الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأول أحاديث اليوم ما رواه أبو داود في كتابه السنن من حديث بلال عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( لا تؤذن للفجر إلا وقد اتضح النهار أو كان الفجر هكذا، وفرج النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، يعني أبلج ).
هذا الحديث رواه أبو داود و البيهقي وغيرهم من حديث جعفر بن برقان عن شداد مولى عياض بن عامر عن بلال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر منكر، يستدل به من قال: بعدم الأذان قبل الفجر تنبيهاً، يعني: أنه لا ينبه للفجر قبل طلوعه، كما كان بلال عليه رضوان الله تعالى يؤذن، وهذا الحديث تفرد به شداد مولى عياض بن عامر فيما يرويه عن بلال.
وهذا معلول بعلل: أولها: أن شداداً مجهول، وقد تكلم على جهالته غير واحد، كما نص على هذا الإمام أحمد رحمه الله، والأثرم، وغيرهم، وأعل هذا الخبر الحافظ ابن رجب رحمه الله، وكذلك فإنه لم يدرك بلالاً عليه رضوان الله، كما نص على هذا غير واحد من الحفاظ، فقد نص الإمام أحمد رحمه الله والأثرم على أن شداداً لم يلق بلالاً ، وعلى هذا فيكون في الإسناد مجهولان: المجهول الأول: شداد ، والثاني: من يحدث عنه شداد ، عن بلال عليه رضوان الله، ويظهر هذا الانقطاع أن أبا نعيم الفضل بن دكين قد أخرج هذا الخبر في كتابه الصلاة من حديث جعفر بن برقان ، عن شداد قال: بلغني عن بلال ، فذكر أنه لم يسمع هذا الخبر عن بلال رضي الله عنه، وهذا الحديث إنما قيل بنكارة متنه؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بلالاً يؤذن بليل، فينبه الناس قبل صلاة الفجر، وعلى هذا العمل، فقد جاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بلالاً أن يؤذن مع طلوع الفجر، والأذان مع طلوع الفجر جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً لـبلال بجملة من الطرق، منها ما رواه الدارقطني في كتابه السنن من حديث سالم بن غيلان عن سليمان التجيبي ، و سليمان التجيبي مجهول، وقد تفرد بهذا الحديث، وهو حديث منكر، وقد جاء من وجه آخر عند الدارقطني في كتابه السنن من حديث أبي يوسف وهو القاضي صاحب أبي حنيفة ، يرويه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، عن أنس ، عن بلال ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يؤذن إذا اتضح الصبح )، وهذا الحديث حديث منكر، والصواب فيه الإرسال، وذلك أنه قد رواه جماعة من أصحاب سعيد بن أبي عروبة يروونه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن بلال ، ولا يذكرون فيه أنس بن مالك ، ويجعلونه منقطعاً، وهذا هو الصواب، ورجحه الدارقطني وغيره، وعلى هذا نقول: إن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر بلال بالأذان إذا اتضح النهار أن الأخبار في ذلك معلولة، جاء في هذا جملة من الأحاديث كما جاء عند ابن أبي شيبة في كتاب المصنف من حديث حجاج يرويه عن سويد بن غفلة ، و حجاج ضعيف الحديث، ولا يحتج به، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أن بلالاً يؤذن بليل، وأذان بلال بليل يعني: أنه يؤذن قبل طلوع الفجر، وهو لإيقاظ النائم، وتنبيه القائم، يعني: أي: يتنبه ويستعد للصلاة، أو يتسحر إذا كان عازماً على الصيام، وأما جاء من نفي الأذان قبل الفجر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأخبار في ذلك منكرة، يقول البيهقي رحمه الله في كتابه السنن، لما أنكر هذا الخبر، قال: ويعضده -يعني: يعضد الحديث- الذي في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل )، قال: يعضده عمل أهل الحرمين، وأسند في ذلك عن الإمام أحمد عن شعيب عن مالك بن أنس قال: ما زال العمل عندنا على أذان الفجر بليل، أي: أنهم يؤذنون للفجر بالليل تنبيهاً.
وفي هذا قاعدة وهي من مسائل العلل تقدمت الإشارة إليها.
وهي: أن الحديث إذا كان العمل على خلافه في بلاد الحرمين: مكة والمدينة في الصدر الأول، فإن هذا أمارة على ضعفه، وإذا كان العمل عليه فإن هذا من القرائن التي تعضد الحديث المروي في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل في المدينة على الأذان قبل الفجر، كما حكاه غير واحد، ويقول به فقهاء المدينة، وينص عليه الإمام مالك ، وهذه الأحاديث التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بلال ألا يؤذن حتى يتضح النهار، أو يتضح الصبح، هذه لا أثر لها في فقههم، ومعلوم أن الفجر وأوقات الصلاة ترد على الإنسان كل يوم، وهذا مما يحفظ ويثبت عليه العمل، ولا ينصرف الناس عن ذلك العمل إلا بدليل بين، وهذا -أي كلام البيهقي رحمه الله بإنكار الحديث بعمل أهل الحرمين- إشارة إلى أن هذا من قرائن الإعلال، وهو الذي يعمل به الحفاظ، وقد أشرنا إلى هذا مراراً، وإنما قال عمل أهل الحرمين خاصة أن العمل المتوارث لم يثبت في بلدٍ من البلدان كثبوته في مكة والمدينة؛ لأنها بلاد الإسلام في الصدر الأول، وأما غير الحرمين كالعراق ومصر والشام وخراسان واليمن ونحو ذلك، فهذه لم يستوعبها الإسلام دخولاً إلا متأخراً، وعلى هذا يقال: إن العمل في مثل ذلك طارئ عليهم، بخلاف ما كان في المدينة.
لهذا نؤكد أنه ينبغي لطالب العلم الناقد الذي يريد البصيرة في أبواب العلل أن يضبط ما عليه عمل أهل الحجاز، وأن يعرف مراتبهم في ذلك.
الحديث الثاني في هذا: هو حديث زياد بن الحارث الصدائي ( أنه أذن فأراد بلال أن يقيم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداءٍ قد أذن، ومن أذن فهو يقيم ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه ، وغيرهم، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، عن زياد بن نعيم ، عن زياد بن الحارث الصدائي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث منكر، وقع في إسناده ومتنه اختلاف، تفرد بروايته على هذا الوجه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان ، و يحيى بن معين ، و عبد الرحمن بن مهدي ، و النسائي ، وغيرهم، وأنكر حديثه هذا جماعة، كـيحيى بن معين ، والإمام أحمد ، وكذلك قد ضعفه وأعله الحافظ ابن رجب رحمه الله، وهذا الحديث حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم علته الأصلية هي تفرد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم فيه، وتفرده بذلك ليس بمقبول، ولكن قد يشكل على البعض قول البخاري فيه: مقارب الحديث، أولاً بالنسبة لـعبد الرحمن بن زياد بن أنعم هو رجل صالح، وزاهد، ومن أئمة إفريقيا، بل قيل: إنه أول مولود في الإسلام في إفريقيا، وكان قوياً في الحق، ناصراً للسنة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وربما يرد في كلام بعض العلماء على إمام من الأئمة أو على راو من الرواة في الأخبار من ألفاظ التعديل ما ينصرف إلى إمامته في باب من الأبواب، ولا ينصرف إلى حفظه، ومعلوم أن الطعن في حفظ الراوي لا يعني ذلك طعناً في ديانته، فقد يكون من أئمة الديانة، ولكن الحفظ هو آلة وملكة قد لا يؤتاها الإنسان وهو من العباد من الصالحين، لهذا ربما حمل البخاري رحمه الله على قوله في عبد الرحمن بن زياد: إنه مقارب الحديث ما يعلمه من حاله، وأما إضافة المقاربة إلى حديثه فنقول: إن لـعبد الرحمن بن زياد أحاديث مستقيمة، يوافق فيها الثقات، وله أحاديث تستوجب الرد عليه، وإنكار حديثه، ومنها هذا الحديث، وهذا الحديث حديث منكر قد تفرد به عبد الرحمن بن زياد من هذا الوجه، ولا يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، ويأتي الكلام على شيء من هذه الأحاديث في التفصيل، وقد جاء في بعض الأسانيد فيه اختلاف، فتارة يذكر عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وتارة يسقط، فقد روى هذا الحديث أبو نعيم في كتابه معرفة الصحابة، وكذلك في أخبار أصبهان، ولم يذكر عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وذكره في هذا الحديث هو الصواب، وعلى هذا جرى الأئمة في إعلال الحديث به.
وهذا الحديث، أعني: حديث زياد بن الحارث الصدائي قد جاء في معناه جملة من الأحاديث منها وهو الحديث الثالث حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أذن فهو يقيم ).
هذا الحديث حديث عبد الله بن عمر رواه البيهقي ، و الطبراني ، وغيرهم من حديث سعيد بن راشد المازني ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تفرد به على هذا النحو سعيد بن راشد وهو ضعيف، وقد أعله وأنكر حديثه جماعة من الأئمة كـيحيى بن معين ، ولينه وضعفه غير واحدٍ من العلماء، كالإمام أحمد و النسائي و الدارقطني و أبي حاتم وغيرهم، وقد توبع على حديثه هذا بلفظ أتم، قد رواه أبو عدي في كتابه الكامل وأبو الحسن في جزء له من حديث حسام بن المصمك ، يرويه عن عطاء عن عبد الله بن عمر بلفظ أطول، واختصره ابن عدي في كتابه الكامل، و حسام متروك الحديث، وقال فيه الإمام أحمد رحمه الله: مطروح، وتركه عبد الله بن المبارك وغيره، وهذه المتابعة من حسام لـسعيد بن راشد لا يعتد ولا يعتبر بها؛ لضعف حسام ، وشدة طرح العلماء له، فهو ممن اتهم في حديثه، وكذلك فإن أمثال هؤلاء الرواة الذين يتابع بعضهم بعضاً وهم من الضعفاء شديد الضعف إنما رددنا حديثهم؛ لأن الأمر ربما يتجاوز الحفظ إلى الدين، ولا يستطيع الأئمة أن يصرحوا بذلك باعتبار أن الجزم أن المطعن في الدين فيه ما فيه؛ أن الراوي كحال مثلاً سعيد بن راشد وإن كان ضعيف الحديث إذا تابعه غيره كحال حسام وهو من المطروحين، وضعفه في ذلك شديد ربما لم يسمعه من عطاء ، وإنما سمعه من سعيد بن راشد ، فيرجع الحديث إلى واحد، فنجعل هذه متابعة لذلك، بخلاف الضعفاء يسير الضعف الذين ضعفهم لا نجزم بكونه يتعدى إلى الدين، أما حال حسام فإنه شديد الضعف، وقد طرحه وترك حديثه واتهمه بعض الحفاظ مما يجعل النفس لا تطمئن إلى صدقه بأنه ذلك من عطاء ، ولو سمع ذلك من عطاء لاحتمل أن يرجع في ذلك إلى أمر الحفظ، وأمر الحفظ يصعب أو يستحيل على الإنسان أن يتوافق مع غيره على لفظ واحد، لهذا نقول: إن متابعة حسام لا يعتد بها.
لهذا إذا وجد طالب العلم حديثاً قد توبع أو حديثاً فيه مطروح أو متروك أو ضعيف جداً، وله شاهد من وجه آخر فيه على ذلك النحو فلا يعتد بالمطروح بل يجعل وجوده كعدمه، ولا ينظر إليه، وأما الاغترار بكثرة الطرق وكثرة المرويات في الأحاديث إذا وجد فيها المطروحون فهذا مما يسلكه بعض المتساهلين من المتأخرين، وهي من المسالك الخاطئة، التي ينبغي لطالب العلم أن يكون على حذر منها، وقد توسع جماعة من المتأخرين في هذا الباب، وأظهر الأئمة توسعاً في هذا هو الإمام السيوطي رحمه الله، فالإمام السيوطي رحمه الله يتوسع في تصحيح الأحاديث بجموع الطرق، ولو كان فيها من الرواة من هو شديد الضعف وواه، وجرى على هذا جماعة من الأئمة كـالمناوي رحمه الله، وجماعة، ومنهم من سبقهم ممن يتساهل في هذا الباب جماعة في أبواب التصحيح في مجموع الطرق، وهذا فيه ما فيه.
الحديث الرابع: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أذن فهو يقيم ).
هذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ متنوعة، وقد جاء بأتم من هذا، هذا الحديث رواه البيهقي و أبو الشيخ في كتاب الأذان من حديث الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث منكر، وقد تفرد به الحكم في روايته عن مقسم ، و الحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها، وكذلك قد تفرد به مقسم عن عبد الله بن عباس عن سائر أصحابه، فلـعبد الله بن عباس رضي الله عنه جماعة من أصحابه من الأئمة الفقهاء الثقات، فلم يرووا هذا الحديث عنه، والتفرد به من هذا الوجه من حديث الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس مع الحاجة إليه دليل وأمارة على النكارة.
ومن وجوه النكارة: أن مثل هذه المسألة يحتاج إليه الإنسان فقد يكون مؤذناً، ويتعذر عليه الإقامة، وهذا يرد ولا يخلو منه الإنسان، ومثل هذا ينبغي أن يرد بأسانيد أجود من هذا، وهذا يطرأ خاصة مع اتساع رقعة الإسلام في زمن الخلفاء الراشدين، والفتاوى في ذلك إنما هي من أقوال جماعة من السلف من التابعين وكذلك بعض الصحابة، ولو كان في ذلك شيء مرفوع لاعتمد عليه في هذا الباب في أمر الفتوى، نعم جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذه الأحاديث، وذلك ما رواه محمد بن عمر الواقدي عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه، وهو صاحب رؤيا الأذان، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يؤذن، فقال عبد الله بن زيد : يا رسول الله! أرى الرؤيا ويؤذن بلال ، فقال: ويقيم أيضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقم أنت )، هذا الحديث قد يقال إنه أمثل شيء جاء في الباب، ولكنه ضعيف أيضاً، لاضطراب إسناده، فإنه تارة يرويه محمد بن عمر الواقدي عن محمد بن عبد الله ، وتارة يرويه محمد بن عمر الواقدي عن محمد بن سيرين ، وتارة يرويه عن أبيه عن جده، وهذا اضطراب، وقد أعل هذا الحديث جماعة من الأئمة كـأبي الفرج بن الجوزي ، و البيهقي ، و ابن رجب رحمهما الله، ولكن في هذه المسألة أعلى شيء في الباب ما رواه ابن أبي شيبة، وهذا إسناده صحيح ولكنه موقوف، ما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث عبد العزيز بن رفيع قال: رأيت أبا محذورة وقد أذن رجل فجاء فأذن وأقام، يعني: أنه أعاد الأذان الأول الذي أذنه من سبقه، ثم أقام للصلاة، وهذا إسناده صحيح، صححه البيهقي وغيره، وهذا عن أبي محذورة، و أبو محذورة هو من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل فعله ذلك يعضد المرفوعات التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، نقول: إن العمل شيء والقول بالسنية، والتشريع شيء آخر، وذلك أن القول بالتشريع تأكيد، وذلك قد يقال: إن ما جرى العمل عليه أن المؤذن يقيم، وأن الأذان والإقامة تكون لشخص واحد لأنها لو كانت لاثنين لتواكلا، وإنما تجعل لواحد كونها أضبط لأمر الناس، وقد يكون هذا من أمور الاحتياط لا من أمور السنية والتعبد في ذات الفعل، فنقول: الإنسان في هذا يحتاط فيمتثل السنية ونحو ذلك كأن يكون مؤذن ذهب أو اعتذر ويخشى أن يتأخر فالسنية أن يقال: إن الإنسان ينبغي له أن ينتظر المؤذن، ولو كان في ذلك كلفة يسيرة من غير مشقة ظاهرة على الناس، ولكن إذا قلنا بعدم الثبوت فنقول: إذا أذن مؤذن وأقام آخر فإن في الأمر سعة؛ لأن المراد بذلك الإعلام، فهل نفصل الأذان عن الإقامة كما نفصل الأذان والإقامة عن الإمامة لا رابط بين هذا وهذا، سواءً أذن المؤذن وأقام وصلى كما تقدم معنا في الدرس الماضي في هل يصلي بالناس المؤذن فيجمع بينهما أم الأفضل في ذلك المغايرة، وأنه لا يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونقول في هذه المسألة مسألة هل نفصل الأذان على الإقامة كما نفصل الأذان والإقامة عن الإمامة؟ نقول: نعم، نفصل الأذان عن الإقامة، ويظهر أن ما كان في ذلك هو العمل، أما ما جاء عن أبي محذورة في أنه أذن وأقام، فيطرأ على ذلك جملة من الاحتمالات منها: احتمال كون المؤذن ذاك تعدى عليه في أذانه، فأراد تأديبه، فيحتمل هذا، خاصة أن أقوال الصحابة رضي الله عنهم المجردة إذا جاءت أحاديث متعارضة في الباب، لو كانت الأحاديث الضعيفة كلها الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن (من أذن فهو يقيم) ما جاء العكس فيها، وما جاء في الباب من الأحاديث المتضادة في هذا كلها ضعيفة، لأمكن أن نجعل حديث أبي محذورة الموقوف عليه يعضد الأحاديث الأخرى ( أن من أذن فهو يقيم)، وقد جاء في ذلك أيضاً أحاديث عن بعض الصحابة أن بلالاً يؤذن و ابن أم مكتوم يقيم، ولكن في أسانيدها ضعف، وذلك أنه يرويه ابن أبي شيبة ، وكذلك ابن سعد في الطبقات من حديث يزيد بن هارون ، عن حجاج ، عن شيخ من أهل المدينة، عن بعض مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسناد فيه جهالة ولا يصح، وعلى هذا نقول: إن الأدلة في ذلك والعمل فيه تضاد، ونجعل الأمر على الأصل، وإنما جرى عمل الناس على هذا الأمر لضبط هذه الحال كما تكون أحوال الناس من جهة الصلوات، فالإمام يصلي الصلوات الخمس، ويرتبط بغيرها، كصلاة القيام والتراويح، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، وأضرابها، وصلاة الجمعة، وهي خارجة عن الصلوات الخمس منفصلة، لا يكون لها إمام آخر، أو تسقط أحقيته في الإمامة حتى يأتي تكليف آخر، ولهذا نقول: إن ذلك الأمر مدعاة لحملها وتوابعها مما هو من جنسها، وهذا أدعى لحفظ الأمانة، وصونها من الخلل.
الحديث الخامس في هذا: ما رواه أبو يعلى في كتابه المسند، عن أبي أمامة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع المؤذن يقول: قد قامت الصلاة، نهض ).
وهذا الحديث حديث منكر، رواه أبو يعلى في كتابه المسند من حديث حجاج بن فروخ وقد تفرد به، وهو ضعيف، قد ضعفه جماعة، كـيحيى بن معين ، و النسائي ، ولينه البخاري ، و أحمد ، وضعف الحديث ابن رجب رحمه الله، وإنما قلنا بضعفه ونكارته لأنه مخالف لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى المسجد ثم يقوم الناس، فلا مجال لجلوسه ونهوضه عليه الصلاة والسلام، وكذلك ما جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً يحدث صاحب حاجة، فأقام بلال ، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم.
وكذلك ما جاء في الصحيح ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، وأمرهم بتسوية الصفوف )، فهذه تدل على نكارة هذا الحديث في قيام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن جل حال النبي عليه الصلاة والسلام في الصلوات أنه يأتي من خارج المسجد، فلم يكن عليه الصلاة والسلام فيه، وذلك لانشغاله بمصالح المسلمين، فإذا كان كذلك فإننا نقول: إن ما جاء في هذا الحديث من نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله: قد قامت الصلاة، منكر.
ومن وجوه الإعلال: أن هذا لو كان من السنة لاحتيج إلى اشتهاره بأسانيد قوية، والأسانيد التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت عامة من غير تقييد، والإقامة للصلوات الخمس تكون في اليوم والليلة خمس مرات، ولو كان هذا منضبطاً دقيقاً لجاءت به النصوص.
ومن وجوه الإعلال: أن هذا الأمر لم يكن عليه عمل الصحابة، ولا أئمة الفقه من التابعين في مكة والمدينة، ومثل ذلك لا يفرط فيه، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن ما هو دونها، ومع ذلك اعتنى بها الصحابة عليهم رضوان الله تعالى وضبطوها، وهذا يؤكد ما تقدم معنا مراراً أنه ينبغي ضبط العمل فيما عليه أئمة الفقه من أهل البلدان، فضبط فقهاء المدينة من أتباع التابعين أقوى في أمور العلل من تابعي اليمن والأطراف؛ لأنهم أقرب ولهم شيوخ يأخذون عنهم، نكتفي بهذا القدر.
السؤال: هل يقال: إن من السنة ألا يأتي الإمام إلا مع الإقامة؟
الجواب: إذا كان منشغلاً بمصالح المسلمين العامة فنعم، فمن ينشغل بالمصالح العامة ولو تأخر، أما إذا كان يتكئ ويذكر أحاديث، وقصصاً، ونحو ذلك، ويقول: هذه السنة فهذه ليست بسنة.
السؤال: أحسن الله إليك، الحديث الأول حديث بلال ألا يدل على أنه كان يؤذن قبل الفجر دائماً؟
الجواب: نعم في الفجر يؤذن قبل الأذان دائماً.
السؤال: [ألا يحمل الأذان الأول على الأذان والثاني على الإقامة بدليل أن بلالاً كان يؤذن وابن أم مكتوم يقيم؟]
الجواب: لا يعني هذا أنه يدع الأذان الأول؛ لأن ابن أم مكتوم تارة يؤذن الثاني وتارة لا يؤذن.
السؤال: [ هل يلزم من كون بلال يؤذن الثاني أن يقيم ابن أم مكتوم؟ ].
الجواب: لا، ما هو بالضرورة أنه إذا أذن الثاني بلال أنه يلزم أن الذي يقيم ابن أم مكتوم ، قد يكون يفعلها كلها بلال، والاحتمال قد يرد في هذا.
السؤال: إذا ثبت حديث أبي محذورة هل يجب على أحد مسألته، وإلا يقال: إنه ما اعتبر الأذان الأول؟
الجواب: الذي يظهر أنه ما اعتبر به، ثم يرد علينا مسألة وهي: لو قلنا به هل نقول بأن لو أذن آخر غير المؤذن الراتب، أنه يأتي بأذان جديد، ونقول بهذا السنية؟ لا نأخذ بشطر الأثر وندع الآخر، نعم.
السؤال: [ ما هي السنة للمأمومين عند الإقامة؟ ]
الجواب: يقال: إنهم يقومون، أعني المأمومين، بما يكفي لتسوية الصف، والإتيان بالسنة، تسوية الصف، السواك، النظر إلى الإمام، ترقب التكبير، فهذا هو السنة.
السؤال: الأذان الأول هل هو سنة؟
الجواب: نعم سنة، ينبغي أن تحيا في الناس.
السؤال: [ كم المقدار بين الأذان الأول والثاني في الفجر؟ ]
الجواب: ربع ساعة، وبعضهم يقول عشر دقائق.
السؤال: [ ما يلزم الإمام تجاه المصلين بعيد قيام الصلاة؟ ]
الجواب: أن يلتفت للناس وينظر إلى أقدامهم، ويسوي الصفوف.
السؤال: [ على ماذا تحمل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم؟ ]
الجواب: الأفعال ثلاثة، أفعال النبي عليه الصلاة والسلام: عبادة، وعادة، وجبلة، فكل شيء يفعل في العبادة، أو معها، أو يصاحبها قبيلها، أو بعدها، فهذا الأصل فيه السنية، إلا لقرينة تدفعه على ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر