وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد بعث الله تبارك وتعالى عبده ورسوله محمداً صلوات الله وسلامه عليه؛ ليكون معلماً للبشرية؛ وليكون هادياً وسراجاً منيراً، فكل معلم لا يستمد علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بمعلم، وكل ما ثبت من طريق هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وما تعلم منه فهو خير وحق وعدل؛ لأنه المعلم الصادق.
ولقد كانت كلمات قليلة تصدر من المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فتغير عقائد فاسدة، وأخلاقاً سيئة، وسلوكاً يجري العمل به بين الناس قد استقر في أذهانهم، وكأنما هو دين وشريعة تؤثر في نفوسهم وفي أولادهم تأثيراً سيئاً، وكان صلى الله عليه وسلم يغني بالكلمات القليلة النفوس، وكان يوجه الأمة بكلمات تصدر منه صلوات الله وسلامه عليه وهو جالس في بيته أو في مسجده أو سائر على فرسه أو على دابته، تعجز إمكانيات البشرية اليوم أن تفعل كما فعلت كلماته عليه الصلاة والسلام.
من هذه التعاليم التي نحفظها تلك الكلمات التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس وكان غلاماً صغيراً، وذلك أنه كان يسير مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، أو كما قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
فبالله عليكم من منا لا يحتاج لهذه الوصايا؟! ومن منا لا تنفعه ولا تكون دستوراً لحياته؟! ومنهجاً يسلكه ويسير على ضوئه في عمله وفكره؟ أليس في هذه الوصايا توجيه للأمة كلها؟ فلو اتخذت الأمة من هذه الكلمات منهجاً وسبيلاً فإنها ستفلح.
فإذا حفظت الأمة الله تبارك وتعالى في عقيدتها، وفي فكرها، وفي قولها، وفي عملها، وفي سلوكها وآدابها، وفي قوانينها، ألا يحفظها الله تبارك وتعالى؟! ألا يعزها سبحانه؟! ألا يدفع عنها أعداءها؟ ويدفع عنها البلاء؟! بلى والله.
فالعقيدة أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والحج أمانة، وكلمة الحق تبطل بها باطلاً وتحق بها حقاً أمانة، والبعد عن الذنوب والمعاصي واجتناب حدود الله تبارك وتعالى وحفظها أمانة، والعمل بهذا الكتاب أمانة، وتحكيم شريعة الله عز وجل أمانة وأي أمانة.
فإذا حفظت أمانة الله فإن الله تبارك وتعالى يحفظك، والأمة إذا حفظت أمانة الله عز وجل فإن الله تبارك وتعالى يحفظها، فالصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه يقول: (احفظ الله يحفظك).
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة الذين دخلوا الغار، وجاء السيل فانحدرت بسببه صخرة فأغلقت باب الغار، فكيف نجاهم الله تبارك وتعالى؟ نجاهم؛ لأن كل واحد منهم سأل الله بعمل حفظ الله تبارك وتعالى فيه:
فأحدهم: حفظ المال الكثير ورده إلى صاحبه، والآخر: أتته فرصة للزنا سهلة ميسرة، ولكنه خاف الله تبارك وتعالى، والثالث: كان يبر والديه، فكل واحد منهم كان يذكر حالة حفظ فيها أمانة الله عز وجل فيتوسل إلى الله بها، فتنفرج عنهم الصخرة قليلاً، حتى إذا ما أتم الثالث دعوته انزاحت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون، لقد قبروا وهم أحياء، ولا يعلم بهم أحد، أو يعرف مكانهم أحد، إلا رب العزة سبحانه وتعالى.
وبمَ أنجى الله نوحاً؟ وكيف أنجاه؟ لقد أهلك الله الظالمين الذين رفضوا أمانة الله ورسالته، ورفضوا أن يحفظوا الله تبارك وتعالى في أمانته، وأصروا أن يعيشوا كما يشتهون وكما يحبون، فدمرهم الله، ونجى نوحاً والذين آمنوا معه، كما قال سبحانه: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [القمر:13].
ولو تأملنا كيف نجى الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام والمؤمنين؟ وكيف أهلك الكافرين؟ وعندما رمي ذو النون في البحر فالتقمه الحوت قال الله عنه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ [الأنبياء:87] أي: في بطن الحوت، فاجتمعت عليه ظلمة الحوت ثم ظلمة قعر البحر، ومع هذا ينادي رب العزة تبارك وتعالى من أعماق البحار قائلاً: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فقال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، وليست هذه خصوصية لذي النون عليه السلام وإنما هذا يتحقق لكل مؤمن، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
هذه هي سنة الله تبارك وتعالى في المؤمنين الذين يستقيمون على طاعته سبحانه، والذين يحفظون حدوده، ويحكمون بأمانته تبارك وتعالى في خلقه.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)، كقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3].
إن سنة الله تبارك وتعالى في عباده أن الإيمان يحدث خيراً في نفس الإنسان، وفي واقعة، ويحدث خيراً له بعد أن يبعثه الله تبارك وتعالى عند أن يجمع الأولين والآخرين.
إن الله تبارك وتعالى ينجي الصالحين، ويأخذ الظالمين المفسدين، فإذا ما أجلت العقوبة في الدنيا فإن هناك عقوبة أكبر للذين يتمردون على هذا الدين وعلى هذه الشريعة، وانظر كيف أنجى الله الرسول صلى الله عليه وسلم من كيد الكافرين في مكة، وكيف حفظه، وعندما خرج من مكة خرج وليس معه قوة تحميه، وإنما معه رجل واحد أعزل من السلاح، فانظر كيف نصره الله، قال عز وجل: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، أي: لا تحزن يا أبا بكر لما تراه من إحاطة الكافرين بالغار.
وانظر كيف نجى الله المؤمنين حي تألبت عليهم القوى الكافرة، واجتمعت كل تلك الأحزاب على العصبة المؤمنة في المدينة المنورة، وأحاطت بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، كما قال عز وجل: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، فماذا فعل الله تبارك وتعالى؟ قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9].
فنصرهم الله تبارك وتعالى، وأيدهم بجنود من عنده، ومن جنوده الملائكة والريح، فإن الله قد يرسل الملائكة يمد بهم المؤمنين، كما أمدهم بهم في معركة بدر، وفي حنين، وفي غيرهما من المعارك، وهذا ليس مقصوراً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هذه حالة دائمة، كما قال الله: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم الآنفة الذكر هي لكل فرد في الأمة، وللأمة جميعاً، فقوله: (احفظ الله يحفظك)، أي: عندما تحفظه في نفسك، ومالك، وأهلك، وفي قولك وفعلك، وعندما تحفظه في الأمانة التي أنزلها إليك، وعندما تفعل ما يأمرك به ابتغاء مثوبته، وتترك ما ينهى عنه خوف عقوبته، وعندما تحفظ الله تبارك وتعالى في كل أمورك فإن الله عز وجل سيحفظك، فوصية الرسول صلى الله عليه وسلم للغلام الصغير من المسلمين هي وصيته للمسلمين جميعاً.
فعندما يدير المعركة رب العزة، وعندما يكون هو النصير والمعين والمؤيد يرتاح قلب المسلم وخاطره، ويعلم أنه يلجأ إلى ركن ركين، ويلجأ إلى من قوته أعظم من قوة البشر، وبمثل هذا يستطيع المسلم أن يواجه واقعاً مريراً، وظلماً شديداً، ويواجه أعداء أشداء يريدون به كل شر، فإذا حفظ الله تبارك وتعالى فلن يبالي بهم جميعاً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وبعد:
في هذه الأيام التي تشتد فيها الخصومة، ويشتد فيها العداء، وتحتار الأمة في رسم طريقها، ويحتار القواد كيف يفعلون، ويحتار رجال السياسة ماذا يصنعون، تأتي كلمات الرسول صلوات الله وسلامه عليه لتبين المنهج والطريق: (احفظ الله يحفظك).
يا أمة الإسلام! لا تشرقي ولا تغربي، وإنما سيري إلى الله تبارك وتعالى، واتبعي منهج الإسلام كما أمرك ربك تبارك وتعالى، فليست شرقية ولا غربية، إنما هي ربانية، إنما هي إسلامية، إنما هو طريق القرآن، إنما هو طريق محمد صلوات الله وسلامه عليه، فاحفظ الله أيها الفرد المسلم وأيتها الأمة المسلمة، فالله تبارك وتعالى يدافع عمن حفظوا أمره وشرعه.
لقد التجأنا إلى كل الدول وإلى كل القوى فما أغنت فتيلاً! وما أغنت عنا شيئاً، فإن البلاء يصب علينا منهم صباً، والناس لا يجدون حيلة، وليس هناك إلا الطريق الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو: أن تعود هذه الأمة إلى أصالتها، وأن تعود إلى دينها وكتابها، وأن تعرف كيف تأخذ وكيف تسعى في هذه الحياة، ومن تصادق ومن تعادي، ومن توالي ومن ترفض، عند ذلك يكون لهذه الأمة شأن.
أما والحالة هذه فالخطر كبير، والمصاب جلل، فالأمة تتردى، ونحن لا نعرف الطريق، ونتلهى بالقشور في كل يوم، تلهينا الإذاعات والتلفزيونات، وتلهينا الصحف والمجلات، ويلهينا الباحثون والكاتبون والسياسيون، الخطر محدق بنا ونحن نعيش فوق بحر خضم من التفاهات والتناقضات في حياتنا!
ومن آخر ما يحزن قلب كل مسلم ما تنشره الصحافة في هذه الأيام: أن كتاب الله تبارك وتعالى أصبحت آياته توطأ وطئاً، وتغلف به النعال في أوروبا، كتاب الله يداس بالأقدام عند النصارى الذين نمد لهم في كل يوم يداً، ونستقبلهم في ديارنا!
أصبحت آيات الكتاب أضحوكة، وهذا ليس بالشيء الجديد، فقد تحدثت بهذا منذ سنوات عندما جاء إلي أخ بلباس داخلي تلبسه المرأة على فرجها، وقد كتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحدثت بهذا من فوق هذا المنبر، وقلت لكم: انظروا يا مسلمون! ورأى هذا أناس كثيرون من الإخوة المصلين، رأوه بأم أعينهم، ثم رجالنا ومفكرونا لا يزالون يصلون تجاه واشنطن، وموسكو، ولندن، وباريس، وهم الذين يكرهوننا، ويحقدون علينا، ويسخرون بديننا، ويسخرون برسولنا صلوات الله وسلامه عليه، ويسخرون بكتابنا كما تشاهدون وتسمعون.
ومن خبثهم أنهم يسمون الأماكن التي يشربون فيها الخمر والتي يفسقون فيها مكة، باسم أشرف وأطهر بلد فوق ظهر الأرض، أي أمة هذه الأمة التي فقدت الإحساس بالآلام؟! ولكن كما قال الشاعر:
من يهن يسهل الهوان عليه مالجرح بميت إيلام
يلوموننا لأننا نتجه إلى معاونة المسلمين في أفغانستان، ولأننا نعاونهم في كل مكان، ولأننا نحب الذين يعتقدون عقيدتنا ويشعرون بشعورنا، يلوموننا على ذلك، ولا يلومون أنفسهم عندما يولون وجوههم إلى مجلس الأمن، وإلى هيئة الأمم، وإلى بريطانيا، وإلى أمريكا، ثم تأتي الصفعات، مرة من مجلس الأمن، ومرة من هيئة الأمم، ومرة من أمريكا، ومرة من بريطانيا، ويدوسوننا بالنعال!!
يقول الخبيث كيسنجر الذي نعرف خبثه وفساده: العرب كالكلاب كلما ضربتهم على رءوسهم جاءوا إليك، هذا تصوره، وهذا هو واقع، فكم صفعنا؟ وكم ضربنا؟ وكم أوذينا؟ وكم داسوا فوق ظهورنا؟ وأخذوا بلادنا؟ وامتصوا خيراتنا؟ فعشرات الملايين من المسلمين ذبحوا بيد أم الحرية فرنسا، وأم الحضارة أمريكا، والدولة التي كانت العظمى في ذلك الوقت بريطانيا، ولا ننسى إيطاليا، ولا ننسى اليهود الذين تمدهم كل هذه الدول، ثم بعد ذلك يكون لنا عين تتجه إلى هؤلاء ونقبل جبينهم!
أما آن لهذه الأمة أن تفهم حقيقة الأمر، وأن تفهم موازين النصر، وأن تفهم طريق العزة؟ لقد لخصها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في كلمتين: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك).
فإذا حفظت الله تبارك وتعالى فإنه يحفظك، وإذا حفظته تبارك وتعالى فتجده أينما كنت، بعونه وتوفيقه وتسديده، حتى لو ألقيت في قعر بئر، أو صعد بك إلى السماوات العلى، فإن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو عليم بكل شيء، خبير بكل شيء، فإنه سبحانه مالك الملك القهار الجبار، سبحانه وتعالى.
فهذا سبيل النصر، وهذا ميزانه، وبهذا تحفظ الأمة نفسها، ويحفظ المسلم نفسه، وبغير ذلك يضيع كل شيء.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر