الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي جعل كتابه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
فحفظ الله كتابه بأمور كثيرة:
منها صدور أهل العلم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
وحفظه بحفظ شرحه وبيانه في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لما ألهم أوائل هذه الأمة حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين كلام الله.
وقد أنزل الله هذا الكتاب على أمة أمية، وهم العرب الذين ما كانوا يعرفون القراءة والكتابة إلا في النادر، وكانت معيشتهم في جو من الصفاء، جعلت قرائحهم متقدة، وأذهانهم صافية، ولذلك كان الحفظ عليهم سهلاً، حتى إنهم كانوا يسمعون الخطبة والقصيدة الطويلة فيحفظون ذلك، وما روي أنهم استعادوا الخطيب والشاعر شيئاً من كلامهما.
فصفاء أذهانهم وصِحّت أجسادهم، ونقاوة البيئة وقلة الكتابة فيهم كانت من العوامل التي ساعدت على شدة الحفظ، فأنزل الله الكتاب على تلك الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب، وهدى الله من العرب حملة كتابه ووراث نبيه، الذين تلقوا عن النبي الكريم العلم فحفظوه، ثم أدوا ذلك كله إلينا بأمانة، فرضي الله تعالى عنهم وعمن نقل عنهم، ورضي الله عن الحفاظ الذين دونوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى وصلت إلينا كاملة متقنة.
والحفظ من النِعم التي أنعم الله بها على الإنسان، ولو لم يكن الإنسان يحفظ لكان في حياته همٌ وصعوبة بالغة، ولكن الله أنعم علينا بهذه الذاكرة التي نحفظ بها.
إن موقع الحفظ في الدين موقع عظيم، ويكفي شرفاً الحافظ لكتاب الله أن الله جعله من أسباب حفظ كتابه، وأن الحافظ من أهل العلم، وينبغي أن يضيف إلى علمه بحفظ الكتاب علماً بفقه الكتاب.
وقد كان حفظ الكتاب وحفظ الحديث من العبادات العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يُريد الزواج ولم يكن يملك ولا خاتماً من حديد، لم يأمره عليه الصلاة والسلام بالاستدانة، وإنما قال له ميسراً: (ماذا معك من القرآن؟) لما طالب بالمهر وليس عند الرجل شيء، قال له عليه الصلاة والسلام في نهاية الأمر: (ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا، -عدها- قال: أتقرأهن عن ظهر قلب؟ -هذا الحفظ- قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فكان حفظه سبباً في تيسير زواجه.
والكلام في فوائد الحفظ كثير، ولكن قلنا: إن الحافظ له أجر عظيم، ويكفي في ميزاته أن جسد الحافظ لا تمسه النار يوم القيامة، فإن القرآن إذا جُمع في إهاب -وهو جلد الحافظ ، نفس الحافظ التي بين جنبيه- لا تمسه النار، طالما كان قائماً بأمر الله.
وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب لحفظها، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم: باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وراءهم.
ولذلك جاء في الحديث أنه علمهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن يُعطوا من المغنم الخُمس، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وهي بعض الأواني التي إذا وضع فيها الشراب صار مسكراً، وربما قال: الموقير، وقال -وهذا هو الشاهد- : (احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم).
أما الحفظ فقد سأل مهنا رحمه الله أحمد : ما الحفظ؟ قال: الإتقان هو الحفظ، وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: الحفظ الإتقان.
وسنبين إن شاء الله في هذا الدرس أموراً تتعلق بالحفظ نظراً لأهميته في طلب العلم، وطالب علم بغير حفظ لا يساوي شيئاً، ولعلنا نتكلم بإذن الله عن أهمية الحفظ بالنسبة للكتابة، وكذلك بعض الطرق والوسائل في الحفظ، والأمور المعينة على الحفظ، وأوقات الحفظ، وأماكن الحفظ، وذكر بعض سير الحفاظ فيما يتعلق بالحفظ، ونورد بعض الفوائد من النظريات الحديثة المتعلقة بالحفظ والذاكرة والنسيان.
وقال عبد الرزاق رحمه الله: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علماً. لأن الصفحات والكتب التي فيها ذكر الله لا يُمكن أن تدخل الحمام، لكن الحفظ الذي يكون في صدر الحافظ يذهب معه في كل مكان.
وقال هبة الله البغدادي :
علمي معي أينما همت يتبعني بطني وعاء له لا بطن صندوق |
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق |
وقال عبيد الله الصيرفي:
ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر |
وقال ابن شديد الأزدي :
أأشهد بالجهل في مجلس وعلمي في البيت مستودع |
إذا لم تكن حافظاً واعياً فجمعك للكتب لا ينفع |
فبعض الناس يكثرون من شراء الكتب، وترى كثيراً من الشباب إذا صارت الفرصة في معارض الكتاب اشتروا الكتب، وهذا أمر مهم لا يمكن التزهيد فيه؛ أن يحوي المراجع عنده، ويشتري من الأمهات والكتب المهمة والرسائل النافعة ما يعينه على الطلب والبحث، ولكن الأهم من هذا كله هو الحفظ.
وبعض الأغبياء يهونون من أمر الحفظ، فإذا رأوا شخصاً حفظ صحيح البخاري مثلاً، قالوا: وماذا استفادت الأمة لما زادت نسخه من صحيح البخاري؟ فهؤلاء ما علموا أهمية الحفظ ولا علموا فائدته.
الحفظ: هو الذي يجعل العلم في صدرك فتستفيد منه، فإذا احتجت إليه كان معك؛ في تعليم، وفي دعوة، وفي نصيحة وفي فتوى، حتى في تحضير الدروس، وعدد من العلماء الكبار لا يحضرون الدروس؛ لأن العلم في صدورهم محفوظ، ومن العلماء المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، لم يكن يحضر دروسه مطلقاً؛ لأن العلم في صدره مستودع، ومتى احتاجه وجده، فلو كان في سفر ليس معه مكتبته ولا مراجع فعنده العلم في صدره.
وهذا من أسباب الملل، وهذا مما يبين صعوبة الحفظ، ولكن الحفظ لا يأتي إلا بالمران، ومجاهدة النفس، قال الزهري رحمه الله: إن الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب -يطلب العلم وقلبه شعب صغير- ثم لا يلبث أن يصير وادياً لا يوضع فيه شيء إلا التهمه.
أول الحفظ شديد يشق على الإنسان، فإذا اعتاده سهل عليه، وكان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق، إلا القلب فإنه كلما أُفرغ فيه اتسع. وقال بعض أهل العلم: كان الحفظ يثقل عليّ حين ابتدأت، ثم عودته نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترقن |
قال: حفظتها في ليلة. وهي قريب من مائتي بيت، وكانت هذه انطلاقة.
وتكرار المحفوظ وإعادته على النفس يحصل به الإتقان، وهكذا كان العلماء يقرءون المرات الكثيرة، يعيدون مراراً وتكراراً حتى يحفظوا، قال بعضهم: سمعت صائحاً يصيح: والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، ساعة طويلة، فكنت أطلب الصوت إلى أن رأيت ابن زهير وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش .
وعن معاذ بن معاذ قال: كنا بباب ابن عون ، فخرج علينا شعبة وعقد عقداً بيديه جميعاً، فكلمه بعضنا، فقال: لا تكلمني فإني قد حفظت عن ابن عون عشرة أحاديث أخاف أن أنساها، فهو لازال يعيد ويكرر حتى يحفظ.
وكان أبو إسحاق الشيرازي يعيد الدرس مائة مرة، إذا أراد أن يحفظ درساً أعاده مائة مرة. وكان الكيا من فقهاء الشافعية يعيده سبعين مرة. وكان الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول: لا يحصل الحفظ لي حتى يُعاد خمسين مرة.
لابد من الإعادة، لا تفكر -يا طالب العلم- بأن تأتي بوسيلة أخرى غير التكرار والإعادة مهما اجتهدت وصعدت ونزلت، وبحثت ونقبت، لا يمكن أن تأتي بوسيلة للحفظ غير الإعادة والتكرار، قد تختلف وسائل الإعادة والتكرار، لكن يبقى الأصل هو الإعادة والتكرار، ولما سُئل البخاري رحمه الله تعالى عن سبب حفظه، قال كلاماً معناه: لم أجد أنفع من مداومة النظر، الإعادة ومداومة النظر هما سبيل الحفظ.
وحُكي أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مرات كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد والله حفظته أنا، فقال: أعيديه، فأعادته، فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز! أعيدي ذلك الدرس، فقالت: ما أحفظه، قال: أنا أكرر الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك. فلابد من تكرير الكلام مراراً وتكراراً، هذا هو سبب الحفظ.
وكلما كان التكرار أكثر ثبتت قاعدة الحفظ، فلا يحتاج إلى أوقات أخرى لاسترجاعه عند النسيان، التأسيس البطيء الذي يكون فيه التكرار الكثير قاعدة للحفظ.
ثم لابد من المراجعة المستمرة بين الحين والحين، لأنهم قالوا: إن القلوب تربٌ والعلم غرسها، والمذاكرة ماؤها، فإذا انقطع عن التُرب ماؤها جف غرسها، فلابد من الإعادة والمراجعة.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال -أشد هرباً من صدور الرجال- من النعم من عقلها) أي: الإبل التي تحاول دائماً التفلت.
ولذلك تعاهدوا القرآن: أي كرر وراجع ، ثم كرر وراجع ، ثم كرر وراجع ، دائماً، هذا هو الحفظ.
وكان بعضهم لا يخرج كل غداة حتى ينظر في كتبه، ويتعاهد المحفوظ دائماً، ومراجعة الحفظ السابق أولى من حفظ شيء جديد، لأن المحافظة على رأس المال أولى من جمع الأرباح.
وقال الخليل بن أحمد : تعاهد ما في صدرك أولى بك من أن تحفظ ما في كتبك، ولذلك بعض العلماء كان لهم أوقات مراجعة؛ لا يخرج لأحد، ولا يسمح لأحد أن يأتي إليه، ولا يُعطي موعداً أبداً في وقت المراجعة؛ من السابقين واللاحقين، ومن المعاصرين على سبيل المثال الشيخ علي الزامل النحوي اللغوي، العلامة في القصيم ، له بعد الفجر وقت يومي يراجع فيه حفظه من القرآن، وهو ضرير ومعه رجل ضرير آخر يراجع معه، ولا يمكن أن يقبل موعداً أو درساً في هذا الوقت؛ لأنه وقت مراجعة.
وكانوا أيضاً في هذه التسميعات وهذا السرد المزدوج كان ينبه بعضهم بعضاً على أشياء، ويمتحن بعضهم بعضاً في أشياء، قال أبو بكر بن أبي داود لـأبي عليّ النيسابوري الحافظ: يا أبا علي ! إبراهيم عن إبراهيم عن إبراهيم من هم؟ وهذا سند فيه ثلاثة أو أربعة أسماؤهم متشابهة، من هم؟ فقال: إبراهيم بن طهمان عن إبراهيم بن عامر البجلي عن إبراهيم النخعي ، فقال: أحسنت.
وينبغي للعاقل أن يكون جُلّ زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عنده استقراراً لا يزول، وكان من فعل بعض السلف في إعادة العلم ما يلي، وعلى رأسهم الزهري رحمه الله:
روي عن الزهري أنه كان يرجع إلى منزله وقد سمع حديثاً كثيراً، فيعيده على جارية له من أوله إلى آخره كما سمعه، ويقول لها: إنما أردت أن أحفظه. وكان غيره يعيد الحديث على الصبيان، يجلسهم في الطريق ويسرد عليهم حفظه، لأجل الاسترجاع، إذا لم يلق أصحابه ليحفظ معهم فإنه يسرد على النساء والصغار.
ولاشك أن العمل بالعلم يزيد الحفظ (استعمال الآثار وتوظيف السنن) الإمام أحمد رحمه الله ما كان يضع حديثاً في مسنده إلا ويعمل به، حتى إنه احتجم وأعطى الحجام ديناراً، لأجل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسماعيل بن إبراهيم بن مُجمع بن جارية يقول: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، فإذا عملت بالعلم كان ذلك سبباً عظيماً للحفظ.
الداعية إلى الله إذا حفظ العلم فإنه يؤديه إلى الناس، وتعليم الناس زكاة العلم، تبليغه إلى الناس، وكلما بلغته كلما رسخ في ذهنك؛ لأن التبليغ نوع من التكرار والإعادة، ولذلك فإن العلماء الذين يفتون الآن، يحفظون أدلة الفتاوى، ففتواهم من أسباب حفظهم للأدلة، رغم تقدم أسنانهم لكنهم كثيراً ما سردوه على مسامع الناس، لقد ألقوه إليهم وسئلوا فأجابوا، فمن كثرة الإلقاء والإجابة عن الأسئلة رسخ العلم في الأذهان.
قال حماد بن أبي سليمان لتلميذ له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها. وكان أحمد بن الفرات لا يترك كل يوم إذ أصبح أن يحفظ شيئاً وإن قلّ.
فإذاً: لابد من المداومة على الحفظ؛ لأن بعض الناس قد يحفظ أياماً ويترك أسابيع لا يحفظ فيها، وهذه الذاكرة كلما استمر المران كلما ازدادت قابليتها للحفظ أكثر، وإذا تركتها انكمشت، ولذلك فإن المداومة مهمة، والمداومة المداومة على الأعمال الصالحة أصل من أصول الشريعة، كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).
وإذا كان ما جمعته من العلم قليلاً، وكان حفظك له ثابتاً كثرت المنفعة به ولو كان قليلاً، ولو قرأت أشياء كثيرة جداً، أنهيت كتباً، لكن ما قرأت غير محفوظ لديك قلّت المنفعة، مهما كانت قراءتك واسعة، إذا كانت هذه القراءة غير محفوظة قلّت المنفعة، ولو كان الشيء الذي اطلعت عليه قليلاً، لكنه محفوظ متقن، فإن المنفعة كبيرة.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وقال اعلم بأن العلم فضل وفضل الله لا يؤتاه عاصي |
ولهذين البيتين ألفاظ كثيرة، فالمعاصي كما ذكر ابن القيم رحمه الله تُذهب العلم وتُنسي المحفوظات؛ لأن المعصية لها شُؤم، وشُؤم المعصية ينعكس على العلم المحفوظ، وعدد من الناس حفظوا كتاب الله ثم نسوه، من أسباب نسيانهم لآيات كثيرة من كتاب الله المعصية، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، ولما قست القلوب ذهبت الأشياء المحفوظة، وضيع اليهود والنصارى كتاب الله بالمعاصي، وقد وكل حفظه إليهم: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44] فضاع، وكان من عقاب الله لهم: ضياع هذه الكتب منهم بسبب معاصيهم، وقد ذكر الله هذا في كتابه.
ولذلك كلما كان الطالب أتقى لله كان حفظه أحسن، وقد يوجد نماذج من العصاة يحفظون، ولكن حفظهم لا بركة فيه، وقد يكون حفظهم من باب الاستدراج لهم، ولا تجد فيه نفعاً، لكن أهل التقى حفظهم نافع ومبارك.
ولاحظ أن الحافظ لكتاب الله يسهل عليه حفظ ما بعده، حفظ القرآن يُسهِّل ويُذلِّل الصعوبات في الحفظ، لأن الإنسان إذا جمع القرآن وتذلل لسانه بهذه الآيات، والله ييسر هذا الأمر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] فإن حفظ ما بعد القرآن يسهل بسبب حفظ القرآن.
فإذاً: ترك المعاصي وفعل الطاعات من أسباب الحفظ، وفعل المعاصي من أسباب نسيان العلم، قال عبد الله : إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها. وقيل لـسفيان بن عيينة : بم وجدت الحفظ؟ قال: بترك المعاصي.
والحجامة مؤكد عليها في الشريعة، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما مررت على ملأ من الملائكة في المعراج إلا وأمروني أن أوصي أمتي بالحجامة) فالحجامة من الأشياء التي تزيد الحفظ، نعم هي ليست كل شيء، فبعض الناس يفكر أنه لو احتجم اليوم غداً يحفظ صحيح البخاري ، هذا لا أساس له، لكن قال عليه الصلاة والسلام: ( وتزيد في الحفظ ) قال: (فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واجتنبوا الحجامة يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، فإنه اليوم الذي عوفي فيه أيوب من البلاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء، فإنه اليوم الذي ابتلي فيه أيوب ... الحديث) هذا الحديث حسنه الألباني ورواه ابن ماجة وغيره كما تقدم.
ولاشك أن من أسباب الحفظ العظيمة: ذِكر الله عز وجل، قال الله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] ذكر الله مما يزيل النسيان، ويُقرب الأشياء في الذهن، وذكر الله من أدوية النسيان، سواء كان النسيان نسيان الذهن والذاكرة، أو كان نسيان غفلة، فإن ذكر الله علاجه.
وهكذا تلقَّى معظم الصحابة الأحاديث، تلقوها وحفظوها بالسماع، فالسماع مهم جداً، قال الزبير بن بكار : دخل علي أبي وأنا أروي في دفتر ولا أجهر -أروي فيما بيني وبين نفسي- فقال: إنما لك من روايتك هذه ما أدى بصرك إلى قلبك. فإذا أردت الرواية فانظر إليها واجهر بها، فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك وما أدى سمعك إلى قلبك.
وهم يقولون الآن: إنه كلما اشتركت حواس أكثر في الحفظ كان الحفظ أكثر، وهذه مسألة يختلف فيها الناس؛ بعض الناس لا يحفظ إلا إذا رفع صوته، وبعض الناس يكون عنده الحفظ أحسن إذا كان يقرأ بصمت وينظر، فينطبع في ذهنه، حتى إن بعض الحُفاظ كان يضع يده على صفحة إذا أراد أن يحفظ الصفحة التي تليها، حتى لا تختلط عليه السطور.
وينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يُسمع نفسه، فإن ما سمعته الأذن يرسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه، وعن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم فإنه أثبت للحفظ وأذهب للنوم، وكان يقول: القراءة الخفية للفهم -القراءة الخفية إذا أردت أن تتدبر وتفكر وتنظر- والرفيعة -التي فيها رفع صوت- للحفظ. يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ.
ونُقل عنه أنه قال: تعلموا هذا العلم، فإذا علمتموه فاحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه بين الناس، وقال هذا الناظم:
يا طالباً للعلم كي تحضى به ديناً ودنياً حظوة تعليه |
اسمعه ثم احفظه ثم اعمل به لله ثم انشره في أهليه |
وينبغي أن نعلم أن الناس في الحفظ طاقات متفاوتة؛ فمنهم من يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا أراد الذي مقدار حفظه نصف صفحة أن يحفظ عشر ورقات تشبهاً بغيره؛ لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، فليستقر كل امرئ على مقدار ما يستوعبه، وعليه أن يشفق على نفسه من أن يحملها فوق ما تطيق، لكن كيف يعرف الإنسان طاقته؟ الجواب: بالتجربة.
ولا ينبغي للعاقل أن يزج نفسه فيما يستفرغ جهوده، فيتعلم في يوم ضعف ما يتحمل، فهذا وإن تهيأ له أنه حفظها هذه المرة، وأنه ضبطها في هذا اليوم، فإنه في الغد سيثقل عليه جداً إعادة ما مضى وحفظ شيء جديد، وهذا كمن يحمل حملاً ثقيلاً يرهق نفسه في أول يوم ، فيحدث ضررٌ، نعم هو حمله، لكن حصل ضرر في جسده، في الغد لا يستطيع أن يحمل شيئاً.
وينبغي أن يجعل الحافظ لنفسه مقدراً كلما بلغه وقف عليه لا يزيد؛ لأجل المراجعة، ويستريح ثم يواصل الحفظ، ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يُطيق، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويحكم حفظه ويتقنه، قال سفيان : كنت آتي الأعمش ومنصور ، فأسمع أربعة أحاديث وخمسة ثم انصرف كراهة أن تكثر وتتفلت. وعن شعبة قال: كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين، فيحدثني ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا. حتى أحفظهما وأتقنهما.
وقال بعضهم: من طلب العلم جملة فاته جملة. وقال بعضهم: إنما كنا نطلب حديثاً أو حديثين. وعن الزهري قال: إن هذا العلم -هذه تجارب حفاظ- إن أخذته بالمكابرة عسُر عليك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به.
وقال ابن الجوزي : اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر ويمرض، فمن الغلط تحميل القلب حفظ كثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، فمن الناس من يحمل مائة رطل، ومنهم من يعجز عن حمل عشرين رطلاً، فكذلك هذه القلوب أوعية بعضها يستوعب كثيراً وبعضها يستوعب قليلاً، فليأخذ الإنسان على قدر قوته، فإنه إذا استنفذ القوة في وقت ضاعت منه أوقات، والصواب أن يأخذ قدر ما يُطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل. مثلاً: قال: أنا أستطيع أن أحفظ خمس آيات، يقول: أحفظ خمس آيات، نقول: أعدها مرتين بالليل ثم أعدها في النهار.
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فأضاع زمناً طويلاً في استرجاع محفوظه، أي: أنه ينبغي على الإنسان أن يراجع باستمرار؛ لأنه إذا راجع وحفظ بتأني سهل عليه الاسترجاع، وإذا حفظه دُفعة واحدة الآن صعب عليه أن يسترجعه فيما بعد.
وكذلك ذكرنا أنه لابد من ترفيه النفس مع الإعادة يوماً في الأسبوع، يجعل يوماً في الأسبوع للمراجعة ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبنى عليه، لا يبنى مرة واحدة وإلا فإنه ينهار.
وكانوا يجتنبون الأشياء الحامضة، حتى كان الزهري رحمه الله يجتنب التفاح الحامض، وهذا مجرب؛ الحوامض مما يقلل الحفظ، وكان العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كما حكى عنه بعض أولاده، قال: كان أبي يزجرنا زجراً شديداً إذا رأى مع أحدنا لبناً حامضاً.
وهذه الأشياء نسبتها في الحفظ قليلة، فالزبيب لا يجعل غير الحافظ حافظاً أو اللبان، وإنما هي أشياء معينة ومساعدة، ونحن نذكر العوامل وإن كانت نسبتها في الحفظ كثيرة أو قليلة من باب جمعها وذكرها.
وكذلك إصلاح المزاج من الأصول العظيمة في الحفظ، ولاشك أن بعض الأطعمة تؤثر في الأمزجة فتسبب تعكيراً، وتسبب أشياء في المعدة، وشيئاً من الغثيان، والغثيان يضاد الحفظ.
فإذاً: حسن توزيع الوظائف -يا طالب العلم!- على الوقت من الأمور المهمة.
وقال علقمة : ما حفظت وأنا شاب كأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة. وعن الحسن قال: [قدموا إلينا أحداثكم فإنهم أفرغ قلوباً وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يتمه له أتمه]. وعن معمر قال: جالست قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة فما سمعت منه شيئاً وأنا في ذلك السن إلا وكأنه مكتوب في صدري.
لقد أكملنا سن الطفولة، والعلماء كانوا يحفظون القرآن وهم أبناء ثمان سنين وتسع وعشر، فهل فاتنا القطار أم لا؟ الجواب: لا. لم يفت القطار، مهما بلغ الإنسان من التقدم في السن فإنه يستطيع أن يحفظ، وليس هناك سن لا يستطيع أن يحفظ فيها شيئاً مادام العقل باقياً، فمادام العقل باقياً فالحفظ ممكن، لكن كلما كان في الصغر كان أسهل.
ولو فاتك أنت وقت الحفظ الجيد، ينبغي ألا يفوتك: أولاً: أن تحفظ فيما بقي من عمرك، وثانياً: أن تتدارك هذا مع ولدك الصغير، فلو فاتتنا أشياء نتيجة لعدم التربية الجيدة في الماضي، فإننا نستدرك هذا مع أولادنا الآن، فنجعلهم يحفظون ونساعدهم على الحفظ، ونجعل لهم الجوائز التشجيعية حتى لا يندموا إذا كبروا، ويكون لك من الأجر نصيب عظيم.
وأما بالنسبة للوقت المناسب للحفظ في اليوم، من ذلك: قالوا من أفضلها: أفضلها أوقات الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع، وقال بعضهم ينصح ولده بالحفظ في الليل: أحب لك النظر في الليل، فإن القلب بالنهار طائر وبالليل ساكن. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: المطالعة في الليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ.
وعن عبد الرزاق قال: كان سفيان الثوري عندنا ليلة، قال: وسمعته قرأ القرآن من الليل وهو نائم، ثم قام يصلي فقضى حزبي من الصلاة، ثم قعد فجعل يقول: الأعمش والأعمش والأعمش ، ومنصور ومنصور ومنصور ، ومغيرة ومغيرة ومغيرة ، فقلت: يا أبا عبد الله ! ما هذا؟ قال: هذا حزبي من الصلاة، وهذا جزئي من الحديث.
وقال الشافعي : الظلمة أجلى للقلب. أي يستطيع الإنسان أن يحفظ في هدوء الليل أكثر.
وقال أحمد بن الفرات : لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه إلا كثرة النظر، وحفظ الليل غالب على حفظ النهار.
وقال إسماعيل بن أبي أويس : إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم وقم عند السحر -أي: قبيل الفجر- فأسرج سراجك -والآن اضغط الزر- وانظر فيه -في هذا الكتاب- فإنك لا تنساه بعد إن شاء الله. أي إن حفظ الأسحار قبيل الفجر من أحسن أنواع الحفظ، فإذا نام مبكراً فإنه يستيقظ نشيطاً ويكون ذهنه صافياً؛ لأنه ليس قبل اليقظة شيء إلا الراحة، ولا يكون مشغولاً بأشياء كثيرة، وسمع أشياء كثيرة، بل قام من النوم وذهنه صافٍ قبيل الفجر وقد نام مبكراً ، فهذا يكون من أصفى الأوقات للحفظ على الإطلاق.
وقال ابن جماعة الكناني رحمه الله: الخامس في آداب المتعلم في نفسه: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار -جمع بكرة: وهي أول النهار- وللمطالعة والمذاكرة الليل، وللكتابة وسط النهار.
وقالوا في أجود أوقات الحفظ: الأسحار، وبعده وقت انتصاف النهار، وبعده الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أسرع من حفظ النهار.
وقيل لبعضهم: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح. وقال آخر: بالسفر والسهر، والبكور في السحر. والسحر: آخر الليل، وانتصاف النهار: عند الظهيرة، والغدوات: أول النهار.
وقالوا: لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة ولا على شاطئ نهر؛ لأن ذلك يُلهي، والأماكن العالية للحفظ خيرٌ من السوافل، والخلوة أصلٌ، وجمع الهم أصل الأصول، لذا ينبغي تفريغ الذهن من الشواغل.
من الأشياء الموجودة عند المعاصرين ويستفاد منها:
1/ قالوا: الذاكرة في الإنسان مثل العضلة في الجسم، كلما زدت في تمرينها واعتنيت بها كبرت وتوسعت، وإذا أهملتها تضاءلت وضعفت.
2/ وقالوا: إذا استمر أي شخص في الحفظ والمراجعة بقيت ذاكرته قوية ونشيطة، مادام عقله سليماً فاعلاً قادراً على التركيز وإن جاوز الخمسين، أي: يستطيع أن يحفظ وإن جاوز الخمسين مادام مواظباً على المراجعة والحفظ ومادام عقله موجوداً.
3/ وقالوا: إن الذاكرة عند الكثيرين غير مستغلة، وبإمكان الذاكرة أن تتسع لأعداد خيالية من الجزئيات والمعلومات. وقالوا: ليست كثرة المعلومات هي التي تشوش الذاكرة، وإنما الطريقة الخاطئة في إدخال المعلومات واستخراجها، وضعف القُدرة على التركيز والتفكير.
4/ وقالوا: إن التكرير كان ولا يزال هو الوسيلة التقليدية للحفظ، ولكن التكرار له قواعد ينبغي الالتزام بها. من هذه الأشياء، وقد مرت معنا، لكن هم يقولون إنها من تجاربهم واكتشافاتهم: قام أحد العلماء الألمان بتجربة جمع فيها مجموعة وأعطاهم نصاً معيناً في يوم واحد، قال: احفظوه اليوم، فاحتاجوا إلى تكراره ثمان وستين مرة حتى حفظوه، ثم طلب منهم حفظ نص آخر مثل ذلك في الطول والصعوبة على فترة ثلاثة أيام، فاحتاجوا لتكراره أربع وثلاثين مرة فقط، أي: النصف.
فإذا كان عندك شيء تريد أن تحفظه، فكررته مثلاً خمسين مرة إلى أن تحفظه اليوم، ولم تفعل شيئاً في الأيام القادمة، هذا أسرع للنسيان وأصعب للحفظ أيضاً من أن تقرأه في كل يوم عشر مرات لمدة خمسة أيام، أي: نفس عدد مرات التكرار لو جعلتها موزعة على الأيام فهو أحسن في الحفظ وأثبت من أن تجعلها في يوم واحد، ثم لا تفعل شيئاً في الأيام التي بعدها.
5/ وقالوا: العقل كالجسم يتعب عند الاستهلاك الشديد، ويحتاج إلى فترة راحة، ومن النادر أن تتعدى فترة التركيز عند أي شخص ساعة أو ساعة ونصف، وبعد ذلك يتوتر الجهاز العصبي، ويبدأ الذهن في رفض المعلومات التي تصل إليه، فلابد أن يتخلل وقت الحفظ فترات قصيرة من الراحة والاسترخاء، وهم يقولون: الموسيقى، ونحن نقول: تجديد الوضوء، ودخول الخلاء، وشرب شيء من المباحات لا بأس.
6/ وقالوا: كلما ازداد الاهتمام بالموضوع، وأحس الشخص بأهميته كان حفظه أسرع وأشد، وكلما كان كارهاً مرغماً كان الذهن أسرع في الشرود، ويكون الحفظ أصعب، ولذلك الطلاب الذين يذاكرون لأجل النجاح ويحفظون، الحفظ عندهم صعب، أما طالب العلم الذي همه العلم؛ يحيا لأجل هذا العلم، لطاعة الله، ليعبد الله على بصيرة، ويعلم قدر جلالة الكتاب العزيز، فإن انصرافه لهذا أشد وأفضل وأعلى وأحسن من انصراف صاحب الدنيا إلى كتبه ودراسته الدنيوية بلا شك؛ لأن صاحب العلم يشعر أن العلم الذي عنده أهم بكثير وأجل، ولذلك العلماء حفظوا أشياء لا يستطيع الآن الكيميائي ولا الفيزيائي أن يحفظ مثلهم.
7/ وقالوا كذلك: إذا تخيلت صوراً لما تحفظ يكون حفظك أثبت، وهم يضربون أمثلة، ونحن يمكن أن نقول مثلاً: إذا أراد إنسان أن يحفظ آيات فيها بناء الكعبة، فلو أنه وضع في ذهنه صورتها مثلاً والطائفين حولها، أو البناء كيف يبنى وهو يقرأ ليحفظ، ربما يكون أثبت له، وكذلك لو قرأ نصوصاً في الجهاد فكان يستحضر في ذهنه صوراً للجهاد والجياد والسيوف والطِعَان، فربما تكون أيضاً الصورة مرتبطة بالمقروء، ولذلك من أصعب الأشياء حفظ الأرقام المجردة، لكن لو قلت: خمس صلوات وكذا فربطت الأشياء بالأشياء صار أسهل.
8/ ولذلك عندهم من القواعد في الحفظ: الترتيب والتصنيف، فلو أخذنا مثلاً عشرين أداة من الأدوات وجعلناها مبعثرة، فإذا أردت أن تحفظها جميعاً يكون أصعب من أن لو صنفتها فوضعت مثلاً أدوات الطبخ جانباً، وقلت: هذه في خانة، وأدوات الكتابة جانباً، وقلت: هذه في خانة، وما يتعلق باللباس في جانب، وقلت: هذه في خانة، وحفظت كل خانة لوحدها، هذا يكون أحسن.
فإذاً: تصنيف الأشياء وترتيبها يُعين على الحفظ.
وكذلك من الأشياء التي تُستفاد في قضية الترتيب: الترتيب في حفظ القرآن، لو أراد إنسان أن يحفظ سورة البقرة مثلاً، من الأشياء المعينة على الحفظ أن يعرف مواضيع السورة، وأن يعرف ترتيب المواضيع في السورة، فمثلاً: بدأ بذكر المؤمنين، ثم المنافقين، ثم اليهود، ثم خلق آدم، ثم بناء الكعبة، وهكذا، فحفظ ترتيب المواضيع من الأمور المهمة، ولذلك يوجد تفاسير تعتني بذكر مواضيع السورة قبل البداية في تفسير السورة، فمثلاً من كتب علوم القرآن في هذا كتاب البقاعي رحمه الله، وكذلك كتاب الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز، فهذان كتابان فيهما ذكر مواضيع كل سورة.
وكذلك من الكتب الحديثة التي تعتني بهذا كتاب الأستاذ سيد قطب رحمه الله يبين في مقدمة كل سورة ماذا تتناول السورة من المواضيع.
وينبغي أن ننتبه إلى أن النظريات الحديثة تُزهد في الحفظ، وتُركز على الفهم، وتقول: المهم الفهم، وربما يُزهدون في الحفظ، فلا تستمع لهم؛ لأننا نعرف أن الأمر مكون من حفظ وفهم، وهذه طريقة علمائنا رحمهم الله تعالى، فإذا قالوا لك: لا داعي لإشغال الصغار والأولاد بحفظ هذه المقطوعات الطويلة، وهذا مُضر تربوياً، فاعلم أنهم هم المأفونة عقولهم، الذين عاقبة أمرهم إلى الزوال وشأنهم في سِفال، وهذه أفكار ضلال، ولكن هذه الطريقة التي سلكها العلماء وجربوها صاروا بها علماء.
ولذلك دعك من هذه النظريات الحديثة التي تقول: إن حشو أذهان الأطفال بالمعلومات مُضر، والمهم أن الولد يفهم. لا. كانوا يحفظونهم المتون ولو فهم الصغير بعد ذلك يستعين بحفظه.
عن الوليد بن مسلم قال: كنا إذا جالسنا الأوزاعي ، فرأى فينا حدثاً، قال: يا غلام! قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، وإن قال: لا. قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.
وكان يحيى بن يمان إذا جاءه غلام استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف، وأول الحديد، فإن قرأها حفظاً حدثه، وإلا لم يحدثه.
وقال أهل العلم: وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن الكريم: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].
فإذا رزقه الله تعالى حفظ كتابه فليحذر أن يشتغل عنه بالحديث أو غيره من العلوم اشتغالاً يؤدي إلى نسيانه، ثم الذي يتبع القرآن من العلوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه، فيجب على الناس طلبها، إذ كانت أس الشريعة وقاعدتها، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
وكذلك ينبغي انتقاء الأشياء، فإذا أراد أن يحفظ من السنة ينتقي الأحاديث الصحاح الجياد، وأحاديث الأحكام -مثلاً- من الأحاديث الصحاح الجياد، قال أبو حاتم الرازي : سمعت أبي يقول: اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وذاكر بأحسن ما تحفظ.
ويبتدئ بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة، قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: عجبت لمن ترك الأصول وطلب الفصول.
وبعض الطلاب الآن يريد أن يدخل في التفاصيل فقبل أن يحفظ قصيدة رجزية في مصطلح الحديث، يبدأ بحفظ تقريب التهذيب وأسماء الرجال ومراتبهم، وهذا خلل ولا شك.
إن أصح كتب الحديث الصحيحان ، وبعدهما سنن أبي داود وسنن النسائي ، وكذلك سنن الترمذي وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله.
وينبغي على طالب العلم أن يحفظ من موقوفات الصحابة وأقوالهم؛ لأنها في لزوم العمل بها وتقديمها على القياس ملحقة بالسنن، والموقوفات على التابعين، فيعلم أقوال أهل العلم ولا يشذ عنهم، ويحفظ من أقوال المفسرين ما يلزم في معرفة معاني الآيات، ويحفظ من مغازي وسير النبي عليه الصلاة والسلام في السيرة، ويحفظ كذلك بعد ذلك أشياء ومنها الشعر والحكم والأمثال.
هذه طريقة العلماء، لكن نحن الآن إذا قلنا أن الغالب عدم التفرغ، فماذا يفعل الإنسان؟ لو قلنا له: اذهب واحفظ القرآن ثم تعال، ما تسمع منا ولا مسألة فقهية حتى تحفظ القرآن!! الآن هذا لا يُناسب، فينبغي على الطالب في هذا الزمان أن يُقدم كتاب الله في الحفظ، ويحفظ أحاديث، ويحفظ فتاوى العلماء؛ لكي ينقلها إلى الناس ويستفيد منها هو.
فنقول: صحيح أن هذه الزمان تضاءلت فيه الهمم، وقلّت الأوقات، وكثرت الشواغل والصوارف، وصحيح أن برنامجاً مثل هذا البرنامج الذي يذكره بعض العلماء في حفظ الأشياء لا يكون متيسراً، لكن نحن نُسدد ونقارب، ولا نقول للشخص: هذه هي الصورة المثالية ولابد أن تفعلها، ونحن نعلم أنه لا يستطيع أن يفعل، وأنه يحتاج لحفظ القرآن ربما خمس عشرة سنة، لا نعلمه مسألة فقهية واحدة في خلال هذه السنوات، هذا غير صحيح.
ولذلك عندما تسمع الآن أخبار هؤلاء هات مثلهم من الغربيين، إذا صار عندهم هذا فهو ندرة، خزنوا كل شيء في الكمبيوترات وصارت عقولهم خاوية، وإذا توقف الكمبيوتر لا يستفاد لا منه ولا من جهازه، ولذلك نقول: صحيح أننا نستفيد من وسائل حفظ المعلومات، لكن إلغاء الحفظ شيء مضر جداً، ومن أسوأ الأشياء إلغاء الحفظ بالزعم أن هناك طرق تخزين حديثة، وماذا ينفعك الكمبيوتر وأنت بين الصفا والمروة تريد أن تستذكر شيئاً من الأذكار والأدعية، أو إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة، وتريد أن تستذكر الحكم فيها، أين جهازك في الصلاة؟!
فإذاً: نرجع ونقول: أولاً وأخيراً الحفظ الحفظ.
هذا هو التفرغ وجمع العقل والهم، والهم: هو الحفظ، وقال أبو هريرة: ( إنكم تقولون إن
هذا أبو هريرة رضي الله عنه، ومع ذلك ما حدث بكل ما حفظ، وهو أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، فإنه الذي قال: [حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم] ولعل من ذلك حديث: (إن من أشراط الساعة إمارة الصبيان).
ولذلك كان أبو هريرة يقول: [اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان] ولذلك لما تولى الصبي في عام ستين للهجرة من الأمويين، الله عز وجل قبض أبا هريرة قبلها بسنة، فمات سنة تسع وخمسين للهجرة على قول.
كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا -هذا كلام حاشد بن إسماعيل - إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب -يأتي للحلقة ولا يكتب شيئاً- حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوماً بعد ستة عشر يوماً مضت: إنكما قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه -نصحح دفاترنا على حفظ البخاري - خمسة وأربعون يوماً جلس مع الشيخ، هم يكتبون وهو لا يكتب، إلى أن قالوا له: أنت تلهو وتلعب، فلتكتب مثلنا وإلا فارحل!! قال: اسمعوا.. فسرد علينا خمسة عشر ألف حديث من حفظه، فصرنا نصحح كراريسنا على حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وقدم البخاري إلى بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، ركبوا متن هذا على سند هذا، وعملوا لخبطة، ودفعوا إلى كل إنسان منهم عشرة أحاديث، وكانوا عشرة أشخاص، فصار المجموع مائة حديث، ثم جلس البخاري رحمه الله في المجلس وقد جاء الناس وأهل العلم وجلسوا، يأتي واحد يقول: يا أبا عبد الله ! إني سائلك عن أحاديث، قال: سل، ويعطيه الأولَ المغلوطَ، يقول البخاري : لا أعرفه، الثاني، يقول البخاري : لا أعرفه، الثالث، العاشر، يقول البخاري : لا أعرفه، يأتي الثاني يقول: سائلك عن أحاديث، فيذكر الأول والثاني فيعرض العشرة التي عنده، والبخاري يقول: كذلك هذا، يقول: لا أعرفه، والثالث والرابع والخامس والعاشر، عرضوا عليه مائة حديث مغلوطة، كل ذلك يقول: لا أعرفه.
أما أهل الغفلة؛ الناس الذين لا يعلمون من هو البخاري، كانوا يقولون: هذه سمعةٌ، جلسنا فما رأينا منه شيئاً، كله: لا أعرفه.. لا أعرفه، وأما أهل العلم بـالبخاري ، قالوا: ما سكت إلا لشيء!! فلما انتهوا، قال: انتهيتم؟ قالوا: نعم، قال: أما أنت فقد قلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، وقلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، فصحح له أحاديثه العشرة كلها، ثم استلم الثاني وصحح له أحاديثه العشرة كلها، إلى أن أكمل مائة حديث.
قال ابن حجر رحمه الله في كلامه: ليس العجب أن يحفظ البخاري الصحيح، ولكن العجب أن يحفظ البخاري الخطأ، أي: يقول: أنت قلت: كذا، والصحيح كذا، وهو الآن قاله لأول مرة! وحِفْظُ أشياء مغلوطة ليس كحفظ الصحيح الذي سمعه مراراً وتكراراً! فسبحان الذي أعطاه هذه الموهبة!!
قال البخاري : تذكرت أصحاب أنس ، فحضرني في ساعة ثلاثمائة. حضره هذا العدد فقط وهو يتذكر: من هم تلاميذ أنس ؟ ثلاثمائة واحد في الذاكرة. قال أبو الأزهر : كان بـسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل البخاري ، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق ، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين ، فما تعلقوا منه بسقطةٍ لا في إسناد ولا في متن.
وقال محمد بن خميرويه : سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، أي: لكي ينبه الأمة على الأحاديث الصحيحة، ويفلي الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
فالرقم هذا قد يبدو للبعض مبالغاً فيه، لكن قال الذهبي رحمه الله: ما على وجه الأرض من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام قرابة عشرة آلاف حديث صحيح، فإن قال البخاري : أحفظ مائة ألف حديث صحيح، فإنه يقصد الطرق والشواهد والمتابعات والمقاطيع، وغير ذلك، الطرق بأنواعها وأصنافها.
وقال أبو إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : أعرف مكان مائة ألف حديث كأني انظر إليها، وأحفظ منها سبعين ألف حديث من ظهر قلب صحيحة، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة، فقيل: ما معنى المزورة تحفظها؟ قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة، فليته منها فلياً.
وعن الشعبي قال: لا أروي شيئاً أقل من الشعر -أقل محفوظاتي شعر- ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد. هذا أقل المحفوظات، لو جلس يسرده شهراً فإنه يأخذ وقتاً كثيراً بدون أي بيت معاد.
وسُئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة الرازي يحفظ مائتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال: لا. وقال أبو زرعة الرازي : أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان (قل هو الله أحد) وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.
هذا حال طائفة من جهابذة هذه الأمة وحفاظها، فأين لهؤلاء الكفرة والذين يدعون الحضارة والعلم مثل هؤلاء؟!
وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر