أما بعد:
فإن الإيمان باليوم الآخر هو مفترق الطريق بين المسلم والكافر، فسمة المسلم وعلامته أنه ينظر في كل أعماله وأحواله وتصرفاته إلى ذلك اليوم، فهو يريد بعمله أن يتقرب إلى الله عز وجل، وأن ينال رحمة الله سبحانه وتعالى، وأن يدخل جنة الله عز وجل، ويبتعد عن كل محرم نُهي عنه خوفاً من الله عز وجل، وخوفاً من ناره وعذابه؛ ولذلك وصف الله المؤمنين بأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه.
ولشدة تأثير الإيمان باليوم الآخر في نفس المسلم وصف الله سبحانه وتعالى هذا اليوم وصفاً دقيقاً، وفصله رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه تفصيلاً بيناً، كأنك تراه أمام عينك؛ ولذلك فإن هذا اليوم حي في نفس المسلم دائماً، فهو يطرأ له عند منامه، وعند قيامه، فيعيش بين الناس منفرداً وحده.
وقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبكي منفرداً خائفاً من الله سبحانه وتعالى ومن غضبه أحد الأصناف الذين لا تمسهم النار، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، وقال: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).
أما الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يستبعدون هذا اليوم لقضية أشكلت عليهم، وهذه القضية لا تزال تراود كثيراً من الناس، كيف يعود الإنسان حياً سميعاً بصيراً متحركاً بعد أن وضع في التراب، وبعد أن تقطعت أجزاؤه، وأصبح لحمه رماداً، وبعد أن تبلى عظامه؟ فكيف يبعث مرة أخرى؟
هذه قضية أشكلت على عقول الناس، وقد ناقشها القرآن كثيراً، فإن كثيراً من الناس لا يؤمن بالبعث والنشور، كثير من الناس يؤمنون بوجود الله أي: يصدقون بوجوده، وأنه خالق الكون وخالق الإنسان، ولكنهم لا يصدقون بالبعث بعد الموت، فما السر في ذلك؟
يقولون: كيف يبعث الإنسان بعد أن بلي، قال الله: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10]، وتقول العرب: ضل الملح في الطعام إذا غاب فيه، أي: فني فيه، والمعنى: إذا غبنا في الأرض، وأصبحنا جزءاً منها، وبليت عظامنا ولحومنا، وتحولنا إلى تراب؛ أبعد ذلك يكون هناك خلق جديد؟ قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78].
جاء أحد كفار مكة بعظم بالٍ متفتت وسحقه في يده ثم نفخه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يحيي العظام بعد أن أصبحت رميماً؟ فقال: (نعم، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك النار)، وأنزل الله قوله جل وعلا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:78-80].
وهذه الشبهة تحتاج إلى بيان وإيضاح، ونحن بحاجة إلى أن نتبينها كي نستطيع أن نرد على الذين ارتابت قلوبهم وتشككوا في البعث نتيجة لهذه الشبهة.
وقد استقر في فطرة الناس أن الإعادة أسهل من البداءة، فالذي صنع شيئاً يسهل عليه أن يعيده أو يعيد مثله، فهنا يقول تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79].
فالله سبحانه وتعالى أنشأ الناس من العدم، وخلق هذا الخلق السوي بهذه الحواس المتكاملة، وبهذا القلب النابض، وبهذا الفكر الواعي، وبهذه الأحاسيس والمشاعر، وقد أوجدها الخبير العليم البصير القدير القوي القاهر القادر، فإذا قال: أنا سأحييهم مرة أخرى بعد موتهم؛ فليس في ذلك غرابة؛ لأن من صنع أول مرة قادر على أن يعيد الإنسان مرة أخرى، كما قال جل وعلا في سورة أخرى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5]، وهذا هو الخلق الأول آدم عليه السلام، خلقه من تراب، والتراب جماد لا حياة فيه، والتراب أصبح طيناً، والطين صلصالاً كما في آية أخرى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]، وقال: مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11]، بل وشكله الله سبحانه وتعالى بيديه كما قال لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ، ثم نفخ فيه من روحه، فدبت فيه الحياة، فأصبح حياً سميعاً بصيراً متكلماً، أما قبل ذلك فقد كان عدماً لا شيء، قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5]، فالذي حول التراب إلى حياة قادر على أن يعيد ذرات الإنسان بعد أن تضل وتغيب في الأرض، وقادر على أن يجمعها مرة أخرى، فالأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ونحن لا نقيس قدرات الله على قدراتنا، فمن هنا جاء الخطأ، فالإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك؛ أنها قدرتي وقدرتك وقدرة البشر، أما قدرة الله فغير ذلك، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] هذا هو الخلق الأول، ثم بعد ذلك تسلسل البشر.
ومما أخبرنا الله به أيضاً: أن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذه معجزة أخرى؛ لأن جزءاً من حي خلق منه امرأة، ثم تسلسل بقية الناس من ذكر وأنثى إلا ما كان من عيسى فإنه خلق من أنثى بلا ذكر.
فقدرة الله لا يعجزها شيء، سواء في الابتداء أو في الإعادة، ثم قال: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7]، (وأن الساعة آتية) أي: قادمة لا شك فيها.
فالذي أحيا الأرض بعد موتها، وخلق الإنسان من عدم؛ قادر على إحيائه مرة أخرى، وذلك قوله ووعده سبحانه وتعالى، فقدرة الله نشاهدها في الحياة، ونشاهدها أمامنا في كل ثانية في هذا الوجود، ففي كل لحظة يأتي إلى الدنيا عشرات وألوف وملايين الأحياء، هذا إذا عددنا الطيور والحيوانات عدا الإنسان.
فكل حياة تحيا من جديد فإنما هي معجزته، فلا يستطيع أحد أن يدعي أنه الذي أوجدها وصنعها، الله سبحانه وتعالى هو الصانع وحده، وهو الموجد، وهذا الصانع الموجد سبحانه وتعالى سيعيد الناس ويحييهم مرة أخرى.
واليوم يحدثنا الإنسان عن شيء مما علمه عن هذا الكون، من أرضه وسمائه وأبعاد نجومه وتعدادها، فعندما يطلع الإنسان على شيء من ذلك يأخذه العجب؛ لعظم خلق السماوات والأرض، وما فيها من إعجاز وقدرات، قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، إلا أن أكثر الناس لا يعلمون، فهم غافلون ساهون لاهون، فالذي خلق العظيم قادر على أن يخلق ما هو أهون منه، وما هو أصغر منه.
مات مائة سنة فبليت عظامه وعظام حماره، ولتمام الإعجاز بقي طعامه وشرابه لم يفسد، فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ، فهذا الطعام والشرب الذي يفسد في يومين فأكثر بقي مائة سنةلم يفسد، والإنسان والحمار الذي يتأخر فسادهما قليلاً بليا وفنيا.
كذلك إبراهيم عليه السلام عندما قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] أي: خذ أربعة طيور فقطعهن، وانثر أشلاء هذه الطيور على جبال مختلفة، واجعل رءوس الطيور في يدك، ثم ادعهن ونادهن: إن الله يأمركن أن تجتمعن، فإذا بهذه الأشلاء المتناثرة التي لا حياة فيها تسعى من تلك الأماكن المختلفة، وكل جزء من أجزائها يأتي في مكانه الذي جعله الله فيه، فلا تأتي الرِّجْل في مكان الجناح، ولا الجناح في مكان الرجل، بل يأتي كل شيء في مكانه، ثم تلتئم بقدرة الله سبحانه وتعالى، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] .
فالله سبحانه وتعالى أمر هذه الأجزاء أن تطيع إبراهيم فأطاعته، وجاءت إليه والتأمت، وتركها فانطلقت محلقة في الفضاء.
وأرى الله كذلك بني إسرائيل آية عندما قتلوا نفساً واختلفوا فيها كما قال الله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72]، وفصل الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة كيف جاءوا إلى موسى، وطلبوا منه أن يبين لهم القاتل، فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، واستفصلوا وتعنتوا في الأسئلة إلى أن ذبحوها، فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71]، ثم قال تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] أي: خذوا جزءاً من هذه البقرة فاضربوا به الميت، كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73]، وشاهد بنو إسرائيل هذه الآية، وكيف أن ميتاً لا حياة فيه، ولا نفس فيه تتردد، وقد مات منذ أيام؛ يضرب بجزء من البقرة فيحييه الله سبحانه وتعالى، وكما أحياه الله عز وجل فإنه يحيي الموتى، قال سبحانه: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى أي: مثل هذا الإحياء يحيي الله الموتى، وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ أي: فهذه آية دالة على البعث والنشور، وبالرغم من هذا فقد قست قلوبهم بعد ذلك! قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74].
ومن ذلك أيضاً: الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].
وكذلك عيسى عليه السلام؛ فقد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فكان يمر على صاحب القبر فيقول له: قم بإذن الله، فيحدثونه ويسألونه.
وكذلك أصحاب الكهف: فقد مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم قاموا بإذن الله سبحانه وتعالى، قال الله: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة بالسنين الشمسية، وازدادوا تسع سنين بالسنين القمرية.
وكذلك هذه الدلائل المنظورة المشاهدة في كل عصر، أو التي تشاهدها بعض الأجيال دون بعض؛ تكشف الشبهة وتميتها عند من يستبعد أن يعيد الله سبحانه وتعالى الناس بعد موتهم، وبعد أن اختلطت عظامهم ولحومهم بالتراب.
فالقدرة هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي أوجدتهم في البداية، وهي قادرة على أن توجدهم مرة أخرى، كما أخبر الله سبحانه وتعالى أنه ما من أحد أنشأه وخلقه إلا وسيأتيه يوم القيامة عبداً، وحيداً كما أنشأه الله وبدأه؛ لأن الله قد أحصاهم وعدهم عداً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95].
عندما ندرس القرآن الكريم والأحاديث النبوية نجد فيها تفصيلاً لرحلة ما بعد هذه الحياة منذ أن تنزع الروح؛ لأن هذه أمور غيبية لا نعلمها إلا من طريق الوحي، فإن رحلة الإنسان تبدأ منذ أن يأتيه ملائكة الموت، وللموت ملك موكل بقبض أرواح الناس، وله ملائكة يعينونه على ذلك، فإذا جاء الأجل الذي حدده الله سبحانه وتعالى أُرسلت الرسل لقبض روحه، ويكون قبض الروح ونوع الملائكة بحسب حال الإنسان صلاحاً وتقى أو فساداً وفجوراً، فالكافر والمنافق والفاجر تُرسل له الملائكة بصورة سوداء مرعبة؛ فينزعون روحه بشدة، وترسل للمؤمن ملائكة بيض الوجوه، فينزعون روحه برفق.
نسأل الله أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر