وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يشكو كثير من العباد الصالحين إلى إخوانهم قسوة قلوبهم، وهذه مشكلة يعاني منها الصالحون على مر الزمان، وعانى منها صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقلب الإنسان هو الركيزة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فإذا صلح القلب صلحت الأعمال، وصلحت الأقوال، وصلحت الحياة، وفساده خطر عظيم، فالجسد يأتمر بأمر القلب، والقلب في الجسد كالحاكم في الرعية، فهو الآمر الناهي، وهو المسيطر، والجسد إنما هو خادم لهذا القلب، ومن هنا كانت عناية الإسلام بالقلب عظيمة.
وصلاح القلب مرتبط بما يحل فيه من علم نافع، وعقيدة قيمة، وإرادة سليمة سامية، تدفع إلى الخير، وتوجه إلى العمل الطيب الصالح، وعلاج القلب هو علاج رباني، علاج القلوب لا يعرفه البشر، فالبشر يعرفون من علاج القلوب ما كان مادياً جسدياً، أما ما كان روحياً فذلك أمره إلى رب العزة تبارك وتعالى.
وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من قسوة القلب كما كان مصير اليهود والنصارى من قبل: طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، ثم يقول الحق تبارك وتعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] فالأرض تكون جرداء قاحلة لا نبات فيها، فينزل عليها الماء من السماء فإذا بها تتشقق، وإذا بالنبات يزهر، وتمر عليها بعد أيام فإذا بالأرض الجرداء القاحلة معشبة مخضرة مزهرة مثمرة معطاءة، فتسرك رؤيتها، وكذلك القلوب إذا نزل عليها الوحي وأقصد بنزول الوحي أن تتصل بالقرآن وإذا اتصلت بنور الله تبارك وتعالى الذي ضمنه كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ استضاءت بنور الله، وتحلت بوحي الله وبروح الله، وتغير أمرها وتغير شأنها.
فإذا تكلم الإنسان الذي لا يقرأ القرآن فإنك تشعر بظلمة في قلبه، وظلمة في نفسه وقسوة، وتحس انحرافاً، ثم إذا اتصل بهذا الكتاب وارتوى منه، إذا بالإنسان غير الإنسان، وإذا بالرجل غير الرجل، وإذا في نفسه نقاوة ورقة، وإذا فيه صلاح وخير، وإذا بأعمالٍ طيبة ظهرت، كالأرض التي أنبتت بعد أن كانت مقحلة، بعد أن كانت مجدبة، فظهر نباتها وظهر خيرها، وتحول أمرها بالماء النازل من السماء هناك، وتحول أمر القلوب هنا بالوحي النازل من عند الله تبارك وتعالى.
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].
آيات تحدثك عن الله تبارك وتعالى فتصحو النفس عندما تذكر خالقها وبارئها وموجدها، وتعلم أن علمه محيط بها، وأن قدرته تحيط بها، فلا يخرج المرء عن علم الله، ولا يخرج عن قدرة الله تبارك وتعالى.
عندما تقرأ كتاب الله فيحدث عن ربك وموجدك وبارئك؛ ترى لذلك أثراً عجيباً في نفسك ، لا تكاد تقوم من القراءة، حتى ترى الخير يكثر في القلب المريض، وترى المرض الذي في القلب يزول، ويتماثل القلب إلى الشفاء، فالقلوب تمرض ومرضها الذنوب والمعاصي والشكوك والشبهات، وفي كتاب الله علاج وأي علاج!
يذكرك الله بنعمته عليك في كتابه، وبنعمته عليك في جسدك الذي سواه وخلقه، وبنعمته عليك في لقمة الطعام التي تمضغها بين أسنانك في فمك، هذه كلها صُنعت بأمر الله تبارك وتعالى، لتكون طعاماً يقدم لك على المائدة، حتى نسمة الهواء التي تهب وتستنشقها، وقطرات الماء التي ترتوي بها، كل هذه نعم.
وانظر إلى السماء، إلى الجبال، إلى النجوم، إلى النبات، ينزل الله تبارك وتعالى الماء من السماء، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا [عبس:25-30].
أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [النبأ:6-9].
كثير من الآيات في كتاب الله تحدثك عن النعم، وعندما تتأملها تعود إلى القلب الطمأنينة.
يحدثنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه عن الموت وما بعد الموت، ويحدثنا كيف تقبض روح المؤمن، وروح الفاجر الكافر، كيف يسهل على هذا، ويصعب على هذا، ويحدثنا عن رحلة ما بعد الموت عندما يعرج بالمؤمن إلى السماوات، وتستقبله ملائكة الرحمن، ثم يعاد إلى قبره فتسأله الملائكة عن ربه وعن دينه، وعن نبيه، فيجيب الإجابة الصحيحة: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
ويحدثنا عن رحلة الكافر وأنه بعد أن تخرج روحه تنبعث منها رائحة منتنة خبيثة، فلا تفتح لها أبواب السماء، ولا تستقبلها ملائكة الرحمن، وتطرح طرحاً، وتلقى إلقاءً وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، ويعاد إلى قبره فلا هو في الدنيا كان ثابتاً على الحق، ولا يستطيع في قبره أن يجيب ملائكة الرحمن إجابة صحيحة تنبعث من قلب صادق.
ويتحول القبر كما يخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إلى روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وذلكم هو البرزخ إلى أن يبعث الله الناس عندما يقومون لرب العالمين.
وفي كتاب الله يحدثنا الله عن القيامة وأهوالها، وكيف تدك الأرض، وكيف تنشق السماء، وتكور الشمس، ويخسف القمر، وتتساقط النجوم، وتسجر البحار فتشتعل ناراً، وعندما ينفخ في الصور تبدل الأرض غير الأرض السماوات، وينفخ فيه أخرى فيقوم الناس لرب العالمين.
وفي كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث عن مشاهد العباد في يوم البعث والنشور، عندما تدنو الشمس من رءوس الناس، فلا يكون بينها وبينهم إلا ميل، ويذهب عرق الناس في الأرض سبعين ذراعاً، ليس هناك ظل شجرة، ولا ظل جبل، ولا ظل صخرة، أرض سوية ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض، وليس هناك إلا ظل عرش الرحمن، ولا يستظل بظله إلا الذين أجهدوا أنفسهم في دنياهم بطاعة مولاهم.
ومقدار ذلك اليوم خمسون ألف سنة، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:4-18].
ثم تنصب الموازين ويحاسب الناس على أعمالهم وما قدموا، ثم يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، فمن أي الفريقين سنكون؟! هل من السعداء الذين يقال لهم: (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف:49] أم من الأشقياء الذين يساقون إلى المصير المظلم؟ مصير ليس بعده مصير، ونهاية ليس بعدها نهاية، وخسران لا يماثل خسارة أي صفقة من صفقات الدنيا كصفقة زواج أو صفقة تجارة أو صفقة مال، لا يعادل ذلك شيء، إنه الخسران النهائي الذي لا ربح بعده، خسران يفقد الإنسان فيه نفسه، ويفقد أهله، وليس هو الخسران الذي يؤدي إلى الموت، آلام ساعة ثم تنتهي الآلام لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74].
وسعادة الآخرة هي الجنة التي ليس فيها من الدنيا إلا الأسماء، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
من تأمل هذه النهاية من خلال أقوال ربنا تبارك وتعالى وأقوال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه رأى عجباً، عند ذلك يلين القلب، وتخشع النفس، ويزن المسلم الأمور بالعدل، ويضع الأشياء في نصابها؛ فتحيا هذه النفوس، وتحيا هذه القلوب، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
اعلموا -أيها الإخوة- أن مما يشرح الصدر ويطمئن القلب أن يديم العبد الطاعة لله تبارك وتعالى، صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وبراً، يديم الطاعة لله عز وجل، ويتخلص من أوساخ الذنوب والمعاصي والآثام، فيغسلها بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، فـ (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، والذي تتكاثر عليه الذنوب، تثقل كاهله، وتقصم ظهره، ويغشى ران الذنوب والمعاصي على قلبه، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
فالمعاصي تغشى القلب، وتحول بين الإنسان وبين ربه تبارك وتعالى، والإكثار من التوبة والاستغفار والالتجاء إلى الله تبارك وتعالى يطهر القلوب، فإذا تطهرت اتصلت بربها تبارك وتعالى، وإلا فإن المعصية تبعد الإنسان شيئاً فشيئاً عن الله تبارك وتعالى، حتى تحول بينه وبين الله تبارك وتعالى، فلا يستطيع التوبة، ولذلك كان من أهم صفات أتباع الرسل أنهم يسارعون إلى التوبة ولا يسوفون، فإذا وقع منهم ذنب يسير فإنهم يبادرون إلى التوبة ويستعجلون ولا يؤجلون، فلا تدري أيدركك الأجل قبل أن تتوب أم تتوب قبل أن يدركك الأجل، فإذا بادرت إلى التوبة فإن الأمر سهل، ورحمة الله قريب من المحسنين قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] لا يتعاظمه رب العزة ذنب، فإن الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر، أو مثل قطر المطر، إذا تاب العبد إلى ربه تبارك وتعالى توبة نصوحاً صادقة؛ فإن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً، ولا يتعاظمه ذنب تبارك وتعالى إذا طرق المسلم باب التوبة.
وباب التوبة عريض، أعرض مما بين المشرق والمغرب، وأخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها (لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:158]، فباب التوبة مفتوح ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وما لم يغرغر العبد، وما لم تطلع الشمس من مغربها، فالتوبة مفتوح بابها، والعباد إذا جاءوا إلى ربهم يستغفرونه بقلوب خاشعة، وقلوب فاضلة مؤمنة، فإن الله يتوب على من تاب، ويغفر ذنب التائبين، ويثيبهم، ويجزل لهم العطاء.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عوراتنا.
اللهم كفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر