أما بعد:
فحديثنا اليوم عن عالم الجن، وعلماء العقائد يلحقون الحديث عن الجن ببحث الملائكة، لأن هناك نوعاً من الشبه بين البحثين، وحتى يتميز الملائكة وهم عالم غيبي عن عالم الجن.
إن الحديث عن الجن أمر مقرر لا بد منه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك، فهو جزء من الغيب الحقيقي الذي يجب أن نؤمن به، فنحن مطالبون بأن نؤمن بالغيب لكن ليس غيب الخرافة والدجل، إنما الغيب الذي أخبرنا به الله سبحانه وتعالى: كالجنة، والنار، واليوم الآخر، والملائكة، ومن جملة ذلك عالم الجن.
ومما يوجب معرفة هذا العالم أن خفاءه وعدم معرفة الناس به معرفة حقيقية يوقع الناس في كثير من اللبس والخرافات والانحرافات التصورية والعقائدية كما سيتبين معنا في أثناء هذه الدراسة، وهذه الدراسة عن الجن تعتبر دراسة موسعة أرجو أن يكون من ورائها الخير إن شاء الله.
والجن عالم من العوالم التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهي مدركة عاقلة كالبشر، والعوالم العاقلة التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى بها ثلاث: البشر، والملائكة، والجن، وقد سموا جناً لاجتنانهم؛ وهو الاستتار، فنحن لا نراهم كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، وقد علمنا أن البشر خلقوا من طين، والملائكة من نور، أما الجن فقد خلقوا من نار.
والملائكة لم يخبرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن أنهم خلقوا من نور إنما أخبرنا النبي في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم ، أما الجن فقد جاءت نصوص كثيرة تبين المادة التي خلقوا منها، فقد قال جل وعلا: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، وقال سبحانه: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15]، ومارج النار هو طرف اللهب، وبعض العلماء يقولون: مارج من نار، أي: من أحسن اللهب وأصفاه، ولكن الحقيقة أن (مارج من نار) هو اللهب المختلط بسواد النار كما فسره النووي رحمه الله.
هذه مراتب الجن من حيث أسمائهم، أما من حيث خلقهم فقد صنفهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أصناف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون) أي أنهم قبائل وعشائر.
ومنهم من يلحق البشر الذين يتسترون بأفكارهم ومعتقداتهم كالمنافقين بعالم الجن، وهذا خطأ، ومن تأمل في آيات القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن الجن خلق آخر غير الملائكة وغير البشر.
أن هذا أمر قد أجمعت عليه الأمم، يقول ابن تيمية: ولم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا بأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن يعني: أن غالبية الكفار يثبتون الجن، وقد يثبتونهم باسم الجن أو باسم آخر، وفي عصرنا يكاد الناس في العالم الكافر المادي يؤمنون بوجود أرواح ويسمونهم بالأطباق الطائرة، ولهم تسميات مختلفة، لكن الجميع يؤمن بوجود عالم آخر غير منظور من غير البشر موجود.
وأهل الكتاب اليهود والنصارى يقرون بهم كإقرار المسلمين، وقد يوجد طوائف من اليهود والنصارى ينكرونهم كما وجد طوائف من المسلمين ينكرونهم، لكن الغالبية العظمى يقرون بهم ولا ينكرونهم؛ لأن الأنبياء والرسل جميعاً أجمعوا على هذا، وأخبروا بوجود عالم آخر غير عالم الإنس وغير عالم الملائكة يسمى عالم الجن، فالذين عندهم بقية من دين الأنبياء والرسل بل وغيرهم ممن تأثروا بهم وبما عندهم يقرون بوجود عالم الجن.
وبالنسبة للمسلمين فقد وردت نصوص قرآنية كثيرة تثبت وجود الجن منها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، وستأتي جملة من هذه النصوص في أثناء البحث.
ومنها: أن كثيراً من الناس استطاع أن يلتقي بالجن بطريقة ما، فهم ليسوا مثل الملائكة قلما يراهم الناس، ففي كل عصر من العصور هناك عشرات من الناس رأوا الجن، ومئات من الناس الثقات يروي لك أنه قد حصل لقاء بينه وبين الجن بصورة ما، كأن يتشكلوا أو يكون بينه وبينهم حديثاً، وإما أن تحدث أشياء قد نراها غريبة وعجيبة تدل على أن هناك عالماً آخر غير منظور.
ومما يرد على الذين قالوا: أن عالم الجن هم عالم الملائكة اختلاف الأصل، فالملائكة خلقوا من نور، والجن خلقوا من نار بنص القرآن وبنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد خلقوا بنص القرآن لعبادة الله سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهم مخلوقون لطاعة الله يأمرهم وينهاهم ويكلفهم بأمور اعتقادية وعملية.
والدليل على أنهم مكلفون بهذه المهمة: أن الله سبحانه وتعالى سيسألهم ويحاسبهم يوم القيامة، ويقول لهم: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130].
وكفار الجن يدخلون جهنم بإجماع علماء السنة، ولم يخالف أحد في ذلك، وخالف بعض العلماء بالنسبة لدخولهم الجنة، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47] والخطاب للجن والإنس.
يقول ابن مفلح وهو من علماء الحنابلة: الجن مكلفون في الجملة إجماعاً -بدون خلاف-، ويدخل كافرهم النار إجماعاً، ويدخل مؤمنهم الجنة وفاقاً لـمالك والشافعي ، فالحنابلة والشافعي والإمام مالك يقولون: مؤمنو الجن يدخلون الجنة، وبعض العلماء يقولون: إن المؤمن من الجن يصير تراباً كالبهيمة بعد الحساب، وثواب مؤمنهم هو النجاة من النار، وهذا قول أبي حنيفة والليث بن سعد وغيرهما.
قال: والظاهر أنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم خلافاً لمن قال: لا يأكلون ولا يشربون، لأن بعضهم قال: يدخلون الجنة لكن لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قول مجاهد، وبعضهم قال: إنهم في ربض الجنة أي حول الجنة، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، والصحيح أن الجن والإنس منهم المعذبون ومنهم المنعمون، فالمعذبون يدخلون جهنم، والمنعمون يدخلون الجنة.
لكن هل التكاليف الموكلة إلى الجن ونفس التكاليف الموكلة للإنس؟ لا، كلهم مكلف، لكن ليس بنفس الأشياء، وليس بنفس الصفات؛ لأن لهم خلقة تختلف عن خلقتنا، فتكاليفهم بحسب خلقتهم.
يقول ابن تيمية : الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما على الإنس في الحد، لكنهم يشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم.
إذاً: الجن يشاركون الإنس في التكاليف، لكن ليس بنفس التكاليف وبنفس الصفة التي كلفنا بها، وبعض الزنادقة الذين لا يخافون الله يوردون شبهة فيقولون: كيف يعذب الجن في النار وهم من النار؟
يلبسون بهذا على بعض الناس الذين لا علم عندهم.
والجواب: أن الجن خلقوا من النار ولكنهم فيما بعد أصبحوا خلقاً آخر ليس هو النار، وإنما مخالف للنار تماماً، كالبشر فهم مخلوقون من طين ثم فيما بعد أصبحوا بشراً، فالإنسان ليس هو الطين، فأصله من الطين لكنه مغاير الآن للطين بحيث لو أخذنا لبنة من الطين وضربنا بها رأس إنسان فإنها قد تقتله، ولو حفرنا حفرة لإنسان ودفناه في التراب فإنه يموت، ولا يقول أحد: إن التراب لا يضره؛ لأنه مخلوق من تراب، كذلك الجن أصلهم من النار ولكن النار تؤذيهم كما أن البشر يؤذيهم التراب.
علماء السنة لهم قولان في هذه المسألة، وبالإجماع أن الجن لهم رسل بدليل قول الله سبحانه وتعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]، وهذه الآية لا يستطيع أحد الطرفين أن يقول: هي نص له أو هي حجة قاطعة معه؛ لأنها محتملة، فقوله: (ورسل منكم) قيل: أي: رسل من الجن ورسل من الإنس، والطرف الآخر يقول: إذا كان للجن رسل من الإنس فقد سبق أن لهم رسلاً منهم، فالآية محتملة وليست محكمة في هذه القضية.
و ابن الجوزي وابن حزم يقولان: ليس للجن رسل من البشر إلا رسول واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع علماء السنة أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول إلى الجن والإنس، أما أن للجن رسلاً من الإنس فهذا هو قول غالبية العلماء من الصحابة ومن بعدهم.
ومما يرجح أن رسل الجن من الإنس قول الله سبحانه وتعالى حكاية عن الجن: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] فهم يحكون عما سمعوا من القرآن وقد كانوا يعرفون كتاب موسى، فهذا يستأنس به أن رسلهم من الإنس.
وهذه المسألة لا يبنى عليها قضايا خطيرة في الدين؛ ولذلك لا ينبغي العناية ببحثها كثيراً.
فهذه بداية معرفة الجن بالرسول صلى اللّه عليه وسلم وخبره، ثم بعد أن تسامع الجن وعرفوا بأن هناك نبياً قد أرسل جاءت وفود الجن إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم يتعلمون منه الهدى والإيمان وشريعة الله سبحانه وتعالى.
وقد روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أنه سأله أحد أصحابه فقال: (هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ -
ومما قرأه عليهم صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد قرأتها -يعني سورة الرحمن على الجن- ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه البزار والحاكم وابن جرير بإسناد صحيح.
ولم تكن هذه الليلة هي الليلة الوحيدة التي قابل الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وفود الجن ومن أحب المزيد فليرجع إلى تفسير ابن كثير لسورة الأحقاف، فقد ساق الروايات التي تتحدث عن مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفود الجن، ومنها الحديث الذي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أنه جاءه وفد من الجن فمدحهم وقال: (نعم الجن) وتوجد أحاديث كثيرة جداً ساقها ابن كثير في ذلك الموضع.
و ابن عباس يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقابل وفود الجن، وهذه من الحجج التي اعتمد عليها الدكتور محمد عبده، يقول ابن عباس: إن الرسول لم يقابل الجن مع أن ابن عباس لا ينكر الجن، ولا ينكر أنهم استمعوا للرسول، ولكن ينكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قابلهم، والقاعدة عند علماء السنة: من حفظ حجة على من لم يحفظ.
و ابن مسعود ليس في الحفظ بأقل رتبة من ابن عباس بل هو في حفظ الأحاديث مقدم على ابن عباس ؛ لأنه صحب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عباس صغير.
و ابن مسعود صحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الليالي فهو يحدث عن رؤيا ومشاهدة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذهم وعبد الله بن مسعود معهم وأراهم مكان آثارهم ومكان نيرانهم.
ومن الروايات التي يستحسن أن تذكر هنا: أن أهل الجاهلية كان هذا مقرراً عندهم، ومما له صلة بالموضوع أن أحد الصحابة واسمه سواد بن قارب كان كاهناً في الجاهلية، فمر سواد بـعمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام خلافته، فدعاه عمر وسأله عن أعجب ما جاءته به جنيته -أي:عندما كان كاهناً في الجاهيلة -قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني -يعني: الجنية- أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها، ويأسها بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها.
ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أحدثت حيرة عندهم، وأصبح عندهم يأس وضعف ومسكنة، حتى هامت على وجوهها في البوادي.
قال عمر : صدقت، ثم يقول: بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه -يبدو أن هذا الجني كان مؤمناً، يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا اللّه، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم علم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا اللّه، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
هذه الرواية في الصحيح، والصحيح أن القصة كلها عن سواد بن قارب، وبعض المحدثين يجعل الرواية الثانية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن كثير حقق المسألة وقال: الصحيح أنها كلها عن سواد بن قارب .
فأول شيء النصوص، ثم المشاهدات وخاصة مشاهدات الثقات، وعلماء السنة الكبار لهم مشاهدات في هذا الأمر متواترة، كـالأعمش رحمه الله في رواية يقول ابن كثير عن إسنادها: سألت عن هذا الإسناد شيخنا الحافظ المزي فقال: هذا الإسناد صحيح إلى الأعمش ، يعني: أن الرواية عن الأعمش سليمة صحيحة، يقول الأعمش : تروح إلينا جني-أي: جاء يزورني -فقلت لهم: ما أحب الطعام إليكم؟ قال: الأرز، قال: فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحداً، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا، أي: هل عندكم من هذه الفرق المختلفة مثل الرافضة والخوارج وما أشبه ذلك؟ قال: نعم، قلت: فما الرافضة فيكم؟ قالوا: شر.
ثم قال: وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن يحيى الدمشقي قال: سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي في الليل ينشد:
قلوب براها الحب حتى تعلقت مذاهبها في كل غرب وشارق
تهيـم بحـب الله والله ربهـا معلقـة بالله دون الخـلائق
وكثير من الناس الذين نعرفهم يذكرون أشياء من هذا القبيل، فالجن لا نراهم ولكن هناك بعض الأحياء يرون الجن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنهم يرون ما لا ترون)فالديكة يرون الملائكة، والكلاب والحمير يرون الشياطين.
الصحيح أن الشيطان الذي حدثنا الله عنه من عالم الجن، ومجمل ما في القرآن عن الشيطان أنه كان في بداية أمره مخلوق صالح يعبد الله سبحانه وتعالى مع ملائكة السماء، ودخل الجنة وعصى ربه سبحانه وتعالى عندما أمره بالسجود لآدم، فرفض حسداً وكبراً، فطرده الله سبحانه وتعالى من رحمته.
والشيطان في لغة العرب يطلق على كل عاتٍ متمرد، وقد أطلق على هذا المخلوق لعتوه وتمرده على ربه، وأطلق الله عليه لفظ الطاغوت، قال الله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [النساء:76]، فالشيطان طاغوت، وكل إنسان يدعو إلى هذه الدعوة طاغوت؛ لأنه أيضاً متمرد عاتٍ، لكن الطاغوت الأكبر الشرك.
ومن الطريف أن العقاد في كتابه إبليس يقول: إن من الأسماء الشائعة عند كل الأمم لفظ إبليس يعني أنه ليس عند المسلمين فقط بل هو معروف عند اليهود والنصارى وغالبية أمم الأرض فإنهم يطلقون على الشيطان إبليس، وسمي إبليس من البلس وهو اليأس؛ لأنه يئس من رحمة الله سبحانه وتعالى، ويذكر بعض علماء السنة أن الشيطان كان قبل أن يكفر اسمه عزرائيل والله أعلم بمدى صحة هذا الكلام، فإنه لم يرد به حديث صحيح، وإنما هو كلام قد يكون مأخوذاً عن الإسرائيليات.
والشيطان مخلوق عاقل أي مدرك، وبعض الناس اليوم يفلسف الأمور ويقول: الشيطان هو روح الشر المتمثلة في غرائز الإنسان الحيوانية التي تصرفه إذا تمكنت من قلبه عن المثل الروحية.
وغير صحيح أن الشيطان يلعب بغرائز الإنسان، لكنه مخلوق عاقل مفكر واعٍ مفصح.
وبعض العلماء يرى أن الشيطان ليس من الجن، وإنما هو في الأصل من الملائكة ولكنه عصى الله سبحانه وتعالى فطرده الله عز وجل، وفي كثير من كتب التفسير أن الشيطان من الملائكة، لكن لم ترد نصوص صحيحة تصرح بهذا، ولكن نقل مثل هذا كثيراً جداً عن بعض علماء السنة، وابن كثير يذكر أن هذا الكلام الذي يقوله علماء السنة وغيرهم إنما هو من الإسرائيليات.
وأكبر حجة للذين يقولون بأن الشيطان من الملائكة قول الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، فمن أساليب اللغة العربية أن المستثنى يكون من جنس المستثنى منه، فتقول: جاء الرجال إلا زيداً، فزيد من جنس الرجال، هذه حجتهم، لكن هناك استثناء في اللغة العربية يسمى الاستثناء المنقطع، وهذا الصحيح فيه أنه استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع هو أن لا يكون المستثنى جزءاً من المستثنى منه كما تقول: جاء القوم إلا حماراً، فالحمار ليس من جنس القوم، وكذلك هنا فليس المراد أن الشيطان كان من جنس الملائكة؛ لأن الاستثناء منقطع، والدليل على هذا آية الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50]، فقد نص على جنسيته وأنه ليس من الملائكة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] .
والشيء الآخر: أن الشياطين والجن مخلوقون من نار بينما الملائكة من نور وهذا فارق آخر.
والذي حققه ابن تيمية في هذه المسألة أن الشيطان كان من الملائكة باعتبار صورته وشكله وليس منهم باعتبار أصله.
إن آدم أبو البشر فهل الشيطان أبو الجن؟
فعندما نفخ الله في آدم الروح وجد أعظم تكريم يمكن أن يعطى لبشر وهو سجود الملائكة، ولكن في مقابل هذا وجد عدواً بغير ذنب جناه، يعاديه من أول ثانية خلق فيها ألا وهو الشيطان، فقال الله له: هذا عدو لك يا آدم، ومن أول لحظة سأل الله جل وعلا الشيطان: لماذا لم تسجد؟ فقال: أنا خير منه، فقال الله: يا آدم اسكن الجنة ولكن هذا عدوك فاحذر أن يضلك.
وعندما طرد الله سبحانه وتعالى الشيطان من رحمته ومن جنته طلب من الله سبحانه وتعالى أن ينظره إلى يوم القيامة قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:37-38]، وعند ذلك قطع على نفسه عهداً بأن يضل بني آدم: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17]، وقال له الله سبحانه: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] ، ثم حذرنا الله سبحانه وتعالى كما حذر آدم من الشيطان فقال: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:27]، وقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، وقال: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119] .
ومن الغريب أن علماء الأخلاق حتى من المسلمين وعلماء النفس يركزون جهودهم على عيوب النفس وشرور النفس وبلايا النفس ويتناسون الشيطان الذي يحرك الوساوس ويثير الغرائز الكامنة، فلا يوجد في القرآن تحذير من النفس، وإنما وجد في ذلك استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من شر النفس: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، أما الشيطان الخفي العدو اللدود الخبيث فخذ ما شئت من تحذيرات القرآن منه، ثم تجدون عناية كثير من العلماء بالنفس عناية فائقة جداً، فكم من عالم كبير في النفس ألف كتابين وثلاثة وأربعة وخمسة عن النفس، وقل من تحدث عن قضية مداخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ووسوسته وكيف نتخلص من وسوسته، بينما هو أخطر بمئات المرات من النفس الإنسانية، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من مراجعة في هذا الجانب بحيث يكون المسلم عنده بصيرة في عدوه؛ لأن هذا العدو لا يريد أن يقطع رأسي فهذه مسألة سهلة، لكنه يريد أن يدخل الإنسان جهنم خالداً مخلداً، لا يرضى بدون هذا، فالمسألة ليست مسألة موت وحياة بل هي أخطر من ذلك؛ لأنها مسألة خلود في النار.
ونحن نعرف أن النصارى لهم رسمة للشيطان، فهم يصورون الشيطان على هيئة رجل أسود، ذي لحية مدببة، وحواجب مرفوعة، وفم ينفث لهباً، وقرون، وأظلاف، وذيل، وهذه صورة تخيلها النصارى من قديم، ولا تزال مطبوعة في أذهانهم إلى اليوم، لكن هذا غير صحيح، فما أحد رأى الشيطان وإنما هو محاولة تقليد.
ومهما يدل على أنهم يأكلون ويشربون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل بالشمال مخالفة للشيطان؛ لأنه يأكل بالشمال.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أكل بشماله أكل معه الشيطان)، والذي يدخل بيته ويقول: باسم الله فإنه يحرم الشيطان من المبيت، وإذا قال عند الطعام باسم الله فإنه يحرم الشيطان من العشاء.
وطعام الجن المؤمنين ما ذكر عليه اسم الله من العظام، وطعام الجن الكفار ما لم يذكر اسم الله عليه، فإذا قلت: باسم الله فإن الشيطان يهرب، وإذا نسي الإنسان ولم يقل: باسم الله فإن الشيطان يأكل معه، ولذلك قال بعض العلماء: إن الميتة طعام الجن، وقد استنتج ابن القيم رحمه الله من قول الله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] أن المسكر شراب الشيطان، فهو يشرب من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره وشاركهم في عمله فيشاركهم في شربه وإثمه وعقوبته.
فـالسيوطي رحمه الله يذكر أخباراً عن مجموعة من السلف أنهم حصل في زمانهم مثل هذا، وأنه وقع تناسل بين الإنس والجن، يقول ابن تيمية : وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد، وهذا كثير.
لكن على فرض أن هذا ممكن أن يقع فالعلماء يكرهونه ولا يحبذونه، فالإمام مالك رحمه الله يقول: لا يوجد دليل ينهى عن مناكحة الجن غير أني لا أستحبه، لأني أكره إذا وجدت امرأة حامل فقيل: من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد، وبعضهم قالوا: إنه حرام لا يجوز؛ لأن الله يقول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، فلو وقع فقد يكون في التآلف بينهم صعوبة، والحقيقة أن هذا شذوذ، والشاذ لا يسأل عن هذا الحكم، وأحياناً يجبره الجن على هذا بدون اختياره وبدون إرادته.
فالمسألة لا تحتاج إلى حكم شرعي؛ لأن الذي يبتلى بهذا في غالب الأحيان لا يكون باختياره وإرادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر