إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يشكو كثير من العباد الصالحين إلى إخوانهم قسوة قلوبهم، وهذه مشكلة يعاني منها الصالحون على مر الزمان، وعانى منها صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقلب الإنسان هو الركيزة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فإذا صلح القلب صلحت الأعمال، وصلحت الأقوال، وصلحت الحياة، وفساده خطر عظيم، فالجسد يأتمر بأمر القلب، والقلب في الجسد كالحاكم في الرعية، فهو الآمر الناهي، وهو المسيطر، والجسد إنما هو خادم لهذا القلب، ومن هنا كانت عناية الإسلام بالقلب عظيمة.
وصلاح القلب مرتبط بما يحل فيه من علم نافع، وعقيدة قيمة، وإرادة سليمة سامية، تدفع إلى الخير، وتوجه إلى العمل الطيب الصالح، وعلاج القلب هو علاج رباني، علاج القلوب لا يعرفه البشر، فالبشر يعرفون من علاج القلوب ما كان مادياً جسدياً، أما ما كان روحياً فذلك أمره إلى رب العزة تبارك وتعالى.
من شاء أن يطهر نفسه، ومن شاء أن يلين قلبه؛ فليقرأ كتاب الله تبارك وتعالى، فإن أفضل الذكر هو هذا الكتاب، فمن قرأ كتاب الله تبارك وتعالى سيجد قلبه قد لان وخشع لذكر الله تبارك وتعالى، وإذا به يشعر بحلاوة الإيمان، وحلاوة اليقين، وإذا بنفسه تنقاد إليه، وإذا بالجسد يخضع لما أمر الله تبارك وتعالى.
وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من قسوة القلب كما كان مصير اليهود والنصارى من قبل:
طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
[الحديد:16]، ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
[الحديد:17] فالأرض تكون جرداء قاحلة لا نبات فيها، فينزل عليها الماء من السماء فإذا بها تتشقق، وإذا بالنبات يزهر، وتمر عليها بعد أيام فإذا بالأرض الجرداء القاحلة معشبة مخضرة مزهرة مثمرة معطاءة، فتسرك رؤيتها، وكذلك القلوب إذا نزل عليها الوحي وأقصد بنزول الوحي أن تتصل بالقرآن وإذا اتصلت بنور الله تبارك وتعالى الذي ضمنه كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ استضاءت بنور الله، وتحلت بوحي الله وبروح الله، وتغير أمرها وتغير شأنها.
فإذا تكلم الإنسان الذي لا يقرأ القرآن فإنك تشعر بظلمة في قلبه، وظلمة في نفسه وقسوة، وتحس انحرافاً، ثم إذا اتصل بهذا الكتاب وارتوى منه، إذا بالإنسان غير الإنسان، وإذا بالرجل غير الرجل، وإذا في نفسه نقاوة ورقة، وإذا فيه صلاح وخير، وإذا بأعمالٍ طيبة ظهرت، كالأرض التي أنبتت بعد أن كانت مقحلة، بعد أن كانت مجدبة، فظهر نباتها وظهر خيرها، وتحول أمرها بالماء النازل من السماء هناك، وتحول أمر القلوب هنا بالوحي النازل من عند الله تبارك وتعالى.
كتاب الله يمنح قارئه معرفة عظيمة بالله عز وجل
يدعونا القرآن إلى التفكر في النعم حتى نشعر برحمة الله
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله عبده ورسوله.
اعلموا -أيها الإخوة- أن مما يشرح الصدر ويطمئن القلب أن يديم العبد الطاعة لله تبارك وتعالى، صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وبراً، يديم الطاعة لله عز وجل، ويتخلص من أوساخ الذنوب والمعاصي والآثام، فيغسلها بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، فـ (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، والذي تتكاثر عليه الذنوب، تثقل كاهله، وتقصم ظهره، ويغشى ران الذنوب والمعاصي على قلبه،
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
[المطففين:14].
فالمعاصي تغشى القلب، وتحول بين الإنسان وبين ربه تبارك وتعالى، والإكثار من التوبة والاستغفار والالتجاء إلى الله تبارك وتعالى يطهر القلوب، فإذا تطهرت اتصلت بربها تبارك وتعالى، وإلا فإن المعصية تبعد الإنسان شيئاً فشيئاً عن الله تبارك وتعالى، حتى تحول بينه وبين الله تبارك وتعالى، فلا يستطيع التوبة، ولذلك كان من أهم صفات أتباع الرسل أنهم يسارعون إلى التوبة ولا يسوفون، فإذا وقع منهم ذنب يسير فإنهم يبادرون إلى التوبة ويستعجلون ولا يؤجلون، فلا تدري أيدركك الأجل قبل أن تتوب أم تتوب قبل أن يدركك الأجل، فإذا بادرت إلى التوبة فإن الأمر سهل، ورحمة الله قريب من المحسنين
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
[الزمر:53] لا يتعاظمه رب العزة ذنب، فإن الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر، أو مثل قطر المطر، إذا تاب العبد إلى ربه تبارك وتعالى توبة نصوحاً صادقة؛ فإن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً، ولا يتعاظمه ذنب تبارك وتعالى إذا طرق المسلم باب التوبة.
وباب التوبة عريض، أعرض مما بين المشرق والمغرب، وأخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها (لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ
[الأنعام:158]، فباب التوبة مفتوح ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وما لم يغرغر العبد، وما لم تطلع الشمس من مغربها، فالتوبة مفتوح بابها، والعباد إذا جاءوا إلى ربهم يستغفرونه بقلوب خاشعة، وقلوب فاضلة مؤمنة، فإن الله يتوب على من تاب، ويغفر ذنب التائبين، ويثيبهم، ويجزل لهم العطاء.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عوراتنا.
اللهم كفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.