الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد بيّن لهذه الأمة الطريق الحق، وطريق الرشاد والهداية، وميز بينه وبين طريق الباطل، والشر والغواية، وجعل الناس على محجة واضحة بيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
كما لا يخفى فإن الحقائق لا يمكن أن تتبين للإنسان إلا بمعرفة شيئين:
الأول: معرفة ذوات المعلومات. والثاني: معرفة ما يخالفها. ولهذا يقال: وبضدها تتبين الأشياء.
وأعلى ما يصل إليه الإنسان من فهم الشيء هو أن يفهمه بذاته، وأن يفهمه بضده، فإذا فهمه على هذا النحو مع التدقيق والتأمل بمعرفة الحال ومعرفة المآل أدرك الإنسان تلك الحقائق والمدركات على بينة وتمام من غير قصور، فلا يقع غالباً في زلل وخطأ بهذه الأشياء أو هذه المعلومات.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه وأمته الطريقين: طريق الخير, وطريق الشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه وأمته تلك الطرق بتفاصيلها ودقائقها، وكذلك دعاتها الذين يدعون إليها، وهذا نهج نبوي دقيق، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل الإجمال والتفصيل، فجعل الله جل وعلا آياته مفصلة، وجعل الحكمة من ذلك والعلة: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً، وقال: هذا الصراط المستقيم، وخط عن يمينه خطوطاً وعن شماله خطوطاً، فقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم تلا قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ).
بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطرق التي تخالف الهدي والصراط المستقيم على نوعين:
النوع الأول: الشهوات.
النوع الثاني: الشبهات.
ولهذا قال الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
بيّن أن ثمة سبلاً متعددة، وأن الصراط من جهة الأصل واحد، وأن السبل المتنوعة في مخالفة الحق متعددة، وقد جاء عن غير واحد من السلف من المفسرين أن المراد بالسبل هي: البدع والشبهات، وجاء في قول: أنها البدع والشهوات، والمراد بذلك ما كان دخيلاً في أصل الدين لتغييره وتبديله، أو ما كان لترويضه لكي يتوافق مع الشهوات، فحينئذٍ تتداخل الشهوة والشبهة في آن واحد، وأخطر ما تكون الأفكار إذا اجتمعت الشهوات والشبهات في مذهب واحد، وعلى طريقة ونهج واحد، فحينئذٍ يكون هذا النهج هو أخطر المناهج على الإطلاق، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا يمكن أن تحمى إلا بإدراك حقيقتها وحقيقة عدوها.
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة تخلط كثيراً في أبواب المفاهيم والمعارف والمدركات، وذلك أنها لا تميز غالباً، وكذلك في معرفة العقائد والأفكار بين الوسائل الموصلة إلى حقيقة الإدراك، بينما يوصل الإنسان إلى فهم المادة والعلم وفهم العقائد، وهذه كلها من جهة الأصل تمتزج بين طرق توصل الإنسان إلى حقائق على سبيل الاجتماع، وبين سبل توصل الإنسان إلى معلومات على سبيل الانفراد، لا يمكن أن يمتزج معها غيرها، وهذا أمر معلوم لدى أهل العقل، وكذلك من نظر في نصوص كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك ذلك بيناً ظاهراً.
من الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء في شريعته بيان المفاصلة والمفارقة بين أهل الحق والباطل، وأنه ينبغي للمؤمن أن يفاصل أهل الزيغ والضلال بجميع أنواع المفاصلة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، واغتفر الشارع جملة من الأحوال والصور التي لا يمكن أن تتحقق المصلحة التامة إلا بشيء ونوع من الممازجة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة المؤمن بين ظهراني المشركين، كما جاء في حديث عمران، وكذلك التشبه بالأقوال والأعمال كما جاء في حديث عبد الله بن عمر ، كما رواه الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، وذلك أن التشبه في الظاهر يلزم منه تشبه في الباطن، وكذلك فإن الإنسان إذا تشبه بالناس بأفكارهم وأقوالهم، فإن ذلك يفضي إلى تشبه الظاهر، والأصل في ذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يتشبه في ظاهره إلا وقد وجدت بذرة من التشبه في الباطن، وذلك أن الظاهر هو غرس للباطن كغرس الشجر إذا ظهر فيه ثمر ورق، وهذا أمر معلوم.
والنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن الأمة تقتدي وتأتسي بحال غيرها، ولو كان بدخول جحر الضب، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، ولو كان شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن القوم إلا هم )، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما بيّن أولئك وبيّن حال من قبلنا، أن الأمة تتشوف إلى النظر إلى الغير، وذلك أن الإنسان إذا وجد في حاله أو في قوله أو في فعله ضعفاً؛ فإنه ينظر إلى غيره لعله يجد قوة، فإذا وجد قوة في غيره أخذ بالأسباب التي أوصلت غيره إلى القوة، فيأخذ بها من غير نظر إلى أسبابه وأحواله، ويظن أن الوصول إلى القوة والضعف أنه على نهج واحد وتتحد فيه الذوات، وتتحد فيه السبل، وهذا من أنواع الخلط التي ينبغي أن يحذر منها الإنسان.
ولهذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعظم أسباب اللبس عند كثير من الناس أنهم يخلطون بين الماديات، ويخلطون بين أبواب العقائد، فإن أبواب العقائد ومعرفة الأحكام ووحي الله جل وعلا لا يمكن أن يربط بأمور محسوسات، فقد يكون للإنسان من القدرة على إدراك شيء محسوس والنظر في المادة ما لا يتحقق عند غيره، فإذا وجد عنده فإن هذا لا يعني صواباً في أبواب الاعتقاد، فإننا نجد من كان دون البشرية من جهة الحضوة والمنزلة من العقل أن الله جل وعلا خصهم بجملة من الخصائص التي هي بالنسبة للبشر من أبواب الإعجاز، فنحن نرى النجوم والكواكب في أماكن عالية، ونرى من الطيور وغيرها ما سخر الله جل وعلا لها من الخصائص ما تفوق البشر وما لم يصل إليه البشر، وهم بالإجماع دون البشر من جهة المزية والفضل والمنقبة، وذلك أن تلك الخصائص ليست مزية بمعرفة ذات الحق، وكذلك بضعف العقل وعدمه، وإنما هي أسباب يهيؤها الله جل وعلا للإنسان فيصل بها إلى غاية أرادها الله سبحانه وتعالى.
ولهذا بيّن الله جل وعلا أن الذي يمنعه من أن يجعل للكفار لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليه يظهرون، هو ألا يكون الناس أمة واحدة، كما جاء في قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالأمة الواحدة هي على الكفر أو النفاق أو الزندقة والإلحاد، وذلك أنهم ينظرون إلى حال الكفار، ومن يكفر بالرحمن أن الله جل وعلا جعل لهم بيوتاً وسقفاً من فضة، وجعل لهم معارج، فخلطوا بين النظرة المادية، وبين الصواب من جهة العقل والإدراك والنظر في صواب الشريعة من عدمها، فخلطوا في أبواب منفصلة ومنفكة، وذلك أن الأسباب الموصلة إلى إدراك الحكم والغايات الإلهية التي أمر الله جل وعلا بالتزامها في أبواب التعبد منفكة ومنفصلة عن المدركات المادية التي يدرك الإنسان ذواتها ولكنه لا يدرك ذوات غيرها من حكم الله سبحانه وتعالى في أمور الغيب وحكم العبادة وغيرها.
أما الأمور المادية والذوات المادية فقد بيّن الله جل وعلا أسباب الوصول إليها، والقياس فيها، بخلاف العلل الشرعية فإن الله جل وعلا منع من القياس إلا ما كان قياساً جلياً أو كان قياس الأولى ونحو ذلك، وذلك أن الشريعة الأصل فيها الحياطة، والعبادة لا تتناسخ، بل التناسخ في ذلك من البدعة، وأما بالنسبة للمادة فإن التناسخ فيها موجود؛ مما يدل على انشقاق مبدأ النظرة، وأن النظرة من جهة الأصل في أبواب الشريعة والتعبد مردها إلى الله سبحانه وتعالى والوحي، وأنه لا يجوز للإنسان أن يقيس شيئاً بعقله، فيتعبد لله جل وعلا من تلقاء نفسه وأن ذلك مردود إليه.
وأن من قاس في أمر دنياه فإن ذلك أمر يدخل في أبواب المدركات، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وجاء في ظاهر هذا في قول الله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فالله جل وعلا قد رضي للأمة: الإسلام ديناً، وهذا الرضا مقترن بالتمام، فلما كان التمام أعقبه الرضا؛ دل على أن الزيادة على ذلك لا مجال للرضا فيها، وأنها من سخط الله جل وعلا وعقابه، فلما كان كذلك دل على أن رضا الله جل وعلا لا يمكن أن يدركه الإنسان بالعقل، فعلم أن أصل المدركات هو العقل، وإذا قلنا: إن إدراك الشريعة لا يمكن أن يتحقق بالعقل من جهة الأصل حينئذٍ لا يمكن أن يقيس الإنسان عليه غيره، وأما بالنسبة للمادة فإن الإنسان يدرك غيرها بقياس العقل، فيتناسخ ذلك الأمر، فيدرك حقائق كثيرة مما هي في صالحه أو في غير صالحه.
ولهذا بيّن الله جل وعلا أن الفساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فهم يظنون أنهم قد وصلوا إلى الصواب وهم ما وصلوا إليه.
وفي مجلسنا هذا نتكلم عن التغريب، والتغريب كما هو ظاهر في هذا المصطلح مشتق من جهة الغرب، والغرب المراد به هي الملة الغربية، وليس المراد بذلك غرب الأرض على الإطلاق، والملة الغربية هي الملة النصرانية، والتغريب له مصطلح مضاد له، ولكنه في غايته واحد، والمصطلح المضاد له هو مصطلح الاستشراق، والمراد بذلك أن ثمة أناساً من الغرب يأتون إلى بلدان المسلمين وينغمسون فيها، وينظرون في أحوالهم حتى يكون ذلك آلة للوصول إلى أحوالهم، والتغلغل في دينهم، وعاداتهم وتقاليدهم وأقوالهم، فيخاطبون على ذلك النحو، وذلك من المدارك الصحيحة من جهة الأصل، أن الإنسان لا يمكن أن يخاطب قوماً إلا وقد عرف أحوالهم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عباس: (لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ).
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) إشارة إلى معرفة دينهم، وأنه ينبغي للإنسان ألا يخاطب القوم وسائر الناس بخطاب واحد لا ينفك باختلاف أنواعهم من جهة المدارك العقلية، من جهة السن والجنس، وكذلك من جهة الدين، وكذلك العرق واللغة، فينبغي للإنسان أن يدرك أحوالهم، فبيّن النبي عليه الصلاة والسلام حال تلك الأمة وأنهم يختلفون عن بيئة أهل الإسلام كما في المدينة المشتركة بالوثنية والدين الكتابي، وأن الخطاب في ذلك ينفك عن غيرهم، فجاء ما يسمى بالاستشراق، وهو الدخول إلى بلدان المسلمين والنظر في أحوالهم وعقائدهم ودينهم، ثم لما كانوا من أهل الخبرة في ذلك خاطبوا المسلمين بما يريدون، وجاء في ذلك ما يسمى بالتغريب، وهو مصاحب وقوي بعد التشريق جاء بعده وظهرت آثاره في مجتمعات المسلمين، وهو من جهة الأصل التغريب، إنما نشأ بقوة بعد انقلاب الغرب على دينه وظهور علم المادة والعقل.
وينبغي أن يعلم أن الغرب لما كان على دينه المحرف لم يكن يلتفت إلى الدعوة إلى دينه، وكما انتكس عن دينه ثم رجع إلى المادة، ثم رجع إلى العقل، وكذلك المادة المحضة، فإنه جاءه شيء من حمى الدعوة إلى نهجه وطريقته لم يكن قد سبق إليها، وذلك لسبب أن الغرب من جهة عقيدته ودينه قد بقي على ذلك الدين المحرف، ولما انسلخ من دينه كان ذلك الانسلاخ إلى غير دين، وهو ما يدعون إليه مما يسمى بحرية الأفراد في ذاتهم، وحريتهم في أموالهم، وحريتهم في سياستهم واجتماعهم وغير ذلك، دخلت أبواب الحريات وأنه لا يؤثر الإنسان على غيره، والإسلام سياج قوي يدعو غيره، وهو لا يدعو إلى الثبوت، وإنما يدعو إلى التنقل، فلما كان الغرب يدعو انتقل من دين ثابت محرف، وانتقل إلى عقل ثابت لا يدعو إلى غيره؛ فاحتاجوا إلى مواجهة الإسلام والدعوة إلى تلك الثقافة، والفكر الليبرالي، وكذلك الفكر الغربي على سبيل العموم هو فكر يهتم بالفرد ولا يهتم بغيره، ويدعو إلى أن الفرد لا يؤثر على غيره على الإطلاق، فإذا كان كذلك فإن مصيره ومآله إلى الزوال، وذلك أنه يواجه فكراً وعقيدة تدعو غيرها، بل إن من صلب عقيدتها أن تهتم بغيرها، وأن يهتم المسلم بعقيدة غيره، وأنه يدعوه إلى الحق، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحق، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة ولو بالقليل، كما جاء في الصحيحين وغيرهما, قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وغيرهما، قال: ( بلغوا عني ولو آية )، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يبلغ الدين ولو بشيء يسير، مما يدل على أن الإسلام ينمو، ولا يمكن أن يكون ثابتاً قاصراً على الشخص، فإن الشخص يسعى إلى تصحيح غيره، بخلاف الفكر الذي تحول إليه الغرب، لما تحولوا أدركوا أنه لا يمكن أن يبقى هذا الفكر على ما هو عليه؛ لأنه فكر يهتم بالأفراد، ولا يدعو إلى الاهتمام بالغير، بل يحرم ويجرم أن يؤثر الإنسان على غيره، فينبغي أن يحكم الإنسان عقله مجرداً، وهذا ما وصل إليه الغرب في غاية مداركهم العقلية، أنه ينبغي للإنسان أن يكون حاكمه في حياته الدنيا هو العقل، وأن عقل الإنسان بجواره لا يؤثر على عقله، وإن أثر عقل غيره عليه فإن هذا من التعدي والجناية، وينبغي للإنسان أن يحكم عقله في تصرفه، فإن أجاز له فعلاً أو قولاً فإن هذا من السائغ والجائز، وإذا منعه من ذلك فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك الفعل أو يقول ذلك القول.
ولما كان على هذا النحو وأدركوا أن الإسلام ينمو ويدعو غيره إليه ولا يقبل بمشارك يزاحمه في أبواب الاعتقاد والأقوال والأعمال، كانت تلك الدعوة الغربية إلى تغريب المجتمعات المسلمة على أنحاء متنوعة، تغريب فيما يتعلق بأبواب العقائد وإذابتها، وليس المراد بذلك الدعوة إلى النصرانية، لأنهم لم يكن لديهم ثقة في دينهم وعقيدتهم، وقد تجردوا من دينهم، وأنه لا يصلح لإدارة شأنهم السياسي أو شأنهم الاجتماعي، كما أطلقوا على ذلك في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وذلك في زمن قد فصلوا فيه دينهم المحرف عن السياسة، وأنه لا يمكن أن تصلح فيه المجتمعات.
وفي هذا يصلح أن نشير إلى مسألة مهمة وهي: أن شريعة الإسلام لما جعلها الله جل وعلا باقية خالدة إلى قيام الساعة، وخصها الله جل وعلا بهذه الخصيصة وهي الديمومة، وخصها بخصيصة أخرى وهي أنها مستوعبة وشاملة لسائر الأمم، سواءً كانت عربية أو غير عربية، وسواءً كانت قريبة أو بعيدة، فهذه الدعوة لا بد أن تصل إليهم، ولهذا خاطب الله جل وعلا سائر الأمم والشعوب بالدخول في ملة الإسلام، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار ).
ولما كان الإسلام كذلك فإن هذا يقتضي سعة الإسلام واتساعه، وأن مظلة الإسلام عريضة، والخلط في هذا الأمر بين أنه ينبغي لأهل العلم والعقل أن يدخلوا سائر الأفراد تحت مظلة الإسلام العريضة، وبين الذين يريدون أن تتسع تلك المظلة حتى تظل الأفراد وتتبع الأفراد أينما كانوا فتظلهم، وهذا من الخلط.
فينبغي أن يُعلم أن مظلة الإسلام عريضة تستوعب سائر الناس، فيجب على الناس أن يأتوا إليها لا أن تأتي تلك المظلة فتتبع الأفراد أينما كانوا وعلى أي قول كانوا، وهذا ما يتعلق بمسائل الاعتقاد والتغريب فيها.
شريعة الإسلام لما كانت واضحة بينة في علاقتها مع العقائد الأخرى، والأدلة في ذلك محكمة، جاء بما يسمى بالتغريب في أبواب العقائد، وذلك بإلغاء الفوارق بين دين الإسلام وغيره من اليهودية والنصرانية، ونشر ما يسمى بالتسامح وغير ذلك.
وهذه الدعوات من جهة أصلها هي ألفاظ تدل على معان صحيحة، ولكن كما جاءت في سياقات يراد بها الباطل، وذلك أن المؤمن تضعف حميته لدينه حتى ينغمس في ثقافة غيره، حتى يصل إلى ما وصل إليه الغرب، وذلك هو القناعة بالمدارك العقلية، والانطلاق إليها بمعرفة الخير والشر، وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي للإنسان أن يدركها، ولهذا سعى الغرب إلى دعوة الإسلام بدعوة متنوعة، سواءً عن طريق الاستبداد، وهو ما يسمى بالاستعمار وغيره، دعوة الإسلام قسراً أو طواعية ترغيباً وترهيباً إلى العقل الغربي، وليس إلى الديانة الغربية؛ لأن الديانة الغربية وهي النصرانية قد تخلى عنها الغرب، ولم يكن لديهم حمية في ذلك، وهذا أمر معلوم، ولما تخلوا عنها لم يكن مجدياً الدعوة إلى الديانة الغربية، وإنما كان المجدي في ذلك هو الدعوة إلى العقل، فجاءت الدعوة إلى العقل متنوعة، وذلك بحسب تنوع الإسلام، وكان الاستشراق مسهلاً لما يسمى بالتغريب، بمعرفة النصوص الشرعية ومداركها، وكذلك وجوه الاستدلال منها والاستنباط، مما يتوافق مع تلك الأصول الغربية، فدخل التغريب إلى بلدان المسلمين فيما يسمى بأبواب الاعتقاد وأبواب العبادة، وأبواب الاجتماع، وكذلك ما يسمى بأبواب الاقتصاد، ويأتي الكلام عليها كلاً على حدة بإذن الله تعالى.
كان ثمة جمل من الأساليب والطرق بدعوة الإسلام وأهله إلى الانغماس في الطريقة الغربية، ولهذا جاءت الطريقة الغربية ليس تشكيكاً في الإسلام بسائر الطرق، وإنما بالدعوة إلى ما يسمى بالحضارة المدنية، والانغماس فيما يسمى بالعيش الرغيد وغير ذلك، والمراد من ذلك من جهة الحقيقة هو أن يصل العالم إلى تنمية الغرب، وتنمية المادة الغربية، وليس المراد أن تنمى مجتمعات المسلمين، والدليل على ذلك أن الغرب في نشره لثقافته وعقيدته في بلدان المسلمين سعى بذلك على طريقين:
الطريق الأولى: ما يسمى بالاستعمار، والغرب لما استعمر كثيراً من بلدان المسلمين استعمر جملة من الدول، وأكثر القارات التي نالها وطالها الاستعمار هي القارة الأفريقية، وهي أضعف بلدان العالم اقتصاداً ونمواً وحضارة، مما يدل على أنهم يبحثون على شيء معين، وإذا كان لم يدرك وهو ما يسمى بالمادة وقوة الاستهلاك في تلك البلدان لم يكن ثمة حصول المقصود، ولكن لما وجد جملة من بلدان المسلمين لديها من الثروات ما لديها، كان ثمة دعوة إلى النمط الغربي والطريقة الغربية بفصل الأفراد عن بعضهم، وهو ما يسمى بالمدارس العقلية التي تنمي لدى الإنسان الثقة الذاتية، وهذه إذا نظر الإنسان إليها يجد أنها عبارة حسنة، أن الإنسان يثق في عقله، وإحياء ما يسمى بالرقابة الذاتية، أن يراقب الإنسان نفسه، وهو حكم النفس، ويريدون بذلك إحياء ما يسمى بتحكيم العقل، وهو أن يكون العقل قاضياً على كل شيء.
والغرب لما تخلى عن دينه، وقد دعاهم الله جل وعلا إلى التخلي عن دينهم الذي هم عليه، وأنهم على باطل وليسوا على دين سماوي، وإنما هم على دين محرف، ولهذا قال الله جل وعلا لهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ [المائدة:68]، وناداهم الله جل وعلا: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، أي: أنكم لستم على هدى وحق ورشاد، ولهذا لما قالوا: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135] قال الله جل وعلا: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، أي: أن طريقكم ليس على طريق الحق، فهذا إذا كان مناقضاً للإسلام، وجعل الله جل وعلا الإسلام لما خصه بتلك الخصائص السابقة له طريقة العموم والشمول، والدين المسيحي لما كان لا يصلح إلا لبيئة معينة ولزمن معين كان قاصراً عن استيعاب الزمان لبيئة واحدة، فكيف باستيعاب الزمان لبيئة متعددة، ولهذا الإنسان حينما يخاطب فرداً فإنه ينظر بإطلاقه لهذا الفرد ما لا ينظر في حال خطابه للجماعة، فإنه إذا خاطب الجماعة يستعمل أسلوباً يصلح للجماعة، كل يستعمله بحسب حاجته، بخلاف خطاب الإنسان للفرد المعين، فإن هذا الخطاب يصلح له ولا يصلح لغيره، فلما جاء الخطاب لبني إسرائيل صالحاً لهم وليس صالحاً لغيرهم، وكذلك صالحاً لهم في زمان محدود ولا يصلح لهم بعد ذلك الزمان، فكان قاصراً حينئذٍ عن استيعاب تقلب الزمان، وكذلك تعدد الأمم، فكان قاصراً من هذا الوجه، جاء الإسلام بشموله فلم يقبلوه، وكابروه، وانتقلوا من دينهم الذي هم عليه إلى العقل مكابرة.
وأرادوا بذلك أن يخرجوا من ذلك الدين المحرف، وبدءوا بما يسمى بتحكيم العقل وإحياء المدارس العقلية، فدخلوا وخاضوا في كثير من المدارس العقلية في ما يسمى بالحضارة المدنية، أو فلسفة الأخلاق وغير ذلك، وقد أخذ كثير من المسلمين تلك المدارس من غير تمييز لها، وتمييز تلك المنطلقات التي انطلقوا منها، فهم انطلقوا بعد ترك الدين المحرف قد ناله التحريف من جميع وجوهه إلى عقل مجرد، فساقهم العقل إلى ما لا نهاية، وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن تدرك.
بعد ظهور ما يسمى بالمدارس العقلية دعا الغرب سائر العالم إلى ما كان عليه، وهذا لا يختص بالمسلمين، فكانت دعوة شاملة للمسلمين، ودعوة شاملة للوثنيين، ودعوة شاملة للزنادقة الملحدين، كلهم يدعون إلى التغريب، وإلى الطريقة الغربية، وهذا يدل على أنهم لا يريدون من جهة الحقيقة التدين بالدين النصراني، فإنهم لا يثقون به، وكثير من فلاسفتهم وعقلائهم يدركون ويعقلون أن الطريقة الغربية ليست دعوة للنصرانية، وإنما هي دعوة للمادية، فإذا كانت دعوة للمادية فإنه ينبغي أن يسلكوا في ذلك طريقة العقل، وهذا لا ينكر وجود دعوات إلى النصرانية، ولكنها دعوات قليلة لا تمثل السواد الأعظم الذي يسلكه الغرب.
لما وجدوا الإسلام متسعاً ومظلة شاسعة تستوعب الدين والدنيا من جهة تحكيمها وثمة نظام شامل ما يسمى بالإسلام بنظام المال، وهو نظام الاقتصاد، وما يسمى بنظام الاجتماع وعلاقة الناس وأفرادهم، كان الإسلام قد شكل منظومة تامة في علاقة الأفراد بعضهم مع بعض، وهو ما يسمى بصلة الأرحام، وما يسمى بالإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك إعانة المحتاج وإكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وتفريج الكربات، وغير ذلك مما حث الإسلام عليه مما يسمى بعلاقة الناس بعضهم ببعض، وكذلك ما يتعلق بأمر دينهم، وذلك أن دين الإسلام يختلف عن الدين النصراني، دين الإسلام الناس في ذلك سواسية لا توجد طبقة عن طبقة، بخلاف العقيدة النصرانية فإن ثمة أناساً معصومون هم الذين بين الله جل وعلا وبين ربهم وهم ما يسمون برجال الكنيسة الذين يعمدون كل مولود، وكذلك فإنه لا يصح الزواج إلا بهم، والدفن وتوديع النصراني لا يكون إلا بهم، فهم الصلة بين هؤلاء وبين ربهم.
كذلك فإن الإنسان إذا وقع في ذنب لا يتوب لله جل وعلا مباشرة إلا بين أيديهم، ويعطونه ما يسمى بصكوك الغفران، فكانت بيئة المسلمين تختلف عن بيئة غيرهم، بيئة المسلمين المسلم يصلي في البر والبحر، ويصلي في الجو والأرض، ويصلي منفرداً، ويصلي في السهل والوعر، ويصلي وحده، ويتوضأ بالماء أو يتيمم بالتراب إن لم يجد الماء، وكذلك يصلي منفرداً أو جماعة وصلاته في ذلك صحيحة، وهو بين مقصر ومسرف على نفسه، وبين محسن وطائع، ويختلف في ذلك عن طريقة أهل الكتاب، فإنهم لما وجدوا طريقة الإسلام متسعة لا يمكن الاستيعاب عليها وإخراج المسلم بهذه السهولة من دينه؛ كان ثمة صعوبة بالدعوة إلى النصرانية، أو الدعوة إلى ما يسمى بالخروج عن الإسلام والخروج عن العقل، جاء ما يسمى بزعزعة الإسلام من داخله، وذلك بإحياء ما يسمى بالمدارس العقلية من داخل الإسلام، بإيراد أدلة وشبهات تحيي ما يسمى بالعقل، وإيراد النصوص التي تدل على قوة العقل من الكتاب والسنة وإلغاء ما يسمى بجانب النقل في الشريعة وتعظيمه وجانب التعبد، ولهذا ظهر دعاة يدعون من داخل دائرة الإسلام بنصوص الشريعة وهم يدركون الخطورة، وهذا ما يخفى على كثير من المسلمين، وذلك أنهم يظنون أن الغرب يدعو المسلمين باسم الغرب، ويدعو العرب باسم الأعجمية أو الإنجليزية ونحو ذلك! والطريقة التي يدعون بها هي دعوة المسلمين بالإسلام، ولكنه بإسلام جديد، وظهر ما يسمى بقراءة النص الجديد، او ما يسمى بالنص المفتوح، وما يسمى بالاستنباط الجديد من النص، وأنه يحق للإنسان أن ينظر في النص كما شاء، وأن هذا داخل في دائرة الإسلام، وليس داخل في غيره، بخلاف طريقتهم التي استعملوها في دينهم النصراني، فإنهم تركوا النصرانية بالكلية، وقالوا: ليس لها علاقة في شأننا، بخلاف الذي فعلوه مع الإسلام، قالوا: إن الإسلام شامل، وصاحب سعة، وللإنسان أن يختار ما يشاء من طرائق الاستدلال وطرائق الاستنباط ما يصلح لحياتهم، وجدوا أن الإسلام يدعو إلى حرية الأفراد، ولكنه ضبطها، والإسلام قد اتفق مع الفطرة بخلاف طريقتهم، ولهذا تحيروا من جهة تعامل الإسلام مع العقل، والعقل من جهة أصله منفلت، وليس له ضابط، والسنة الكونية أن ما كان منفلتاً فإنه ينبغي أن يضبط لا أن يزاد انفلاتاً.
وبالنسبة للغرب فقد تعاملوا مع العقل فزادوه انفلاتاً، ما كان منفلتاً من جهة الأصل السنة الكونية ألا تزال الحواجب من طريقه كحال الرياح، الرياح من جهة الأصل منفلتة، ولا يحتاج الإنسان أن يزيل عنها الجبال ولا الشجر ولا الحيطان حتى تأخذ طريقها، وإنما الحكمة من ذلك أن الإنسان يضع حواجز لها ليستفيد منها، فيستفيد من تأجير الهواء وحبسه، ويستفيد منه طاقة وغير ذلك، كذلك ما يسمى بالفيضانات والسيول ونحو ذلك، فإن الإنسان ليس بحاجة إلى أن يزيل عن طريقها الأشجار والأحجار؛ لأنها من جهة الأصل منفلتة، ولكن ما كان أصله منفلتاً فإن السنة الكونية تقتضي أن يضبط ذلك بالاستفادة منه بوضع السدود ونحو ذلك، وذلك العقل.
فالشريعة جاءت بضبط العقل، وما جاءت بفتح الطرق له، فلم تأت بإلغائه كطريقة النصارى مع العقل، وإنما جاءت بضبطه واتزانه حتى لا يضطرب في ذلك.
طريقة الغرب في التعامل مع العقل أنهم أزاحوا الطريق وعبدوا له زيادة عما هو منفلت، فانفلت زيادة كحال الفيضان، وكحال الرياح والأعاصير وغيرها، فوقعوا فيما وقعوا فيه، فانجرفوا في كثير من الأخلاقيات، وانجرفوا فيما يسمى بالطبقية في مجتمعاتهم، وظهر الظلم والبغي في أبواب الاقتصاد.
دخلوا من هذا الأمر لما أدركوا حقائق الإسلام وأن الإسلام لم يكبح العقل، ولم يحجم دوره؛ وأدركوا أن الدعوة إلى تحكيم العقل ونبذ الإسلام لا يمكن أن يقبل كطريقة النصارى، وأنه لا يمكن أن يتغلغل التغريب إلا بإعادة القراءة في بلدان المسلمين للإسلام باسم الإسلام وأنشئوا ما يسمى بالمدارس الإسلامية، وكذلك بذرة مسلمة تدعو إلى التغريب، ولهذا فإن التغريب لم ينشأ في بلدان المسلمين إلا بأيدي المسلمين، ولم يأت عن طرائق المستشرقين لما جاءوا، ولم يأت عن طريق التجارة، ولم يأتي عن طريق الدعوة النصرانية، وإنما جاء عن طرائق أهل الإسلام، وكان ذلك على طريقتين:
الطريقة الأولى: ما يسمى بالاستعمار، والاستعمار على نوعين: استعمار عسكري، واستعمار فكري، والاستعمار العسكري من جهة الأصل قد تلاشى، ولم يبق فيه إلا عداوات بينة، لا يمكن أن تقبل على أنها استعمار وتطوير وحضارة وتقدم، والذي يوجد الآن في زماننا إنما هو عداوات ظاهرة بينة لا يمكن أن تقبلها الشعوب.
وأما الذي يوجد الآن في زماننا هو ما يسمى بالاستعمار الفكري، لما بدأ الغرب بالاستعمار العسكري أخذ يستعمل ذات التدليس الذي يستعمله في الاستعمار الفكري، وذلك بصبغ تلك الغزوات التي يقوم بها في بلدان المسلمين وغير المسلمين بعبارات جميلة، فكان يسمي الاستعمار عبء الرجل الأبيض، أي: أنك أيها الرجل الأبيض تتعب لأجل غيرك، فتعب الغرب في اجتياح القارة السوداء، وهي القارة الأفريقية، فأصبحت فقراً على فقر، ولم يستفيدوا من ذلك شيئاً، وذلك أنهم لم يجدوا فيها ثروات، ولما نما الاقتصاد لدى الغرب أرادوا أن يدعو غيرهم إليهم، ولكن عن طريق زعزعة الإسلام كما تقدم الإشارة إليه.
وينبغي أن يفهم أن كثيراً من الجهلة والعامة ينظروا إلى العداوات التي منبعها دين يقابل دين، ثم بعد ذلك يصنف الغرب أنه غرب يدعو إلى منابذة الإسلام ونحو ذلك، فإذا كان هذا الغرب ونحوه يدعو إلى النصرانية فهو معاد وعدو، وإذا كان لا يدعو إلى النصرانية فإنه ليس بعدو، وهذا من الخطأ، فإن الخصومة مع المسلمين سواءً كانت دينية أو غير دينية، كالذي يدعو إلى العقل، أو يدعو إلى الهوى، ولهذا فإن الإنسان إذا قاتل المسلم الذي يريده على ماله فقتاله له مشروع، فإذا قاتل الإنسان من أراد ماله وقتل دون ذلك فهو شهيد، أو دون عرضه فهو شهيد، فالمقاتلة في داخل دائرة الإسلام لمن اعتدى على شيء من حق المؤمن كان شهادة، وهو يحمل عقيدة الإسلام، فكيف فيمن تجرد ويدعي أنه باقٍ على عقيدة النصرانية ثم يدعو إلى العقل المحض، ولهذا الغرب في دعوته إلى التغريب فإن يدعو إلى الحضارة الغربية ولا يدعو إلى الدين الغربي، وهذا أمر ينبغي أن يعلم، ودعوته إلى الحضارة الغربية بالانفكاك من دين الإسلام ومناقض في كثير من وجوهها، وأكثر وجوهه لعقيدة الإسلام، وذلك أنهم لا يدعون إلى تقدم الشعوب، وإنما يدعون إلى استهلاكها لما يصنعه الغرب، وهذا ينبغي أن يعلم ويأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل.
وكما تقدم الإشارة لما كان دين الإسلام ديناً شاملاً وتاماً ومستوعباً لسائر الأحكام تفاجأ الغرب حينما دعوا إلى العقلية الغربية، وإلى تحكيم العقل في بلدان المسلمين؛ وجدوا أن الشريعة قد ضبطت العبادات والمعاملات، فثمة ما يسمى بأحكام المعاملات، وثمة ما يسمى بأحكام الأنكحة، والحدود والتعزيرات، وثمة ضبط تام لسائر أحكام الشريعة، ويظنون أنه دين جامد، ولهذا ذكر بالنص غير واحد من مفكري الغرب أن الإسلام ليس بدين جامد، وأن مواجهته تختلف عن مواجهة غيره، وهو أعظم جدار يحول دون تحقق الاستعمار الغربي، فينبغي أن يزعزع من داخله.
ومرادهم من ذلك أنه ينبغي أن يزعزع الإسلام باسم الإسلام، أما أن يزعزع بأي فكرة أخرى فلا يمكن أن يقبل هذا.
ولهذا جاء كما في الطريقة الأخرى ما يسمى باستغلال أبناء المسلمين، وهو الابتعاث، وقد ظهر الابتعاث قبل قرن ونصف، ابتدأ من بلدان المسلمين، وعلى يد أولئك ظهر ما يسمى بالتغريب بلسان المسلمين، وإلا فقد كان في السابق ثمة استشراق، وكان ثمة غزو واستعمار، وكان ثمة دعوات أو ترجمة لكتب ونحو ذلك، ولم تكن تقبل؛ لأن الداعي ليس من أهل الجلدة والجنس، ولهذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كثيراً من الناس يخلطون في قبول الحق بين أهل الجنس وغيرهم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا )، أي: كثيراً من الناس يظن أن الرجل إذا كان من جلدتنا فأن الحق الذي يأتي به هو حق، والباطل الذي يأتي به هو قابل للنظر باعتبار أن مقصده حق، وهذا من أعظم الضلال، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم عانى من المنافقين، وكذلك ما صنعه أهل الزيغ في المدينة من المنافقين وعددهم قليل، يقربون من اثني عشر منافقاً، وقيل: إنهم أكثر من ذلك، ولكن في الجملة عددهم قليل، ومع ذلك صنعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعوا، والسبب في ذلك أنهم وسط المسلمين ويعرفون خباياهم.
ظهر التغريب بالتشكيك في أمور الإيمان، وذلك أن أمر الإيمان لا يمكن أن يوجد مع الانسياق إلى المادة؛ لأن الإيمان يدعو بزعمهم إلى التقلل من الدنيا، والتقشف، وهذا ينافي الانصراف إلى الحضارة، وكذلك ينافي الأصل الذي يدعون إليه، وهو ما يسمى بالاستغلال المادي، وهو ما يسمى بالمصطلح الاقتصادي: (الاستهلاك) فإن هذا لا يمكن أن يكون، ولهذا لا بد من إضعاف وازع الإيمان، والتعلق بأمر الآخرة، حتى ينصرف الإنسان إلى أمر الدنيا، فجاء إحياء كثير من النصوص على أيدي مسلمين ما يسمى بعمارة الدنيا والاستخلاف فيها وإنشائها ونحو ذلك، وهذه نصوص صريحة، ولكنها على حساب تغييب كثير مما يسمى بالنصوص الشرعية التي تدعو إلى الخوف من الله عز وجل، وكذلك إدراك العقوبة التي يبينها الله سبحانه وتعالى لمن خالف أمره، وكذلك حقيقة الموت، ولهذا يظهر بأساليب أهل التغريب ونحو ذلك أنهم يهونون من جانب الآخرة، ويهونون من جانب الغيب، وإذا هونوا من جانب الغيب فإنه يضعف النقل، ويضعف الإيمان فيما وراء المادة، ويحكمون العقل، فإذا حكموا العقل فإن العقل لا ينظر إلى المادة، فإنه انعكاس لها، وحينئذٍ منها يبتدأ وإليها يرجع، فينساق إلى ما انساق إليه الغرب.
الغرب في حضارته المادية وما سعى إليه من استهلاك، وهو ما يسمى بالاستهلاك المادي، إنما نشأ في نحو قرنين أو قرن ونصف، وقد بدأ في ابتدائه باستهلاك في داخل بيئته، ولما نظروا إلى ذلك الاستهلاك أنه في تلك البيئة لا بد أن يصدر إلى الغير، ولما كان الغير لا يمكن أن يقبل ذلك الاستهلاك على ذلك النحو لا بد من تهيئته وكذلك فصل أولئك الأفراد عما يسمى بعلاقتهم الاجتماعية حتى يسهل خطاب الأفراد على سبيل الاستقلال، فأثروا على ما يسمى بالعلاقات الاجتماعية ففصلوها، فإذا انفصلت الأسرة الابن عن أبيه، والزوجة عن زوجها؛ سهل استهداف الأفراد على سبيل الحدا، فلا يؤثر هذا على هذا، فلا توجد النصيحة حتى في أبواب الإسراف، ولا يوجد الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، بل كل واحد يحكم عقله، وهذا الحكم له يسهل مخاطبة ما يسمى بالدعاية، وبإيراد كل جديد.
بدأ الغرب ما يسمى بصناعة الاستهلاك للشرق ولسائر بلدان العالم، سواءً كانت مسلمة أو غير مسلمة، وغايتهم من ذلك المادة، وهذا ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار، وهو من مواضع الخلط؛ أن الغرب حينما يجعل المسلمين من أهل الاستهلاك فهذا لا يعني أنهم لا يدعوننا إلى دينهم، وإنما يستفاد منهم مادة محضة، وهذا اللفظ وهذا المعنى من جهته صحيح، ولكنه في سياقه خاطئ، وذلك أن بلدان العالم الغربي حينما بدأ الاستهلاك لديهم وفاض عن حاجتهم، أرادوا أن يستعمروا بلدان المسلمين بما يسمى بالاستهلاك، فنظروا إلى البلدان التي فيها ثروات، وأحيوا ما يسمى بالاستهلاك، وعن طريق ما يسمى بالموضة، وإنتاج كل جديد؛ حتى تؤخذ هذه الثروات التي كانوا في السابق يأخذونها عنوة عن طريق الاستعمار، والتي يكون فيها قتل وتشريد ونحو ذلك، يأخذونها وتأتي إليهم بطرق نظامية، وكل يدرك ذلك، فأنشئوا المصانع التي يعجز أهل الشرق عن إنشائها، لا من جهة إدراك تلك الصنعة، وإنما بتعقيد تلك الصنعة، فأنشئوا مصانع ما يسمى بالاحتكار، وعلى سبيل المثال صناعة الحذاء، فتجد صناعة الحذاء يقوم عليه مائة شخص، شخص سمار لا يحسن إلا المسامير، وشخص خياط، وشخص جلاد، وشخص يصنع الكعب، وهذا لا يحسن صنعة تلك، ولا تستطيع أن تأتي بفرد ليصنع لك حذاءً؛ لأن ذلك الفرد لا يحسن إلا المسامير، وذاك لا يحسن إلا الخياطة، فأصبح الاستعمار بذلك، ونسخ تلك الصناعة في بلدان المسلمين، وهذا من الأمور المحالة في أسهل الصناعات فضلاً عن غيرها المعقدة مما يسمى بعلوم التقنية ونحو ذلك.
ولهذا لا يمكن أن تأتي بعاقل من عقلائهم ومفكر من مفكريهم، ولا يمكن أن تأتي بعشرة ولا عشرين يصنعوا شيئاً واحداً، وهذا من نثر ما يسمى بالصناعة، حتى تكون مستقرة، ولا يمكن أن ينقلها عقل واحد، وإنما تنقل على صورة واحدة فتستهلك في بلدان المسلمين، فظهر ما يسمى بالاستهلاك، ودعي إليه على أنواع وطرق متنوعة، منها ما يسمى بالموضة حتى تؤخذ ثروات المسلمين، فتجد في هذه السنة الموضة اللون الأبيض ثم الأحمر، ثم بعد ذلك يرجع الأبيض هو الأفضل من الأحمر، ثم يرجع الأحمر أفضل من الأبيض، وأكثر ما يستغل به جانب النساء، فأصبح الناس يدورون في دائرة الاستهلاك، وتجد الإنسان حتى في أبواب الأجهزة لديه على سبيل المثال تلفازاً عرضه متر، ثم بعد ذلك مترين، ثم يصبح المتر هو أفضل من المترين لميزة تخصه في ذلك، كذلك بالنسبة لوسائل الاتصال من الجوال ونحو ذلك، ثمة ميزة ثم يرجع إلى الميزة الأولى، ثم يصبح القديم موضة، ثم يرجع به بعد ذلك.
وأصبحت العقول الإسلامية نوعاً من الاستعمار؛ حتى استنزاف المادة عن طريق استعمار يختلف عن الاستعمار الأول، فأصبحت الأموال تخرج من بلدان المسلمين وتوضع في حساباتهم وجيوبهم طواعية بالتحية والشكر، وهذا هو الاستعمار من جهة أموال المسلمين، ولهذا لما أن هذا العقل لم يكن لديهم في بداية الصناعة كانت الصناعة في ابتداء الأمر أقوى من آخرها، وذلك لأمور:
أولاً: أنه لما كثر ونما المجتمع الغربي وكثر العدد ونحو ذلك، احتاج إلى مزيد من الاستهلاك، ولما احتاج إلى مزيد من الاستهلاك احتاج إلى مزيد من العقول التي تتناسخ مع ذلك النوع الجديد من الاستعمار، فظهر ما يسمى بالاستعمار بالدعايات التي نضعها ونلصقها بأيدينا حتى نشتري المزيد، وأصبح الإنسان يشتري جهازاً ثم بعد شهر يشتري جهازاً آخر لقوة الدعاية في ذلك، ثم لا يجد أنه قد تأثر بشيء؛ لأنه أخرج مالاً بعد مال بعد مال، وهذا المال يرجع إلى أولئك، ولم تستطع بلدان المسلمين مع ذلك ما يسمى بالتغريب ونقل المسلمين إلى حضارة غربية، وهذه الحضارة لم تمد المسلمين بأن يصنعوا حذاءً، وهذا أمر معلوم، ولهذا فإن التغريب لما بدأ في القرن التاسع عشر الميلادي وقد نشأ في مصر، ومصر من جهة صناعتها لم تصنع لنفسها ما تستغني به عن غيرها من جهة الصناعات، كذلك كثير من بلدان المسلمين.
إذاً: الحضارة التي يدعو إليها هي حضارة تغريب واستهلاك، أن يعيش الإنسان على طريقة النمط الغربي، ولكن أن يصنع كصناعتهم فهذا من الأمور المحالة التي يحاربونها، طريقة الحياة التي نعيشها هي نوع من التغريب، ولها آثار متنوعة، منه ما يؤثر على الدين، وتقدم الإشارة إليه أن الإنسان كثيراً ما يربط المادة أن لها أثراً بصدق المعتقد، وقد تقدم الإشارة إلى هذا في أن الله جل وعلا إنما منعه أن يجعل لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، أن الذي منعه جل وعلا من ذلك أن يكون الناس أمة واحدة، وهذه الأمة هي أمة الكفر والإلحاد والزندقة، ولما كان كذلك جعل الله جل وعلا الأمور متوازنة في هذا الأمر، فتكون ثمة شعوب لديها من العقل والإدراك ما لدى الآخرين، والغنى يوجد عند قوم ويوجد عند قوم، لكن قد يظهر في بيئة ولا يظهر في أخرى، ولهذا الإنسان الذي يدرك من جهة القدرة التي يوهبها الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد وهب الإنسان طائرة تطير، وقد وهب الصقر والنسر ونحو ذلك ما يطير به منذ أن كان الناس حجرا ًولا يغطون إلا العورة، فوهبه من القدرة ما لا يمكن أن يقال: إن فضل الطائر على الإنسان لا يفوقه، وإنما الإنسان كرمه الله عز وجل بالعقل، حينئذٍ العقل حتى لو سلب وطار صاحبه فإن هذا لا يميزه عن غيره، فكيف إذا كان له عقل فإن هذا من باب أولى.
وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي للإنسان أن يدركها، أن الأمور الشرعية والدينية منفكة عن أمور المادة، ولهذا لو كانت الأمور المادية لها أثر من جهة الحق والصواب في أبواب العقائد، فإن الأمور المادية والثراء والغنى متوزع في هذه الأرض في زمننا، فتجد البوذي والوثني والملحد والزنديق ما يوجد منهم ما يساوي غيرها من سائر الديانات، هل يعني من ذلك أن الحق في التعبدي متساو ومنتشر بين أولئك؟ هذا لا يمكن أن يقول به أحد.
الأصل كما تقدم الإشارة إليه حينما انفرد الغرب بعقله وتحكيمه عن طريقة التدين والتعبد من الدين المحرم، إلى العقل، إلى المادة وطريقة الاستهلاك، وأرادوا أن يطوعوا الشعوب على تلك الطريقة الغربية، والغرب من جهة الأصل لا يعنيه أن المسلم يلبس كلباسهم إلا لأجل المادة، أو يتكلم بلغتهم إلا لأجل المادة، ومن ضعف كثير من المسلمين أنهم حينما جاءت الحضارة الغربية ما أخذوا هذه الحضارة وترجموها للعقول، وإنما ترجموا العقول لهذه الحضارة، وما أتوا بتلك الدواوين الغربية وترجموها سواءً من الطب والهندسة وترجموها إلى لغة المسلمين وإنما أخذوا العقول وترجموها إلى لغة الغرب، وهذا لا شك أنه من أعظم أنواع الاستعمار، وينبغي للمؤمنين أن يدركوا أن العلوم لها أثر في إدراك ثقافة الشعوب، فإذا كنا نريد أن نكون أمة منتجة وأمة صانعة وأمة تعتني بالحضارة المدنية التي تسمى بحضارة التقنية وحضارة الصناعة ونحو ذلك أن الأمة تأخذ الصناعة بأصلها، ثم تترجمها إلى أهلها.
أما أن تترجم اللغات وتترجم العقول حتى تأخذ الصناعة والتقنية وتأخذ معها غيرها، فهذا من الخلط في أبواب المفاهيم.
وهذا ما ينبغي أن يعلم أن الغرب في زمنه هذا هو يعيش على بلدان المسلمين في أبواب حياته وأبواب الاستهلاك، وهذا نوع من أنواع التغريب.
الغرب يدركون أن تحول المسلمين عن دينهم من الأمور المحالة التي لا يمكن أن تكون بوجهين متنوعين:
الوجه الأول: أن الإسلام دين شامل وواسع.
الوجه الثاني قالوا: أننا لم نخرج عن ديننا، وما زلنا ننتسب إلى الدين، ولم نستطع أن ننتزع الناس من الدين إلى الإلحاد والزندقة، ولما ظهرت الماركسية وهم الذين يقولون: إن المادة كانت قبل الأفكار والعقائد، فلما كانت المادة قبل الأفكار والعقائد فإن هذه العقائد إنما وجدت مع الإنسان، فالماركسية ينفون العقائد، فإنهم يقولون: إن الإنسان وجد مع المادة، ووجد مع المادة مع الطبيعة، لما خلقه الله عز وجل جاءت الأعاصير والسحب والصواعق ونحو ذلك، وكان خائفاً، فأوجد إلهاً يتحكم يريد أن يروض نفسه حتى يطمئن من الفزع والهلع، فأوجدت تلك الديانات ونحو ذلك، فقالوا: هذه خرافات ونحو هذا، وهذه الدعوة لما ظهرت نبذت باعتبار أنها مناكبة للفطرة، قالوا: لا يمكن أن يتجرد الناس من الدين، وإذا كنا في ديننا المحرف المبدل القاصر لم ننسلخ منه بالكلية، فإن المسلمين أبعد ما يكونون، فاحتاجوا إلى غلغلة الإسلام من داخله، والدعوة إلى تغريبه بلسان المسلمين، ولهذا فإن التغريب بهذا الاسم لم يظهر إلا بعد أمرين:
الأمر الأول: ما يسمى بالاستعمار.
الأمر الثاني: ما يسمى بالابتعاث.
ابتعاث المسلمين من بلدان المسلمين إلى بلدان الغرب للدراسة، وقد ظهر هذا قبل قرن ونيفاً، ظهر هذا حينما انبعث من بعض بلدان المسلمين سواءً كان من الشام أو مصر، وهي أول بلدان المسلمين بدأ فيها الابتعاث، وكذلك تونس فقد اقترنت مع مصر في هذا الأمر، وبدأ ما يسمى بإحياء المدارس الغربية، وبدأ ترجمة الأدب الغربي والسلوك الغربي والنمط الغربي، فأصبح نشر الثقافة الغربية هو الحق والصواب، وهي المدنية، وأن الإنسان إذا لبس على الطريقة الغربية فإنه على حضارة وتقدم ولو لم يكن منتجاً، تجد بعض الدول الإسلامية التي انسلخت من دينها وتعرت المرأة لا يخاطبها الغرب على أنها دول متخلفة، وإنما يخاطب الدول ولو كانت قوية اقتصادياً ما تمسكت بدينها، ولم تسلك النمط الغربي على أنها متخلفة، وذلك لأمرين: أن أمر الأخلاق مرتبط بالمادة، وكذلك فإن ما يخالف ذلك دليل على ارتباط الدين، والدين له أثر على حرب المادة فيما يظنون، وأن أعظم خطر على بلدان الغرب هو الدين، ولهذا يحاربونه بسائر أحواله وأنواعه، ولا يفرقون بين هذا وهذا، ولهذا من تأثر بالمدارس الغربية من المسلمين والذي احتضنته المدارس الغربية تأثروا تأثراً مبالغاً فيه، وظهر منهم من نظر في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأظهروا نصوصاً في ذلك وكان منهم شرعيون وقضاة ودعاة، وظهر هذا أيضاً في الشام وتونس، فإنه قد ذهب طلبة علم للابتعاث إلى بلدان الغرب، فجاءوا بالفكر الغربي، فأخذوا ينظرون إلى النصوص ويئولونها حتى تتوافق مع النمط والطريقة الغربية، فدعوا إلى خروج المرأة وعملها، ودعوا كذلك إلى اختلاطها بالرجال، ودعوا إلى ما يسمى بالمساواة بين الذكر والأنثى، وأنه لا فرق بين الرجل والمرأة، والذي دعاهم لذلك هو الانبهار بالمادة.
وبدأت نفوس المسلمين بدأت تتروض بعد إدراك كثير من أمور المادية، وأن المادة لا ارتباط لها بما يسمى بصحة العقائد وغيرها، وكذلك فإنه في ابتداء ما يسمى بالتغريب الفكري في ذلك الزمن لم تكن الكفة متوازنة، من جهة قوة الحق والباطل كانت الدعوة في ذلك قوية، يختلف بذلك ما يسمى بالاستعمار العسكري مع الغزو الفكري مع أطر الناس، ومنع كل مناهض لتلك الدعوة، أما في زمننا فكانت ثمة أكفة شبه متوازنة، ما يسمى بوجود وسائل الإعلام التي تدعو إلى الحق وتواجه الباطل وكذلك ما يسمى بالمحاضرات والندوات، وكذلك وسائل الإعلام سواءً كانت مرئية أو مسموعة، وما يسمى بشبكة المعلومات والانترنت التي تدعو إلى الله عز وجل، ودخلها أهل الإسلام والحق، فبينوا طرائق أهل الضلال والزيغ، وطرائق الحق، وينبغي أن يعلم أن ثمة أموراً مهمة في هذا وهو أن أخطر الدعوات إلى التغريب هي الدعوة التي تدعو إلى التغريب باسم الإسلام، وهذا كما تقدم الإشارة إليه هو البوابة التي دخل عليها التغريب في مصر والشام، فإن من ظهر في زمن التغريب في بلاد مصر كانوا قضاة، وكانوا دعاة ومفتين، فإن من دعا إلى نزع حجاب المرأة المسلمة هو قاسم أمين وقد كان قاضياً، وكذلك فإن من كان مفتياً وهو أول مفت بالبلاد المصرية، ولم يكن ثمة مفت قبله وهو محمد عبده، وكان مفتياً ومشرفاً على سائر القضاة، فهو قد تكلم على هذا الأمر ودعا إلى الانخراط في الثقافة الغربية، كذلك طه حسين كان أزهرياً قد درس في الأزهر، وابتعث ثم دعا إلى الانخراط في الثقافة الغربية حلوها ومرها، وأنه لا يمكن لنا أن نتقدم إلا بالانخراط بها، فكان ثمة دعوات قوية إلى التغريب، وهذا نوع من الخلط في هذه الأمور التي ينبغي للإنسان أن يميز بين أخذ الحق من أهل الباطل، وبين الإنسان الذي يناكف الباطل بالجملة مع ما فيه من حق.
النبي عليه الصلاة والسلام ربما أخذ حقاً من أهل الباطل، ولكن مع اقتران ذلك بذم أهل الباطل، النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى لما قدم المدينة وجد أهل المدينة يصومون يوم عاشوراء، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نحن نصومه لأن الله عز وجل نجى فيه موسى وقومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا أولى بموسى منكم )، لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: نصوم معكم، وإنما قال: ( نحن أولى بموسى منكم )، يعني: أنكم شيء ونحن شيء آخر، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن العاقل إذا وجد شيئاً يستفاد منه أنه ثمة طرق في هذا الأمر:
الطريقة الأولى: الاستفادة من ذلك الأمر مع بيان وجوه المفارقة بين أهل الباطل وأهل الحق، وأن الإنسان لا يجعله يخالف أهل الزيغ والضلال أنه يدع ما لديهم مما وجد عندهم من الحق.
الطريقة الثانية: أن الإنسان يأخذ ذلك الحق ويسكت عن بقية الباطل، وهذا من التلبيس والضلال الذي ينبغي للإنسان أن يكون على بينة منه، وعلى سبيل المثال يأتي إنسان ويمتدح مثلاً صورة من صور الطرائق الغربية ويدع ذم الغرب، وينتقي المحامد لديهم، ويقول: لدى الغرب كذا وكذا من الأمور الحسنة، ويجتنب الأمور السيئة، وهذا من الأمور التي تغري كثيراً من الناس، ونمثل لها بالإنسان الذي لديه عقد، وهذا العقد مزيف، وفي هذا العقد حلقة من حلقاته، وجوهرة من الجواهر، وهي واحدة ضمن عقد تام، فيأتي إليها ويثني عليها في كل محفل، وهذه جوهرة وهذه جوهرة، فيسكت عن الباقي، فإن الناس في ذلك يظنون أن الباقي قريب منها، أو على نحوها، وهذا من التدليس الذي ينبغي للإنسان العاقل أن يترفع عنه، وأن الإنسان إذا أراد أن يستفيد منها فيقول: هذه جوهرة قد جعلت بين زيف، فيبين المزيف، ويبين الحق، فإن هذا من الأمور التي تفقدها الأمة في زماننا، فكان الناس في ذلك على طرائق: طرائق يسلكون هذه الطريقة في أبواب الخلط وطرائق من تنكب طريقة أهل الباطل بما فيها من حق مما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وانصرف عن هذه الطريق مما جعل الأمة تتأخر في بعض أبوابها.
الطريقة الثالثة: وهي الطريقة الضعيفة وهم الذين حاولوا أن يأخذوا شيئاً ويدعوا شيئاً، وترددوا في بعض الأمور، ولكنه بصوت ضعيف، لا يمكن أن يوصل حقاً إلى سائر الناس، وهذا الصوت ينبغي أن يظهر ببيان الحق وبيان الباطل حتى ينقطع التلبيس عند دعاة الضلال والزيغ، وذلك أن كثيراً من التغريبيين الذين يدعون المجتمعات المسلمة على سبيل الخصوص إلى الدخول إلى الطريقة الغربية أنهم يلومون أهل الإسلام ويقتنصون جملة من كلام المسلمين أنهم ما استفادوا من كذا، ويحاربون كذا، ويحرمون كذا، فلا يظهر من كلام أهل العلم إلا المنع، فينبغي أن يظهروا مع المنع القبول لبعض الخير الذي ينفع الناس، فيقول: هذا الأمر هو أمر خيرٍ ينبغي أن يؤخذ ويستفاد منه، وهذا الشر ينبغي أن يرد، ويذكر الشر بعينه وخصوصه، وحتى يكون الناس على بينة منه، وحتى لا يقع الخلط في هذا الأمر، وقد استغل أعداء الملة والدين ذلك الخلط الذي وجد عند كثير من أهل الصلاح، والعامة أيضاً في الخلط في هذا الأمر وجد من يخلط في قبول الحق، ويحمل جملة من الحق على بعض الباطل؛ حتى يلتبس عليه وعلى غيره.
لهذا وجب على أهل الإسلام أن ينظروا إلى المصالح والمفاسد، وأن يدققوا فيهما؛ لأن العالم الحق هو الذي يميز بين درجات الخير ودركات الشر، وهذا هو العالم الذي يوفقه الله عز وجل، وليس العالم الذي يميز بين الخير والشر فقط، الذي يميز بين الخير والشر هذا من جملة العوام، أما الذي يميز بين الدرجات أن هذه أولى من هذه، وهذه إذا اقترنت بهذه فإن هذه أولى منها.
كذلك من دقائق معرفة الأحوال أن يعرف الإنسان مآل الشيء، فقد يكون الشيء خيراً، ولكن مآله إلى شر، وقد يكون الشيء شراً ولكن مآله إلى خير، ونحن نرى في زمننا هذا أن أعظم ما يواجه به الباطل هو وسائل الإعلام، والبعد عن وسائل الإعلام بالكلية في نشر الخير ومواجهة الباطل هذا من أظهر وجوه التقصير في زماننا الذي ينبغي للإنسان أن يستغلها قدر إمكانه ووسعه ببيان الحق للناس مع التمسك بالهدي والتمسك بالحق، ومهما وجد المخالفين له في بيان الحق، سواءً بالتنديد بقوله، أو ما يسمى بالغلو أو التشدد أو مخالفة الحضارة أو التمدن أو التخلف، أو نحو ذلك، فهذه أوصاف قد وصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يأتي إلى رؤساء القبائل ويعرض نفسه في نواديهم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يأتي إلى الصفا وعن يمينه وشماله الأصنام عند الكعبة، وكان يدعو كفار قريش إلى الحق، ويأتي إليهم في نواديهم وفي أعيادهم وفي مجتمعاتهم ونحو ذلك، وكان ربما أدى عبادته والأصنام عن يمينه وشماله وهو يستقبل في ذلك الكعبة، فلكل مرحلة طريقها، فينبغي للإنسان أن يسلك في ذلك الطريق الذي يوصل إلى الحق المحض، شريطة ألا يجامل في دين الله جل وعلا، فهو إن أمسك في موضع لمصلحة فإنه يجب عليه أن يبين في موضع آخر، حتى لا يغلب على الإنسان الخوف من الباطل، وكذلك اضمحلال الحق وانطفاء جذوته في قلب الإنسان، فإنه إذا انطفأت جذوة الحق من قلب الإنسان انساق خلف الباطل من حيث لا يشعر، وبدأ الحق يضمحل في قلبه حتى لم يجد له هيبة.
ومن أظهر الصور التي يتغلغل فيها التغريب والفكر التغريبي: أن ثمة مدرسة قد ظهرت في بلدان المسلمين وهي الدعوة إلى المعروف مع عدم النهي عن المنكر، وهذه دعوة ومدرسة جديدة ينبغي أن ينتبه أنها من المدارس وإن كانت مدرسة جديدة حادثة إلا أنها من المدارس الخاطئة، ووجه الخطأ في ذلك: أن الشريعة إنما جاءت من جهة ضبط الأحكام الشرعية ولا يمكن أن تضبط إلا بمعرفتها ومعرفة ضدها.
وإذا أردنا أن ندل الناس إلى المعروف نقول: وحدوا الله وصلوا وبروا الوالدين، وتصدقوا وابذلوا السلام، هذه أوامر نصدرها بصيغة واحدة وهي بصيغة افعل، ولكن من جهة تقييمها وقدرها لا يمكن أن نعرف حقها إلا بمعرفة ضدها، ومعرفة ضدها أن من خالف التوحيد أشرك وكان مخلداً، وكان من أهل التخليد في النار، وأن من ترك الصلاة فقد كفر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا لم نكن نبين الشق الآخر جاء العلم مخلوطاً لدى كثير من الناس، فلم يميزوا بين بذل السلام وبين أداء الصلاة، فظنوا أنها من المعروف، ولهذا تجد كثيراً من المسلمين في بلدان العالم الإسلامي أصحاب مقاصد حسنة، فتجدهم ينفقون، ويبذلون التحية، وربما يكفلون الأيتام، ولكنهم يقعون في الكفر، يطوفون على القبور، وينظرون لها من دون الله جل وعلا، والسبب في ذلك هي هذه المدرسة التي تدعو إلى الخير، وتدعو إلى المعروف، وتدعو إلى صلة الأرحام، وتدعو إلى الإنفاق، وإعانة المحتاج ونحو ذلك، يدعون إلى أبواب الخير بكاملها، ويغفلون أو يضعفون جانب النهي عن المنكر، وإذا لم يأت النهي عن المنكر مقترناً مع جنسه الذي أمر الله جل وعلا به فلا يمكن أن يعرف مقداره، وإذا لم يعرف مقداره جاء الخلط حينئذٍ، ولهذا كثير من الناس يناكفون العلماء حينما يتكلمون في بعض المسائل، يقولون: فلان صاحب معروف، لأنه تصدق عام كذا وكذا بألف ريال، أو بنى مسجداً في بلدة كذا وكذا ونحو ذلك، بينما هو قد ناقض حكم الله جل وعلا ووقع في كثير من وجوه الفساد، والسبب في ذلك الخلط لدى العامة.
هذه المدارس التي تورث لدى الناس قناعة في أبواب، ولكن لا تعرف مواضع الخلط، فحينما يقع الإنسان في الشرك يظنون أنها زلة، وحينما يقع الإنسان في ترك الصلاة بالكلية يرون أنها زلة يسيرة كحال زلة الإنسان حينما يحجم عن بعض فعل المعروف من الإنفاق أو صلة الرحم أو إكرام الضيف ونحو ذلك، بأنها نوع من أنواع المعروف ونحو ذلك، وهذا من الخلط، ولهذا تجد أن المدارس التغريبية تحبب أمثال ذلك الطرح؛ لأنه بوابة من بوابات الخلط في الدين، وأعظم ما يواجه الغرب ليس الأمر بالمعروف، إنما يواجههم هو ما يسمى بالنهي عن المنكر، وهو شطر الحق، والحق لا يمكن أن يتضح ويتبين إلا بوجهين:
الوجه الأول: هو معرفة الحق بذاته.
الوجه الثاني: هو معرفة ضده، وإذا لم يعرف الإنسان الضد لم يكن حينئذٍ ممن يستحكم بمعرفة الحق، فمثلاً: جميع بلدان المسلمين تعرف أن الله عز وجل واحد في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأن الصلاة واجبة، وأن الزكاة وبر الوالدين، وإكرام الضيف واجب ونحو ذلك، ولكنهم لا يعرفون هذه المراتب، ويظنون أنها من أبواب الخير، لأنهم قد جهلوا الباب الآخر، وظهرت المدارس التي تسمى بمدارس التسامح، واللين، والرفق، وتحبيب الدين إلى الخير ونحو ذلك بهذا الأمر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا إلى الحكمة والتعقل واللين والرفق بالناس مع بيان الحق، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما دعا إلى التوحيد بين الشرك مقترناً به، ودعا النبي عليه الصلاة والسلام إلى إقامة الصلاة، وبين أن من تركها فقد كفر، وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام بفرض الزكاة وبين حال التارك، وكثير من الأحكام يبين الله جل وعلا حال الممتثل ويبين حال التارك، ولهذا قال الله جل وعلا في آخر أركان الإسلام فرضا، في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، المخالف ما حاله؟ قال: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، ولهذا ينبغي في حال الإنسان إذا أراد أن يبين الحق أن يبين ضده، أن يدعو الناس إلى الخير، ويبين وجوه ذلك الترك إذا وقع الإنسان في الضد، وكذلك عقاب الله سبحانه وتعالى حتى تقع الموازنة.
وأعظم ما يواجه أهل الحق والعلم والدعوة في هذا الأمر هو الخلط الذي أورثته تلك المدرسة التي تسلل من بوابتها التغريب إلى بلدان المسلمين، وذلك أنهم جعلوا جانباً مظلماً من الدين مخلوطاً لا يمكن أن يميز، وهو جانب المنكرات، فأصبح الخلط فيها، فأخذ الناس يتساهلون فيها، فقد تساهلوا في أبواب السفور، وتساهلوا في أبواب اللباس وتساهلوا في أبواب المحرمات، وأبواب الأخلاقيات ونحو ذلك؛ لأن هذه المدرسة تدعو إلى الصدق، وتدعو إلى إكرام الضيف وإحسان الجار وإطعام الجائع، وبذل السلام، وبذل التحية، والتلاحم وصلة الأرحام، وإعانة المحتاج ونحو ذلك، هذه مدرسة من جهة ذاتها صحيحة، وينبغي ألا نحاكم إلى هذا، وإنما نحاكم إلى جانب وقع الخلط فيه، وهو في أثرها الذي ينبغي للإنسان أن يكون على بينة في هذا الأمر.
أصبح التغريب يهتم بهذه المدرسة، وهذه المدرسة هي العتبة الموصلة إلى الغاية التي وصل إليها الغرب، وهو تحكيم العقل، وأن الإنسان يحكم عقله، وذلك بابتداء الخلط في أبواب المدركات والمعلومات كما تقدم الإشارة إليه، فالغرب لم يترك دينه المحرف على سبيل الابتداء، فإن دينهم في ابتداء الأمر وإن كان محرفاً كان داخلاً في مجتمعاتهم واقتصادهم وأحوالهم، وإن كان على طريق الظلم والتحريف إلا أنهم بعد ذلك تدرجوا بالتخلص من أحكام الدين بالدعوة إلى ما يسمى بالتسامح، كما تقدم الإشارة إليه أن هذا ظهر في منتصف السابع عشر للميلاد، وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي للعاقل أن يكون من أهل الإدراك فيها، وأن العاقل لا يمكن أن يدرك الحقائق إلا بالنظر إلى الأجناس المتشابهة بما هو عليه ولهذا أمر الله جل وعلا الناس أن يسيروا ويضربوا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين، فإذا ضرب الإنسان في الأرض فنظر كيف عاقبة المكذبين، فإن المكذب على نحوهم سيأتيه على نحو ذلك العقاب، وأن تلك الأمة التي جعلها الله عز وجل لها من التمكين في الأرض، فإن ذلك التمكين إلى زوال، وتقدم الإشارة إلى أن الصراع مع الغرب هو صراع من جهة الأصل صراع مادة مقترن بدعوة المسلمين إلى الانصراف عن دينهم؛ لأنه لا يمكن أن تتحقق الانسياق للمادة إلا بالانصراف وترك الدين، وأخطر شيء هو أن يتغلغل ذلك تحت ستار الإسلام.
أحد دعاة التغريب كان ممن يعتني بجمع النصوص من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثمة لقاء متلفز معه فقد وجه إليه سؤال أنك تعتني بالأدلة من الكتاب والسنة في نشر دعوتك، قال: لأجل هذا أنا أخطر من غيري، فهو يقر بهذا قال: لأني أخرب من الداخل، يعني: أني لست على جبهة منفصلة، وإنما أخرب من داخل العقيدة الإسلامية، يدعو إلى مخالفة أمر الله جل وعلا بأمر الله، فهو يأخذ المتشابه ويضرب به المحكم, ولهذا ينبغي لأهل العقل والدراية أن يكونوا من أهل التمحيص، فإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى طرائق الغرب فينبغي أن يميزها أنه ثمة دعاة وإن كانوا بلبوس الإسلام لكنهم يدعون إلى طريقة التغريب.
كذلك ثمة طريقة متوسطة في هذا من عامة الناس الذين يدعون إلى المادة ويخلطون بينها وبين الحق في العبادة والتدين، وهي الطريقة الثالثة في هذا الأمر، هي الطريقة العقلية التي تدعو إلى المدرسة الغربية على أي نحو كان، وهذا ما تقدم الإشارة إلى تأصيله.
الغرب لا يريد من المسلمين أن يستغربوا إلى دينهم الذي هم عليه، فإنهم ليسوا بثقة من الدين الذي هم عليه كما تقدم الإشارة إليه، إنما يريدون من ذلك استهلاكاً ومادة.
الانسياق لدى هذا الفكر في أبواب التغريب لا يمكن أن يقف على حد في سائر مدارسه، ولهذا أنشأ الغرب مدارس للتغريب في بلدان المسلمين، فظهرت مؤسسات ومراكز بحثية، كمؤسسة راند، ومؤسسة فورد، وكذلك المراكز الثقافية في بعض البلدان الإسلامية التي تنشئ دراسات لمحاربة المسلمين، وطرائق لهدم الإسلام بانتشار السلبيات في بلدان المسلمين، كإظهار ظلم المرأة، وليس المجرد من ذلك هو إعطاء المرأة حقها، وإنما المراد بذلك أن تصل المرأة على الطريقة الغربية وأن تفك القيود كلها، ولكن بطريقة الانتقاء، فيأتون ما يسمى بظلم المرأة، ويحرصون عليها، باعتبار أن المرأة إذا تغيرت أثرت على من حولها باعتبار تتبع الرجل لها، فيأتون إلى ما يسمى بمشابهة المرأة للرجل، ويدعون بذلك إلى طريقة الإنصاف، ويأتون ببعض المسائل للمرأة، ويجتزئونها، ويدعون أنها مظلومة مثلاً بالميراث كما يزعمون، وبالدية، وبقمعها وكبتها، وبالتعدد وغير ذلك، ويظهرون أنها مسكينة مظلومة مقهورة، ونحو ذلك، وكما تقدم الإشارة إليه ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل التمكن والنظر، ومن أهل العقل، وألا يطلق عقله في كلامهم حتى ينساق خلفهم؛ لأن أعظم ما يجني على الإنسان هو الجهل؛ إذا انساق الإنسان خلفهم بجهل وأراد أن ينظر فيما عندهم من حق ولم يكن لديه نور يدله على تمييز الخير من الشر، فإنه يضل حسب ما ضلوا، ولهذا كثير من المسلمين نظر في المدارس الغربية فآمن أن المرأة مهضومة، ويدعو إليها، باعتبار أن ذلك قد وصل إليهم من مدارس الاستشراق، فأخذ ينظر إلى النصوص الشرعية التي جاءت من وجه ولم يفهم منظومة الإسلام في أبواب الأموال ولا منظومتها في أبواب الاجتماع حتى يعرف مواضع العدل.
ولهذا فإن الإنسان إذا أراد أن يأخذ مواضع عدم الاتزان فيه دون الموازنة والكفة الأخرى فإنه حينئذٍ يستطيع أن يصنع المسائل من كل فكر وعقيدة، أنها على ضلال وبغي، ويستطيع أن يصنع من كل فكر أنه على حق، ويستطيع كما تقدم الإشارة إليه أن يصنع من الرجل أنه مظلوم، وأن المرأة قد قهرته؛ إذا أراد الإنسان أن يورد النصوص في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيورد أن الرجل قد حرم الله عز وجل عليه لبس الذهب والفضة، وحرم عليه الحرير، وحرم عليه الإسبال، وحرم عليه حلق اللحى، وحرم عليه جملة من المحرمات، وأوجب عليه أن يعمل وأن يكد ويكدح ويدفع المارة، وينفق على الذرية والأولاد، ويبني الدار، ويخرج ويعمل في الشمس وتعبيد الطرق، وبناية المنشآت ونحو ذلك، والمرأة في بيتها في خدرها على خمارها، وعن يمينها صناديق الذهب والفضة ونحو ذلك، وكيف إذا قرن ذلك ببعض الدراسات عن طريق التلبيس ويأتي إلى السجون، ويقول: إن الرجال مليئة بالسجون، وتسعة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعين من الرجال، وكلهم بسبب الأموال وبسبب المرأة، أنه يذهب الإنفاق عليها، وهذا من قهرها وهي جالسة في دارها لا تحمل همه، ويذهب إلى المصحات النفسية ويجد أن أكثرها من الرجال، وهذا من الضغط النفسي الذي ظلم به الرجل، ويأتي يصور المرأة على أنها بحجابها وهي جالسة في دارها ونحو ذلك، ويأتي بلقاءات مع الرجال من السجون أني تحملت الديون ونحو ذلك، والمرأة في دارها وفي خدرها، ولا تعلم عني ولا تعمل، ويأتي بلقاءات، ويأتي الإعلام ويطرق في هذا، ثم تأتي منظمات تحرير الرجل، وإخراجه من القهر الذي هو فيه، ويأتون لإدخال كثير من الصور في بلدان المسلمين الذي هي فيه، إذا أراد أن ينظر لها الإنسان من منظومتها التامة في أبواب الأموال وفي أبواب الاجتماع وفي أبواب العلاقات الشخصية أراد أن ينظر إلى تلك المنظومة أدرك العدل والعقل، وإذا نظر إلى أبواب معينة كما يسلكه التغريبيون بغزو بلدان المسلمين على نحو هذه الصور على تلك الطريقة، فإن هذا هو البغي والظلم، ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون من أهل النظر والدراية في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن يكون من أهل المعرفة بأحوال الناس، وألا يجعل عقله وبصره متسلطاً على نصوصهم؛ فيكثر من العبء منها، ويدخله في عقله من غير تمييز، فإن ذلك يؤثر، ولهذا جاء في الأثر من حديث الحسين قال عليه رحمة الله: كثرة النظر في الباطل تذهب بنور الحق من القلب، وذلك أن الإنسان إذا أدام النظر في شيء فإنه يستسيغ هذا الأمر، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن مخالطة الكفار والمشركين في بلدانهم؛ لأن الإنسان بتلك المخالطة يضعف الإيمان من قلبه ويميل إلى طريقتهم ونهجهم وأمرهم الذي هم عليه، فيضعف الإيمان ويضعف الحق، فينبغي لصاحب الحق أن يكون لديه عقل وإدراك يتميز به عن غيره، وأن يستقل بنظره.
صحيح أننا في زمن من أصعب الأزمنة, وأن العقل يغزى في وسائل الإعلام، ويغزى في السيارة، ويغزى في الجوال، ويغزى في التلفاز، ويغزى في الصحيفة، ويغزى في إعلانات الإنسان ويراها في الطرق ونحو ذلك، وتستطيع كل تلك الوسائل أن تشكل عقلية الإنسان، وأن ترسم طريقته ونهجه حتى في السلوك، لكن ينبغي للإنسان أن يعمل عقله باستحضار المضاد حتى يكون ثمة توازن، باستحضار النصوص واستحضار الأحكام الشرعية؛ حتى يكون عادلاً مع نفسه، فلا يخلط في هذا الأمر ولهذا تجد سائر شعوب العالم تتأثر بكثرة المخالطة، وبكثرة النظر على اختلاف مداركها وقوة عقلها ونحو ذلك.
وأخطر جوانب التغريب ما يتعلق بأبواب المرأة، لكون تحريرها له أثر على جوانب متعددة، فله أثر على أبواب التعبد والديانة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن أمرها أنها ( أعظم فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ), وكان أخوف ما يخاف على هذه الأمة في النساء، وحرصوا عليها من هذا الوجه لإدراك الغريزة الفطرية، ولأن لها صلة بما يسمى باستهلاك المادة ونحو ذلك، وقد تقدم الإشارة إلى شيء من هذا.
وأن أعظم وجوه الاستهلاك لدى الغرب هو في هذا الأمر، والتغريب في بلدان المسلمين له أثر على المسلمين في ذواتهم، وطبيعتهم مع كثرة الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فاستهلكوا الطبيعة، واستهلكوا الأرض، واستهلكوا المعادن، والإنسان يأخذ ويرمي بسائر ما يستهلك من هذه الأرض، وكلما جعله الله عز وجل في هذه الأرض من خير، والله جل وعلا جعله على نظام، فإذا كان الله سبحانه وتعالى أمر بعدم الإسراف في الإنسان بالماء ولو كان على نهر جار، فكيف يسرف باستهلاك مادة هي أشق من استخراج أمر الماء، ولكن ما لم يلتفت إليه الغرب، وهو أبواب الاستهلاك أن العالم يستهلك وهو ينتج ويخدع أولئك بما يسمى بالموضة، وكذلك المنتجات الجديدة، ويغرى بما يسمى بالدعاية حتى تصل الأموال إلى جيوبهم من غير استعمار، فأصبح الإنسان يتقلب في أبواب الألبسة والمراكب والمساكن والمفارش وسائر الوسائل، وهي زائدة عن حاجة الإنفاق، ولو أنفق في أمور الحاجة لكثير من فقراء المسلمين لسد حاجتهم، ولكن المراد من ذلك هو نوع من الاستعمار، استعمار المادة، ولهذا جاء ما يسمى بالتنوع والاستهلاك، ولهذا أيقنوا في آخر وقتهم أن هذا الاستهلاك ينبغي أن يتوقف، وأنه ظهر الفساد حتى في طبيعة الأرض وما يسمونه بالاحتباس الحراري، وثقب طبقة الأوزون، ووفرة ما يسمى بثاني أكسيد الكربون، وأول أكسيد الكربون، ونزوله إلى الأرض ونحو ذلك، وكذلك ما يرونه ويوقنون به في أنه في عقود قادمة أن مع الاحتباس الحراري واستمراره أن الجليد سيزيد من مستوى البحر، مما يدل على ضرر الإنسان بأن مستوى سطح البحر للكرة الأرضية هو مستو بجميع جهاته ومواضعه، وأن ذلك هلاك للبشرية، كذلك فإنهم يجمعون ويطبقون على أن أعظم معدن وصلت إليه البشرية هي المعادن اللي تسمى المعادن الأحفورية والتي هي الغاز والنفظ والفحم، وهذه ثلاثة معادن تسمى معادن أحفورية وهم يقطعون ويجزمون أنها إلى هلاك ونفاذ، ولكنهم لا يدخرونها، وإنما يدخرون غيرها لأنهم يعيشون ساعة ولا يضرهم أن يكون غيرهم مما يستهلك ذلك لصالحهم، فهم يجمعون القناطير المقنطرة، فكان ثمة تغريب في أبواب الاقتصاد، وكان ثمة تغريب في أبواب الدين، وكذلك تغريب في أبواب العقيدة والدين، وإن كان إلى غير دين، وإلى تحكيم عقل على طريقتهم.
ومن أعظم الوسائل التي يواجه فيها التغريب:
أولها: نشر الحق على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم التي أمره الله جل وعلا بسلوكها، كما قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، ولهذا فإن الموفق هو من سلك طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته على النهج والسبيل، وكذلك يأخذها على طريق القياس، وأن ينظر في المصالح والمفاسد، وألا يحكم عقله ولا رغبة فلان ونحو ذلك، وأن يجتنب الإنسان عما يسمى بالورع البارد، أن يجتنب كثيراً من المواضع لحظ نفسه لا لحظ دين الله عز وجل، فكم أحجم دعاة وأحجم علماء وأحجم صالحون عن مواضع يعلمون أن الخير فيها لحظ نفس أو عدم رغبة النفس بها، فهذا من مواضع الورع البارد، إذا أدرك الإنسان أن الحق بذلك وجب عليه أن يبادر، فإن بادر وحسن مقصده كانت العاقبة له بإذن الله عز وجل، فينبغي للإنسان ألا يصيره حظ نفسه، وإنما يصيره حظ دينه، فإن كان كذلك رزقه الله عز وجل وأعطاه عاقبة أفضل مما كان يرجوه.
الأمر الثاني: بيان المدارس التغريبية، وخطرها وأساليبها، سواءً ما يسمى بوسائل الإعلام والطرق التي كانوا يسلكونها في تغريب المسلمين وما يسمى بالأفلام أو المسرحيات، أو ما يسمى بالفن أو الرواية والصحافة وغير ذلك، بيان طرائقهم في غزو عقول المسلمين والعقول البسيطة.
كذلك نشر العلم الشرعي بين الناس، والعلم الشرعي من أعظم ما يحصن الناس عن الوقوع في الخطأ، والعلم الشرعي إذا نشر على الطريقة السابقة بطريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان المعروف وبيان المنكر على حد سواء مقترنة حتى تعرف قيمته على السواء، إذا عرفه اضمحل الباطل، كذلك أيضاً زالت الشبهة، ولم يكن ثمة اضطراب، كذلك أيضاً قوي الناس في رد الباطل إذا ورد إليهم، كذلك أيضاً من الوجوه الاستغلال ما يسمى بالوسائل الحديثة ببيان الحق للناس، وسائل الإعلام والتلفزة والصحافة، وكذلك الإنترنت، أو الجوال أو غير ذلك قدر الوسع والطاقة، وهذه لو استغلت بحكمة ودراية وتعقل، فإن هذا من أعظم وجوه الخير، والحق في الإسلام عظيم، والإسلام ينتشر في بلدان الغرب، ينتشر في بلدان الغرب انتشار النار في الهشيم وهم يدركون ذلك، وقد بدأ يدرس الإسلام على أنه الدين الثاني في جملة من دول العالم الغربي، وهذا من أعظم البشارات، والسبب في ذلك أن الغرب إنما أنشأ المدرسة العقلية وأرى فيما أعلم أن هذه المدرسة إنما أنشأت وهي إلى زوال، ولن تدم طويلاً؛ لأن العقل يحكم نفسه لا يحكم غيره، وأما بالنسبة للدين فإنه يحكم نفسه ويحكم غيره، وإذا بقي هذا الفكر العقلاني لا يدعو غيره فإنه سيضمحل ويشعر بالخطأ إذا تناسخ الخطأ من جيل إلى جيل، فيدرك بحقيقته فإنه ينصرف إلى الدين الحق الذي جعله الله عز وجل هداية ونوراً وطريقاً للناس.
كذلك أيضاً من الوسائل في مواجهة التغريب: معرفة طرائق التغريبيين من دواخلهم، وذلك بمعرفة أساليبهم، وكذلك ترجمة مؤلفاتهم وتبيينها للمسلمين، وكذلك إنشاء جملة من المراكز البحثية في هذا الأمر من ترجمة المؤلفات التي تعتني في هذا الأمر بالمؤسسات التغريبية.
وكذلك أيضاً بيان حال الرموز الذين يدعون إلى التغريب، وبيان طرائقهم والخلل بهدوء وبيان استدلال، وكذلك بيان مواضع الخلل، والتدليل على ذلك من غير ظلم وبغي، وكذلك من غير إسفاف وسب وشتم، فإن هذا لم يكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد تعدي عليه بسائر أنواع الشتم والسب ولو لم ينقلها القرآن لن تصل إليها، ولو لم يحفظها القرآن لم تصل إلينا لأنها اندثرت ولم يبقى منها شيء، ولم يبقى إلا الحق الذي دعا به محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي ينبغي أن يعلم أن الحق وهوى النفس يتصارعان، والحق أقوى بذاته، وأقوى بمآله، فأما الهوى فإنه أقوى بجوهره وكذلك أيضاً بظاهره بخلاف جوهر الحق، فإن العاقبة له، فإن الإنسان قد يكون أقوى صوتاً بدعوته للباطل فيغلب الحق ضعيف الصوت، ولكن إذا انخفض صوت الباطل رجع الناس إلى حقائق الجوهر، فإنهم إذا رجعوا إلى حقائق الجوهر تميز لهم الحق من الباطل، فإن صاحب الباطل لا يمكن أن يستمر برفع صوته أن هذا الباطل هو الحق، لا بد أن يأتي يوم وزمن الأزمنة يخفض به صوته حينئذٍ يرجع الناس إلى الحق ويرجع إلى تركيب الفطرة مع النص الشرعي فيميز طريق الحق من طريق الشر.
الأمر الأخير في هذا الأمر: أن يعلم أهل الإسلام أن الغرب في دعوتهم أنهم لا يريدون تقدماً لبلدان المسلمين، ونحن نعلم أن التغريب قد طرأ على بلدان المسلمين من أكثر من قرن، وهي مائة سنة، وهي كفيلة بأن تكون بلدان المسلمين منتجة، ومع ذلك لم تنتج بلدان المسلمين ولو شيئاً يسيراً من وسائل الإنتاج، ومقومات الحياة التي تقوم بها، وإنما هي تدور في دائرة الاستهلاك تخرج من أرضها، وتقذف في جيب غيرها، وتستمر على ذلك، وتظن أنها تدور في دائرة الحضارة، وإنما هي تدور في دائرة الاستهلاك، وعجلة الاستهلاك ستأتي عليها حتى ينفذ ما في جيبها، وترجع إلى ما كانت عليه وهذا أمر ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار أن الأمة إذا لم تكن منتجة في ذاتها، فإنها لا يمكن أن يجعل منها عدوها منتجة، وهذا إذا أخذه الإنسان بعين الاعتبار وفق إلى طريق الحق والهداية، وتمييز الحق من الباطل، ومعرفة أيضاً صاحب السوء من صاحب الخير.
بهذا القدر كفاية، وأسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر