بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فأما ما يتعلق بتقسيم الأحاديث وأنواعها، فإن هذا يختلف بحسب الاعتبار الذي يقسم لأجله، ولهذا العلماء تارة يقسمون الحديث إلى قسمين، وتارة يقسمونه إلى ثلاثة أقسام، فإذا قسموه إلى قسمين يقولون: مقبول ومردود، وتارة يقولون: محكم ومتشابه، بحسب المعنى، وتارة يقسمونه أيضاً إذا أرادوا أن ينظروا إلى قوته يقولون: حديث صحيح وحسن وضعيف.
قال المصنف رحمه الله: [ثم المقبول إن سلم من المعارضة فهو المحكم، وإن عورض بمثله: فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث أو لا، وثبت المتأخر فهو الناسخ والآخر المنسوخ، وإلا فالترجيح ثم التوقف].
بعد أن ذكر مسألة تقسيم الحديث من جهة قوته وضعفه، أراد أن يشير إلى ما يتعلق بمسألة الاحتجاج، والأحاديث باعتبار الاحتجاج هي على نوعين: مقبول ومردود.
وهنا ينبغي أن نفرق بين مسألة الاحتجاج ومسألة الاستدلال ومسألة الاعتضاد، فالاستدلال أقوى؛ أي: أنك لا تستدل إلا بشيء صحيح، أما الاحتجاج فهو دون ذلك مرتبة، وأما الاعتضاد فأنت تستأنس به وتعضد قولك، وربما لا يكون قوياً، وأما بالنسبة للاستدلال، فالدليل لا بد أن يكون صحيحاً، وأما مسألة الاحتجاج فقد يحتج الإنسان بما لا يصلح أن يكون دليلاً، كاحتجاجه ببعض الموقوفات والمقطوعات، وأقوال الأئمة وبعض المراسيل، ونحو ذلك، فهذا يجعلها الإنسان في دائرة الاحتجاج، ولهذا يتساهلون في ذلك.
وتقسيم المصنف رحمه الله الحديث إلى مقبول ومردود هو مسبوق إلى هذا.
قوله: (ثم المقبول: إن سلم من المعارضة فهو المحكم) الحديث المقبول هو ما يحتج ويستدل به، وإذا كان ظاهر المعنى ومقبولاً من جهة العمل به، فهو وإن لم يكن ثمة معارض له فهو المحكم، يعني: لا يدانيه شيء من التشابه، أو التداخل، أو التعارض، أو التقييد، أو غير ذلك.
والإحكام كما أنه في السنة يكون كذلك في كلام الله عز وجل، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، يعني: ثمة آيات محكمة، وثمة متشابهة، وثمة في السنة محكم وثمة متشابه، والسنة يكثر فيها الإحكام لأنها تفصيلية، وكلما كان اللفظ عاماً داخله التشابه، وذلك أنه يدخل فيه ما لغيره.
وقد يكون الدليل من الآية أو الحديث في ذاته محكماً، ولكنه مشتبه عند بعض الناس، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير : ( الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس )، لكن هي في ذاتها محكمة، ولكن كثيراً من الناس اشتبهت عليه فأصبحت ليست من الحلال البيّن ولا من الحرام البيّن، واشتباهها عند كثير من الناس لا يخرجها من أحد النوعين: الحلال أو الحرام.
وكلما توسع الإنسان نظراً واستيعاباً لجزئيات ومعاني الأدلة وما يضادها وكذلك للقرائن المحتفة بها، ومعرفة الأدلة القوية، وما دونها التي يحتج بها العلماء كمعرفة أدلة الكتاب، وأدلة السنة، ومعرفة مواضع الإجماع ومراتبه، وأقواه وأدناه، والقياس بأنواعه، وعمل الصحابة عليهم رضوان الله، وما يتعلق بالمصالح المرسلة والاستحسان وغير ذلك من الأدلة التي يذكرها الفقهاء، كلما كان بصيراً بها فيعرف ما يقدم وما يؤخر، ويتجلى له ما لا يتجلى لغيره.
وقوله: (سلم من المعارضة) يعني: ألا يوجد في بابه غيره، أو يوجد في بابه ما يؤيده ولا يعارضه، فهذا يكون حينئذٍ محكماً، وينبغي أن يعلم أن الحديث قد لا يعارضه أو يوجد في بابه ما يعارضه، ولكن يوجد ما هو دونه مرتبة فيعارضه ويقوم على إضعافه، وربما إعلاله أو صرفه عن ظاهره.
مثلاً جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ )، فهذا الحديث جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق متعددة، منها حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وجاء من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، وجاء من طرق أخرى مرفوعاً وموقوفاً، وجاء أيضاً من حديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة ، وجاء من حديث أيضاً المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما الذي خالفهم في ذلك؟ هل يوجد ما يعارض هذا الحديث صراحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا أعلم في ذلك شيئاً، ولكن الإجماع على خلافه، أي إجماع؟ عمل الصحابة والتابعين، ولا يكاد يوجد من يقول بهذا الخبر.
إذاً يدفع هذا الحديث إما بإعلاله، أو نسخه، ولهذا نقول: إن عمل الجيل الأول والإجماع إذا استقر أيضاً عندهم أن ذلك يرد الحديث ولو كان ظاهره الصحة، لماذا؟ لأن أولى الناس بالاتباع والنقل هم الصحابة عليهم رضوان الله، فإذا لم يعملوا ولم يعرف عنهم العمل بمثل هذا، خاصة فيما تعم به البلوى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الجنائز، وتغسل الجنازة كثيراً، ويشهد الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جاء بعدهم أيضاً. ثم لم يقل بمثل هذا أن جعلوا غسل الميت يوجب الغسل منه، فنقول حينئذٍ: هذا دليل أو أمارة على صرف الحديث أو رده.
وقد جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال كما رواه ابن أبي زيد: أي حديث يأتيني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغني أن أحداً من الصحابة عمل به لا أبالي أن أرمه، لماذا؟ لا بد أن يكون هذا الحديث مدخولاً، وليس استهانة بالحديث أو تقديم قول الصحابة على قول النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما يريد بذلك أن هذا الحديث دخله داخل، إما وهم فيه، أو رفعه وهو موقوف، أو كان منسوخاً؛ لأن أولى الناس بالعمل خاصة في المسائل الظاهرة هم الصحابة عليهم رضوان الله، وهذه مسألة من المسائل الظاهرة، وليست من المسائل الخفية.
ثم إن الحكم في ذلك ثقيل وهو الغسل، والغسل ليس كغيره، ولو كان وضوءاً كانت المسألة خفيفة، لكن غسل، ومثل هذا يتأكد ويشتهر أن من غسل ميتاً أو شارك في غسله فإنه يجب عليه أن يغتسل، وينبغي للأدلة أن تظهر بذلك أكثر من غيرها.
قال المصنف رحمه الله: [وإن عورض بمثله: فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث أو لا].
قوله: (وإن عورض بمثله) يعني: إما أن يعارض بمثله، وإما أن يعارض بأقوى منه، وإما أن يعارض بدونه.
فإن عورض بمثله فحينئذٍ لا تستطيع أن تحسم الأمر، قوي يقابل قوياً.
وإما أن يعارض بما هو دونه فحينئذٍ يقدم الأقوى، ولماذا نقدم الأقوى مع كون الأدنى قد يكون صحيحاً أو حسناً؟ نقول: لأن العادة أن الأئمة يعتنون بنقل وضبط المحكم وما استقر عليه الأمر، ولهذا نقدم الصحيح على الحسن عند التعارض، ونقدم أيضاً الصحيح على ما دونه ولو كان بمرتبة الصحيح، فكل صحيح يوجد ما هو أصح منه، ونقدم ما هو أصح في هذا ا لباب.
وقوله: (فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث) كيف يكون مختلف الحديث مع إمكان الجمع؟ إذا جمعنا بين الروايتين حينئذٍ لم يكن ثمة إشكال، وإنما أراد المصنف أن يبين أنه مختلف الحديث في ظاهره، ولكن من جهة الحقيقة فإنه يمكن أن يجمع الإنسان بين هذا، وهذا كثير في السنة، وخاصة في أبواب المنهيات وأبواب المأمورات.
من ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، كحديث حميد بن عبد الرحمن عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو المرأة بفضل الرجل، وليغترفا جميعاً )، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث أخرى أنه اغتسل من فضل بعض أزواجه، وجاءت أحاديث أخرى (أن النبي عليه الصلاة والسلام اغتسل بفضل ميمونة أم المؤمنين عليها رضوان الله).
ولهذا نقول: إن الجمع في ذلك أن يحمل النهي على كراهة التنزيه، ويحمل الفعل على الترخيص، وهذا له فضائل كثيرة فيما يتعلق بالمأمور.
وحينئذٍ نقول: إذا عارضه مثله فإن المعارضة تضعف النهي عن ظاهره، أي: بدلاً من أن يكون مرتفعاً بالتحريم تنزله إلى المرتبة التي دون ذلك، فالأمر إذا كان ظاهراً، فإنه يكون للوجوب في كثير من الأحيان، وإذا جاء ما يخالفه أنزله من مرتبة الوجوب إلى ما دونه، ولا نستطيع أن نلغيه وننزله إلى ما دون ذلك؛ لماذا؟ لأن هذا إهمال له، والقاعدة تقول: إعمال الدليل أولى من إهماله.
قال المصنف رحمه الله: [أو ثبت المتأخر فهو الناسخ والآخر المنسوخ، وإلا فالترجيح ثم التوقف].
قوله: (أو ثبت المتأخر) نقول: قد يثبت المتأخر، ويميز الإنسان المتقدم منه، ولكن يمكن حينئذٍ أن يجمع بينهما إذ لا دلالة صريحة على النسخ، فنقول حينئذٍ: نصير إلى الجمع، ولا نصير إلى النسخ؛ لأن القاعدة أن إعمال الدليل أولى من إهماله، فأنت تحافظ على الدليلين، وتعمل بهما بدلاً من أن تطرح واحداً وتبقي واحداً.
فإن أمكن الجمع ولو كان ثمة تباين ولم يكن ثمة دلالة صريحة على النسخ في الحديث، والدلالة إما أن تكون في الحديث، وإما أن تكون في قول الصحابة عليهم رضوان الله، وما يشير إلى ذلك، ولهذا نقول: إن معرفة أزمنة الأحاديث وأسباب ورودها مما يعين طالب العلم على ذلك، وينبغي أن نعرف أسبابها.
وللأحاديث أسباب ورود كما للآيات أسباب نزول، فينبغي لطالب العلم أن يضبطها، وهذا يجده طالب العلم في المسانيد والمعاجم التي تصوغ الحديث بتمامها، وطالب العلم إذا أراد أن يخرج حديثاً أو أن يحكم عليه، أو أن ينظر لمسألة يتضمنها هل يرجع إلى الكتب المبوبة على الكتب الستة أم يرجع إلى غيرها؟ يرجع إلى المسانيد والمعاجم، ولا يرجع إلى الكتب الستة، لماذا؟ لأن الكتب الستة تورد الحديث على الأبواب، فربما اختصرته، ولم تورد المناسبة في ذلك.
لكن أين يوجد الحديث بكامله تاماً؟ يوجد في المسانيد كمسند الإمام أحمد ، وفي المعاجم وغيرها، فيجد الحديث كاملاً كما روي، أما الكتب التي تورد الأحاديث على الأبواب، فتورد المناسبة ثم تدع الباقي خاصة في الأحاديث الطويلة، ولهذا ينبغي الوقوف على الحديث بتمامه حتى تعرف حينئذٍ المناسبة.
وثمة مصنفات في أسباب ورود الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، و للعسكري مصنف في أسباب ورود الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثمة مصنفات في أبواب الناسخ والمنسوخ، من أقدمها كتاب الأثرم في الناسخ والمنسوخ، وغيرها من المصنفات. وثمة كتب في مشكل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتعارضة، ومحاولة الجمع في هذا، ومن أوائل الأئمة الذين اعتنوا بهذا الباب ابن قتيبة ، وكذلك الطحاوي في كتابه مشكل الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم المردود إما أن يكون لسقط أو طعن، فالسقط إما أن يكون من مبادئ السند من مصنف أو من آخره بعد التابعين أو غير ذلك، فالأول: المعلق، والثاني: المرسل، والثالث: إن كان باثنين فصاعداً مع التوالي فهو المعضل، وإلا فالمنقطع. ثم قد يكون واضحاً أو خفياً، فالأول يدرك بعدم التلاقي، ومن ثم احتيج إلى التاريخ].
تقدم الكلام على الحديث المقبول، ثم ذكر المصنف توابع ذلك، ودخل المصنف رحمه الله في أشياء هي في ذاتها أقرب إلى علوم الدراية الفقهية من مسألة الجمع بين الأحاديث، ولكن ثمة تلازم بين هذا وذاك؛ بمعنى أن الحديث إذا وجد ما يعارضه وأن ذلك ربما يؤثر عليه في صحته، بخلاف الحديث الذي يسلم من المعارضة، فإنه أقرب إلى الصحة والصواب، وأما المردود وهو الذي لا يقبل ابتداءً، فهو على مراتب، وذلك أن عدم القبول منها ما يتعلق بالكذب، ومنها ما يتعلق بالضعف، ومنها أن يكون الحديث مرجوحاً ولا يعمل به وترك، وغير ذلك.
وهنا ذكر المصنف هذه التقسيمات في أبواب الحديث المردود، وتقدم معنا أنه ليس كل منقطع مردود، وإنما هذا هو الأغلب لا المطرد. والعلماء الأوائل يطلقون الإرسال على كل انقطاع في الإسناد، سواءً كان في أوله أو في أوسطه أو في آخره، ثم جاء تقسيم العلماء في قواعد الحديث ومصطلحه بالتفريق بين مواضع الانقطاع، ففرقوا بين المعلق وبين المرسل وبين المنقطع وبين المعضل، وبين ما فيه جهالة، وإن كان ثمة تداخل بين بعض هذه الأنواع.
ونحن نقول: إن مثل هذه التقسيمات تفيد طالب العلم، لكن ينبغي ألا تغره، فيلتبس عليه بعض ألفاظ الأئمة الأوائل، فربما يحكمون على حديث، ويقولون: هذا حديث مرسل، ويريدون بذلك الانقطاع، ولا يجد فيه إرسالاً، فيحمله على المصطلح الذي درسه في كتب القواعد، فيفهم مواضع واصطلاحات الأئمة، فللأئمة اصطلاحات متنوعة في هذا الباب، سواءً في الأسانيد أو الحكم على الأحاديث العامة.
كذلك في الحكم على الرواة يتباينون، فقول بعض الأئمة على راوٍ: (يكتب حديثه)، أو (يحتج به)، أو قولهم: (لا بأس به) يختلف عند بعض الأئمة عن غيرهم، فلهم اصطلاحات في ذلك يعرفها طالب العلم بإدامة النظر والسبر، وبمعرفة إطلاقات الأئمة ومناهجهم في هذا الباب.
وقوله: (فالأول المعلق) الحديث المعلق هو أحد أنواع المنقطع، وسمي معلقاً؛ لأن الانقطاع هو من أدنى الإسناد، لا من أعلاه، فحينما يكون لديك سلسلة معلقة من السقف ولم تمس الأرض، فتكون معلقة، لكن إذا كانت متصلة بالأرض، فأنت تعلم أنها بدأت من أعلى، ثم نزلت إلى أسفل، أو كانت في الأسفل وربطت في الأعلى، فيكون حينئذٍ إذا كانت معلقة هي المتدلية، وكأن الأمر يرجع إلى علو؛ تابع عن صاحب، وصاحب عن رسول الله، ورسول الله عن جبريل، وجبريل عن الله، وكأنه جعل الأمر إلى علو، ولكن الإسناد من جهة المصنف أصبح معلقاً، ولهذا نزول الإسناد هو من جهة المصنف، فيكون التعليق من جهته، إما أن يكون النقص حلقة واحدة وهو راو أو راويان أو ثلاثة، أو ربما أكثر من ذلك يوصف بالتعيين.
ولهذا يوجد في البخاري من المعلقات التي ليس لها أسانيد، إما أن يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو قال ابن عمر ، أو قال ابن عباس ، أو قال سعيد بن جبير أو قال عكرمة ، ونحو ذلك، فتكون هذه من جملة المعلقات؛ لأنها معلقة متصلة بأعلى السند ومنقطعة من جهة أدناه، أي: من جهة ذلك المصنف.
وقد يكون المعلق يشترك مع غيره، فيكون التعليق بفقد راوٍ واحد وهو شيخ المصنف، فيكون حينئذٍ معلقاً ومنقطعاً، وقد يكون من شيخ المصنف وشيخ شيخه، فيكون معلقاً ومعضلاً.
قوله: (والثاني: المرسل) الإرسال هو ما يسقط منه الصحابي، وبعض العلماء يتحفظ على مثل هذا التعريف لقوله: لو كان الصحابي هو الذي سقط وتيقنا من ذلك لما كان الخوض في الاحتجاج بالمرسل من عدمه، ولكن يحتمل أنه سقط مع الصحابي رجل آخر، فاستشكلنا ذلك، قالوا: فالمرسل هو ما يرويه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يوجد تابعي آخر مع الصحابي وقد لا يوجد، ويبقى على إرساله.
والأصل في المراسيل الضعف، ولا يوجد أحد من أئمة النقاد من يقول بصحة الأحاديث المرسلة على الإطلاق، وإنما يقوون مرسلاً على غيره لوجود بعض القرائن عليه، وأما تصحيح مرسل بذاته على سبيل الإطلاق، فهذا لا يوجد عند الأئمة، حتى الإمام الشافعي رحمه الله في مراسيل سعيد بن المسيب ، فإنه يدعها في بعض الأحيان، ولهذا في كتابه الأم ترك العمل ببعض مراسيل سعيد بن المسيب مع صحتها، ومن ذلك ما يرويه سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من ضرب أباه فاقتلوه ).
إذاً هو لا يحتج بحديث سعيد بن المسيب مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، وإنما يأخذها إذا احتفت بقرائن.
وما هي القرائن التي تعضد المرسل؟
نقول: القرائن التي تعضد المرسل كثيرة، منها: أن يوجد تعدد لمخارج هذا المرسل، مما يغلب على الظن عدم اتحاد طريقه، مثلاً يوجد المرسل عند المكيين، عند المدنيين، عند الكوفيين، عند المصريين، وغير ذلك، فتعددت المخارج، ولا يلتقي أولئك الرواة من التابعين بشيخ ضعيف، فحينئذٍ يغلب على الظن تعدد المخرج، وهذا من مواضع الاعتضاد.
ومن مواضع الاعتضاد أيضاً في المرسل: ألا يخالف من هو أقوى منه من الحديث المرفوع، أو من إجماع الصحابة، أو فتيا جمهور الصحابة أو الخلفاء الراشدين أو غير ذلك، فهذه من القرائن التي تقوي العمل بالمرسل، فيكون المعنى حينئذٍ حديثاً مستقيماً، ولا يخالفه في ذلك شيء.
وكذلك إذا عضده شيء من أدلة الاستدلال كالقياس، وكلما كان القياس قوياً كان أقرب إلى الاحتجاج بالمرسل، كوجود قياس الأولى، أو قياس الشبه، أو ما دون ذلك، وكلما ارتفع في ذلك القياس كان الاحتجاج بالمرسل أظهر.
وأما إطلاقات العلماء في قولهم: (مراسيل فلان صحيحة) فيفيدون بذلك أن هذه المراسيل هي أصح من غيرها، ولا يقصدون بذلك صحة هذه المراسيل على الإطلاق، وإنما قلنا بذلك وحملنا هذا الحديث، وقد يخالف ظواهر كلام الأئمة في قولهم: (مراسيل فلان صحيحة) أننا نجمع بين كلام الأئمة وبين عملهم؛ حتى لا نتهم أولئك الأئمة بالتعارض والتناقض، فإن الأئمة يقولون: مراسيل فلان صحيحة، ثم هو في موضع آخر يكون ضعيفاً، ثم أيضاً لا يحتج بها.
إذاً: هذا الإطلاق مرادهم فيه أنكم تعلمون أن هذه المراسيل ضعيفة، لكن هذا يختلف عن هذا، وهو أحسنها حالاً، وينبغي ألا يطرح.
وثمة مصنفات للأئمة عليهم رحمة الله في ذلك تسمى كتب المراسيل، منهم من يريد سقوط الصحابي، ورواية التابعي عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم من يريد بذلك الانقطاع: فلان لم يسمع من فلان، كالمراسيل لـابن أبي حاتم ، والمراسيل للعلائي ، والمراسيل لـأبي داود ، ومثل ذلك ما يرويه التابعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن معرفة مواضع الانقطاع وأنواع الانقطاع مما يعطي طالب العلم معرفة بإمكان دفع العلة أو عدم دفعها، بحسب قوة تلك العلة، وطالب العلم لا بد أن يكون بصيراً بمعرفة دوافع أمثال هذه العلل، ومعرفة القرائن، فإذا كان بصيراً بمعرفة الرواة، ومعرفة بلدانهم، ومعرفة شيوخهم، وكذلك طول أخذهم، ومعرفة أعمالهم، فيعرف المواليد والوفيات وطول العمر، وعمر هذا الراوي، من جهة عمره في أخذه، وطول ترداد الحديث لديه، ومن جهة ضبطه، والذي يأخذ متأخراً يختلف عن الذي يأخذ متقدماً، فالذي يأخذ متقدماً ويجالس العلماء قد يكون تكرر لديه الحديث كثيراً، وهو أضبط من غيره.
وكذلك يعرف مواضع الانقطاع وغيره، فتارة يكون الانقطاع مدفوعاً ويصح الحديث، وتارة يكون ثمة اتصال ويعل الحديث، لماذا؟ لأن الاتصال ليس زمناً طويلاً، وقد تقدم معنا أن الحديث المنقطع إذا فقدنا راو من الرواة في حلقة من الإسناد ثم وجدنا قرائن احتفت، ودفعت هذه العلة فإننا نصحح الحديث المنقطع.
وأحياناً نشدد في الاتصال مع ثبوته، وإذا سئلنا عنها أثبتناه، ولكن نعل ذلك؛ لماذا؟ لأن الاتصال ليس طويلاً، بمعنى أن الراوي الذي يكون عمره ثمانين سنة، والتلميذ ولد في آخر زمن الشيخ وقبل وفاته بعشرين سنة، إذاً سمع منه بنحو عشر أو خمس سنوات، في الأحاديث الكبيرة القوية أو نحو ذلك، وإذا كان الشيخ ممن يكثر من الرواية وله أصحاب كبار يروون عنه، فهذا علة، وسبب العلة أن الاتصال ليس طويلاً، مع كوننا نثبته، فكيف دفعنا علة انقطاع ظاهر متباين في حلقة مفقودة، ودفعناها بقرائن، وأعللنا اتصالاً ظاهراً وشددنا وطلبنا زمناً من الاتصال طويلاً، أليس في هذا تعارض بين الأمرين؟ نعم ثمة تعارض بين الأمرين؛ لماذا؟ لأن هذا الحديث الذي يرويه حديث كبير ينبغي ألا يبقى في صدر العالم إلا وقد أخرجه مراراً، فبقاؤه في نفسه خمسين سنة أو أربعين سنة ولم يروه إلا في آخر حياته أمارة إما على وهم التلميذ، أو تحفظ الشيخ على مثل هذا الحديث، فأخرجه في آخر عمره تأثماً وخشية أن يبقى لديه هذا الحديث، فأخرجه مع غلبة ظن بوهمه أو نسيانه، أو عدم ضبطه.
قال المصنف رحمه الله: [والثاني: المدلس، ويرد بصيغة تحتمل اللقي كعن وقال، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق من حدث عنه].
التدليس مأخوذ من الدلس، وهو اختلاط ظلمة الليل بنور النهار، وهو اختلاط الشيء بشيء آخر، أو شيء بأشياء حتى لا يميز الإنسان بينهما، فلا يميز الإنسان مثلاً بين الاتصال والانقطاع، أو بين راويين، إما أن يكون في الراوي، أو يكون ذلك بالسماع.
قوله: (وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق من حدث عنه) يعرف الاتصال بالتاريخ، وكذلك بثبوت السماع إذا صرح الراوي بالسماع من شيخه، فأمكن في ذلك لقاؤه، فنقول حينئذٍ بغلبة الظن وثبوت السماع بذلك فنأخذ بهذا.
والعلماء في ذلك بين متشدد وما هو دون ذلك، ولهذا البخاري رحمه الله يشترط في ذلك شروطاً لا يشترطها غيره كالإمام مسلم رحمه الله، ومعلوم الخلاف بينهما في مسألة اشتراط اللقي، فـالبخاري رحمه الله يشترط في ذلك ثبوت اللقي، وأما الإمام مسلم رحمه الله فإنه لا يشترط ذلك، وإنما يشترط في ذلك المعاصرة وإمكان اللقي، فإذا كان ثمة إمكان فلا يلزم من ذلك ثبوت الالتقاء بالعين؛ لأن الأصل في الرواة الصدق، فإذا روى واحد عن واحد، ولم يثبت في ذلك تدليس فإنه يحمل حينئذٍ على السماع.
ونقول حينئذٍ: إن معرفة طالب العلم لمواضع البلدان، وكذلك الأزمنة والتاريخ، ومن اختص بالرحلة والانتقال، ومن لم يخرج من بلده، ومعرفة من عرف بالتدليس ومن لم يعرف، أن هذا مما ينبغي لطالب العلم التمييز بين مواضع التدليس، وكذلك التهم، وبين الرواية النقية التي لا يشوبها تدليس.
والتدليس في ذلك على مراتب، وقد صنف في ذلك غير واحد من العلماء، منهم من جمع الرواة المدلسين في مصنف، كما فعل ذلك الذهبي والحافظ ابن حجر.
وطالب العلم في أبواب التدليس لا بد أن يكون عالماً بأمور:
أولها: أن يكون ضابطاً للرواة الذين وصفوا بالتدليس، بحيث إذا نظر فيهم، أو مضوا عليهم في إسناد من الأسانيد أن يكون خبيراً بهم.
ثانياً: أن يكون عارفاً بصيغ السماع التي تحتمل تدليساً، ومنها ما لا يحتمل التدليس، ومعلوم أن الراوي الذي يدلس إما أن يدلس بصيغة السماع، فيروي بعن أو أن أو قال، فهذا في الغالب عليه التدليس، ولكن إذا صرح بالسماع فالتدليس ينتقل من صيغة السماع إلى تدليسه في الراوي، فيذكر راوياً آخر شاركه في كنيته أو نحو ذلك، فيغلب على الظن أنه أراد الثقة وهو أراد الضعيف، فيقول: سمعت، فيكون حينئذٍ هو سمع على الحقيقة، ولكنه دلس في الراوي، وربما يروون أنه دلس بصيغة السماع.
وينبغي أيضاً أن نتنبه لمسائل صيغ السماع، فإن صيغ السماع يغيرها بعض الرواة، فكلمة (عن) ليست من الراوي، وإنما ممن يروي عنه، فالراوي يقول: قال فلان، أو أن فلاناً قال، ولهذا العنعنة في الأسانيد لا يذكرها الراوي، فإذا جلس في التحديث فتح الألواح وقال: عن فلان، لا يقولها غالباً، وإنما تكون ممن جاء بعده، فجاء بانتظام للأسانيد بصناعة حلقات فيها فيذكرها، ولهذا نقول: إن بعض الرواة ربما يقلب صيغ السماع، ومن الأئمة من يعتني بذكر صيغ كما سمعها وجاءت عن الرواة، ومن أدق أولئك الإمام مسلم رحمه الله فإنه كان يعتني بصيغ السماع ولا يزيد فيها ولا ينقص، ولا يغير عليه رحمة الله.
كذلك فإن من الرواة ما يذكر سماعاً لغلبة ظنه أنه سمع منه، فيجعل العنعنة تحديثاً، فيقول: أخبرنا أو حدثنا فلان، وهذا يرد في بعض الأسانيد.
وبعض الرواة لم يسمع من شيخه ويقول: أخبرنا أو حدثنا، ولا يريد بذلك الكذب، وإنما يريد بذلك أن هذا الراوي حدث أهل بلده، ولهذا الحسن البصري في بعض مرويه عن عبد الله بن عباس يقول: خطبنا عبد الله بن عباس ، يريد بذلك أنه خطب أهل البصرة لما قدم إليهم، وكان الحسن البصري غائباً عنها، إذاً الحسن البصري لم يسمع من عبد الله بن عباس ، وإذا جاءتنا مثل هذه الصيغة فإنها ليست سماعاً.
ثالثاً: لا بد من معرفة نوع التدليس، فالتدليس ليس على نوع واحد، بل هو على أنواع متعددة، فإذا أطلقنا القاعدة أنه لا بد للراوي أن يصرح بالسماع في كل حال، وإننا نرد مرويه فهذه مجازفة؛ لأن من الرواة من لا يدلس إلا عن راوٍ واحد، أي: لا يدلس عن غيره، فلماذا نرد عنعنته في غيره، أو منهم من يدلس عن طبقة واحدة ولا يدلس عن غيرها، مثلاً الوليد بن مسلم لا يدلس إلا عن الأوزاعي ، فإذا روى عن غير الأوزاعي نشترط عليه التصريح بالسماع، كذلك الحسن البصري لا يدلس إلا عن الصحابة، فإن روى عن تابعي لا يشترط في ذلك صيغة السماع.
وإذا التزمنا بما يذكره بعض المحدثين أن المدلس إذا عنعن لا تقبل روايته حتى يصرح بالسماع، فإن هذا الإطلاق ليس بصحيح، بل نقول: إن معرفة نوع التدليس الذي يدلس فيه ذلك الراوي لا بد منه، وتحديد مساره، ثم بعد ذلك ننظر في مسألة صيغة السماع، فـالحسن البصري لا يدلس عن التابعي، فإذا روى عن تابعي فهو على سماع، وإشكاله هو فيمن يروي عنه من الصحابة ولم يسمع منهم شيئاً.
رابعاً: أن ينظر في القلة والكثرة في التدليس، فيوجد من الرواة من هو مقل، ومن هو مكثر في التدليس، فالمقل في التدليس والمكثر في الرواية لا يشترط في كل مروي له أن يصرح بالسماع؛ لأن هذا إهدار لمروياته.
خامساً: التحقق أصلاً من وصف التدليس، فهناك من الرواة من يوصف بالتدليس وليس كذلك، فإذا عرفنا هذا فإننا نحكم بدقة على أمثال هذه المرويات، أو كثير من المرويات التي توصف بهذا، كذلك فإن من الرواة من يحفظ عنه تدليسة أو تدليستين، ولكن لم يحدث بها، ومروياته مطابقة، وذلك كحال أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، فأبو الزبير يحدث عن جابر بن عبد الله بالسماع تارة، وهو الأكثر، وبغير السماع وهو الأقل، ولم يثبت عنه التدليس في حديث واحد فيما أعلم.
والتدليس يثبت في حالين:
الحال الأولى: أنه يروي الحديث عن شيخه، ثم يثبت من طريق آخر أنه ذكر واسطة، فهذا تدليس.
الحال الثانية: أن الأئمة يذكرون عنه أنه دلس في حديث بعينه، فيقول: دلس الحديث الفلاني.
وأما ذكر بعض الأئمة عنه أنه دلس، فنقول: دلس، ولكنه لم يحدث ولم يكتب عنه شيء من ذلك، وإنما دلس في ابتداء أمره في بعض مرويه، ولهذا بعض الأئمة ينسب إليه مسألة التدليس، وذلك كـالليث وغيره من الأئمة، ولهذا نقول: لا بد من معرفة نوعه، ومعرفة صحة التدليس وثبوته كثرة وقلة.
مثلاً: المغيرة يروي عن إبراهيم النخعي ، يقول الحافظ ابن حجر : وهو كثير التدليس خاصة عن إبراهيم ، ولكن مرويه عن إبراهيم كثير جداً، ولا نرد، ونطالب في كل مرويه بصيغة السماع منه؛ لماذا؟ لأن غالب مرويه عن إبراهيم هي موقوفات ومقطوعات، ثم إن مرويه كثير جداً لا نرد به ذلك لمجرد وصفه بالتدليس.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم الطعن إما أن يكون لكذب الراوي، أو تهمته بذلك، أو فحش غلطه، أو غفلته، أو فسقه أو وهمه، أو مخالفته أو جهالته، أو بدعته، أو سوء حفظه، فالأول: الموضوع، والثاني: المتروك، والثالث: المنكر على رأي، وكذا الرابع والخامس].
هنا سيذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بألفاظ الجرح والتعديل، والتهم التي توجه إلى الراوي، والطرق فيه، وهذه الطرق تتباين من جهة قوتها، ومن جهة ضعفها، وتحقق ثبوتها أيضاً، وخلاف العلماء فيها.
ولا بد لطالب العلم في مسائل الجرح والتعديل أن يعرف أموراً:
الأول: تحقق هذه الأوصاف في الراوي بمعرفة إجماع العلماء على ذلك، أو خلافهم فيه.
الثاني: معرفة مقاصد العلماء بألفاظ الجرح والتعديل.
الثالث: معرفة أحوال الراوي وتعددها، هل للراوي حالة واحدة، أو له حالتان، أو ثلاث؟ فمنهم من اختلط فله رواية قبل الاختلاط ورواية بعد الاختلاط، فالتضعيف مثلاً يكون في زمن الاختلاط، أو التوثيق يكون ما قبل الاختلاط، أو ربما يضعف في راوي ويوثق في غيره ونحو ذلك، فيعرف موضع الجرح حتى لا تهدر الرواية بجميعها.
قال المصنف رحمه الله: [ فالأول الموضوع، والثاني المتروك، والثالث: المنكر على رأي، وكذا الرابع والخامس].
قوله: (فالأول الموضوع) سمي الحديث بالموضوع إذا اتهم الإنسان بالكذب، أو وضع الحديث أو اختلاقه، أو الدجل، أو غير ذلك من ألفاظ الكذب، وكل حديث في إسناده كذاب أو متهم بالكذب أو بالدجل، أو باختلاق الحديث فحديثه موضوع، ولو كان المتن مستقيماً؛ لأنه ما كل كذاب يكذب في كل قوله، قد يصدق مرة أو مرتين، ولكن يغلق هذا الباب ويوصف حديثه بالكذب؛ لأن الحديث لا يمكن أن ينفرد ولا يقع إلا في فم كذاب، ولا بد أن يحفظ فيه من غيره، ولهذا يغلق هذا الباب، وكل إسناد تفرد به راو كذاب فيوصف حديثه حينئذٍ بالوضع، ولو كان المتن في ذلك مستقيماً؛ لأننا نلتفت إلى إثبات صحة قول النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى إثبات صحة المعنى، فليس كل معنى صحيح ننسبه للنبي عليه الصلاة والسلام، وإلا كان كل أقوال الناس من صحيح المعاني جعلناها من قول النبي عليه الصلاة والسلام فلا نلتفت لهذا، وإنما نلتفت إلى صحة الإسناد بثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسمي موضوعاً من وضع الشيء، وضع فلان كذا وكذا في موضع كذا وكذا، وكأنه أخذ هذا الشيء ووضعه في حياض السنة، ولم يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وضاع وكذاب.
والحديث الموضوع وجوده كعدمه، لا يعضد أحداً، ولا يعضده أحد، لا يعضد غيره، ولا غيره يعضده.
قوله: (والثاني المتروك) المتروك وإن كان دون الوضع فلا نحكم عليه بالكذب، وهو الحديث الذي فيه راوٍ متروك الحديث، أو ضعيف جداً، وأشباه هذه الألفاظ، وحينئذٍ نقول: إن هذا الحديث ضعيف جداً، ووجوده كعدمه، بمعنى أننا لا نعتبر به في أبواب الشواهد.
قوله: (والثالث: المنكر على رأي، وكذا الرابع والخامس) الأصل في النكارة هو عدم معرفة الشيء قبل سماعه، أو قبل رؤيته، وهذا يختلف بحسب حفظ الراوي، فإذا تفرد الراوي برواية، ولم تكن معروفة عند الأئمة فيصفون مثل هذه الرواية بالنكارة، أو مخالفة غيرها من الروايات، فإذا خالف الحديث المستفيض عن النبي عليه الصلاة والسلام وجاء وخالفها فيصفون هذا الحديث بالنكارة.
والنكارة إذا أطلقها العلماء قد تطرح الحديث وقد لا تطرحه، قد لا تطرحه باعتبار أن الأئمة وصفوه بالنكارة، يعني: لم يروه أحد غيره من الرواة، وقد تطرحه إذا وجدت الأحاديث المستفيضة وما هي أقوى منه وخالفته فحينئذٍ يعتبر هذا الحديث شديد الطرح.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم الوهم إن اطلع عليه بالقرائن وجمع الطرق فالمعلل ].
الوهم الذي يقع في الحديث يختلف الوقوف عليه بحسب قوة الوهم الوارد في الحديث أو ضعفه، فقد يكون الوهم في ذلك ظاهراً بقلب الحديث كاملاً، أو في لفظة معينة، أو اختصاره، أو قلب حرف فيه، مما يكون وهماً، وهذا يعرفه الإنسان بحسب حفظه، وربما كما أن الإنسان يرى بعينه الباصرة دقائق الأمور، ولا يراها غيره لحذق بصره ونظره، كذلك بالنسبة لبصيرة الإنسان في العلل فإنه يدرك ما لا يدركه غيره، إذا كان من أهل إدامة النظر والحذق في ذلك.
والوهم له قرائن في معرفته، منها: أن يكون الراوي ليس بضابط، فهو من مظنة الوهم والغلط، وهذا يعرف بكلام العلماء الذين تكلموا على الراوي وقالوا: خفيف الضبط، أو ضعيف الحفظ، أو لين الحديث، أو شيخ، أو غير ذلك من الألفاظ التي توهن الراوي شيئاً.
ومنها أيضاً: أن يخالفه غيره في المتن من هو أقوى منه، وأكثر الخلاف عندهم في ذلك، وهو دون غيره ممن هو أوثق منه فحينئذٍ يغلب عليه أنه وهم في هذا الحديث.
ومنها: أن يكون الحديث طويلاً لا يحمله مثل هذا الراوي، فالأحاديث الطويلة تحتاج إلى الكبار فلا يقع فيها خلل، فيغلب على ظن الإنسان إذا ورد حديث سياقه طويل، والراوي الذي فيه متوسط الضبط، ووجد اختلافاً في ألفاظه فيقول: وهم فيه فلان، وربما يكون الراوي ثقة، ولكن لطول الحديث يقع في ذلك وهم، كما في حديث الإسراء، وقد وهم في ذلك شريك بن أبي نمر في روايته للحديث في عدة مواضع، ففي مواضع الملائكة اختلف قوله في ذلك، منهم من يقول: في السماء الدنيا، ثم في رواية أخرى يقول: في السماء الثانية، ومنهم من يجعله في الثالثة، ويختلف ويجعله في الخامسة، ونحو ذلك، هذا وهم لطول سياق قصة الإسراء، وقع لديه شيء من هذا، وكلما كانت الأحاديث قصيرة يكون الإنسان لها أضبط من غيرها.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم المخالفة إن كانت بتغيير السياق فمدرج الإسناد، أو بدمج موقوف بمرفوع فمدرج المتن].
الإدراج أن الإنسان يدخل شيئاً في ثنايا شيء، كإدراج الإنسان في ثنايا اللباس أدرج الثياب، أو أدرج القماش، أو نحو ذلك، فيكون إدراجاً في ثنايا الحديث، ويعرف ذلك بأحوال، منها: حفظ الراوي، وحذق الناقد بمعرفة الألفاظ النبوية عن غيرها، وذلك لكثرة محفوظه.
والإدراج يرد كثيراً في التابعين ومن جاء بعدهم، فيميز، فيقول: هذه اللفظة التي جاءت في ثنايا هذا الحديث هي ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما من بعض الرواة.
الثاني: أن يكون في الإسناد من يشتهر بالوصف بالإدراج، أو يكثر منه الإدراج، وذلك كـابن شهاب الزهري ، فإنه يدرج ويشرح، فإذا حدث بعض الرواة منهم من يذكر تفسيره، ومنهم من يقول: إنه حديث، ثم يذكره في ثنايا الحديث.
كذلك يعرف هذا الدارج بجمع طرق الحديث، فيجمعها فإذا وجد هذه اللفظة ليست في كلام النبي عليه الصلاة والسلام في مجموع طرقه إلا في هذه الرواية يعلم أنها أدرجت في هذا الباب.
والإدراج يكون في الإسناد ويكون في المتن، والإدراج في الإسناد أن يدخل راوياً يظن أنه في الإسناد، أو يقرن راوي بغيره، وهذا من وجوه الإدراج في الإسناد، ويعرف ذلك بتتبع الطرق، ومعرفة الرواة الذين يشتهر عنهم الإدراج.
قال المصنف رحمه الله: [ أو بتقديم أو تأخير فالمقلوب].
التقديم والتأخير في الأحاديث منها ما هو مؤثر، ومنها ما ليس بمؤثر، وهذا الكلام في ذلك مما يطول، فما كان مؤثراً يسمى مقلوباً، وما ليس له تأثير في ذلك فإنه يجرى على ظاهره لوجوده في الصحيحين.
قال المصنف رحمه الله: [ أو بزيادة راو فالمزيد في متصل الأسانيد، أو بإبداله ولا مرجح فالمضطرب].
إبدال راوٍ غيره بمعنى أن يرد عن هذا الراوي التحديث بإسناد واحد عن راو، ثم يحدث به مرة أخرى عن غيره، وحينئذٍ نقول: لا نحكم على الحديث بالاضطراب لمجرد اختلاف الراوي؛ لأنه ربما سمعه من أكثر من شخص.
ولكن ثمة قرائن نوردها في هذا الباب نقبله تارة ونرد أخرى، ومن هذه القرائن:
أولاً: أن الراوي إذا كان مكثراً من الشيوخ فهو من أهل التنوع والتفنن، تارة يحدث عن هذا وتارة عن هذا، وتارة عن هذا بحديث واحد، فحينئذٍ هذا لا يسمى اضطراباً، وذلك كالمكثرين كـقتادة و سعيد بن أبي عروبة وغيرهم، فربما يتفنن بالحديث الواحد فيرويه عن أكثر من شيخ، ولا نقول: إن هذا اضطراب منه، بل نقول: إنه سمعه من أكثر من واحد؛ لأنه صاحب رحلة وسماع.
ثانياً: إذا كان الحديث لا يحتمل التنوع، فهو من الأحاديث اليسيرة في مسائل الدين، إما من أمور الفضائل أو من الأخبار التي تتعلق بجزئيات يسيرة من أشراط الساعة ونحو ذلك، فلا تحتمل أن يسمع من أكثر من مجلس خاصة من إمامين كبيرين، فإذا نوع تارة في هذا وتارة في هذا، فهذا من قرائن الاضطراب، لماذا؟ لأن المتن ليس بذلك الكبير الذي يحتمل أن تسمعه من ابن عيينة ثم تسمعه من مالك ، فهذا مما يحمل على الاضطراب.
والاضطراب قرينة على ضعف الراوي وسوء حفظه، فمن لم يحفظ الإسناد لا يضبط المتن، وعدم ضبط المتن أيضاً أمارة على عدم ضبط الإسناد، وهي قرائن.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر