بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [ ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة].
تقدم معنا الكلام على مسألة الإيمان, وأن الإيمان قول وعمل واعتقاد, وذلك خلافاً للطوائف التي خالفت في هذا الباب من الجهمية وغيرهم, وأهل السنة يقولون: إن الإيمان هو القول والعمل والاعتقاد, وتقدم معنا أن هذه الثلاثة هي الإيمان, لا نقول: إنه يتكون من, ولا أجزاء, ولا أقسام, ولا أركان, وإن كان مؤدى بعض هذه الألفاظ صحيح، أو ربما يلزم منه بعض اللوازم التي تؤدي إلى معانٍ خاطئة.
ولهذا نقول: إن الإيمان هو قول وعمل واعتقاد, فإذا فقد الإيمان شيء منها فقدها كلها.
وقد سأل أحد الإخوة سؤالاً يقول: إن الإنسان إذا كان يصلي وهو جاحد لوجوب الصلاة؛ فإنه يقال بكفره؟ فعلى هذا مرد ذلك إلى الجحود في القلب لا إلى العمل, فهذا توقف عمله، واختل ما في قلبه, فقالوا: حينئذٍ العبرة بجحود القلب, فهل سبب الخلل أنه جعل العمل وجعل القول وجعل الاعتقاد أجزاء؛ إن فقد الإنسان واحداً منها فإن الباقي ناقص؟
نقول: إن العمل والاعتقاد والقول كلها واحدة بالنسبة للإيمان, فإذا فقد الإنسان واحداً منها كعمل القلب لا عبرة بالباقي, سواء وجد أو لم يوجد, ولهذا تجد إطلاقات السلف عليهم رحمة الله يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ وتقدم معنا التمثيل في اسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, فإذا قلنا: سليمان بن عبد الله بن عبد المطلب؛ هل هذا رسول الله؟ هذه الثلاثة هي رسول الله: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, لا نقول: يتكون من, ولا أجزاء, ولا شروط, بل هذه الثلاثة مجتمعة تعني رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين.
فقولنا: (قول وعمل واعتقاد) هذه الثلاثة هي الإيمان, إذا فقدنا قول اللسان ووجد الاعتقاد؛ هل هذا الإيمان؟ ليس بالإيمان, كذلك في حال النبي صلى الله عليه وسلم, لو أتانا رجل اسمه سليمان بن عبد الله بن عبد المطلب؛ هل هذا رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين؟ نقول: لا, هذا بشر, وهو رجل, وكذا نقول: هو رجل واسمه كذا، لكن ليس رسول الله.
وكذلك بالنسبة للعمل قد يقول قائل: هذا الرجل ينطق بالشهادتين, ويقول: إني أعتقد كذا وكذا, لكنه لا يعمل شيئاً من الخير, نقول: هذا قول وهذا اعتقاد, لكنه ليس بإيمان الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخلل الذي يوجد عند كثير ممن تكلم في هذه المسألة أنه يجعل هذه الثلاثة إما مركبة تركيباً للإيمان, أو شروطاً, أو أجزاء وأقساماً وأنواعاً, فإذا نقص واحد منها قال: هذا الإيمان ناقص، وقد وجد فيه الثلثان ونحو ذلك, ولكن نقول: إن هذه كلها هي الإيمان, محمد هو كل اسم النبي صلى الله عليه وسلم, وابن عبد الله هو كل اسم النبي صلى الله عليه وسلم, كذلك ابن عبد المطلب هو كل اسم النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا فقد اسم النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من هذه الثلاثة انتفى الباقي؛ فإذا جاء رجل يقول: محمد بن عبد الله بن سليمان, هذا قول كقولنا: اعتقاد وقول ولا عمل.
ولهذا نقول: إن هذا اعتقاد وقول, لكنه ليس بإيمان الإسلام الذي جاء به الشريعة, وننظر للأمر المفقود، ولا ننظر للشيء الموجود؛ لأن المفقود ألغى الموجود؛ وذلك كحال كثير من الأحوال حتى في مسائل الحدود ونحو ذلك, تجد الإنسان إذا وقع في الزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك يقام عليه الحد إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، أو لا يقام عليه؟ يقام عليه الحد, قد يأتينا رجل يصلي ويزكي ويصوم ويحج ونحو ذلك، هل هذه متصلة بذلك؟ ليست متصلة بذلك، هذه أوجبت حكماً.
وكذلك مع الخلاف في مسألة الإيمان ونفيه, هنا في مسألة القول والعمل والاعتقاد: إذا انتفى العمل انتفى الإيمان, إذا انتفى القول انتفى الإيمان, إذا انتفى الاعتقاد انتفى الإيمان.
والطوائف في مسألة القول والعمل وكذلك الاعتقاد المخالفة لمنهج الحق كثيرة, وقد زادت في مسائل تنوع ألفاظها ونحو ذلك في الأزمنة المتأخرة كثيراً, والغلاة في ذلك الذين يجعلون العبرة بعمل القلب لا بقول اللسان ولا بعمل الجوارح, فهم يقولون: إذا وجدت المعرفة القلبية والتصديق القلبي فإن ذلك كافٍ في ثبوت إيمان الإنسان, وأما بالنسبة للقول فيجعلون ذلك دلالة ظاهرة على إيمانه, لا هي الإيمان بذاته, وهؤلاء غلاة الجهمية الذين يقولون: إن الإيمان هو المعرفة, وكان ثمة لوازم لقولهم هذا أن كل من في الأرض من الأمم التي حاربهم الأنبياء وقاتلهم على نطق الشهادة إيمان بالله سبحانه وتعالى أن هؤلاء من أهل الإيمان, ففرعون يعلم أن الله عز وجل واحد، لكنه جاحد, كذلك كفار قريش, والله عز وجل يقول عن قوم موسى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14], إذاً هم يعلمون بالربوبية معرفة قلبية.
ولهذا الذي يستدل بالمعرفة القلبية أو بالمعاني الروحانية من معرفة الله عز وجل، وتعلق قلبه بالله، ومع ذلك لا يتوجه إلى الله عز وجل بشيء من العمل ولا بالقول الذي يثبت صحة إيمانه هذا لا ينتفع بما يزعمه من معرفة قلبية.
وكذلك إبليس ألا يعلم أن الله عز وجل واحد؟ وأنه هو الخالق وهو الرازق وهو المستحق للعبادة؟ ولكنه معاند, ولهذا يقول موسى عليه السلام عن فرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102], لقد علمت إذاً أنت تعرف.
وأكثر الأمم لا تنكر وحدانية الله عز وجل؛ ولا تنفي وحدانية الله عز وجل، ولكنها تجحدها ظاهراً, وعلى هذا تكون المعرفة القلبية مجردة لا قيمة لها.
وأما ما جاء في حديث حذيفة في قوله: ( لا إله إلا الله تنجيهم من النار لا أب لك! ), نقول: حديث حذيفة بن اليمان قال فيه: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ), (لا يُدرى) يعني: لا يوجد شيء, إذاً فالعمل فقد؛ وسبب فقده الجهل أو العلم؟ الجهل, لا يوجد علم، ولكنه جاهل, ولهذا الشخص الذي يعذر بجهله لعدم معرفته للأعمال في زمن دروس الإسلام في بلده, ولم يستطع معرفة للأعمال, ثم اكتفى بالاعتقاد وقول اللسان, وحاول أن يعمل فلم يجد عملاً, نقول: لا إله إلا الله تنجيه من النار, وهو من أهل الأعذار.
فإن قال قائل: فاقد العمل اختياراً هل هو فاقد لأصل الإيمان؟
نقول: نعم, فاقد العمل اختياراً فاقد لأصل الإيمان؛ لماذا؟ لأنه بانتفاء العمل انتفى الإيمان بالكلية, والعمل على ما تقدم الكلام عليه هو العمل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, الذي يكون دليلاً على إثبات صحة قوله بالإيمان بالرسالة.
وهنا موضع خلاف في مسألة كفر تارك الصلاة, وكذلك في ترك العمل بالكلية من غيره.
ولهذا نقول: إن الإنسان إذا تعامل مع مسألة الإيمان على أنها قول وعمل واعتقاد, وأن هذه الثلاثة هي الإيمان, ليست أقساماً ولا أجزاء, إذا قلنا: أقسام كحال الأرض أو كحال البيت الذي يكون من ثلاثة طوابق, أو أرض لديها أقسام, إذا نقص قسم ألا تسمى أرضاً؟ تسمى أرضاً, البيت إذا نقص شيء منه ألا يسمى بيتاً؟ نعم, لكن الإيمان هو هذه الثلاثة كلها, إذا فقد الإيمان واحداً منها انتفى الباقي, ولهذا مثلنا حتى تتضح المسألة في محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, هل هي أجزاء؟ إذا فقدنا اسماً أصبح ثلث النبوة؟ لا. اسمين ثلثي النبوة؟ حتى نفقد الثلاثة, حتى ينتفي كله, نقول: هذه الثلاثة كلها رسول الله, إذا انتفى واحد انتفت النبوة أو لم تنتفِ عن هذا الشخص؟ انتفت النبوة, لا بد من وجود هذه الثلاثة.
وكذلك في مسألة الإيمان: قول وعمل واعتقاد, إذا لم يفهم الإنسان مثل هذا الأمر، وتوجه إلى قضية الإيمان على أنه ثلاثة أقسام, أو للإيمان ثلاثة شروط, وكأنه جعل الإيمان شيئاً, والشروط خارجة عنه, وإن وجد بعضها فيه كحال شروط الصلاة, فالإنسان ربما يصلي بلا وضوء، وتصح صلاته, إما بتيمم أو بفقد الماء والتراب وصلى عاجزاً عنها, أو ناسياً لها، وبقي على نسيانه إلى يوم الدين, نقول: يتقبل الله عز وجل منه ذلك. وكذلك في مسألة استقبال القبلة وغير ذلك.
ولكن نقول: إن هذه الثلاثة ليست خارجة عن الإيمان, هي الإيمان, إذا نقص واحد منها انتفى الإيمان, وأما ما يقوله الإنسان نقول: هذا إذاً الرجل لا ينطق الشهادتين, ما هذه الصلاة التي يصليها؟ ألا تعدها من الإيمان؟ نقول: هذه صلاة، لكن ليست صلاة الإسلام, كحال هذا الرجل, هذا الرجل في جسد كامل، ولكنه ليس رسول الله, يشبهه وعلاماته نعم, لكنه ليس رسول الله؛ لأن انتفاء واحد منها انتفاء النبوة عنه.
فإن قال قائل: لماذا لا نجعل الثلاثة أجزاء للإيمان؟
هذا من الألفاظ الجديدة, توجد في كلام بعض أهل العلم، ولكن لما كانت تؤدي إلى معان مخالفة لمنهج الحق ينبغي أن نتوقف عنها, ولا نقول بها أجزاء؛ لأنه إذا نقص جزء واحد منها أصبح الكل ناقصاً, ولهذا نقول: لو جاء شخص وأراد أن يصلي صلاة الظهر ثلاثاً, هذه صلاة ظهر أو ليست صلاة ظهر؟ ليست صلاة ظهر, إذاً الركعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة هي أجزاء أو أقسام أو تتكون من أو كلها صلاة الظهر؟ كلها صلاة الظهر, رجل ترك الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة هل هذه صلاة ظهر؟ ليست صلاة الظهر, ما هي؟ نقول: هي صلاة, مثل هذا نقول: هو تصديق، لكن ليس تصديق النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به بهذا الوصف.
ولهذا نقول: إن الصدور عن ألفاظ وعبارات لم ترد في الشريعة ولا في كلام السلف الأُول هو الذي يجعل لدى الإنسان شيئاً من تلازم المعاني الجديدة التي تخالف منهج الحق, ولهذا تقدم معنا في مسألة القرآن بعض الكلمات التي أصبحت تدون في كلام العلماء؛ كقولهم في مسألة اللفظية على ما تقدم تفصيله, وكذلك مسألة كلام الله ليس بمخلوق, ففي ابتداء هذا الأمر لما بدأت إرهاصاته كان العلماء لا يشيرون إلى هذه المسألة، ويجادلون حتى فيما يطلق عليه من ألفاظ، لماذا؟ لأن هذا سيدعو إلى أشياء كثيرة؛ أن تأتي إلى اليد, يد الله ليست مخلوقة, والبصر ليس بمخلوق, نحن مؤمنون بهذا, لكن لسنا بحاجة إلى مثل هذا الكلام.
ولكن شاع عند كثير من الناس في زمننا أنهم يأتون إلى هذه الثلاثة ويقولون: هي أجزاء, شروط, أركان, ثم أخذوا يقيسون على كثير من التقسيمات, سواء كانوا متكلمين أو فقهاء, ثم ينظرون إلى انتفى الشرط أو انتفى الركن, أو نقص واحد منها، هل يعتبر الباقي صحيحاً أو ليس بصحيح؟ ثم ينظرون ويسبرون الشريعة، ويبحثون عن دلائل، وسيجدون دلائل من المتشابهات مما يؤيد هذا, على ما تقدم الكلام عليه في كلام المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم, حينما تكلم على مسألة القرآن, قالوا: هو معنى قائم في نفسه أوجده الله عز وجل أو كتبه جبريل, على العبارات التي يصفونها, يختلفون في هذا, فبحثوا في القرآن قالوا: إن الله عز وجل يقول: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40], هذا بعد ما قعدوا المسألة بحثوا عن دليل فوجدوا شيئاً من المتشابهات التي تعضد هذا.
ولهذا تجد كلام السلف الأُول في القرون الأولى إذا جاءوا للإيمان يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد, يعني: هذه الثلاثة هي الإيمان, ليست أقساماً, وانظروا إلى مسألة الأركان, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ), فجعل هذه أركان لذلك البناء, وأما ما يتعلق بمسألة الإيمان فهي قول وعمل واعتقاد؛ كمسألة الصلاة إذا انتفت منها ركعة لا نسميها ظهراً, ولو جاء الإنسان بركعتين أو جاء بثلاث أو جاء بواحدة, لا نقول: هذه الصلاة ناقصة تقبل بعضها، بل نقول: هي مردودة؛ لأنه نقص واحد منها فنقصت كلها وترد على صاحبها.
فإن قيل: ما مقدار العمل الذي يثبت معه الإيمان؟
نقول: ينبغي أن نعلم أن العمل المراد به هنا عند قول الأئمة: الإيمان قول وعمل واعتقاد, أنه ما اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عن الشرائع السابقة وعن دافع الفطرة, فالشرائع السابقة دلت على أعمال حسنة, والفطرة تدل على أعمال حسنة ولو من غير تشريع؛ لأن الله خلق الإنسان على الفطرة, الصدق أليس عملاً صالحاً تؤمن به الفطر؟ أهل الكتاب, عبدة الأصنام, الملحدون وغير ذلك, ألا يؤمنون أنه عمل صالح؟ يؤمنون, هل يخلو أحد من الأرض من حب الصدق والعمل به؟ لا. بل هو موجود في الناس, ولكن من الناس من يعمل به تارة ويخالفه تارة أخرى, لكن هذا الأمر موجود في الفطرة, وكذلك السرقة, لا يمكن أن الإنسان يقول: إن السرقة مباحة, بل يكرهها الناس في سائر عقائدهم, حتى الملحدون الذين لا يؤمنون بوجد خالق, فهذه الدلالة دلالة الفطرة.
إذاً دلالة الفطرة ودلالة الشرائع السابقة ليست مقصودة في قولنا: العمل, وإنما العمل الذي اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وما الذي اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قد يقول قائل: الصلاة موجودة, كل الأعمال موجودة في الشرائع السابقة, الصيام موجود, كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], الحج موجود أيضاً, مناسك إبراهيم عليه السلام وغير ذلك, الزكاة أيضاً موجودة, ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31], ولهذا نقول: إن المراد بهذا أن تأتي العبادة على وصف محمد لا على وصف غيره, يأتي بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم التي جاء بها, أو يأتي بالصيام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, وذلك من ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود إلى غروب الشمس, في الأزمنة التي جاء ودل الدليل عليها, وكذلك في المناسك التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل الحج وغير ذلك.
ومن العلماء من يقول: إن الإيمان أصلاً لا يثبت إلا بوجود الصلاة, قالوا: لوجود الأدلة في ذلك, وبغض النظر عن بقية الأعمال, هي إيمان يثبت به إيمان الإنسان، قالوا: ولكنه لا ينتفي إلا بالصلاة, ويستدلون لذلك بجملة من الأحاديث, منها: حديث أبي الزبير عن جابر في صحيح الإمام مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة ), وكذلك حديث بريدة عن أبيه كما جاء في المسند والسنن, قال عليه الصلاة والسلام: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر ), وغير ذلك أيضاً كما جاء في سنن الترمذي : ( ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة ), وكذلك ما جاء عند محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم فضل الصلاة عن حماد بن زيد عن أيوب بن تميمة السختياني قال: ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه, وهذا صحيح عن الصحابة وصحيح أيضاً عن التابعين.
وكذلك ما جاء عند محمد بن نصر وجاء أيضاً عند ابن جرير الطبري في تفسير قول الله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5], جاء من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: إذا كان تركاً كان كفراً.
وهذه من المسائل التي يحكى الإجماع في كفر تاركها, وحمل بعض العلماء الإجماع المروي عن السلف في ذلك, قال: هو إجماع صحيح، ولكنه خلاف في كونه الكفر الأكبر أو الكفر الأصغر, وأشار إلى هذا المعنى محمد بن نصر وغيره.
ومن العلماء من يجزم بأن مراد السلف في ذلك هو الكفر الأكبر, وهو الأرجح, باعتبار بقية الأدلة, وغير هذه الإطلاقات لا يأتي تأكيدها على الكفر الأصغر، وإنما يأتي تأكيدها على الكفر الأكبر, وكذلك جملة من القرائن والدلالات في هذا الباب.
هنا نشير إلى بعض الطوائف التي خالفت في مسألة الإيمان, وكونه قولاً وعملاً واعتقاداً.
فمن طوائف المرجئة من قال: إن الإيمان هو قول واعتقاد, وأخرجوا العمل من الإيمان, ومنهم من أخرج العمل من صحة الإيمان وجعله كمالاً, قالوا: لا ينتفي به بعدم الإيمان، ولكن ينتفي به الكمال, وجاء في ذلك عبارات، ومنهم من يقول: إنه شرط كمال لا شرط صحة, وبعضهم يطلق بعض العبارات التي تؤدي ببعض معانيها إلى الوجه الصحيح، ولكن قد يكون لها لوازم, وذلك كقولهم: إنه شرط صحة للإيمان, ولكن نقول: إن مثل هذه العبارات لسنا بحاجة إليها.
نقول: إن القول والعمل والاعتقاد أنها هي الإيمان, لا هذا شرط لهذا، ولا شرط لهذا, وليست هي شرطاً للإيمان باعتبار هي الإيمان في ذاتها, حتى نخرج من كثير من اللوازم.
وقد يستدل البعض ويقول: إن الصلاة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك العلماء جعلوا الركوع ركناً والقيام ركناً والسجود ركناً ونحو ذلك, نقول: إن مثل هذه المسائل هي مسائل فرعية, قد يتجوز فيها الإنسان في بعض الضوابط ونحو ذلك, ولهذا نجد اختلاف كثير من الفقهاء في أمثال هذه التقسيمات طرأت بعد هذه المصطلحات التي تؤدي كثير منها إلى معان صحيحة, ولكن عند بعضهم لها لوازم قد لا تصح, وهذا التقسيم قرب المعاني إلى الأذهان, ولكن في هذه المسألة حتى تتضح لنا نقول: إن هذه الثلاثة هي الإيمان, إذا فقدنا واحداً منها فقدنا الباقي على ما تقدم الكلام عليه من الإشارة إلى شيء من الأمثلة في هذا الباب.
ومن الطوائف من يقولون: إن الإيمان هو قول اللسان مجرداً, سواء وجد إيمان القلب أو وجد عمل الجوارح أو لم يوجد, وهؤلاء هم الكرامية، وهذا أيضاً من شر الأقوال؛ وذلك أنهم يقولون بالباطن، ولا يمكن أن يطلع عليه الإنسان، والعبرة بالظاهر, وبعضهم يقول: حتى لو انتفى الباطن, وقدر معرفة ذلك, فالعبرة بالأخذ بالظواهر, وبعضهم يجري على ذلك الحساب يوم القيامة, يقول: عليه يجاز الإنسان ولا يجازى, ولا ينظر إلى ما في قلبه, وهذا يناقض الفطرة الصحيحة بوجوب الرجوع إلى البواطن, وكذلك ظواهر النصوص والرجوع إلى باطن الإنسان, ( ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله ), وكذلك ما جاء في الصحيح: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى القلوب التي في الصدور ).
والذي يقول: إن الإيمان هو المعرفة القلبية أو التصديق القلبي، والمراد بذلك اللسان هو أقرب ممن يقول: هو القول, ولو انتفى الباطن والظاهر من جهة الأعمال فإن الإيمان في ذلك صحيح, فمن يقول بوجوب الاعتقاد أقرب منه إلى الحق, مع كون هذين القولين هما من الأقوال البعيدة النائية عن الحق.
والطوائف الذين يقولون بأن الإيمان هو قول وعمل واعتقاد، ويجعلونه إيماناً, ولكن يقع الخطأ لديهم في التفصيل, هل هي شروط أو هي واجبات, أو هي أركان ونحو ذلك, بحسب عباراتهم التي يصدرون عنها, يقع لديهم شيء من اللوازم في هذا الباب.
ومنهم من ينفي العمل مع كونه شرطاً لصحة العمل, ويقابله أقوام يجعلونه شرط لصحة الإيمان ونحو هذه العبارات, وهذا يجري عليه طوائف كثيرة من مرجئة الفقهاء, وهم على طوائف أيضاً ومراتب في هذا الأمر, ومنهم من يكفر بالعمل, ومنهم من لا يكفر بالعمل ويرجع ذلك إلى الاستحلال القلبي.
ومرجئة الفقهاء هم أيضاً على فرق متضادة ومتعارضة في هذا الباب, متقدمهم يختلف عن متأخرهم, منهم من يأخذ بظواهر منافاة ومناقضة الإيمان بالأفعال، ولا يرجع في ذلك إلى قول اللسان ولا إلى اعتقاد الإنسان في باطنه.
قال المصنف رحمه الله: [يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال محمد بن علي بن الحسن بن شقيق : سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الإيمان بمعنى الزيادة والنقصان، فقال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب حدثنا حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عن عمر بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص, فقيل: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه سبحانه فتلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه.
أخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي، حدثنا أبي حدثنا أبو عمرو الحيري، حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن إدريس المكي، وأحمد بن شداد الترمذي، قالوا: حدثنا الحميدي حدثنا يحيى بن سليم قال: سألت عشرة من الفقهاء عن الإيمان, فقالوا: قول وعمل, سألت هشام بن حسان فقال: قول وعمل. وسألت ابن جريج فقال: قول وعمل. وسألت سفيان الثوري فقال: قول وعمل. وسألت المثنى بن الصباح فقال: قول وعمل. وسألت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فقال: قول وعمل. وسألت محمد بن مسلم الطائفي فقال: قول وعمل. وسألت فضيل بن عياض , فقال: قول وعمل. وسألت نافع بن عمر الجمحي فقال: قول وعمل. وسألت سفيان بن عيينة فقال: قول وعمل.
وأخبرنا أبو عمرو الحيري، حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن إدريس : سمعت الحميدي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة : يا أبا محمد ! تقول: ينقص؟ فقال: اسكت يا صبي, بلى ينقص حتى لا يبقى منه شيء.
وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز ينكرون على من يقول: إقرار بلا عمل. ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، قلت: فمن كانت طاعاته وحسناته أكثر فإنه أكمل إيماناً ممن كان قليل الطاعة كثير المعصية والغفلة والإضاعة.
وسمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن باكويه الحلاب يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: سمعت أحمد بن سعيد الرباطي يقول: قال لي عبد الله بن طاهر : يا أحمد ! إنكم تبغضون هؤلاء القوم جهلاً، وأنا أبغضهم عن معرفة, أولاً أنهم لا يرون للسلطان طاعة, والثاني: أنه ليس للإيمان عندهم قدر، والله لا أستجيز أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى , ولا كإيمان أحمد بن حنبل، وهم يقولون: إيماننا كإيمان جبرائيل وميكائيل ].
الذي يخرج العمل من الإيمان يلزم من ذلك أن الإيمان يكتمل بوجود المعرفة القلبية وبقول اللسان, إن نطق الشهادتين فاز, وعلى هذا يستوي مع أهل الكمال بالإيمان في هذا الباب, وهذا أيضاً لا شك أنه قول باطل.
نقول: إن الإيمان يزيد وينقص ويزول, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, فلا نكفر أحداً بذنب, ويزول بشيء من المكفرات أو بزوال القول أو العمل أو الاعتقاد بالكلية, فإذا زال واحد منها فإنه حينئذٍ يكون الإيمان قد زال من الإنسان.
وزيادته في ذلك بحسب حضور القلب وكذلك حضور الإحسان بالعمل, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جبريل لما سئل عن الإحسان قال: ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ), إشارة إلى تمام العمل, (فإن لم تكن تراه فإنه يراك), وهذا يكون في الإنسان لوجود الرقابة القلبية التي أثرت على إتقان العمل في الظاهر.
والإنسان حينما يعمل عند شخص أجيراً عنده، وكان يراه, يجد من ضبط العمل والإتقان بخلاف لو كان غائباً عنه, فإذا كان الإيمان القلبي في قلب الإنسان بالتصديق والإيمان بأن الله عز وجل يرى الإنسان كاملاً بقلب الإنسان فإن هذا يعني كمال العمل الظاهر.
والناس يتباينون في هذا لقوة الإيمان القلبي والتصديق, وكذلك نقول: وجود الكمال القلبي في ذلك يعني كمال العمل بالظاهر, وهي متلازمة, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وفي قولهم: يزيد وينقص, وكذلك في قولهم: قول وعمل, لا يعني ذلك عدم وجود الاعتقاد؛ لأنه ينقل عن الأئمة قولهم: الإيمان قول وعمل, الإيمان قول وعمل, الإيمان قول وعمل, فمن الناس من يستشكل عدم وجود الاعتقاد, نقول: إن القول والعمل داخل في هذه الثلاثة؛ لأن القلب له قول وعمل, قول القلب هو التصديق, وعمل القلب هو حب الله وحب ما يحبه الله, الإخلاص لله عز وجل في أمور الطاعة, هذه الأعمال القلبية التي تذهب وتجيء, أما التصديق فهو ثابت مستقر, وذهاب هذه الأشياء منها ما يتعلق بضعف الإنسان إما بذهول أو نحو ذلك, أو قصور في التصديق, يقول الإنسان: تصديق بالله عز وجل وبوجوده وبوحدانيته, ولكن تصديقه بذلك ضعيف؛ كضعف الأعمال الظاهرة, منهم من يأتي بأركان الإسلام، ويأتي بالسنن والرواتب ونحو ذلك كاملة, ويتطوع لله عز وجل ويقوم الليل وغير هذا, ولكن يقابله أقوام ينقص لديهم ذلك الأمر؛ كعمل القلب, فالمحبة القلبية ناقصة لديهم لما يحبه الله عز وجل, كلما يراه الله عز وجل لديه نوع من الضعف, تجده يميل إلى بعض المنافقين, أو يميل لبعض المخالفين, أو يميل قلبه إلى بعض الشهوات ونحو ذلك, لا نستطيع أن ننفي عنه الإيمان؛ كميل الإنسان إلى بعض المحرمات والأعمال الظاهرة ما لم يدل دليل على انتفاء ذلك الأمر بالكلية, وحينئذٍ نقول بكفره.
قال رحمه الله: [وسمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن شعيب يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العباد، الظن به أنه يذهب مذهب الخوارج، فقال له: يا أبا عبد الرحمن ! ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا أخرجه من الإيمان، فقال: يا أبا عبد الرحمن ! على كبر السن صرت مرجئاً؟ فقال: لا تقبلني المرجئة, المرجئة تقول: حسناتنا مقبولة، وسيئاتنا مغفورة، ولو علمت أني قبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة.
ثم ذكر عن أبي شوذب عن سلمة بن كهيل عن هذيل بن شرحبيل قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح.
سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني يقول: سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: سمعت الحسين بن حرب أخا أحمد بن حرب يقول: أشهد أن دين أحمد بن حرب الذي يدين الله به أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص].
وهذا يستدل به على أن الإيمان يتباين, وإلا ما كان أبو بكر عليه رضوان الله بهذه المنزلة, فإذا كان إيمان الإنسان المقصر الضعيف بهذا الكمال فما ميزة أبي بكر الصديق عليه رضوان الله؟ وما ميزة عمر بن الخطاب ؟ وأيضاً ما ميزة الأنبياء في كمال إيمانهم ويقينهم وتصديقهم إذا كان الناس يتساوون في هذا الأمر, فمن نطق بالشهادتين ووجد فيهم تصديق القلب وأصل عمل القلب, حينئذٍ يكون إيمانه كإيمان سائر الأنبياء, لا شك أن هذا من المعاني والألفاظ الخاطئة.
قال المصنف رحمه الله: [ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر, فإنه لا يكفر بها، وإن خرج عن الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار].
وهذا ما تؤيده النصوص الكثيرة؛ أنه لا يكفر الإنسان, ولا تزول حسنات الإنسان إلا بالكفر, على ما تقدم الكلام عليه, فكل من أذنب ذنباً أو أسرف على نفسه بمعصية من الكبائر أو الصغائر أو الموبقات لا نحكم بكفره حتى يقع في مكفر، وتتوفر فيه الشروط، وتنتفي الموانع, فحينئذٍ يقع عليه الكفر, ويستوجب بذلك عقاب الله سبحانه وتعالى, وهو الخلود في النار, وأما إذا كان دون ذلك, وكان من أهل المعاصي والذنوب, وأسرف على نفسه في هذا ما دام يوجد معه الإيمان, وجد الاعتقاد, وجد قول اللسان, وجد العمل, فحينئذٍ نقول: إن هنالك الإيمان إذا سلم من شيء من المكفرات.
قال رحمه الله: [ وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول: المؤمن المذنب وإن عذب بالنار فإنه لا يلقى فيها إلقاء الكفار، ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار. ومعنى ذلك أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار، ويلقى فيها منكوساً في السلاسل والأغلال والأنكال الثقال، والمؤمن المذنب إذا ابتلي في النار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن على الرجل من غير إلقاء وتنكيس. ومعنى قوله: (لا يلقى في النار إلقاء الكفار) أن الكافر يحرق بدنه كله، كلما نضج جلده بدل جلداً غيره؛ ليذوق العذاب كما بينه الله في كتابه في قو له تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56], وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم، إذ حرم الله على النار أعضاء السجود. ومعنى قوله: (لا يبقى في النار بقاء الكفار) أن الكافر يخلد فيها ولا يخرج منها أبداً، ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين في النار أحداً. ومعنى قوله: (ولا يشقى بالنار شقاء الكفار) أن الكفار ييأسون فيها من رحمة الله، ولا يرجون راحة بحال، وأما المؤمنون فلا ينقطع طمعهم من رحمة الله في كل حال، وعاقبة المؤمنين كلهم الجنة؛ لأنهم خلقوا لها، وخلقت لهم فضلاً من الله ومنة].
إذاً فأوساط المؤمنين يختلفون عن الكافرين في النار بأمور: منها: نوع العذاب, أن عذاب الكفار مغلظ, وعذاب عصاة أهل الإيمان دونهم.
وكذلك: يختلفون عنهم أنهم لا يخلدون, والكفار يخلدون في النار, ومدة البقاء في علم الله عز وجل ومشيئته, بقاء أهل الإيمان الذين كتب الله عز وجل عليهم العذاب ممن وقعوا في الذنوب, ولكن نقول: إن الله عز وجل لا يدخل أحداً من أهل الإيمان النار إلا وهو من أهل الكبائر؛ لماذا؟ لأن الإنسان إذا انتفت كبائره وكان من أهل الإيمان أتى الإيمان عليها, أو أتت الحسنات على الصغائر, ولم يبقَ لديه شيء, وأما الكبائر فإن الإنسان يحاسب عليها، وهي الخطر على دين الإنسان وعاقبته إذا كان من أهل الإيمان, وأما الكافر فليس بعد الكفر ذنب.
قال المصنف رحمه الله: [واختلف أهل الحديث في ترك المسلم صلاة الفرض متعمداً، فكفره بذلك أحمد بن حنبل وجماعة من علماء السلف رحمهم الله، وأخرجوه به من الإسلام، للخبر الصحيح: ( بين العبد والشرك ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر), وذهب الشافعي وأصحابه وجماعة من علماء السلف رحمهم الله أجمعين إلى أنه لا يكفر ما دام معتقداً لوجوبها، وإنما يستوجب القتل كما يستوجبه المرتد عن الإسلام، وتأولوا الخبر من ترك الصلاة جاحداً لها كما أخبر سبحانه عن يوسف عليه السلام أنه قال: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف:37], ولم يك يتلبس بكفر ففارقه، ولكن تركه جاحداً لها ].
تقدم معنا الأدلة في هذا الباب, الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة كفر تارك الصلاة.
أما كلام الأئمة عليهم رحمة الله خاصة الأئمة الأربعة؛ فأما الإمام مالك رحمه الله فلا تحفظ عنه رواية في هذا الباب, لا رواية بالكفر ولا رواية بعدمه، ولم ينقل عنه أحد من أصحابه عبارة صحيحة في هذا الباب.
وأما الإمام أحمد رحمه الله فالمعروف عنه المستفيض عنه القول بكفر تارك الصلاة, وثمة بعض الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله ينقلها البعض، ويأخذ منها عدم كفر تارك الصلاة, من ذلك رواية نقلها ابنه عنه عبد الله بن السائب لما سئل عن زيادة الإيمان ونقصانه قال: يزيد الإيمان بالطاعة، وينقص بالمعصية كترك الصلاة والزكاة, لكن نقول: إن الترك هنا ليس المراد بذلك هو الإطلاق, قد يترك الإنسان الصلاة عن وقتها, أو يترك صلاة واحدة, والإمام أحمد رحمه الله لا يكفر بترك الصلاة الواحدة في ظاهر قوله.
وقد أخرج في كتابه المسند من حديثه قتادة عن نصر بن عاصم ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، واشترط ألا يصلي إلا صلاتين, فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ), وهذا لم يخرج من أهل الإيمان, واشترط بدخوله في الإيمان ألا يؤدي صلاتين, فاشترط الأداء، ما اشترط الإيمان بها, فيؤمن بها خمساً، ولكن أداؤه على الصلاتين, وحينئذٍ نقول: إن أدنى ما ينفي عن الإنسان كفر تارك الصلاة هو أداؤه للصلاتين فما زاد, وتركه للواحدة والاثنتين ونحوها لا يكفر بذلك, ولكن ينقص إيمانه, ولهذا نقول: إن الكلام المروي عن الإمام أحمد رحمه الله من المتشابه, ينبغي أن يحمل على المحكم.
وكذلك نقل ابن بطة عنه بعدم كفر تارك الصلاة كما ذكره ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني.
أما الإمام أبو حنيفة فالقول عنه بعدم كفر تارك الصلاة مشهور, وأما الإمام الشافعي فرحمه الله فله قولان في هذه المسألة, والأشهر عنه عدم التكفير.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر