في القرون الأولى كانت تمتثل عقيدة السلف الصالح الذي يسير على منهاج الكتاب والسنة، وما جرى عليه أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباعهم, وهم خير القرون, الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم )، وهذا الكتاب إنما هو مُجتزأ من الرسالة, ولأهميته اعتنى به العلماء عناية منفردة منفصلة عن الرسالة الفقهية، فكانت هذه المقدمة تجري على طريقة الأوائل في جمع مسائل أصول الدين مع فروعه.
وذلك أن الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله الذين كانوا يصنفون في الأحكام كانوا يجمعون مسائل العقائد مع مسائل الفقه، وهذه طريقة الذين صنفوا في جمع السنة كالذين صنفوا في الكتب الستة وغيرها؛ كـالبخاري و مسلم وأصحاب السنن الأربع وغيرهم، يضعون كتباً للإيمان, وللتوحيد, وللوحي, ويُضمِّنون ذلك أموراً من الفقه، وذلك أن الفقه والأحكام في اصطلاح الصدر الأول كانوا يريدون به عموم مسائل الدين، ولهذا صنف الإشبيلي رحمه الله كتابه الأحكام، وجمع فيه أحكام الدين ما يتعلق بأمور العقائد وكذلك ما يتعلق بأحكام الفقه، وكان العلماء عليهم رحمة الله يطلقون الفقه على جميع علوم الشريعة، ما يتعلق منها بأصول الدين وكذلك ما يتعلق بفروعه، ولهذا كتاب الفقه الأكبر المراد به أمور العقائد، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال كما جاء في الصحيح: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين )، فإن المراد بذلك سائر أنواع الفقه مما يتعلق بمسائل التوحيد ومسائل الأحكام من الحلال والحرام, وكذلك أيضاً أمور الآداب، وما زال العلماء على ذلك حتى توسع العلماء في تصنيف علوم الدين إلى أنواع؛ فجاءت مسائل العقائد والتوحيد، ومسائل الحلال والحرام, والتي أفردت بالفقه, ومسائل الآداب والسلوك، ومسائل الأذكار، عمل اليوم والليلة، جاء هذا التفصيل وإفراد مسائل الدين على سبيل التجزئة, وهو نوع من تقريب العلوم لا تفريق أوصاله، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن مسائل الدين وأحكام الشريعة مترابطة فيما بينها وتتلازم من جهة تداخلها، فيجد في مسائل الأذكار تعلقاً بمسائل التوحيد، ويجد أيضاً في أمور العبادات تعلقاً بمسائل العقائد, ومن العقائد ما يدخله العلماء في مسائل الفقه, وكذلك العكس، وربما أدخل بعض العلماء بعض فرعيات الدين في مسائل العقائد؛ لأنها هي الفاصل والفارق بينهم وبين أهل البدع، مثل: المسح على الخفين في مسائل العقائد لأنها فارق بين أهل السنة والرافضة, وغير ذلك من المسائل الفرعية التي يدرجها العلماء من جهة الأصل في أبواب الفقه.
وهذا التقسيم هو تقسيم حسن إذا عُلمت الغاية منه، وأنه ليس المراد من ذلك التهوين من باب دون باب وتقديم باب من جميع الوجوه على باب آخر، وإلا فيوجد من مسائل العقائد ما هي فرعيات وجزئيات, ويوجد من الفروع ما هي أصول كليات؛ كمثل أركان الإسلام؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ولهذا نجد التأكيد على الصلاة في الشريعة متظافر؛ وذلك لأهميتها وجلالة قدرها، بل جاء في النصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف تاركها بالكفر، كما جاء في مسلم من حديث جابر بن عبد الله : ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة )، وكذلك أيضاً ما جاء في حديث بريدة في المسند والسنن: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر )، وغير ذلك من التأكيدات، وهذه تدرج عند العلماء في أبواب الفروع, ونجد أيضاً في أبواب مسائل العقائد من المسائل الجزئية اليسيرة من دقائق الأسماء والصفات ما لم يؤكد عليها الشارع، وتجد كثيراً من العلماء لا ينبهون عليها, باعتبار أن الشارع ما أكد عليها وأكثر من سياقها، فنجد أن أصول العقائد من جهة الأصل هي أولى بالاهتمام من الفروع، ونجد أن من الفروع ما هو أولى بالاهتمام من بعض جزئيات مسائل العقائد؛ كفرعيات الأسماء والصفات, لا أصولها, فإن هذه يفوقها ما يتعلق ببعض أصول الفروع, وغير ذلك، لهذا نجد أن ثمة تداخلا ومغالبة بين أهمية هذه المسائل المتعلقة بأحكام الدين، والعلماء الأوائل كانوا ينظرون إلى أحكام الدين على أنها جزء واحد لا يتجزأ، فتجد من يتكلم في مسائل العقيدة ويدرج فيها أمور الفقه وربما الآداب والسلوك والأذكار وغير ذلك، والتوسع في التصنيف أوغل فيه المتأخرون كثيراً خصوصاً في الزمن المتأخر, حتى جزئت كثير من مسائل الفروع إلى جزئيات دقيقة، وربما بلغ في بعض الأزمنة إلى حد ... ولهذا كان من السلف الصالح من ينكر التوسع في تجزئة مسائل الدين، ولهذا يروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: العلم نقطة كبرها الجهال، يعني: توسعوا به وجزءوه أجزاء متعددة حتى ظُن أنه يجب على الإنسان أن يتعلمه بتوسعه, حتى ربما خلط الناس بين مراتب العلم فأخذوه من أدناه وتركوا أعلاه، وربما كثير من الناس يحرص على دعوة الناس بالأدنى ويترك الأعلى وهو المتأكد؛ لأن علم الشريعة أصبح يوصف بعلم الشريعة مع كثرة أجزائه وأنواعه، ولهذا نجد السلف الصالح لما اهتموا بالأصول واهتموا أيضاً بالفرعيات وغرسها في نفوس الناس وجدوا الناس يذعنون للجزئيات، ولما اهتم المتأخرون بالجزئيات وجدوهم لا يهتمون بالأصليات، وهذا أمر مشاهد في كثير من بلدان المسلمين.
المصنف رحمه الله في رسالته هذه جعل لها مقدمة وهي التي بين أيدينا، وسنقرؤها ونعلق على ما تيسر من مسائل العقيدة وشيء مما يتصل بها بما أمكن بإذن الله عز وجل.
هي: رسالة مختصرة جليلة، حرية بالحفظ والفهم, وحرية أيضاً بالتعليق والتهميش, والتدليل أيضاً على مسائلها من الكتاب والسنة وأقوال السالفين من الصحابة والتابعين، وهذه العقيدة أيضاً حرية بأن يعتني طلاب العلم بحفظها, ونشرها على سبيل الانفراد في أوساط طلاب العلم، وهي من أدق ما كتبه المالكيون في أبواب العقائد.
قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله: [الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته].
قوله: (الحمد لله) ابتدأ المصنف رحمه الله كتابه هذا بالحمدلة, وهي: الحمد الله رب العالمين، فقال: (الحمد الله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته), وذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أن البداءة بذكر الله عز وجل في المكاتبات هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي حث عليه وحظ وأرشد الناس إليه, وهذا جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثر، منها عملية كما جاء في حديث عبد الله بن عباس ( لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم قال: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كذلك, بذكر الله عز وجل كما جاء عنه في حديث أبي هريرة وغيره, وقد رواه ... في الأربعين وكذلك الخطيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل أمر لا يُبدأ فيه بذكر الله )، وجاء في رواية: ( بالحمد لله )، وجاء في رواية: ( ببسم الله فهو أبتر, أو أقطع, أو أجذم )، على روايات مختلفة, أمثلها وأقربها إلى الصحة هو الحمد الله, ثم يليها بعد ذلك بسم الله, ثم أضعفها بذكر الله، والحديث ضعيف جاء من طرق متعددة, والصواب فيه الإرسال، وقد جاء من حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن ابن شهاب الزهري , وعلى كل نقول: يكفي في ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه كان يفعل ذلك عملاً، ولهذا نقول: إن ذكر الله عز وجل في المكاتبات على نوعين:
النوع الأول: هي الرسائل التي تكون بين الأفراد, والأفضل فيها أن يُبتدأ بالبسملة لا بالحمدلة, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمراء القبائل, وإلى ملوك البلدان؛ كما كتب عليه الصلاة والسلام إلى كسرى وقيصر، وكتب إلى ملك دومة الجندل وغيرهم، فكان يكتب: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله )، ولا يبتدئ بالحمدلة؛ لأن البسملة في ذلك أفضل والاكتفاء بها أقرب إلى الصواب.
النوع الثاني: المكاتبات التي تشابه الخطب؛ وذلك كالمؤلفات والرسائل التي يصنفها الإنسان, فهي شبيهة بخطبة الإنسان يوم الجمعة ونحو ذلك, والأفضل في هذه أن يبتدئها الإنسان بالحمدلة لا بالبسملة؛ كأن يقول الإنسان الحمد الله رب العالمين، والصلاة السلام على نبينا محمد, أو يبتدئ بخطبة الحاجة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتدئ بها، ولهذا نجد الأئمة عليهم رحمة الله يبتدئون المصنفات بذلك، ولهم مناهج في هذا فمنهم من يبتدئ المصنفات بمقدمات يضعونها لكتبهم, ومنهم من يكتفي ببسم الله الرحمن الرحيم, كالإمام البخاري رحمه الله فإنه ابتدأ كتابه بالبسملة ثم شرع في الكتاب, ولم يجعل له مقدمة، ومنهم من وضع مقدمة لكتابه كالإمام مسلم رحمه الله، ومنهج البخاري رحمه الله لعله أراد به أن هذا وحي معظم, وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم, وهو ما ينبغي أن يبتدئ به, وكأنه أراد أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ألا يقدم له بأقوال الرجال وإنما يفتتح ببسملة ثم يُبدأ بالوحي؛ كحال القرآن, حيث يبتدئ الإنسان بالبسملة ثم يدخل إليه وهو أشرف وأعظم كلام, فلا يبتدئ الإنسان حال تلاوته بخطبة أو نحو ذلك، ولهذا ابتدأ المصنف عليه رحمة الله تعالى هذه الرسالة بالحمدلة, فقال: (الحمد الله).
وقول المصنف رحمه الله: (الذي ابتدأ الإنسان بنعمته)، يعني: أن الله عز وجل يعطي الإنسان من غير سؤال, وهو الذي تكفل برزق العباد، والله جل وعلا رب العباد يرزقهم سبحانه وتعالى من غير سؤال، فيعطي الإنسان بسؤال سواء كان كافراً أو غير كافر ويعطيه بغير سؤال، إذاً فهو رب العباد, ومعنى الربوبية: أن الله عز وجل يتكفل بالرزق, وبهذا نعلم أن رزق الله لعباده لا يعني به إكراماً لأحد على غيره، فالله يرزق البهائم من بهيمة الأنعام والطير وغير ذلك كما يرزق الإنسان, ويرزق الإنسان كما يرزق البهائم، ولهذا لم تكن الدنيا من جهة زيادتها أو نقصانها معياراً للخير, وإلا لكان زمن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأزمنة إغداقاً بالرزق وإكثاراً للخير مما يأتي بعده من العصور, وإنما هي أشياء قدرية, وبهذا نعلم أن الله عز وجل يعطي الدنيا الكافر وغير الكافر, والذي يحتج بهذا الأمر فيقول: لماذا يعطي الله عز وجل الكافر وهو يكفر به؟ ولماذا يرزق الله عز وجل الكافر وهو يعتدي عليه أو يلحد به, فينفي وجود الله أو ربما سبه وتعدى عليه سبحانه وتعالى؟ نقول: إن الله عز وجل وصف نفسه بأنه خير الرازقين، ومعنى خير الرازقين أي: أن الله عز وجل يعطي، ولا يمنع لأجل التعدي عليه إلا من يتألم بالتعدي أو بالضر؛ لأن الإنسان إنما يحبس الرزق والعطية عمن آذاه لأنه يتأذى من تلك الأذية, أما إذا كان لا يتأذى فإنه لا يكترث لذلك، وعليه فالأمر يرجع فيه إلى ربوبية الله سبحانه وتعالى لعباده، ولأن الله عز وجل أوجد الإنسان وخلقه ولم يستأذن أحداً سبحانه وتعالى بخلقه, فالذي خُلق من غير إذن في أمره لا يستأذن في التشريع له؛ لأن خلقه أعظم عند الله عز وجل, فابتدأ الله عز وجل الإنسان بخلقه, وابتدأه سبحانه وتعالى بنعمته، ونعم الله عز وجل متعددة وأعلاها الإسلام, ويليها بعد ذلك ما يرزق الله عز وجل العبد من الرزق الحلال في أمر الدنيا.
قوله: (وصوره في الأرحام بحكمته)، يعني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لحكمة ولغاية, وخلقهم أطواراً ليعلم الإنسان أصل نشأته فيعلم نهايته، ويعلم أيضاً طريقة إحيائه بعد ذلك، فالله عز وجل يعيدهم كما أنشأهم أول مرة، يعني: على سبيل الأطوار، فمن عرف بدايته عرف نهايته، فالله عز وجل خلق الناس في أرحامهم وصورهم سبحانه وتعالى، كما قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف:11]، فالله عز وجل خلق الإنسان ثم صوره، ومن العلماء من يقول: إن (( ثُمَّ )) هنا لا تفيد الترتيب الفعلي وإنما تفيد ترتيباً ذِكرياً، ويستدلون على ذلك بأن (ثم) كما تفيد عند العرب الترتيب الفعلي فإنها تفيد في بعض الأحيان ترتيباً ذكرياً ويستدلون بهذه الآية أيضاً, وبقول الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
قالوا: فالمراد بثم ترتيب الذكر لا ترتيب الفعل.
قال المصنف رحمه الله: [وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً].
قوله: (وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه)، أي: أن الله سبحانه وتعالى أراد بالإنسان خيراً، وأنه ما أوجده ليشق عليه, وإنما أراد به اليسرى, وهداه ويسر له السبيل, وكما جعل الله عز وجل للإنسان قدمين يمشي بهما هداه الله جل وعلا إلى النجدين, وجعل الله عز وجل له عينين, وجعل له لساناً وشفتين, يهتدي بها ويميز طريق الخير من طريق الشر, فيعرف الحق من غيره, فإذا وقع في ضر فبما كسبت يمينه وبما فرط في أمر الله سبحانه وتعالى، ولهذا نقول: إن ما يقع للإنسان من ألم أو ضر أو بلاء فهو بما كسبت يمينه في مخالفة أمر الله جل وعلا, فالله عز وجل جعل للإنسان أمرين يهتدي بهما: أولهما: نور الوحي وهداه، وثانيهما: العقل, فبالعقل يعرف الأصل من الخير في الدنيا, وبالوحي يعرف الخيرين وأظهرهما أن يتعرف الإنسان على ربه جل وعلا كما يريد الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن العقل مع الوحي كحال البصر مع النور، فالوحي نور والبصر يدرك به الإنسان ويرى، فإذا كان الإنسان في ظلام دامس فإنه لا تنفعه عينه، وإذا كان الإنسان في نور وهو أعمى فإنه لا ينتفع بذلك النور؛ كحال الإنسان إذا سُلب العقل فهو مجنون لا ينتفع بخطاب الوحي، فلا بد من أن يتخذ الإنسان سبيلاً يوصله إلى الله وينير له الطريق، فإذا أراد أن يسير إلى الله كما أراد الله فلا بد له من الوحي وإلا فهو يتخبط في ظلمات الجهل، وكلما كان الإنسان أبصر بالشريعة كان أقرب وأهدى إلى الله وإلى ما يريد الله سبحانه وتعالى، كالإنسان إذا كان في الظهيرة فإنه يكون أبصر لطريقه, وإذا كان النور في ذلك يسيراً؛ كحال الإنسان بعد مغيب الشمس أو قبل طلوعها فإنه لا يرى ببصره كما يرى في الظهيرة، فينبغي للإنسان أن يستكثر من نور الوحي وأن يهتدي بهديه حتى يقوى له النور فيرى الحق متجلياً فلا تنطلي عليه الشبهات، والله سبحانه وتعالى أراد بعباده اليسر والرفق، ولهذا يقول الله جل وعلا واصفاً شريعته وإرادته الشرعية لأمته: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عباس , وكذلك أيضاً في حديث أنس بن مالك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ بن جبل و أبي موسى: يَسِّرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا )، والنبي صلى الله عليه وسلم حتى في أمر الدنيا كان يتوجه إلى اختيار الخير الأيسر ولا يتجاوزه إلا إذا كان إثماً, ولهذا تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً, فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه ), نعم.
قوله: (وعلمه ما لم يكن يعلم) فالإنسان ولد جاهلاً لا يعلم من العلم شيئاً ثم الله عز وجل علمه، ومنافذ العلم التي توصل العلم إلى الإنسان هي حواسه الخمس، فالبصر منفذ إلى داخله ليعلم، وكذلك السمع، وكذلك الشم، وكذلك الإحساس، وكذلك الذوق، فهذه حواس الإنسان الخمسة، وثمة حاسة سادسة وهي النفس, أي: ما يقوم في ذات الإنسان من معنى، فالإنسان يشعر بالحزن والهم, وأيضاً بالكره والبغض شعوراً نفسياً, ولا يرى ذلك ولا يسمعه ولا يشمه ولا يحس به ولا يتذوقه، إذاً فهذه المعارف وهذه العلوم تصل إلى الإنسان عبر حواسه الخمس وزيادة الحاسة السادسة وهي المعنى القائم بالنفس، ولهذا هيأ الله عز وجل للإنسان هذه المنافذ حتى يصل إليه العلم, سواء كان العلم المشاهد مما يراه الإنسان من أمور الدنيا، أو كان علم الغيب الذي لا يصل إليه إلا بواسطة السمع, وهي الأمور التكليفية من أمور العبادة، والتي مردها إلى السمع هي المرادة هنا بالكلام عليها، ولهذا الله جل وعلا يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، ولم يقل: حتى تريه الكون، أو حتى تريه الأرض أو السماء أو الفجاج, بل قال: (حتى يسمع كلام الله)؛ لأن الإنسان لن يعرف الله عز وجل إلا بوحي الله, ثم يستدل ويهتدي على أصل وجود الله وعلى وحدانيته بما يراه في هذه الكون, فلا يمكن أن يهتدي إلى معرفة تفاصيل صفات الله عز وجل وحقه سبحانه وتعالى في العبادة, ومعرفة أنواعها إلا بما شرع الله جل وعلا, وما شرعه الله عز وجل موجود في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل علم الإنسان ما لم يعلم، فعلمه أمر الدنيا, وكذلك أمر الدين، على أمر الدنيا بما خلق له من عقل ومنافع حتى يستفيد منها الإنسان في معرفة الخير من الشر, وكذلك أيضاً علم الوحي, والأصل أن العلم إذا أطلق في كلام الله أنه يراد به علم الوحي من الكتاب والسنة إلا لقرينة صارفة عن ذلك, أو مدخلة لشيء من علوم الطبيعة في هذا العلم، ومع ما آتى الله عز وجل الإنسان من علم إلا أنه قليل، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
قوله: (وكان فضل الله عليه عظيما) ذكر سبحانه وتعالى أنه علمه ما لم يكن يعلم, ثم ذكر أن فضل الله عز وجل عليه عظيم؛ وذلك أن أعظم فضل هو علم الوحي، أعظم فضل ونعمة على الإنسان علم الوحي, وبدون علم الوحي يخرج الإنسان من دائرة البشرية إلى دائرة البهيمية؛ لأنه يشترك مع البهيمة في الأكل والشرب والضرب في الأرض من غير بصيرة ولا هداية، وقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل, فإذا لم يستعمل العقل إلا في الأكل والشرب فإن البهائم تستعمل عقلها في الأكل والشرب أدق من الإنسان, وتهيء لنفسها بيئة تعيش فيها كما يهيئ الإنسان لنفسه بيئة يعيش فيها، فالطيور وكذلك الأسماك والسباع في البرية ونحو ذلك تهيئ لنفسها من بيئتها ما يناسبها كما يهيئ الإنسان لنفسه ما يناسبه، فالطيور تهيئ عشها, وتغذي فراخها, وتعتني بأمنها ونحو ذلك؛ كما يهيئ الإنسان، وكل مخلوق له بيئته، فالطيور تختلف عن السباع والسباع تختلف عن الأسماك والبر يختلف عن البحر, وهكذا كلٌ له بيئة تهيأ له، لكن إذا نظر كل مخلوق إلى ذاته رأى امتيازاً له على غيره, ولو كان كذلك لافتخرت الطيور بالطيران على السباع, وافتخرت الأسماك بكونها في الماء على ما كان في البرية, والإنسان إذا سُلب الهداية إلى الله سبحانه وتعالى فإنه يكون أضعف وأضل من الأنعام سبيلا، فإن للبهائم قدرة على بعضها البعض، ولها سطوة على بعضها البعض، وقد ميز الله عز وجل الإنسان بهذا العلم, وهو الاهتداء إلى الله سبحانه وتعالى, ولهذا نجد في القرآن أن الله عز وجل لا يذكر الإنسان إلا بصيغة الذم؛ لأن دائرة الإنسانية المجردة ليست كرامة, فليس من المحامد وصف الشيء بالإنسانية؛ لأن الإنسانية صنف من مخلوقات الله سبحانه وتعالى يشارك غيره في الضرب في الأرض, ولكن الله سبحانه وتعالى كرم الإنسان بالإيمان والتوحيد، والأصل في من وصف بأنه إنسان أنه على خسار, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1-3]، فالله عز وجل لا يذكر الإنسان في القرآن إلا في سياق الذم كالخسران، فالإنسانية وصف لحال مخلوق من مخلوقات الله عز وجل فإذا لم يخرج من تلك الدائرة كان كحال البهائم أو دون ذلك، ولهذا الله جل وعلا وصف المشركين والكفار ومن أعرض عن الله عز وجل بأنهم كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].
فقوله: (وكان فضل الله عليه عظيماً)، يعني: ما أنعم عليه من تلك النعمة, حيث أنزل عليه وحيه وأرسل إليه الرسل وأقام له النذر، فكرمه الله عز وجل بهذه العبودية لأعظم معبود سبحانه وتعالى، إذ لا معبود بحق إلا الله، يقول الله جل وعلا: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] (( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ))، وفضل الله عز وجل هو الإسلام، وكان السلف الصالح عليهم رحمة الله تعالى يسمون فضل الله عز وجل: الإسلام؛ كما جاء عن عبد الله بن عمر وغيره أنه كان يقول: اللهم كما هديتني للإسلام فلا تقبضني إلا وأنا مسلم.
قال المصنف رحمه الله: [ ونبهه بآثار صنعته، وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه، فهدى من وفقه بفضله، وأضل من خذله بعدله].
قوله: (ونبهه بآثار صنعته)، أي: أن الله سبحانه وتعالى أمره بأن ينظر بتلك الحواس في مخلوقات الله عز وجل، كالأفلاك والنجوم, فينظر في السماء, وينظر في السحاب وتأليف الله عز وجل بينها, وينظر في الأمطار والأرض في حال اهتزازها وربوتها إنباتها, وكذلك في عودتها بعد ذلك كأنها لم تكن على خضرة من قبل, وينظر في ما كان عليه الأمم السابقة من إغداق في الحياة مما أنزل الله عز وجل عليهم ثم سلبهم ذلك, وما أنزل الله عز وجل على الأمم الغابرة من عقاب متنوع، تختلف فيه هذه الأمة عن الأمة الأخرى, مما يدل على قدرة الله عز وجل, وينظر كذلك في تسيير الله عز وجل للأفلاك والنجوم وهذه الأجرام المنضبطة في السير من غير سمع ولا بصر ومن غير إدراك، فهي جمادات تأتمر بأمر الله عز وجل فإذا امتثلت هذه المخلوقات لأمر الله عز وجل ولم تخرج عنه وانضبطت, فما بال من آتاه الله عز وجل ذلك الإدراك يخرج عن مراد الله سبحانه وتعالى؟ ولهذا نقول: إن من خرج عن أمر الله جل وعلا مع هذا الإدراك يكون شراً من البهائم؛ لأنه كان صاحب مشيئة ففرط فيها فأصبح كالأنعام بل هو أضل.
قوله: (وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه, فهدى من وفقه بفضله, وأضل من خذله بعدله).
الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة، فمن وفقه إلى الخير فالله عز وجل تفضل عليه, ومن لم يوفقه الله عز وجل إلى الخير، فيقال: إن هذا مما كسبت يد الإنسان, وهو اختيار له، فقد جعله الله عز وجل له اختياراً، فالله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله جل وعلا: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، فالله عز وجل لا يظلم الناس مثقال ذرة، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، ولهذا أقام العدل والميزان بالقسط، وأمر بأن يقام في الناس, وجعله سبحانه وتعالى الأمر الذي يكون بينه وبين عباده من جهة القضاء والتشريع، وكذلك أيضاً من جهة الحساب يوم القيامة.
والله سبحانه وتعالى كرم الخلق كما تقدم بكتبه, وكذلك أيضاً برسله, يدلونهم في حال الانحراف، فكلما انحرفت الأمة بعث الله عز جل إليها النذر، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي هريرة: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبيائهم, كلما ذهب نبي خلفه نبي بعده )، وجاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا قال: ( خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين )، يعني: الأصل في الخلقة أن الله عز وجل خلق الإنسان مهدياً, وفطره على الفطرة الصحيحة كما في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).
قال المصنف رحمه الله: [ ويسر المؤمنين لليسرى, وشرح صدورهم للذكرى, فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين، وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين، وتعلموا ما علمهم، ووقفوا عند ما حد لهم، واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم. ].
قوله: (ويسر المؤمنين لليسرى، وشرح صدورهم للذكرى). من أعظم النعم أن يهيأ الإنسان لليسرى, ومن التهيئة في ذلك أمور قدرية يهيئها الله عز وجل للإنسان من غير اختيار, منها: أن يولد الإنسان من أبوين مسلمين, وأن يوجد أيضاً في بيئة مسلمة, فهذا من الأمور القدرية التي لا اختيار للإنسان فيها, فهذا من نعمة الله عز وجل على عباده، وقد يفوق الإنسان ذلك غيره ممن لم يهيأ له ذلك قدراً، كأن يؤمن الإنسان في بلد ليس فيها مسلمون, أو يسلم الإنسان وهو من أبوين ليسا بمسلمين, ولهذا نقول: إن فضل الله عز وجل على عباده يتنوع، وربما يريد الله عز وجل بالإنسان خيراً وهو من أبوين ليسا من أهل الإسلام, وذلك أنه يريد بذلك أن يعظم أجر ذلك المتعبد له؛ لأنه ولد في بيئة ليست إسلامية ثم آمن فذلك أشد مشقة عليه مما لو ولد في بيئة إسلامية ثم بقي على الإسلام، فكل له وجه من أمور التوفيق والهداية, يريد الله عز وجل بأقوام خيراً, وهو سبحانه وتعالى لا يريد بعباده إلا ذلك.
وكذلك أيضاً من أراد الله عز وجل له الهداية شرح صدره للإيمان، وشرح صدره للإسلام بأن يقبل الحق, ومن لم يرد الله عز وجل به خيراً سلبه ذلك, بأن يجعله لا يقبل الإسلام ويضيق عند سماعه وينصرف عنه, فيختم الله عز وجل على سمعه وبصره ويجعل على قلبه غشاوة.
قوله: (فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين, وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين).
قوله: (فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين)، يعني: مخلصين بما نطقوا, وقد ذكر هنا الثلاثة الأمور المذكورة في تعريف الإيمان, وهي: نطق باللسان, وعمل القلب وهو: الجنان, وكذلك أيضاً عمل الجوارح, ولهذا نقول: إن الإيمان قول وعمل, ويأتي الكلام على هذه المسألة بإذن الله.
قال المصنف رحمه الله: (وتعلموا ما علمهم, ووقفوا عند ما حد لهم, واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم).
يقول: وتعلموا ما علمهم، يعني: أخذوا ذلك العلم استرشاداً واستضاءة, وذلك لفضل العلم ومنزلته, والله سبحانه وتعالى جعل أشرف العلم لشرف المعلوم, وأشرف معلوم هو العلم بالله سبحانه وتعالى، فكان علم الوحي هو أعظم العلوم على الإطلاق، وهو الذي أمر الله جل وعلا نبيه أن يسأله زيادة فيه فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وقد رفع الله عز وجل أهل الإيمان كما في قوله جل وعلا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].
وهنا في مسألة التعلم ذكر أنهم تعلموا العلم ثم وقفوا عند الحدود, ولم يعلموا ثم يفرطوا من جهة العمل؛ لأن العلم يقيم على الإنسان الحجة، والجاهل الذي لا يعمل خير من العالم الذي لا يعمل؛ لأن هذا أظهر في باب العناد, وإن لم يكن الجهل عذراً لكل أحد، والعالم كلما استزاد علماً استزاد معرفة بأحكام الله عز وجل وحكمه وأوامره, فإذا فرط في ذلك كان أظهر في المخالفة والعناد وعدم الاكتراث والمبالاة بأمر الله.
قال المصنف رحمه الله: [ أما بعد: أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه, وحفظ ما أودعنا من شرائعه, فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة، مما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء من الآداب منها].
قوله: (أما بعد), هي فصل الخطاب, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل فصل الخطاب في خطبه, وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده وفي كتاباتهم أيضاً, واختلف في أول من بدأ ذلك -وهذا يفتقر إلى دليل صريح في هذا- على أقوال, قيل ستة وقيل سبعة، ولكن لا يصح شيء من الأدلة صراحة في أول من قالها, وإن ثبت عن بعضهم ما نقل عنهم ذلك.
قوله: (أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه) هذا من الدعاء المستحسن في الدعاء للقارئ, للكاتب لهذه الرسالة.
وفيه أيضاً: أن الإنسان ينبغي أن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى في فهم العلم ورعايته, فربما يتعلم الإنسان العلم ولا يحفظ تلك الوديعة بالتفريط فيها، لا يحفظها من جهة العمل ولا يرعاها ويحفظها من جهة صيانتها من الهدر والنسيان, فإن الإنسان إذا أقيمت الحجة عليه ثم عطلها حفظاً وعطلها عملاً فإن ذلك أظهر في عدم المبالاة والاكتراث بأمر الله سبحانه وتعالى.
قوله: (وحفظ ما أودعنا من شرائعه) لدينا دين ولدينا شريعة، فدين الله عز وجل الإسلام وهو واحد, وأما الشرائع فهي متعددة، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، والدليل على أن الدين واحد قول الله جل وعلا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ولهذا نقول: إن الدين واحد والشرائع متعددة, تختلف في شرائع الأنبياء, وأما بالنسبة لدين الإسلام فهو واحد منذ أن أنزل الله عز وجل آدم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, إذا طرأ عليه تبديل فإنه يجدد في ذلك, ويستعمل الدين وتدخل فيه الشريعة, وتستعمل الشريعة وتدخل فيها الدين, وبينهما عموم وخصوص في ذلك, فإذا أطلقت عبارة فإنها يدخل فيها الأخرى، فيقال: إذ اجتمعا افترقا وإذا فترقا اجتمعا في الغالب.
قوله: (فإنك سألتني أن أكتب لك جملة)، وفي هذا إشارة إلى معنى أن هذا المصنف إنما صنفه المصنف رحمه الله لطلب من طلبه في ذلك, وأنه ينبغي لأهل العلم في حال رؤيتهم لحاجة الناس في مسألة من المسائل أن يكتبوا لهم لإقامة الحجة، وكثير من المصنفات يكتبها الأئمة لفرد أو أفراد ثم ينفع الله عز وجل بها الأمم، ومثل هذه الرسالة ربما كتبها المصنف في ظاهر سياقه لواحد, ثم نفع الله عز وجل بها بعد ذلك خلقاً من البشر عبر قرون مديدة، ولهذا إذا ظهر من الإنسان الصدق عمم الله عز وجل نفعه, فكان نفعه للواحد متعدياً إلى الأمم والخلق, وإذا علم الله عز وجل عدم صدقه فلو خاطب الخلق كلهم لجعل الله عز وجل خطابه إلى أُفول واضمحلال وزوال، ولهذا نقول: إن الصدق له أثر في ذلك, فإن الله عز وجل يجعل أمور الناس في تبليغ العلم كحال الغيث, منها ما ينزله الله عز وجل وينفع به, ومنها ما ينزله الله عز وجل على مواضع لا تنبت, فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القبول لعباده.
قوله: (مختصرة من واجب أمور الديانة).
يقول هنا في الإجابة على شيء من مسائل الديانة: وأن يكون ذلك على سبيل الاختصار؛ وذلك لحاجة الناس, ولعادة النبي صلى الله عليه وسلم الاختصار في الأقوال وتقريبها للأفهام، ولهذا كانت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم تعد عداً, تقريباً, وكان الصحابة عليهم رضوان الله كذلك يجرون عباراتهم على سبيل الاختصار فيما يوصل العلوم بعيداً عن الإسهاب والإطالة، ثم توسع الناس بعد ذلك وتوسع المتأخرون.
ثم قال: (مما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح), وفيه إشارة إلى أن الإسلام هو هذه الثلاثة: نطق اللسان, وعمل القلب, وعمل الجوارح.
قوله: (وما يتصل بالواجب من ذلك).
كأنه هنا جعل هذه الثلاثة, وهي: عمل القلب, ونطق اللسان, وعمل الإنسان بجوارحه؛ منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب, وهو كذلك، فثمة أمور واجبة على الإنسان بقلبه, وثمة أمور ليست بواجبة هي من الأمور المستحبة، وذلك ما يتعلق بأمور العلو في مراتب التوكل، والعلو في مراتب الرجاء، والتعلق بالله سبحانه وتعالى, تعلق الصديقين وغير ذلك, هذه هي من مراتب الكمال.
وهكذا أيضاً بالنسبة للنطق باللسان، ثمة ما هو واجب على الإنسان كالنطق بالشهادتين؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة و أنس بن مالك قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله )، إذاً النطق من الواجبات.
ومن عمل القلب أيضاً ما هو واجب؛ كمسألة حب الله عز وجل وخشيته؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ).
وكذلك أيضاً في نفي الإيمان عمن لا يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار، إذاً التعلق بالله سبحانه وتعالى مرتبة من المراتب الواجبة على الإنسان في أموره القلبية.
وهكذا بالنسبة لعمل الجوارح؛ منها ما هي واجبات كأمور الصلاة, ومنها ما هي دون ذلك كالنوافل من الصلوات, ومنها ما هي واجبات من أمور الحج والعمرة، ومن الحج والعمرة ما هو نوافل, ومنها ما هي نوافل ولم تفرض من جهة الأصل, ليس لها من جنسها شيء فرضه الله سبحانه وتعالى؛ ككثير من أعمال البر وذلك كالإحسان إلى الناس من حسن الخلق, والابتسامة في وجوههم, ومثل إعانة الإنسان في طريقه أو نحو ذلك, هذه من الأمور المستحبة التي تكون من الإنسان عملاً ولا تجب عليه عيناً.
قوله: (من السنن مؤكدها ونوافلها ورغائبها, وشيء من الآداب منها), وهذا على ما تقدم من أن الشريعة منها عقائد, ومنها فقه, ومنها آداب, ومنها سلوك, ومنها ما يتعلق بالسنن، السنن عامة منهم من يدرجها في أبواب الأحكام, باعتبار أن الأحكام هي: الواجب, والحرام, والمندوب, والمكروه, والمباح, فهي داخلة في هذه الدائرة يدخل فيها الجميع، فيدخلون الآداب وأمور السلوك المستحبة في هذا الباب, ومنهم من يفصلها ويجعلها منفردة.
قال المصنف رحمه الله: [وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وطريقته مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتثقفين ].
قوله: (وجمل من أصول الفقه وفنونه..)، وعلى ما تقدم فإن هذه الرسالة إنما هي مختصرة في فقه مذهب الإمام مالك رحمه الله، وهذا يدل على أن أقوال الإمام مالك رحمه الله في مسائل العقائد تجري مجرى أقوال الصحابة والتابعين, وأنه لم يخرج عنهم ولو قيداً يسيراً، ولهذا صنف هذه الرسالة ومقدمتها على منهج الإمام مالك رحمه الله, وكذلك أيضاً أبواب أصول الفقه, فإن أصول الإمام مالك رحمه الله هي من أصح الأصول وأنقاها.
قال المصنف رحمه الله: [ وبيان المتفقهين لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن, ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته وتحمد لهم عاقبته ].
وللعلم بركة على الإنسان، بركة في نفسه وبركة أيضاً في ماله, وبركة في ذريته, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس بركة لما لديه من علم فهو أعظم الأمة علماً؛ لأن الله عز وجل آتاه الوحي، ولهذا يقول كما في الصحيح: ( بينا أنا نائم أُتيت بقدح لبن فشربت منه حتى رويت, حتى رأيت أثر الري يخرج من أظفاري، قالوا: ما أولت ذلك؟ قال: العلم )، يعني: امتلأ النبي صلى الله عليه وسلم علماً مما علمه الله جل وعلا، فأراد الله سبحانه وتعالى به كمال الخير, ولم يسلبه من ذلك شيئاً, وإن سلب من دنياه عليه الصلاة والسلام لأن الدنيا ليست دار سلامة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ربما أوذي في نفسه وأوذي في عرضه، وربما أوذي في دمه وأوذي في ماله عليه الصلاة والسلام فسلب ذلك ليس سلباً للخيرية المرادة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين )، وإرادة الخير هي ... لوازمها، آثارها, وهي البركة.
قال المصنف رحمه الله: [ فأجبتك إلى ذلك لما رجوته لنفسي ولك من ثواب من علم دين الله أو دعا إليه ]، وهذا ما ينبغي على الإنسان في أمور العلم والتعليم والكتابة والتأليف, وينبغي أيضاً توجيه الناس وإرشادهم, ولو بالإشارة, إلى أن يصدق الإنسان النية مع الله عز وجل.
وهنا بين أنه صنف هذه الرسالة رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى من ثواب الداعي, وكذا ثواب المعلم, وكذلك أيضاً يرجو لغيره أن يكون سبباً معه في مثل هذا, وأما ما يتعلق بمسائل الدلالة على الخير أو التسبب فيها، فمن تسبب بخير فإن له مثل أجر من تبعه في ذلك؛ كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة )، فتكون هذه الرسالة لمصنفها ولمن تسبب بها وسألها، لمن سألها فيلحقه في ذلك الأجر, وإن جهلناه فالله عز وجل يعلمه, فالله سبحانه وتعالى يعلم الذي سأل تدوين هذه الرسالة وتسبب بانتشارها وانتفاع الناس بها, وذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.
قال المصنف رحمه الله: [ واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه, وأولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها، وتنبيههم على معالم الديانة وحدود الشريعة, وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم، وتعمل به جوارحهم، فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفئ غضب الله، وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر ].
قوله: (واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه).
القلوب والعقول أوعية لا بد أن تملئ, فإذا لم يملأها الإنسان بالخير ملئت بالشر, إما ملأتها النفس أو ملأها الشيطان، لهذا ينبغي للإنسان أن يبادر, فلا يوجد قلب وعقل يبقى فارغاً إلى أن يلقى الله عز وجل, لا بد أن يملأ، فينبغي للإنسان أن يملأ قلبه بالعلم وبالوحي, والإنسان إذا كان له ولاية على من تحته ممن ولاه الله عز وجل أمراً؛ كالصبية الصغار عليه أن يعلمهم؛ لأن قلوبهم وعقولهم ولدوا على أنها فارغة, فينبغي أن يملأها بالخير؛ لأنها إذا لم تملأ به ملئت بالأهواء، وملئت بالمشارب, وملئت بالضلال, وهذا من عظيم التربية والواجب على الإنسان, والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث على ذلك وأرشد إليه.
قوله: (وأولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها؛ لأن علم الصغار يختلف عن علم الكبار، فالكبار ربما يتصلبون؛ وذلك لأنهم ربما تشربوا الضلال فيصعب تحولهم عن ذلك, بخلاف القلب الخالي فأول ما يأتي إليه يثبت عليه، ولهذا من نعم الله عز وجل على الإنسان أن يتعلم الحق أول شيء فإنه يثبت عليه أعظم من ثبات غيره غالباً, وهذا من الأسباب المادية المعروفة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى تعليم الصغار ومبادرتهم في ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين )، يعني: مع بداية الإدراك, بادرهم بعمل الخير قبل أن يبادروا بعمل الشر، ( واضربوهم عليها لعشر )، يعني: التطويع على مثل هذا العمل حتى يخضعوا ويقبلوا الحق, بخلاف القلوب المتصلبة فربما تتشرب الكفر كما يتشرب الإسفنج الماء, أو كما تتشرب الأرض الماء، فلا يستطيع الإنسان أن يعيد الماء من تراب قد شربه ولا يستطيع الإنسان إخراجه، فلهذا الأرض الممتلئة والمشبعة بالماء إذا سقيت بماء آخر فإنه يطفح عليها, وكذلك حال الإنسان وقلبه إذا كان ممتلئاً بالحق وجاءه الباطل خرج منه؛ لأنه ممتلئ، وأعظم النفوس عناداً التي تُشرب الباطل، ولهذا يقول الله جل وعلا عن بني إسرائيل في العجل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93]، يعني: أن قلوبهم تشربت حب العجل حتى صعب أو شق عليهم أن يتحولوا.
قوله: (وتنبيههم على معالم الديانة وحدود الشريعة ليراضوا عليها, وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم). الشريعة لها حدود حدها الله عز جل، يقول سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ [الطلاق:1]، فالله عز وجل قد جعل حدود الدين على معالم مرسومة, وأمر بلزومها وعدم الخروج منها, وحذر الله جل وعلا أيضاً من الابتداع والإحداث في دينه، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وفي مسلم من حديث عائشة : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، ولهذا نقول: إن مسائل الشريعة محدودة ومبصومة, وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج عنها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي )، ثم قال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام بعدما أوصى بالصحابة وكذلك بسنتهم قال: ( وإياكم ومحدثات الأمور )، يعني: ما كان خارجاً عن الشريعة من أمور الديانة فهو ضلالة وبدعة في دين الله سبحانه وتعالى.
قوله: (وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم، وتعمل به جوارحهم, فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفئ غضب الله, وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر)، وهذا أمر معلوم, فالإنسان إذا تعلم ابتداء فإنه يتشرب الشيء ولا يزول عنه, وكلما اعتاد الإنسان على شيء ثبت ورسخ عليه، وكما ذكر فإن العلم في الصغر كالنقش في الحجر, وهذا أمر مجرب, وتحفيظ الصغار للعلم وتثبيت العلم فيهم ابتداء, هذا مما يقوي الملَكَة لديهم ويرسخ المعلومة؛ وذلك لأن القلب خالٍ ولم ينشغل بأمور الدنيا وهمومها، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصبية والمبادرة بذلك، قبل أن يعلَّم شيئاً من أنواع العلم الذي لا يريده, فيعلم الابن الجهالة أو الضلال أو الانحراف، ونحن في زمن قد كثرت منافذ التعليم والتلقي عند الصغار، وقد فتحت الفتن بجميع أنواعها من فضائيات ومسموعات ومقروآت, وكذلك ملاهي متنوعة, فإذا أغرق وأشبع قلب الإنسان بذلك من صغره صعب عليه أن يوضع فيه غير ذلك، ولهذا ندعو إلى المبادرة بتعليم الصبيان قبل أن يُبادَروا بخلاف ذلك، فالشوارع تضع, والمدارس تضع, والإعلام يضع, والأصحاب والزملاء يضعون, والأقربون يضعون كذلك، لهذا ينبغي للإنسان أن يبادر بتعليم من ولاه الله جل وعلا أمره.
وينبغي أن يبدأ بالقرآن, وتعليم القرآن للصبيان ينبغي أن يكون على سبيل التدرج لا على سبيل المسارعة، ولهذا قيل للإمام مالك رحمه الله: إن هنا صبياً يحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين, قال: لا يعجبني، يعني: أنه ينبغي أن يتدرج فيه حتى لا يثقل عليه؛ لأن للصبي نزوة من الانصراف والمتعة ونحو ذلك, فينبغي أن يؤخذ على سبيل التدرج حتى لا ينفر, وهذا كما أنه في الصغير من هذا الوجه فهو كذلك أيضاً في الكبير حتى يتدرج في العلم ولا يعتد بما لديه، ولهذا روى عبد الله بن أحمد في كتابه السنة عن عبد الله بن عمر من حديث الأصم عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أنه قال: كنت عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فجاءه أحد عماله فسأله قال: ما فعل الناس بالقرآن؟ فقال عامله: قرأ منهم القرآن كذا وكذا, فقال عبد الله بن عباس: لو لم يفعلوا لكان خيراً، قال: فزجرني عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى, فقال عبد الله بن عباس : فخرجت مهموماً على وجهي, فعادني بعض أهلي وما بي من وجع, يعني: مهموماً من زجر عمر له, ثم قيل لي: أجب أمير المؤمنين, قال: فخرجت, فقال: ما الذي قلت؟ قلت: والله ما أردت إلا خيراً يا أمير المؤمنين, قال: أعلم. ما الذي قلت؟ فقال عبد الله بن عباس عليه رضوان الله: يا أمير المؤمنين إنه قال: قرأ القرآن منهم كذا وكذا وإني لا أحب أن يسرعوا هذه المسارعة؛ لأنهم إن أسرعوا هذه المسارعة احتقوا, وإن احتقوا اختلفوا, وإن اختلفوا اقتتلوا، يعني: الإنسان يظن أن كثرة العلم لديه هي بكثرة المحفوظ والمسارعة فيه، فاحتقوا أي: كل يدعي أن الحق لديه، فيقول: أحفظ القرآن, وأحفظ السنة, يظن أن هذا هو العلم، والعلم هو أيضاً فهم وإدراك وخبرة في الحياة وتدرج فيها شيئاً فشيئاً، فلا يصدر الإنسان لمجرد محفوظاته، بل لا بد من معرفة الواقع ومعرفة الحال وأين توضع الأدلة ونحو ذلك قال: عمر بن الخطاب لـعبد الله بن عباس: لله أبوك ، كنت أكتمها حتى قلتها, يعني: أنه موجود في نفسي مثل هذا الأمر ولكن أنت دللتني عليها, وهذا من الفقه والسياسة الشرعية, لهذا ينبغي أن يتدرج في تعليم الصبيان ويتدرج في تعليم الكبار، ويتدرج في تعليم الصبيان من جهة الحفظ، ويوضع لهم أحزاب وأجزاء بحيث يمر عليه سنتان أو ثلاث سنوات أو أربع سنوات ويكون قد أتم القرآن، ولا يشد عليه مثلاً في فترة زمنية معينة.
وينبغي ألا يُبدأ بشيء قبل القرآن للصغار خاصة إلا الإنسان إذا تقدم به العمر ورأى أنه يثقل عليه أن يجمع بين القرآن والسنة, ولهذا ذكر القاضي ابن أبي يعلى عن الإمام أحمد رحمه الله في الطبقات أنه سئل: أريد أن أعلم ابني القرآن أأبدأ بالقرآن أم بالسنة؟ قال: بالقرآن, قال: إنه قد كبر, قال: بالقرآن, قال إنه قدر كبر, قال: علمه هذا وهذا, يعني: القرآن لا تدعه في أي حال, لهذا فالإنسان يتعلم العلم وأول العلم القرآن وهو أصله, ثم يتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم يقرنها معه, والتفرغ للقرآن ابتداء خاصة في الصغر هي من الأمور المهمة التي تعين الإنسان على ثباته، كذلك للقرآن بركة ويمن على صاحبه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كما جاء في حديث عقبة: ( لو جعل القرآن إهاباً ثم ألقي في النار ما مسته النار ), ومراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أن القرآن في جوف الإنسان والإنسان من جلد, وأن الله عز وجل لا يعذب عبده لو ألقي في النار وهو صاحب قرآن, وهذا من فضل الله عز وجل، وهذا إنما هو فيمن تعلم القرآن لله سبحانه وتعالى بخلاف من قرأ القرآن ليقال قارئ فإنه ( أول من تسعر بهم النار ), كما جاء في مسلم من حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة عليه رضوان الله.
قال المصنف رحمه الله: [ وقد مثلت لك من ذلك ما ينتفعون إن شاء الله بحفظه، ويشرفون بعلمه, ويسعدون باعتقاده والعمل به، وقد جاء أن يؤمروا بالصلاة لسبع سنين ويضرب عليها لعشر ويفرق بينهم في المضاجع ].
وكذلك هذه الرسالة دليل على عناية الأئمة عليهم رحمة الله بالصبيان بتعليمهم مسائل العقائد، فهذه الرسالة هي مصنفة من جهة الأصل للصغار، مصنفة للأولاد, ولكن لما فيها من معاني جليلة القدر وأصول عظيمة يتعلمها الصغار وكذلك أيضاً الكبار, وفيها عناية ذلك الجيل بتعليم الصغار وتفقيههم العقيدة وتبصيرهم بما فيها من معاني وأحكام وكذلك أدلة.
قال المصنف رحمه الله: [ فكذلك ينبغي أن يعلموا ما فرض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم؛ ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك من قلوبهم, وسكنت إليه أنفسهم, وأنست بما يعملون به من ذلك جوارحهم ].
وهذا على ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مروا أولادكم للصلاة وهم أبناء سبع, واضربوهم عليها لعشر, وفرقوا بينهم في المضاجع ), فهذا يعني المبادرة بالتعليم, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصبيان ويرشدهم عليه الصلاة والسلام, يعلمهم الأصول ويعلمهم الفروع، ولهذا عبد الله بن عباس ناهز الاحتلام ويقول كما في البخاري: ( توفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا قد حفظت المفصل )، يعني: من القرآن, وكان يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كثيراً من الأحكام, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ( يا غلام, احفظ الله يحفظك، يا غلام .. إلخ )، وكذلك أيضاً قوله: ( يا غلام, سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك )، هذا إرشاد إلى آداب، وإرشاد إلى أصول، وإرشاد إلى أحكام متنوعة, فينبغي للإنسان أن يجعل العلم في تربية الصغار متنوعاً بحسب المناسبات، إذا كان على طعام أرشدهم، وإذا وجدهم يلعبون علمهم آداب اللعب، وإذا كانوا في موضع صلاة علمهم أحكام الصلاة, فيستغل الأوقات ويرشدهم إلى الأحكام في مناسباتها.
قال المصنف رحمه الله: [ وقد فرض الله سبحانه على القلب عملاً من الاعتقادات, وعلى الجوارح الظاهرة عملاً من الطاعات, وسأفصل لك ما شرطت لك ذكره باباً باباً, ليقرب من فهم متعلميه إن شاء الله تعالى, وإياه نستخير وبه نستعين, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ].
وهذا من جميل التوكل والاستعانة والالتجاء إلى الله عز وجل, والبراءة أيضاً المتضمنة البراءة لما يوجد في النفس, من اعتماد عليها واعتماد على علمها واعتماد على ذكائها وقدرتها، فالبراءة من ذلك هي من علامة أهل الإيمان, وألا يعتمد الإنسان في ذلك إلا على ربه سبحانه وتعالى, فهو الذي يوفق الإنسان ويسدده ويعينه ويرشده إلى الصواب.
قال المصنف رحمه الله: [ باب: ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات ].
هذا هو الغالب الذي يبتدئ به الأئمة في مسائل العقائد، فيبتدئون بالأصل العام في عمل الإنسان وموضع الإيمان, وهو أصل مواضع القلب, وكذلك أيضاً بقول اللسان وعمل والجوارح، وهذه هي مواضع الإيمان وأوعيته التي لا يكون الإيمان إلا بها، فإذا فُهم ذلك أدركت الحقيقة من معنى الإيمان حتى لا يُظن أن الإيمان إنما هو آداب أو مجرد سلوك أو مجرد قول متجرد عن عمل الجوارح أو نحو ذلك, حتى ضل كثير من أهل البدع في هذا الباب حين جعلوا الإيمان معاني مخصوصة وأخرجوا غيرها منها، فطريقة الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في هذا أنهم يبتدئون بالإيمان وتعريفه بأنه قول وعمل واعتقاد.
قال المصنف رحمه الله: [ من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره ولا شبيه له ولا نظير له ].
يقول: من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره، فالإيمان المراد به: القول والعمل والاعتقاد, وهو شامل لهذه الأشياء، والعمل عمل الجوارح, وقول اللسان, وكذلك عمل القلب وقول القلب, ولهذا نقول: إن هذه الثلاثة هي الإيمان, وما يذكره العلماء في قول اللسان وعمل والجوارح واعتقاد القلب من أن هذه شروط الإيمان أو أركان الإيمان أو أجزاء الإيمان؛ هذه وإن دل بعضها على بعض المعاني الصحيحة إلا أن لها لوازم ربما أدت إلى بعض المعاني القاصرة، فنقول: إن الإيمان هو: اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح, لا نسميها شروطاً ولا أركاناً ولا واجبات, وإنما نقول: الإيمان هو هذه الثلاثة, فإذا نقص واحد منها واختل واحد منها فإنه لا يسمى إيماناً؛ وذلك مثلاً كصلاة المغرب, فهي ثلاث ركعات, فإذا نقصت ركعة فإنها ليست مغربا، كذلك أيضاً الإيمان هو قول اللسان وعمل الجوارح واعتقاد الجنان وهو القلب، وبعض العلماء يتجوز بذكر بعض الألفاظ فيقول: هي أركان الإيمان أو يقول: هي واجبات الإيمان أو شروط الإيمان, منهم من يقول: شروط صحة أو شروط كمال أو غير ذلك من المصطلحات التي لها لوازم مخالفة للمعنى الوارد في الشرع, وأوضح هذا وأبينه أن نقول: إن الإيمان هو هذه الثلاثة, ومن الأمثلة حتى يقرب المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو واحد, وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, هذه الثلاثة هي محمد أو غير محمد؟ هي محمد، فإذا قلنا صالح بن عبد الله بن عبد المطلب فليس محمداً، وإذا قلنا محمد بن صالح بن عبد المطلب فليس محمداً، وإذا قلنا: محمد بن عبد الله بن صالح هل هو النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: ليس النبي عليه الصلاة والسلام, كذلك أيضاً الإيمان، فالإيمان: قول وعمل واعتقاد، هل هي أركانه أو شروطه أو واجباته؟ منهم من يستعمل هذه الاصطلاحات, فمنها ما هو أقرب للصواب من الآخر؛ كالأركان فهي أقرب من الواجبات، والواجبات أقرب من الشروط، فالسلامة في ذلك أن نلزم طريقة السلف الصالح في هذا، فنقول: إن الإيمان هو قول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب هو اعتقاده، فالقلب له عمل وله قول, ويأتي بيانه بإذن الله تعالى، إذا قلنا هذا نعلم أن عقيدة السلف الصالح عليهم رحمة الله أن الإيمان إذا كان بهذه الثلاثة فاختل واحد منها اختل الإيمان، فإذا وقع الإنسان بمُكفِّر بقوله هل نرجع إلى قلبه أو نرجع إلى عمله؟ لا نرجع إلى قلبه ولا نرجع إلى عمله، وأما من يقول: إن الإنسان إذا نطق بكلمة الكفر الظاهرة فلا بد أن نرجع إلى قلبه ونستفصل منه؛ فهذا قد جعل القلب هو الأصل والقول والعمل هي فرع عنه, وهذا خطأ، إذاً الإيمان: قول وعمل واعتقاد, هذه الثلاثة هي الإيمان, وإذا ظهر من إنسان كفر في عمله الظاهر؛ كالذي يسجد لصنم كفر، ولا نرجع إلى قلبه؛ لأن هذا أصل في الإيمان, فالإيمان هو هذه الثلاثة, ولا نقول هو جزء منها؛ لأن الجزء إذا نقص بقي الشيء ناقصاً؛ كالدار مثلاً لها أركان, فإذا زال ركن بقيت الدار لكن مختلة, وإذا نقص منها شيء أو هدمت منها حجرة أو أزالت جزءاً منها أو نحو ذلك أصبحت الدار ناقصة.
وبهذا نعلم الفرق بين أهل السنة وبين المرجئة, الذين يقولون: إذا وقع الإنسان بمكفر فلا بد من الرجوع إلى اعتقاده, لأننا نقول: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ هذه الثلاثة هي الإيمان، إذا أثبتناها هي الإيمان؛ فالكفر يقع بأي واحد منها, فيكفر الإنسان بفعل مكفر ولو لم يقل الكفر, ويكفر الإنسان بقول الكفر ولو لم يفعل بجوارحه الكفر, ويكفر الإنسان باعتقاده الكفر ولو لم ينطق به ويعمله كذلك، فالإنسان يثبت إيمانه بهذه الثلاثة؛ إذا قال: أنا أعتقد بالقلب لكني لا أتكلم بلساني ولا أعمل بجوارحي لا يصح منه هذا، وإذا أثبتنا هذا للإيمان أثبتنا ما يقابله من ورود المكفر عليها, ولهذا نجد تناقضاً في كلام بعض من يتكلم في مسائل الإيمان، فيقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد، وإذا جاء عند العمل ووقع الإنسان بمكفر قال: لا أكفره إلا بعد أن أرجع إلى قلبه، إذاً هل ساويت العمل بالاعتقاد أو ما ساويته؟ لم تساوه من جهة الأصل, فالاختلال لديك في تقرير الإيمان أصلاً, ولهذا ينبغي ويجب علينا أن نفهم الإيمان على هذا الوجه, ونفهم كذلك مسائل الكفر الطارئة عليه، ولكن ثمة أمور يأخذ بها العلماء وهي القرائن التي تدفع الكفر, فتدفع أن الإنسان فعل هذا الفعل كفراً؛ مثلاً: جاء إنسان معروف بإيمانه وتوحيده ونحو ذلك ثم جاء إلى موضع أو شجرة يعبدها الناس من دون الله وجدها في طريقه والوقت وقت فريضة ثم اتجه إلى القبلة وصلى، تعلم أنت أن هذه الشجرة تعبد من دون الله, لكن تعلم أن هذا الرجل رجل صاحب إيمان وتوحيد وممن ينكر مثل هذا الأمر, وتعلم أنه لا يعلم أن هذه الشجرة تعبد من دون الله, وتعلم أيضاً أن الشريعة شرعت سترة للمصلي, ثم جاء واستقبلها فتُعذر بالتماس العذر له؛ لوجود قرائن قوية في هذا, لكن إذا كانت هذه الشجرة معلماً من المعالم يعلمها أهل المدينة كلهم, وترى الناس حولها ينحرون ويطوفون, هل تقول هذا الذي يطوف يبحث عن ضالة؟ وهل نسأل عن نيته؟ الجواب: لا؛ لأنه لا توجد قرينة تدفع عنه ذلك, ولهذا نقول: إن الإيمان هو: قول وعمل واعتقاد, إذا أثبتنا هذا الإيمان وفهمنا أن الإيمان هو هذه الثلاثة نفهم كذلك أيضاً مسائل الكفر الواردة على ذلك.
ومسائل الإرجاء يتفاوت فيها الناس, منهم الغلاة الذين يجعلون الإيمان هو اعتقاد القلب فقط، ومنهم من يجعله المعرفة, أن يعلم أن الله عز وجل هو الخالق فقط, وهؤلاء الغلاة من الجهمية وغيرهم, وهذا غاية الضلال؛ لأنهم يدخلون حتى إبليس؛ لأن إبليس لديه معرفة قلبية وفرعون لديه معرفة قلبية، وكفار قريش لديهم معرفة قلبية؛ لأن الله عز وجل يقول عن فرعون ومن شاكله: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]، ويقول الله جل وعلا عن كفار قريش: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، إذاً الجحود موجود لديهم في الظاهر والإيمان استقر في قلوبهم, لكن هذه المعرفة وجدت ولم تنفع، وأبو طالب لديه معرفة قلبية, وهو الذي كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما صرح بهذه المعرفة بلسانه، ولم تنفعه أيضاً؛ لأنه لم ينطق بالشهادتين ولم يعمل بمقتضاها، وقد قال في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وزعمت أنك صادق ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا
إذاً لماذا لم ينطق بالشهادتين ولم يعمل؟
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك يقينا
هل نفعت المعرفة القلبية؟ لم تنفعه كذلك, مع أن هذه أبياتاً شائعة في المدح, لهذا لا نثبت الإيمان لشخص يمدح الإسلام ويثني عليه أو يثني على محمد أو على دين محمد حتى يظهر منه القول والعمل؛ لأنه ما امتاز عن غيره, والمسألة ليست مسألة عاطفية, هذا إيمان ودين شرعه الله عز وجل للأمة ويجب عليها أن تمتثل.
ومنهم من يقول: -وهم دون أولئك الذين يقولون: إن الإيمان هو اعتقاد القلب وقول اللسان ولو لم يعمل الإنسان- وهم على مراتب:
منهم من يقول: إن العمل شرط كمال, ومنهم من يقول: هو شرط صحة, ومن يقول إنه شرط صحة هو أقرب إلى الصواب ممن يقول هو شرط كمال, ومنهم من يقول: إنه لا علاقة له بالإيمان وإنما يزيد به الإيمان وينقص وهذه طوائف الإرجاء, وهي على مراتب, وسبب الخلل في ذلك هو أصل الخلل في معنى الإيمان, ولهذا تجد عبارات العلماء في تعريف الإيمان, يقولون: الإيمان هو: قول وعمل واعتقاد, لا يقولون أركان ولا يقولون واجبات ولا يقولون شروط، هذه التفصيلات والتجزئات وجعل الإيمان أركاناً وشروطاً إنما جاءت بعد ذلك, وصدر عن بعض العلماء بحسن قصد, فتولد عند بعضهم وعند من تلقى عنهم شيء من المعاني غير الصحيحة لمعنى الإيمان ومعنى الكفر.
قوله: (ولا شبيه له ولا نظير له)، أي: أن الله إله واحد لا إله غيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا معبود بحق إلا هو, فهو الرب جل وعلا, الخالق الرازق المحي والمميت, فإذا كان فرداً في ذلك فيجب أن يكون فرداً سبحانه وتعالى في ألوهيته وفي صرف العبادة له، قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، قيل المراد بالمساجد الأعضاء السبعة، فهي لله, هو الذي خلقها وهو الذي يأمر الإنسان أن توضع, فإذا كان هو ربها سبحانه وتعالى فوجب ألا توضع إلا لله, وقيل المراد بذلك المساجد التي تبنى لأداء العبادة، (( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ))، يعني: لا تشركوا مع الله عز وجل غيره، وأعظم ما يعصى الله عز وجل به الشرك, ولهذا يقول الله جل وعلا على لسان العبد الصالح في قوله لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وفي قول الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، والظلم هنا المراد به الشرك؛ كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (لا إله غيره), يعني: لا معبود بحق إلا الله، قال بتفسير ذلك في هذا المعنى غير واحد من العلماء كـابن جرير الطبري رحمه الله في كتابه التفسير قال: ولا شبيه له ولا نظير له ولا ولد له ولا والد ولا صاحبة له ولا شريك له، ولأن الله عز وجل يقول في كتابه العظيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، فالله سبحانه وتعالى ليس محتاجاً إلى أحد, وهذه السورة تسمى بنسب الرحمن؛ لأن ( كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك, فأنزل الله عز وجل عليه هذه السورة ), أي: أن الله سبحانه وتعالى لا ينتسب إليه أحد من ولد ولا ينتسب إلى أحد من أب أو أم تعالى الله عز وجل عن ذلك, فالله عز وجل هو الأول فليس قبله شيء وهو الآخر فليس بعده شيء, فلا شبيه له كذلك ولا نظير وند له سبحانه وتعالى، ولا صاحبة له ولا شريك.
قال المصنف رحمه الله: [ ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء، لا يبلغ كُنْه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون, يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته ].
قوله: (ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء)؛ لأن الله عز وجل هو الأول والآخر، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون؛ لأنهم لا يعلمون ذاته ولا يحيطون به علماً؛ لأنه لم يَروه سبحانه وتعالى, والإنسان يعرف الشيء برؤيته وبمعرفة صفاته أو بمعرفة آياته, والله عز وجل لم يره أحد من عباده في الدنيا, وما جاء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه فهي موضع خلاف, هل رآه بعينه أم رآه بقلبه, ولما طلب موسى عليه السلام من ربه جل وعلا أن يراه تجلى الله جل وعلا للجبل فجعله دكاً, والله سبحانه وتعالى يراه بعد ذلك في الآخرة من شاء من عباده من أهل الإيمان.
قوله: (ولا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون)؛ لأنهم لا يحيطون به علماً؛ لأن علم الله عز وجل واسع، والإنسان ليس لديه من الإدراك الذي أوجده الله عز وجل فيه الآن ما يستطيع به رؤية الله سبحانه وتعالى حتى يعطيه الله عز وجل من القدرة والإمكان ما يستطيع به أن يراه، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نور أنَّى أراه )، ويظهر هذا أيضاً في تجلي الله عز وجل للجبل.
قوله: (يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ما ماهية ذاته) يروى في الخبر وهو منكر: ( تفكروا في آيات الله ولا تفكروا في ذاته, وتفكروا في صفاته ولا تفكروا في ذات الله عز وجل )، فالله سبحانه وتعالى أمر الناس أن يتفكروا في الآيات, أما التفكر في ذات الله سبحانه وتعالى فإنه لا يؤدي بالإنسان إلى معرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل ليس له مثيل, ولكن يتدبر الإنسان في صفاته من جهة القدرة والقوة والجبروت والعزة وغير ذلك من صفاته, كذلك في أسماء الله سبحانه وتعالى ومعانيها وآثارها على العباد وغير ذلك, أما ذات الله سبحانه وتعالى فإن الإنسان لا يزيده التفكر في ذلك إلا تحيراً؛ لأن الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], والإنسان لا يتفكر ويحاول أن يوجد شيئاً في ذهنه إلا على مثال سابق, والله سبحانه وتعالى ليس له مثيل سبحانه وتعالى.
يقول تعالى كما في آية الكرسي: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].
وقد بين الله جل في علاه عظم هذه المخلوقات من السماوات والأرض والكرسي وسعته، فإذا كانت هذه المخلوقات بمثل هذه العظمة فكيف بعظمة الخالق جل في علاه، إذاً فعظمة المخلوق دليل على عظمة الخالق, ودقة وانضباط سير المخلوقات دليل على حكمة الخالق وعنايته جل وعلا وسعته وسعة علمه وإحاطته سبحانه وتعالى.
الملقي: [ العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير ].
هذه من أسماء الله سبحانه وتعالى التي للإنسان أن يتدبر في آثارها في الناس، وأن يلتمس آثارها في الكون، إذا كان الله عز وجل قديراً, وكان الله سبحانه وتعالى سميعاً بصيراً, فيقوم الإنسان بمراقبة الله جل وعلا في فعله وقوله, وكذلك في اعتقاده بسعة علم الله سبحانه وتعالى, وفي تدبيره للكون، ينظر آثار ذلك في خلق الكائنات, وكذلك خلق الإنسان حيث أمره الله عز وجل أن يتفكر في نفسه، فقال: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وقال: يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191]، فأمر الله عز وجل بالتفكر في علو والتفكر في نزول, والتفكر أيضاً في الأحداث العارضة التي لم توجد أصلاً وإنما حدثت بعد ذلك من آثار الله عز وجل بنزول الغيث وإجداب الأرض بعد خضرتها, وجفاف الأرض بعد غناها ومائها, وموت الإنسان بعد حياته, وولادة الإنسان بعد عدمه, وهو يراه بين عينيه.
ويتفكر كذلك في ما يحدثه الله عز وجل على الأمم من إنزال العقاب والبلاء وكيف لطف الله عز وجل بالصالحين، هذه آثار عظيمة، يرى فيها الإنسان من الدقة ومن اللطف والرحمة والقدرة والبطش في إزالة ملك المتجبرين المتكبرين، وانتقام الله عز وجل منهم ما يزيده إيمانا.
وإذا أراد الإنسان أن ينظر المعاني في حلم الله عز وجل وفي صفة الحلم وما يظهر من اسم الله عز وجل الحليم فلينظر في حلم الله عز وجل على ظلم الظالمين، ويرى كيف لطف الله سبحانه وتعالى بعبد فأنجاه وأخرجه كأنما خرج من بين فرث ودم، وكيف أن الإنسان صاحب الذكاء والحذق والبعد عن مواضع الهلاك يهلكه الله جل وعلا ويأخذه وهو في موضع أمان, وينجي الإنسان عند تلاطم الأمواج في بحر وظلمات فيخرجه ولو على عود شجرة في أقصى المحيطات؛ لأن الله عز وجل إذا أراد لعبد نجاة أنجاه, وإذا أراد بعبد هلاكاً أهلكه ولو كان في بروج مشيدة, وإذا أراد الله عز وجل بعبد من عباده غنى أغناه ولو كان في أرض مجدبة, وإذا أراد بعبد فقراً أفقره ولو كان يملك كنوز الأرض, وهذه يتأملها الإنسان فيجدها ظاهرة في أسماء الله سبحانه وتعالى, فمن هذه المعاني ما يظهر للإنسان بلحوقها باسم واسمين وثلاثة وأربعة وخمسة من القدرة والقوة والجبروت والعلو والعزة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وتعالى, ومنها ما يتجلى في اسم له دون اسم آخر وذلك بحسب قدرة الإنسان على التدبر والتأمل في مثل هذه الأمور, لهذا نقول: إن المصنف رحمه الله حينما ذكر هذه الأسماء: العالم, الخبير, المدبر, إلى غير ذلك, يريد أن يبين أن الإنسان له أن يتأمل في آثار هذه الأسماء على العباد وآثارها على مخلوقات الله جل وعلا التي تورث الإنسان إيماناً وثقة بدينه، وتصديقاً أيضاً بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [ وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه ].
الله سبحانه وتعالى فوق عرشه المجيد بذاته, فبهذا يثبت لله عز وجل علو الذات وعلو الصفات, والعلو بأنواعه لله جل وعلا يثبت من غير أن يُشبَّه أو يمثل أو يكيف سبحانه وتعالى, يقول الله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ويقول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، لله عز وجل استواء على عرشه واستواء إلى السماء، ثم خلقها الله جل وعلا بعدما خلق الأرض وما فيها سبحانه وتعالى, لهذا نقول: إن علو الله جل وعلا نثبته من غير تكيف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، نثبته لله ونقول: هو فوق العرش سبحانه وتعالى بذاته بائن من خلقه, ومعنى بائن من خلقه نفي لعقيدة أهل الحلول, الذين يقولون: إن الله جل وعلا حال في كل مكان, لماذا؟ راموا ابتداءً تنزيهاً، فأرادوا أن ينزهوا الله جل وعلا ببعده عن خلقه؛ لأنهم يرون الإنسان إذا بعُد لا يعلم, فأرادوا أن يجعلوا الله عز وجل حاضراً في كل مكان ثم نظروا في الآي في كلام الله عز وجل فوجدوا مشتبهات تعضد بعض هذه الشبهات التي تقع لديهم، مثل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، فحملوا ذلك على نفي صفة العلو لله سبحانه وتعالى والاستواء, وأولوها بتأويلات عن يمين وشمال, والله سبحانه وتعالى له العلم الكامل في هذا، يعلم ما كان ويعلم ما يكون ويعلم ما سيكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون, وهذه المستحيلات أو المتنافيات أو المتناقضات التي تقع في ذهن الإنسان ولا يتخيلها، مثل اندماج الليل مع النهار, والمتناقضات كالماء والنار، الله سبحانه وتعالى قادر أن يخرج هذه من هذه وهذه من هذه, ويعلم الله سبحانه وتعالى آثارها, كل ذلك لله جل وعلا, يعلم الآثار ويعلم الأحوال، وما لم يقدره الله سبحانه وتعالى لو أراده يعلم ما هي آثاره، كل ذلك في علمه سبحانه وتعالى, فهو عالم للغيب والشهادة, ولهذا لا نقول إن استواء الله عز وجل على عرشه كذا وكذا فنكيف أو نمثل, باعتبار أن الإنسان له صفة في جلوسه أو استوائه أو نحو ذلك، ولا نعطل هذه لانقداح بعض المعاني القبيحة التي تكون في أذهان بعض الناس، كما يجري على ذلك المبتدعة فيقولون: إن من أثبت صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى يلزم من ذلك أن الله عز وجل محتاج إلى شيء يستوي عليه تعالى الله عز وجل عن ذلك، نحن نثبت ما أخبر الله عز وجل عنه ولا نزيد, ونقول: إن الله عز وجل لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء، ومن يقولون أيضاً - تجاوزون في ذلك, ويقولون: إذا قلنا: إن الله عز وجل يستوي على العرش, هل يلزم من هذا أن العرش أكبر من الله سبحانه وتعالى, فالإنسان إذا كان جالساً على عرشه فإن العرش يكون مساوياً له أو أكبر منه أو أقل منه فكيف يكون مثل هذا الأمر؟ وهذا كله تشبيه طرأ عليهم قياساً على أحوالهم, ولو فهموا قول الله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، لارتاحوا من كل هذه الأقيسة كلها, ولكن جروا على هذا الأصل فورد عليهم ونشأ كثير من المعاني الفاسدة, ... منهم خرج طوائف فعطلوا هذه الصفات, ومنهم من شبهوا واستمروا على ذلك التشبيه, ولهذا نقول: الله جل وعلا فوق عرشه بذاته وهو في كل مكان بعلمه، كما قال سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، يعلم الله سبحانه وتعالى أحوال العباد، ويعلم ما في نفوسهم, فلا يستتر الإنسان ببيته أو بظلمة أو بلباس عن الله جل وعلا, وهذا إن رآه الإنسان في المخلوقين فالله عز وجل ليس كذلك, يعلم الله عز وجل الغيب والشهادة, ولهذا ينتج عند كثير من الناس أنواع من الضلال في عدم فهم ذلك أو القياس الفاسد من المعاني الخاطئة، فمنهم من يقول: إن الشريعة تصلح للزمن الأول ولا تصلح للزمن التالي أو لهذا الزمن؛ لأنه يرى أن الإنسان يضع نظاماً اليوم ربما لا يصلح للسنة التي تليها لحدوث نوازل جديدة لم يشاهدها الإنسان, ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم حال النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم الغيب على حد سواء, لا يزيد علم الشهادة لشهودها, ولا ينقص علم الغيب لغيابه عنه, ولهذا وصف الله عز وجل وسمى نفسه بعالم الغيب والشهادة, وقد حكم وقضى وأمر بالعمل بشرعته جل في علاه لعلمه الكامل سبحانه وتعالى.
نتوقف عند هذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر