أما بعد:
فأحمد الله الذي لا إله إلا هو، أحمد الله الذي برأ الخليقة، وأشهد أهل العلم على خير حقيقة، فقال سبحانه وتعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد الأنبياء والمرسلين القائل: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو صاحب السنة الذي قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
وبعد:
أيها الإخوة! فإن أشرف ما صرفت فيه الأوقات طلب العلم، ذلك أن العلم الشرعي يدل على الله سبحانه وتعالى، ويقود إلى معرفته وخشيته، والعلم بشريعته، ولأجل ذلك كان أفضل الناس بعد الأنبياء هم العلماء، وهم ورثة الأنبياء، والعلم مراتب، وطلاب العلم لهم من هذا الشرف نصيب ولا شك، ولأجل هذا فإن الحث على طلب العلم أمر مهم، وهذا العلم بحر غزير، ومن أجل ذلك كان لابد من معرفة القواعد التي تيسر لطالب العلم الطلب، وتهديه إلى الطريقة الصحيحة والمنهج السوي، إذا إن الكثيرين يتحمسون لطلب العلم، ولكنهم قد لا يعرفون المنهج الصحيح في طلبه.
وقد سبق أن تكلمنا في محاضرة بعنوان: (كيف نتحمس لطلب العلم؟) عن مسألة الدوافع والحماس والحوافز، ووعدنا بأن نتكلم في محاضرة أخرى عن المنهجية في طلب العلم، وهاهي ذي هذه المحاضرة بعنوان: (طالب العلم والمنهج) أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجعلنا وإياكم على السنة هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
ليس كل مريد للحق يصيبه، فكم من أناس أرادوا الحق فلم يصيبوه، والكلام في مسألة المنهجية لا تصلح لمثلي؛ لأن الذي يريد أن يتكلم في المنهج لابد أن يكون من أهل العلم الراسخين فيه، ولكني استعنت بالله سبحانه وتعالى، ولجأت إلى كتب أهل العلم لأنقل منها كثيراً من القواعد التي تحدد المنهج في الطلب، فرجعت في هذه المحاضرة إلى كلام العلماء المتقدمين، مثل كلام الإمام أحمد رحمه الله وابن رجب والذهبي وابن مفلح وابن القيم وابن الجوزي وغيرهم من أصحاب الكتب المصنفة في هذا الموضوع، مثل الخطيب البغدادي رحمه الله.
ولجأت إلى بعض أهل العلم الموجودين الآن كالشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من العلماء وطلاب العلم الكبار؛ لأجل استخراج الضوابط والقواعد في هذا المنهج، فما أصبت فمن الله، وما أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العروة الوثقى المتمسكين بالسنة والحريصين على طلب العلم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
قال ابن رجب رحمه الله في تعريف العلم الذي يطلب، في شرح حديث: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) قال: فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق لذلك؛ إن كان من الأمور العلمية -لأن كثيراً من الأحاديث تضمنت أموراً علمية اعتقادية، وليست أعمال جوارح- وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيع من الأوامر، واجتناب ما يُنهى عنه، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك.
ثم قال رحمه الله تعالى: أما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنة الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها، وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك.
وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شُغل شاغل عن التشاغل بما أُحدث من الرأي مما لا ينتفع به:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خُلف فيه |
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه |
كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التأويل والتشبيه |
واعلموا -رحمكم الله- أن من العلم ما يكون من صلب العلم، ومنه ما يكون من ملح العلم وأطرافه، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، فالذي شرحناه قبل قليل هو من كلام ابن رجب رحمه الله هو طلب العلم، وأما ملح العلم فسيأتي أشياء منه، ولكن في العموم ليس هو من الأشياء الأساسية، وإنما أطراف وفوائد ونكت، فهذا يكون في الدرجة الثانية، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، كالسعي لمعرفة أحكام العبادات التي لم يخبر الشرع عن الحكمة فيها، مثل أن يقول الإنسان: أريد أن أبحث لماذا عدد ركعات صلاة الظهر أربع ركعات؟! وعدد ركعات صلاة المغرب ثلاث ركعات؟! وعدد ركعات صلاة الفجر ركعتين؟! ما هي الحكمة؟!
أو لماذا اختص الصيام بالنهار دون الليل؟!
لماذا اختص الحج بالرمي والوقوف بـعرفة ومزدلفة ؟! وقد يزعم بعض الناس حكماً لا تكون من مقاصد الشارع أصلاً.
قال الشاطبي رحمه الله مضيفاً -أيضاً- في هذا التقسيم في الأشياء التي ليست من العلم، أو أن الإنشغال ببعض الملح يصيرها أشياء غير نافعة، فتفوت على الإنسان خيراً كثيراً، وأشياء من الأساسيات، فمما ضربه رحمه الله تعالى من الأمثلة جمع طرق للحديث التي لا داعي لها.
فحديث متواتر يأتي فيجمع طرقه لأي شيء وقد بين العلماء أنه متواتر وذكروا طرقه، كما قال حمزة الكناني : خرَّجتُ حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو مائتي طريق، فداخلني في ذلك الفرح، فنمت فرأيت في النوم يحيى بن معين ، فسألته عن هذا؟ ففكر ساعة ثم أجابني، وقال: أظن أنه يدخل تحت قول الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].
نحن لا نعتمد على الرؤى في العلم فهي ليست علماً، ولا يجوز الحكم على الأشياء من خلال الرؤى والمنامات، لكن الرؤى إذا وافقت الكتاب والسنة فيستأنس بها، فمن الأشياء التي ليست بعلم أصلاً، ما يراه الإنسان في الرؤى والمنامات، ولذلك الصوفية من ضلالهم أنهم يعتمدون على الرؤى والمنامات في إثبات العلم، يقولون: هذا علم أصيل، رأيت في المنام حدثني قلبي عن ربي، وهكذا.
ولذلك لما سألوا: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] ما هو سؤالهم؟
قالوا: لماذا يكون الهلال في أول الشهر خيطاً رفيعاً، ثم يمتلأ فيصير بدراً في منتصف الشهر، ثم يعود إلى حالته الأولى؟ فصرفهم الله عز وجل عن هذا الشيء الذي لا ينبني عليه عمل إلى الشيء الذي ينبني عليه عمل، فقال لهم: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] فأعرض عما لا يفيد عملاً للمكلف إلى شيء يفيد عملاً، فقال: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].
ولما سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟
هذا لا يفيد، والله عز وجل اختص بمعرفته، فبماذا أجاب عليه الصلاة والسلام؟ (ما أعددت لها؟).
ولما جاء صبيغ بن عسل يشوش ويسأل في مجالس العامة: ما هي المرسلات؟ ما هي السابحات؟ فأمسك به عمر فضربه حتى أدماه، ثم نفاه حتى تاب.
فكل مسألة لا ينبني عليها عمل ولا عقيدة، فتركها واجب: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) مثل الاشتغال بمعرفة الحروف المقطعة، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله: كل علم لا يفيد عملاً -سواء كان عمل قلب أو عمل جوارح- فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.
وقال الحسن بن محمد : سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن أحاديث غرائب؟ فقال: شيء غريب! أي شيء يرجى به؟! يطلب الرجل ما يزيد في أمر دينه، وقال: شر الحديث الغرائب التي لا يُعمل بها ولا يُعتمد عليها.
وقال النخعي : "كانوا يكرهون غريب الحديث".
وقال علي بن الحسين : "العلم ما تواطأت عليه الألسن". ما اشتهر بين العلماء، هذا هو العلم، أما أن تأتي بالغرائب والشواذ؛ فهذا خطأ في منهج طلب العلم.
ولذلك فإن بعض الشباب إذا أقبلوا على القراءة أحياناً، فقرءوا -مثلاً- في كتاب صحيح الجامع ، يجعلون قراءتهم فيه، ويقولون: نطلب العلم، فقد يمر بحديث منسوخ، أو حديث في متنه نظر، أو حديث خالف قواعد وأصول أخرى، فيعتمدونه، ولذلك يحصل عندهم من الأخطاء شيء كثير، ثم يجادلون به أهل العلم، فيضيعون الأوقات من أعمارهم وأعمار غيرهم.
وهل كل الناس يصلحون أن يكونوا طلبة علم؟
والحال التي نعيش فيها نحن اليوم، وتركيبة المجتمع، وهذه الوظائف الموجودة وغير ذلك، هل هي تمكن الناس فعلاً أن يكونوا طلبة علم؟
فهناك اختلافات في السنة والوظيفة والدراسة.. منهم من يدرس الطب والهندسة، ومنهم من يدرس الشريعة، وحتى في الذكاء والفطنة والرغبة والميول يتفاوتون، وفي التفرغ منهم من يكون عزباً دوامه قصير، أو جدوله قليل، ومنهم من يكون صاحب أسرة وأولاد وعمله طويل، وقد يعمل عملاً إضافياً، وقد يعمل بالليل والنهار، وهذه القيود من التفرغ والتخصص والميول والتفاوت في القدرات العقلية، لابد أن تلجئنا إلى شيء مهم جداً لابد أن نعترف به عند الخوض في هذه القضية، من الناس من هو عامل، ومنهم من هو مهندس، ومنهم من يشتغل بالدعوة إلى الله، ومنهم من هو منشغل بأمر نفسه.
وحتى البلاد تختلف، فمن البلاد من يكون فيها علماء، ومن البلاد ما لا يكون فيها علماء، ومن البلاد من فيها عالم في فن واحد، ومنها ما فيها عالم في عدة فنون، ومن البلاد ما يكون فيها جامعات شرعية إسلامية، ومن البلدان والقرى ما لا يكون فيها جامعات شرعية، ومن البلاد ما يكون فيها دروس في المساجد، ومن البلاد ما ليس فيها دروس في المساجد.
ولذلك لابد أن نقرر -وهذا الكلام مهم جداً- أن هناك فرقاً عظيماً بين المتفرغ لطلب العلم وغير المتفرغ، المتفرغ لطلب العلم الذي دراسته شرعية، وعنده أهلية واستعدادات، وبين الإنسان المنشغل الذي يدرس قضية أخرى، قد يدرس في الهندسة أو الطب، أو يدرس في علوم خارجة عن الشريعة متنوعة، لاشك أن هذا الرجل المنشغل بأشياء أخرى يصعب عليه أن يكون طالب علم.
نحن لا ننفي ولا نقول: لا يمكن للطبيب وللمهندس أن يكون طالب علم! لا، وهذا خطأ، والذين يقولون: أي طبيب أو مهندس يدخل في نقاشات علمية هذا متطفل، هؤلاء أناس مخطئون عندهم غلو في القضية.
نعم. إن غالب المهندسين والأطباء ليسوا طلبة علم، ولا يصلحون أن يكونوا طلبة علم بوضعهم الحالي، فطلب العلم يحتاج إلى جهد كبير، ووقت عظيم، ولا يمكن لإنسان يداوم من الساعة السابعة صباحاً إلى الرابعة عصراً أن ينجح في طلب العلم، ويكون طالب علم قوي، إلا ندرة من الناس عندهم استعدادات غير طبيعية، وهؤلاء الأشخاص ليسوا موضع البحث الآن.
لكن الذي نريد أن نقوله: إن الذي يظن أن هؤلاء العمال والأطباء والمهندسين يمكن أن يكونوا طلبة علم جيدين إنسان مخطئ، ومتفائل تفاؤلاً خاطئاً، والذي يظن أن الأطباء والمهندسين لا يمكن أن يخرج منهم طلبة علم جيدين، فهو مخطئ أيضاً لأن الناس طاقات.
ثم يجب أن نقرر أن الاتجاه ليكون الإٍنسان عالماً، هذا يكون لندرة من الناس الذين يكونون علماء.. من الذي تتوفر عنده الهمة والداعي والحافز والحفظ والتقوى والفطنة والذكاء وسعة البال، لكي يحفظ ويُقبل ويُفكر ويستنبط ويرجح، وفي النهاية الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرتبة؟ هم قلة من الناس، لكن هذا لا يمنع من المحاولة لمن وجد في نفسه الأهلية للطلب الجيد.
وإنما لابد أن نركز على قضية، وهي: أن فئات المسلمين مهما اختلفت، وأفراد المسلمين مهما اختلفوا، فلابد أن يكون عندهم حد أدنى، ولابد أن يعرفوا أشياء أساسية عن الإسلام، هذا دينهم الذي يدينون الله به، وهذه عباداتهم التي يعبدون الله بها، فلابد أن يكون عندهم علم عن الأساسيات.
وهذا الكلام مهم لبعض الناس الذين يشتتون أنفسهم في التخصصات الشرعية وغير الشرعية، فلا يحسنون في هذا ولا في هذا، لأن التخصص غير الشرعي يحتاج إلى متابعة، وتنمية مهارات، واطلاع، ويحتاج إلى معرفة ما جد فيه من قراءة الدوريات والأبحاث الجديدة، مثل أدوية جديدة، وطرق جديدة في الصناعة، فهل يستطيع أن يجمع بين هذه الأشياء وما استجد فيها، وبين العلوم الشرعية التي هي بحر زخار؟
لاشك أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا ندرة من الناس، وهذه قضية واقعية، وهذا الواقع يفرض نفسه، ويجب ألا يغيب عن بالنا.
إنما الفرق الذي سيظهر في الجدول في المنهج الذي سيسلكه المتفرغ وغير المتفرغ، المتخصص في التخصصات الشرعية الحريص، وبين غير المتخصص الذي لا يمكنه، الفرق سيكون في الاتجاه في درجة الطلب والآلات المستخدمة، وهنا سيكون هناك فرق كبير في هذا.
ولذلك نضيف أيضاً فنقول: أن طلب العلم ليس حكراً على أصحاب التخصصات الشرعية، فليس طلب العلم حكراً على أصحاب كليات الشريعة أو أصول الدين.. ونحو ذلك، وإنما هو مفتوح لكل من كان عنده أهلية طلب العلم بطريقه الصحيح ومنهجه السوي.
ونريد من وراء هذا الكلام أن نصل إلى أن العلم الشرعي ليس فوضى يتطفل عليه من شاء، فيأتي فلكي ويدخل في العلم الشرعي، ويرجح بين أقوال المفسرين، وهذا ما وجدناه عند كثيرٍ ممن اشتغلوا بقضية الإعجاز العلمي اشتغالاً فارغاً منحرفاً، وهم ما عندهم علم بلغة العرب، ولا بأساليب العرب، ولا بقواعد التفسير، ولا بكلام العلماء، ثم يدخلون في الآيات ويقولون: الراجح فيها كذا، هذا كشف العلم عنه الآن، فيا ويلهم! مما يريدون أن يوقعوا فيه الأمة، ويقعوا هم على رءوسهم.
فمجال العلم الشرعي مجال ضخم عميق، هذا دين من عند رب العالمين، لا هو فيزياء ولا كيمياء ولا طب ولا تجارب بشرية، هذا دين، والذي يريد أن يدخل في هذا الدين لابد أن يكون أهلاً للدخول.
ولذلك فإن العلم الشرعي ليس فوضى يدخل فيه كل من هب ودب، ويرجح بين الأقوال كل من هب ودب، ويستنبط من النصوص كل من هب ودب، هذه قضية ينبغي أن يؤكد عليها وأن تعرف، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
والذي لا يستطيع أن يكون طالب علم تجيد طبيعة عمله أو منطقته، أو قدراته وحفظه وفهمه، فهذا الإنسان نقول له: لا يمكن أن تترك الدين وتترك الطلب، لكن طلباً يناسب حالك، فمثلاً: يحضر المحاضرات العامة الإسلامية، والدروس التي تناسب مستواه إن وجدت، يقرأ في كتب الثقافة الإسلامية العامة، ويسأل أهل العلم ويحاول معرفة الدليل لكي يعبد الله على بصيرة، ويقلد العالم إذا كان عامياً، مذهب العالم مذهب مفتيه، ثم إن هذا الشخص لن يشتغل بعلوم الآلة.. لن يدرس المصطلح، ولا أصول الفقه، ولا اللغة، ولا قواعد التفسير، ولا علم البيان والبديع والبلاغة دراسة قوية، هذا غير المتخصص الذي لا يكون طالب علم على المنهج، هذا الشخص له وضع خاص ينبغي أن يعرف شأنه وحاله.
فهذا -مثلاً- إذا أراد أن يدرس الفقه لا مانع أن يدرس الفقه، ويقرأ في الفقه، لكن كيف يفعل؟
إنه مثلاً يتعلم العبادات؛ لأنه يحتاج إليها، لكنه لا يقرأ في أبواب القضاء والبينات، ومسائل الطلاق الفرعية، والمسائل والقواعد الفقهية، والدعاوى والإقرار والشهادة، هذه أبواب ليست له، هذه الأبواب لطلبة العلم المتخصصين والعلماء.
ولذلك فإن كثيراً من الذين لا يدركون حالهم ويعرفون قدرهم، يريدون ركوب السلم بالمقلوب، أو يريدون تحصيل الأشياء الكبيرة، وليس عندهم قدرة، فيتردون على رءوسهم، هذا الشخص يعرف أشياء عن العبادات من أجل أن يعبد الله، يعرف أشياء عن فقه الصلاة والزكاة والصيام والحج، لا مانع أن يتعلم من النحو شيئاً يقوم به لسانه، يدفع الجهل عن نفسه، يتعلم من دين الله ما يستطيع، لكن هذا الشخص لا يخطط له أن ينقل العلم إلى غيره، بمعنى أن يصبح معلم علم شرعي، يمكن أن ينقل فتوى لآخر، يقول: أنا سألت فلاناً من المشايخ، وقال لي كذا، وأنا أنقل الفتوى إليك.
لكن يتبوأ حلقة علمية يوماً من الأيام في مسجد من المساجد فهذا لا يُتوقع له ذلك، وكما قلنا: هذا لا يشتغل بعلم الآلة بالمصطلح والأصول والنحو.. ونحو ذلك.
وكما قلنا: نحن لا نطالب الجميع بأن يكونوا طلبة علم حقيقيين؛ لأن الأمة تحتاج إلى طاقات أخرى كثيرة، وطلب العلم الحقيقي لا يحصل إلا للشخص المتفرغ المجد، لا يحصل للذين يعطون للعلم فضول الأوقات، ليس الأطباء والمهندسون والموظفون في مجملهم يمكن أن يسلكوا طريق العلم القوي، ونحن لا نريد أن نخدع هؤلاء، ونقول لهم: بإمكانكم أن تكونوا علماء ابدءوا، لا فهذا من عدم النصيحة.
وإنما نقول له: يا أخي! هذا وضعك وظرفك، وهذه طاقاتك وقدراتك، ينبغي أن تسلك سبيلاً للتعرف فيه على دين الله، وتعرف أكبر ما يمكنك أن تعرفه، تعرف الأشياء التي لابد أن تعرفها من أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والصيام والحج إذا أردت أن تحج، والنكاح إذا أردت أن تنكح، والبيع إذا أردت أن تبيع.
والناس في نقص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن.. تتناقص البركة في كل شيء، ويتناقص الحفظ، ويتناقص العمق في الفهم، وتتناقص أشياء كثيرة: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الآن الذين يريدون أن يكونوا علماء أقوياء هم قلة وندرة من البشر.
وهذا العلم يقبض، ولابد أن نسعى في نشره وتحصيله، ونحن نعرف حقيقة أنفسنا وقدراتنا الذاتية، نحن نبين لهذا غير المتفرغ، نقول: أنت على خير إن شاء الله، وتمسك بالدين وربي نفسك عليه وأهلك وأولادك، وادعُ إلى الله على بصيرة، واطلب من العلم ما تستطيع طلبه، واسأل أهل العلم، وقلد العالم واستفته، واسمع الأشرطة، واقرأ بعض الكتب المبسطة، ولا بأس أن تقرأ بعض المتون البسيطة، لكن لا نكلفك بحفظ المتون، اقرأ متوناً بسيطة مع شروحاتها مثلاً، واقرأ بعض كتب التفسير، هذا شيء مطلوب منك، وبعض شروحات العقيدة المبسطة، وبعض كتب الحديث، واطلع على رياض الصالحين مثلاً، واقرأ في كتب الفتاوى للعلماء، وافهم فتاوى العلماء، وخذ رسائل وأبحاث صغيرة في مسائل متفرقة، في صفة الصلاة وكيفية الأضحية، أو بحثاً في صلاة الاستخارة وخذ حاشية لـكتاب التوحيد مبسطة، مثل حاشية الشيخ ابن القاسم مثلاً، اقرأ في الكتب المبسطة لا مانع، والأشياء التي تشكل عليك اسأل عنها.
والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، لما رأى تدني مستوى العلم عند الناس؛ لجأ إلى تبسيط كثير من العلوم، ووضع كتباً جيدة تصلح أن يقرأها العامة.
ونقول لهذا الشخص الطبيب أو المهندس غير المتفرغ لطلب العلم: اقرأ أبحاثاً في العقيدة، مثلاً سلسلة الشيخ عمر الأشقر، بعضها يصلح لأن يقرأ فيها، وخذ أشياء تتعلق بفقه الدعوة، ولابد أن تقرأ في السيرة والأخلاق لكي تتكامل الشخصية، وإذا وجدت دروساً احرص على حضورها، لكن لو كان هناك درس في أصول الفقه لا يصلح أن تحضره، إذا لم يكن عندك استعداد أو أهلية، يحضر درس في التفسير أو في السيرة أو في الفقه يحتاج إليه، نعم.
ونقول له: أنت إذا درست الفقه مثلاً، لا تحتاج أن تواصل بعد العبادات في المعاملات، وتذهب في الجنايات والشهادات، وأحكام العتق والمدبر ونحو ذلك من الأمور، التي لا تحتاج إليها أصلاً.
غير المتفرغ -كما قلنا- لن يتخصص في علوم الآلة.. في المصطلح والنحو والأصول وقواعد التفسير، لكن يحتاج أن يعرف اصطلاحات العلماء، ما هو الواجب والمكروه والمباح والمستحب والمحرم؟ ولا يشترط له أن يسير في الفقه على ترتيب منهجي يلتزم به بالضرورة، ولكن إذا احتاج أن ينكح سأل وقرأ في أحكام النكاح، وإذا احتاج أن يبيع سأل وقرأ في أحكام البيوع.. وهكذا، ينتهز الإجازات ويأخذ حضه من العزلة، توفر له الوقت يعكف على سماع أو قراءة؛ لأنه ليس طالب علم متفرغ، لابد أن نقدر المسألة حق قدرها.
موظف عنده ثمان ساعات عمل، وعمله لا علاقة له بالأمور الشرعية، كله لغة إنجليزية، أو أشياء تقنية، وتكنولوجيات، وأدوية، وغالب وجوده يمكن أن يكون مع أناس غير مسلمين، وتخصصه غير شرعي لا يمت للشريعة بصلة، وهو كذلك يقضي أنفس أوقات اليوم من الساعة السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً في هذا العمل.. في أعمال كهربائية، وأعمال هندسية، وأعمال طبية، وعقله وجسده يستنفذ في هذه الأشياء، والعلم ضخم يحتاج إلى تفرغ.. يحتاج إلى طاقات رهيبة ولذلك يصعب ولا يمكن.
وليس من الواقع أن نقول: نريد منك أن تكون طالب علم قوي، لكن الذي يريد أن يعد نفسه من البداية لأن يكون طالب علم في المستقبل، هب أنه تعذر عليك أن تكون طالب علم قوي، لكن تريد ذلك من ولدك، إذاً لابد من قواعد المنهج في طلب العلم أن تحسن البداية، وحسن البداية يقود إلى حسن النهاية.
والبداية في منهج طلب العلم، قال الإمام أحمد رحمه الله: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لابد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل المسلم من تعلم القرآن فاتحة الكتاب، وحفظ القرآن مستحب، وضبط جميع القرآن واجب على الكفاية؛ لأن الأمة لابد أن يوجد فيها أناس يُعلِّمون الأجيال القرآن قراءة صحيحة.
فإذاً لو كان عندك ولد صغير ترجو أن يكون له شأن في المستقبل، فلابد أن تشرع في تحفيظه القرآن، قال الميموني : سألت أبا عبد الله : أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه -نعم تعلم القرآن كله لولدك، لكن إذا عسر على الولد علمه منه، ابدأ بالأجزاء الصغيرة واليسيرة- ثم قال لي: إذا قرأ أولاًً تعود القراءة ثم لزمها، واستمرت معه قراءة القرآن فلا تغيب عنه، وطالب العلم أول ما يشتغل لاشك بحفظ كتاب الله، والذي يبدأ غير هذه البداية؛ فإنه منكوس.
أما ما ورد عن ابن المبارك رحمه الله، أنه قال: إن العلم يقدم على نفل القرآن. فمقصوده أن العلم الذي يتعين على صاحبه أن يعمله، يقدم على حفظ أجزاء من القرآن، فلو أن واحداً ليس بحافظ للقرآن، لكنه لا يعرف ما هي واجبات الصلاة، ولا أركان الصلاة، وجاءنا قال: أنا حفظت مثلاً جزء عم، هل أشرع في جزء تبارك أو أدرس أحكام الصلاة؟ نقول: ادرس أحكام الصلاة هذا علم يتعين عليك معرفته، يقدم على نفل القرآن، لكن إذا جئت من الأصل ومن الصغر فعليك البدء بحفظ القرآن، وهذا هو فعل العلماء، ما تقرأ في سيرة عالم من المشاهير إلا تجد في ترجمته: قرأ القرآن، وحفظه وهو ابن ثمان سنين أو عشر سنين أو اثنتي عشر سنة، قرأه على فلان، بدأ بما يشبه المدرسة، حلقة شيخ وأول شيء يحفظه القرآن، ويقرئه القرآن قراءة سليمة.
هناك فرق بين القراءة السليمة وبين الحفظ، هو يحفظ لكن مع الحفظ الإنسان لا يستطيع أن يحفظ القرآن كله بسرعة، فهو يحفظ ويقرأ قراءة سليمة، فلابد أن طالب العلم أو الولد في صغره يدرس في القرآن أمرين مهمين جداً: أولاً: يبدأ بحفظ القرآن.
ثانياً: يقرأ القرآن قراءة سليمة، كلمات مضبوطة ضبطاً صحيحاً، لابد من هذين الأمرين: الشروع في حفظ القرآن، وقراءة القرآن كله على شيخ قراءة سليمة.
وأما الذين يكسرون ويخبطون في القرآن، وينطقون بالآيات على غير ما أنزلها الله سبحانه وتعالى، فلاشك أن هؤلاء جهلوا جهلاً عظيماً، ثم يريدون بعد ذلك أن ينتقلوا بعد ذلك إلى التصحيح والتضعيف في الأحاديث هذا هراء.
أما بالنسبة لغير المتفرغ في هذه المسألة، فإن الأمر كما نقلنا عن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل هل طلب العلم فريضة؟ قال: نعم، لأمر دينك وما تحتاج إليه من أن ينبغي أن تعلمه، وقال: يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، ولا يفرط في ذلك، وقال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لابد له من طلبه، قلت: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه ونحو ذلك. وقال في طلب العلم الواجب: ما يقيم به دينه من الصلاة والزكاة وذكر شرائع الإسلام، فقال: ينبغي أن يتعلم ذلك.
إذاً: لو كان عندك ولد صغير ترجو أن يكون له شأن في المستقبل، فلابد أن تشرع في تحفيظه القرآن، قال الميموني: سألت أبا عبد الله : أيهما أحب إليك: أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: نعم. إلا أن يعسر فتعلمه منه.
ثم قال لي: إذا قرأ أولاًً تعود القراءة ثم لزمها، واستمرت معه قراءة القرآن فلا تغيب عنه.
وطالب العلم أول ما يشتغل -لاشك- بحفظ كتاب الله، والذي يبدأ غير هذه البداية؛ فإنه منكوس.
أما ما ورد عن ابن المبارك رحمه الله، أنه قال: إن العلم يقدم على نفل القرآن.
فمقصوده: أن العلم الذي يتعين على صاحبه أن يعمله، يقدم على حفظ أجزاء من القرآن، فلو أن إنساناً غير حافظ للقرآن، لكنه لا يعرف ما هي واجبات الصلاة، ولا أركان الصلاة، وجاءنا قال: أنا حفظت -مثلاً- جزء عم، هل أشرع في جزء تبارك أو أدرس أحكام الصلاة؟
نقول: ادرس أحكام الصلاة هذا علم يتعين عليك معرفته، يقدم على نفل القرآن، لكن إذا جئت من الأصل ومن الصغر فعليك البدء بحفظ القرآن، وهذا هو فعل العلماء، لا تقرأ في سيرة عالم من المشاهير إلا وتجد في ترجمته: قرأ القرآن وحفظه وهو ابن ثمان سنين أو عشر سنين أو اثنتي عشر سنة، قرأه على فلان..
هناك فرق بين القراءة السليمة وبين الحفظ.. يحفظ لكنه مع الحفظ لا يستطيع أن يحفظ القرآن كله بسرعة، فهو يحفظ ويقرأ قراءة سليمة، فلابد أن طالب العلم أو الولد في صغره يدرس في القرآن أمرين مهمين جداً:
أولاً: يبدأ بحفظ القرآن.
ثانياً: يقرأ القرآن قراءة سليمة، وينطق الكلمات والحروف منطقاً صحيحاً.
وأما الذين يُكسِّرون ويخبطون في القرآن، وينطقون الآيات على غير ما أنزلها الله سبحانه وتعالى، فلاشك أن هؤلاء جهلوا جهلاً عظيماً، ثم يريدون بعد ذلك أن ينتقلوا بعد ذلك إلى التصحيح والتضعيف في الأحاديث، وهذا هراء.
أما بالنسبة لغير المتفرغ في هذه المسألة، فإن الأمر -كما نقلنا- عن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل: هل طلب العلم فريضة؟
قال: نعم، لأمر دينك وما تحتاج إليه مما ينبغي أن تعلمه.
وقال: يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، ولا يفرط في ذلك.
وقال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لابد له من طلبه، قلت: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه ونحو ذلك.
وقال في طلب العلم الواجب: ما يقيم به دينه من الصلاة والزكاة وذكر شرائع الإسلام، فقال: ينبغي أن يتعلم ذلك.
والثاني: حسن السؤال.
والثالث: حسن الاستماع.
والرابع: حسن الحفظ.
والخامس: نشره عند أهله.
وقال الأصمعي : قال الخليل : حين أردت النحو أتيت الحلقة -حلقة العلم- فجلست سنة لا أتكلم، إنما أسمع، فلما كانت السنة الثانية نظرت، فلما كانت السنة الثالثة تدبرت، فلما كانت السنة الرابعة سألت وتكلمت.
هذه المنهجية المفقودة عند كثير من الشباب اليوم.
والسبب في التدرج وأهمية التدرج أن هذا العلم صعب، وهذا الدين متين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) فلابد في المنهجية في طلب العلم من التدرج، أما أن يهجم الإنسان على العلم هجوماً، يريد أخذه بجميع أطرافه فلا يمكن، وسيسقط ويفشل، والدليل: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق).
ولذلك فإن من القواعد: الأخذ قليلاً قليلاً، وهذه وصية من عالم لمتفقه، قال له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل، ولا تزد عليها شيئاً حتى يتفق لك شيء من العلم، فتعلم. هذا الرجل تعلم على هذه الطريقة ثلاثة مسائل في اليوم، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع.
وينبغي للمتفقه أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلاً قليلاً، حسب ما يحتمل حفظه، والناس يختلفون في الحفظ والاستيعاب يأخذ قليلاً قليلاً، فإن الله تعالى قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32].
إذاً.. لابد من التدرج، والأخذ قليلاً قليلاً.
والذين يتركون التدرج في طلب العلم هناك أسباب من أجلها يتركون التدرج، فمن ذلك:
1- محبة الاشتهار والأخذ.. هذا أخذ كثير.. هذا يجلس في ثلاث حلق، ويدرس عند أربعة مشايخ وهكذا.
2- الاشتغال بطلب العلم عند الكبر، مثلاً: رجل يطلب العلم وعمره متقدم، فتقول له: تعال نعلمك بدائيات العلم، ونبدأ معك من البداية بالعلم الشرعي، تراه يأنف ويقول: أنا أجلس مع الصغار والأطفال، تريد أن تعلمني مثلما يتعلم الأطفال! لا. أعطني من الذي فوق، لماذا تبدأ من الأسفل؟ فهذا يستنكف، فهذا من أسباب ترك التدرج، أنه لا يبدأ بالاهتمام بالعلم الشرعي إلا في سنٍ متأخرة.
3- الطوارق المزعجة، والهموم المشغلة، وتقسم الأفكار، فهذا مستعجل يريد أن ينتهي من الكتاب، يقول: خلص هذا الكتاب يا شيخ! نحن الآن لنا سنوات في هذا الكتاب، وأنت لم تنتقل من الأبواب الأولى فهذه آفات الاستعجال تمنع التدرج في طلب العلم.
وقال عن الأولويات أمام قصر العمر وكثرة العلم: فيبتدأ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً -لاحظ ما يقول: أريد أن أجمع تفسير الآيات من ابن كثير والبغوي والقرطبي وزاد المسير وتفسير المحيط وكتاب الشوكاني فتح القدير وأضواء البيان ، لا إنما يبدأ الإنسان عندما يبدأ في التفسير بتفسير مبسط، يأخذ على سبيل المثال تفسير السعدي ، وينهي تفسيراً متوسطاً كـتفسير ابن كثير.
قال: "لا يخفى عليه بذلك منه شيء". يعرف معاني كلام الله، يأتي على القرآن في تفسيرٍ متوسط لا يجمع الأقوال، فليست الآن قضية جمع أقوال، واشتغال بدقائق الأشياء التي في الآية، خذ لك تفسيراً متوسطاً على قراءة تضبطها، وأشياء من النحو وكتب السنة، ابتداءً بأصول الحديث، من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث بعد ذلك هذا، كمعرفة الضعفاء، والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتب العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب، ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه، كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاربه وزوجاته وما جرى له، ويأخذ فكرة عن السيرة، ثم يقبل على الفقه، فينظر في المذاهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مضانه، كتفسير آية وحديث ومعنى كلمة، ويتشاغل بأصول الفقه والفرائض، هذا المنهج في الجملة، لكن الأولويات في التفصيل تختلف..
وقال رحمه الله: ورأينا في هذا الزمان من اشتغل بالحديث جمعاً وتصحيحاً وغريباً وطرقاً، ولكنه مقصر في حفظ القرآن الكريم، وهذه الآفة انتشرت بين كثير ممن يريدون طلب العلم في هذا الزمان، فتراهم يتجهون على الحديث مباشرة، هات المصطلح.. تقريب التهذيب.. رجال الإسناد.. ابحث في تاريخ الوفيات، من تلاميذه ومن شيوخه؟! إذاً متصل، صحح وضعف وحقق ونشر كتباً، وهذا من أكبر الأخطاء، ولو سألته عن جزء عم، لا يجيده؛ لأن السبب هو إهمال حفظ كتاب الله.
قال أبو زرعة : كتب إلي أبو ثور، فقال: فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية وتسعون رجلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صح منه طرق يسيرة، فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم، ولو اتسع العمر كان استيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية الجودة، لكن العمر قصير.
وأما الاعتماد على الكتب، والذي يظن أنه سيكون طالب علم نجيب من الكتب، فهو مخطئ، صحيح أنه قد يحصل على علم، لكن لا يكون طالب علم بالمعنى الحقيقي على الكتب، وهذه قضية اضطرارية، ربما وجد في بلد لا يوجد فيها علماء ولا مشايخ، ماذا يفعل؟
هل يقول: مادام لا يوجد علماء لا أطلب علم؟
لا، اقرأ في الكتب الميسرة، أنت في أمريكا اتصل على عالم، قل له: يا شيخ! أنا أعيش في جزيرة كلها كفرة، ماذا أفعل في طلب العلم؟ وماذا تنصحني أن اقرأ؟ يعطيك بعض الكتب اقرأ فيها، يشكل عليك شيء تتصل وتسأل، هذا المتيسر بالنسبة لك، أما من يظن أنه سيكون طالب علم حقيقي بناءً على الكتب، فهذا بالتأكيد مخطئ، وهذا شيء قد بينه أهل العلم، فقال قائلهم:
يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهمٍ لإدراك العلوم |
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيَّرت عقل الفهيم |
إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم |
وتلتبس العلوم عليك حتى تصير أضل من تُومَ الحكيم |
والعلماء كانوا يوصون بالأخذ عن أهل السنة ، وترك أهل الرفض وأهل الاعتزال ، وأهل الكلام والمتفلسفين، أو أخذ العلم عن الصحف، خذ العلم عن عالم تلقاه.. عن مشايخ.. ثني الركب.. تأدب بالأدب، لكن كما قلنا ونعيد: هذا الآن مع فشو الجهل في العالم الإسلامي فضلاً عن غيره، قد لا يتيسر وجود علماء، قد نسافر نعم، لكن كثيراً من الشباب لا يستطيعون السفر بسبب ارتباطهم بدراسة أو بوظيفة، إذاً: يستغل الإجازات.. قد يأتي العالم إلى المنطقة فيلقي دروساً، قد يكون هناك طالب علم، الأمثل فالأمثل، طويلب علم، أقران تدرس معهم وتقرأ قراءة جماعية، أما أن تعتزل وتغلق على نفسك لوحدك، فهذا يؤدي إلى أخطار في الفهم.
أيها الإخوة! نحن نعيش في حالة فوضى في كل شيء، فمن ضمن التأخر والتقهقر الذي ابتلينا به: التقهقر والتأخر في العلم، منذ زمن كانت البلد مثلاً فيها حلق علم، هذه حلق للمبتدئين، وهذه حلق للمتوسطين، وهذه حلق للمتقدمين، وهذا الشيخ متخصص في المبتدئين يعلمهم الأشياء البدائية، ينتقلون إلى شيخ آخر -مثلاً- إذا صاروا في مرحلة التوسط، ثم إلى شيخ آخر في المرحلة المتقدمة، أو نفس الشيخ والعالم يكون عنده حلقة للمبتدئين، وحلقة للمتوسطين، وحلقة للمتقدمين، كان هناك تكامل في البلد نفسها، الآن على أحسن الأحوال قد يوجد في بعض البلدان أو الأماكن والمدن حلق منتشرة كثيرة، لكن ليس هناك حلق متخصصة تخرج مبتدئين إلى حلقة بعدها للمتوسطين.. إلى حلقة بعدها للمتقدمين مع الأسف! فلابد أن يسعى إلى إيجاد هذا، وهذا من مسئوليات أهل الاختصاص من القائمين على أمور الدعوة والعلم، والجهات المسئولة عن نشر العلم، لابد أن توجد حلق للمبتدئين، وحلق للمتوسطين، وحلق للمتقدمين.
أما أن الشباب يظهرون هكذا، يأخذون قائمة حلقة المشايخ، أين نذهب اليوم؟ شرح صحيح البخاري ، أين نذهب اليوم؟ تفسير.
أين نذهب اليوم؟ نحو.. فرائض! من أولها هكذا يشتغلون، وهذا يدمر عليهم أشياء كثيرة، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله كان له حلق للمبتدئين والمتقدمين، كان إذا رأى طالباً جاء من حلقة المبتدئين وحضر في موعد حلقة المتقدمين، فأول ما يراه يطرده، لأن وجوده هنا يضره، وذلك:
أولاً: أنه لا يستطيع أن يفهم.
ثانياً: قد يتباهى، ويقول: أنا حضرت مع المستوى الممتاز، وهذا يضر إخلاصه وقلبه، فلذلك يجب القضاء على الفوضويات وترتيب الدروس بناءً على المستويات، لابد أن تكون هناك منهجية في الطلب، وإحياء سنة المتقدمين.
فبعض الناس يريدون أن يُسيروا المشايخ ويفرضوا شيئاً معيناً، ولذلك على الشيخ ألا يرضخ لهم، وأن يمتحنهم ويسألهم ويعرف مستواهم، ثم يقرر عليهم كتاباً مناسباً لهم، ولا يسير على هوى الطلاب، وإذا جاء في الفقه للمبتدئين يدرسهم مذهب واحد مع دليله، يمكن أن يذكر قول آخر إذا كان هناك قولان قويان -مثلاً- لا يستطيع الترجيح بينهما، أما أن يعطي الطلاب على هواهم، يقولون: هات لنا الأقوال، فيعطيهم الأقوال، فهذا ليس بصحيح.
ومن الموضات المنتشرة الآن، وهذا قد يكون مدرك في أماكن غير أماكن.. في أماكن فيها كليات شرعية، وفي أماكن ليس فيها كليات شرعية، بعض الناس لا يحسوا بها لكنها موجودة، من الموضات الآن البحث عن الغرائب، ويقولون: العالم النحرير هو الذي يأتينا بشيء جديد.
ولذلك بعض الشيوخ أو بعض المدرسين الدكاترة في الكليات الشرعية، يضطرون للبحث عن الغرائب حتى يجاروا هذا التوجه، وهذا خطأ، ويقولون: نحن لا نريد أن نسقط من أعين الطلاب، ولا يتركونا الطلاب، ويقول: أنا أعرف يقيناً أنهم لا يفهمون ما أقول لهم.
وبعض الطلاب يجد غرائب فيذكرها لزملائه، ويذهب يجادل بها الشيوخ، هذا الأشياء الغريبة ديدن عند بعض الناس، لذته وأمنيته أن يعثر على شيء غريب، ثم يأتي ينشره بين أقرانه، يقول: قرأت كذا، وسمعت كذا، أو أنه يجادل به العلماء، ونحن نذكر تحذيره عليه الصلاة والسلام الذي حذَّر فيه من الذي يتعلم العلم ليجاري به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، هذا يكبه الله على وجه في النار.
وكذلك من التنبيهات: أن بعضهم قد ينصرف عن الشيخ لبطأه وتركيزه، ويقول: ذهبنا إلى المنطقة الفلانية جلسنا عند الشيخ.
يا أخي! الشيخ بطيء، فتركنا الشيخ، نأخذ أشرطة الشيخ ونسمعها كلها في ليالٍ وننهي المنهج، لابد من ثني الركب عند المشايخ، ولزوم حلق العلماء؛ لأن فيها أدب ومعرفة، وكما قلنا سابقاً: كان هناك آلاف يجلسون عند الإمام أحمد ، قليل منهم يتعلمون العلم، والبقية يتعلمون الأدب، الجلسة مع الشيخ وفي حلقة العالم فيها تعليم أدب، ومع الأسف! نحن نعاني من ندرة العلماء، في منطقة ما فيها عالم واحد مع الأسف، ومع ذلك نحن نستعين بالله، والأمثل فالأمثل، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
أنت قد تترك المغمور وهو أسهل وأقرب، وقد يكون أكثر فائدة لك لأنه أفرغ، تستطيع أن تأخذ راحتك معه في النقاش، وتذهب إلى حلقة فلان فقط لأجل أن يقال: أنا من تلاميذ فلان، أنا درست على فلان، ولذلك تجد هؤلاء أصحاب الهوى لا يتركون فرصة صغيرة بمناسبة أو بغير مناسبة، بل يقحمون القضية إقحاماً في أي نقاش من النقاشات، يصل إلى فرصة يقول: حدثني شيخي فلان، قال شيخي فلان، درست عند شيخي فلان، مع أن ما فيها مناسبة، ولا فيها ارتباط في النقاش والحديث، لكن يقحمها إقحاماً، ليقول: جلست عند فلان، وبعض هؤلاء أصحاب هوى والعياذ بالله، يجلسون عند الشيخ أسبوعاً أو عشرة أيام، ثم يرحلون في الأمصار، ويقول: درست عند الشيخ فلان وفلان وفلان، وهو جلس عند هذا أسبوعاً، وهذا في الصيف جلس عنده عشرة أيام، وهذا أخذ عنه سطرين أو صفحة في كتاب، وقال: شيوخي، إليك مسرد شيوخي مرتبة على الأحرف الهجائية.
أما المشارقة فإنهم يجمعون بين أكثر من علم في الوقت نفسه، مثلما حدّثوا عن النووي أنه كان يقرأ تسعة علوم في وقت واحد، أو اثنا عشر درساً في اليوم، في التفسير، والمصطلح، والأصول، والحديث، واللغة، والفرائض.. أنواع مختلفة من العلوم، فيكون الدرس الواحد فيه عدة علوم، هذه الطريقة قد تكون أشمل، لكن الطريقة الأولى أثبت على المدى البعيد.
وعموماً فإن المسألة تختلف باختلاف الهمم والطاقات والمواهب والأحوال والبلدان وطريقة الشيخ، فإن بعض النفوس تمل، لا يمكن أن تقول: اجلس سنتين إلى أن تنهي مثلاً متن في اللغة، أو متن في الأصول، أنا أجلس سنتين في الأصول، دائماً أصول.. يصاب بالملل، فالطريقة تعتمد على الأحوال، وتختلف باختلاف الأحوال، الناس فيهم الملول وفيهم الصبور، وهذا بالنسبة لقضية تنوع الفنون في الطلب في وقت واحد، ولكن هناك أولويات.
وعلوم الآلة لها مختصرات ومتون جمعها العلماء، فمثلاً: لو أخذت في اللغة العربية، ستجد مثلاً ملحة الإعراب ، أو الآجرومية هذه من أشهر الأشياء التي يبدأ بها في اللغة.
وإذا جئت إلى الحديث ستجد مثلاً نخبة الفكر أو البيقونية ، لو جئت إلى الأصول ستجد مثلاً متن الورقات وهناك بعض الكتب جمعت هذه المتون، وطبع بعضها حديثاً، وقد جمع السيوطي رحمه الله متوناً كثيرة في كتاب النُقاية ، وشرحه في كتاب الوقاية لقراء النُقاية ، لكن هذا مطبوع على هامش كتاب مفتاح العلوم للسكاكي ، والعقيدة فيها أيضاً أشياء في البداية.
في بعض البلدان مثل اليمن متونهم في الآلة تختلف عن الجزيرة والمغرب ، فإذا أخذت حلقة من حلق العلم الموجودة عند العلماء في هذه الجزيرة مثلاً، لوجدت أنهم يهتمون في البداية بمختصر آداب المشي إلى الصلاة في الفقه، والأربعين النووية في الحديث، والأصول الثلاثة في العقيدة، ثم كتاب التوحيد ، وأيضاً في الفقه يبدءون بـعمدة الفقه لـابن قدامة ، وفي أحاديث الأحكام يبدءون بـعمدة الأحكام لـعبد الغني المقدسي ، وفي الفرائض يبدءون بـالرحبية ، وفي اللغة العربية يبدءون بـالآجرومية.. وهكذا، فهذا ملخص جدول لحلقة من حلق طلاب العلم المتخصصين في العلم في الجزيرة .
وإذا أتقن طالب العلم في البداية هذه الأشياء.. الأصول الثلاثة ، والأربعين النووية حفظاً وشرحاً، وكتاب التوحيد ، وعمدة الأحكام في أحاديث الأحكام، وعمدة الفقه في الفقه، والآجرومية في اللغة، والرحبية ، والورقات في أصول الفقه، فهذا قد أسس نفسه واستعد للانطلاقة الكبرى، هذا فعلاً طالب علم في بداية طريقه التي يشقها بثبات، ويسير فيها بقوة.
خذ من كل شيء شيئاً: أساسيات كل علم وفن، أي: إذا وجدت نفسك فيه متمكناً، أو عندك فيه رغبة، ومن شيء كل شيء ثم تخصص، وهذه من أعظم القواعد في المنهج، تأخذ أساسيات كل فن، ثم الفن الذي تجد نفسك فيه قادراً تبحر فيه.
بعض الناس يتخصصون في فن وينسون كل شيء، مثلاً: الآن بعض الناس يقول لك: والله أنا لا أفهم إلا في هذا الشيء، لا تسألني عن شيء آخر، وهذا موجود، وبعضهم إذا تعلم شيئاً وتخصص في العلوم الدنيوية ينسى الأشياء الأولى، لا يفهم الآن إلا في الشيء الذي تخصص فيه، وهذا خطأ، ولم تكن هذه طريقة علمائنا أنهم يتخصصون في شيء معين، أو ليس عنده فيه أساسيات في غيره، أو أنه يتخصص في شيء وينسى الأساسيات، هذه من القضايا التي طرأت الآن على طريقة التعليم، وهذه طريقة خاطئة موجودة الآن حتى في التخصصات الدنيوية، فلو أن شخصاً متبحراً في جزئية معينة، ولا يفهم أي شيء من الأشياء الأخرى أبداً، يكون أضل من بعيره فيها.
وقال ابن الجوزي معبراً عن حال هؤلاء الأشخاص الذين يتخصصون في فروعٍ معينة، وينسون الأشياء ولا يأخذون بالبدائيات والأساسيات في العلوم الأخرى، قال: ولقد أدركنا في زماننا من قرأ من اللغة أحمالاً -اللغة العربية ما شاء الله- فحضر بعض المتفقهة -حضر عنده طالب علم صغير- فسأله عن الحديث المعروف (لو طعنت في فخذها أجزأك) فقال اللغوي: هذا محمول على المبالغة، فقال له الصبي: أليس هذا في ذكاة غير المقدور عليه؟ ففكر الشيخ ساعة، ثم قال: صدقت. أي: لو تردت شاة في بئر وما ماتت، وأنت لا تستطيع أن تذبحها فماذا تفعل؟ (لو طعنت في فخذها أجزأك) الآن نحن لا نبحث المسألة الفقهية والحكم والأشياء الراجحة الآن، لكن نتكلم عن القصة: (لو طعنت في فخذها أجزأك) أي: في تذكية الشيء الذي لا يُقدر على تذكيته، ذكاة غير المقدور عليه، لا يمكن أن تمسكه لتذبحه، شرد منك، فأنت تصيبه وترميه، (لو طعنت في فخذها أجزأك). فعلم الصبي ما لم يعلمه الشيخ، فالشيخ لا يفهم إلا في اللغة.
وأدركنا من قرأ الحديث ستين سنة -تخصص فقط في الحديث- فدخل عليه رجل فسأله عن مسألة في الصلاة؟ فلم يدرِ ما يقول، وأدركنا من برع في علم التفسير، فقال له رجل يوماً: إني أدركت ركعة من صلاة الجمعة فأضفت إليها أخرى فماذا تقول؟ فسبه ولامه على تخلفه ولم يدر ما الجواب.
وأدركنا من برع في علوم القراءات، فكان إذا سئل عن مسألة يقول: عليك بفلان، اسأل الشيخ فلان قالوا: هذه كلها محن قبيحة، فلما رأيت في الصبا -يقول ابن الجوزي - أن كل من برع من أولئك في فن ما استقصاه، وإنما عوقته فضوله -أي: إذا برع رجل في فن، ذهب يأخذ الفضول والأطراف ويترك الأشياء الأخرى، أي: انشغل عن المهم وما بلغ الغاية- رأيت أن آخذ المهم من كل علم هو المهم. هذه عبارة جامعة.
فإن من أقبح الأشياء أن يطلب المحدث علو الإسناد، وحسن التصانيف، فيقرأ المصنفات الكبار، ويطلب الأسانيد العوالي، ويكتب فيذهب العُمر ويرجع كما كان ليس عنده إلا أجزاء مصححة لا يعلم ما فيها، وقد سهر وتعب. وإذا سألته عن علمه؟ قال متندراً بحال هؤلاء:
علمي يا خليلي في سفط في كراريس جياد أحكمت |
وبــخط أي خط أي خــــــط |
وإذا سألته عن مشكلٍ حك لحييه جميعاً وامتخط |
وقد حدثني بعض طلاب العلم الكبار الذين تناقشت معهم في قضايا هذا البحث، قال: أنا الآن جاء عليّ فترة كنت أحفظ البيقونية ونظم النخبة -نظم نخبة الفكر للصنعاني - والألفية -هذه كلها موضوعة في المصطلح- في وقت واحد، يقول: وأنا الآن إذا جاءتني مسألة في المصطلح، وأريد أن آتي بالشاهد، لا أدري أذهب إلى هذا أو إلى هذا، ثم إني إذا أتيت بشيء قد أحتار في أي مكان هذا؟ أهو في هذه المنظومة، أو في هذه أو في هذه.
فإذاً: ينبغي ألاّ يقرأ أكثر من كتاب في فن واحد وفي وقت واحد.
وعدم التوسع في البداية يساعد على ضبط المعلومات، وكثيراً من الطلاب إذا جاءوا يحضرون موضوعاً حضره من عدة كتب، فيحدث له تشتت.
والضياع والتشتت في أنواع العلوم مما يحذر منه أيضاً، قال أبو حيان النحوي المشهور: أما صاحب تناتيف، وينظر في علوم كثيرة، فهذا لا يمكن أن يبلغ الإمامة في شيء منها، وقد قال العقلاء: ازدحام العلوم مضلة للفهوم.
ولذلك تجد من بلغ الإمامة من المتقدمين في علمٍ من العلوم لا يكاد ينسب إلى غيره، فيقال: فلان النحوي، عنده أساسيات في غيره، لكن برع في هذا، فلان المحدث، فلان الفقيه، لو تسأل مثلاً: في أي شيء برع ابن قدامة؟ مثلاً: في الفقه، وغيره برع في الحديث.. وهكذا.
فبعض الذين يريدون أن يهجموا على الفنون دفعة واحدة وهو لا يتقن أساسيات كل فن، وإنما يهجم عليها دفعة واحدة ويقول: أحضر التفسير من خمسة مراجع، وأحضر الفقه من سبعة مراجع، هذا إنسان مسكين؛ لأن الأمور ستضطرب عنده، وتختلط عليه.
وإرشاد آخر أيضاً: يستحسن أن يكون هناك مرجع معين في الموضوع المعين عندك محتفظ به دائماً تعلق عليه وتزيد عليه، فمثلاً: لو قلت في الفقه: أختار منار السبيل وشرحه على عالم، وإذا ما وجدت مثلاً فهناك أشرطة للعلماء في شرحه، مثل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله له شرح في منار السبيل وخذ مثلاً: زاد المستقنع ، مع شرحه الشيخ ابن عثيمين، وغيره له شروحات كثيرة ولكن من باب التمثيل، فتأخذ كتاباً معيناً، وتأخذ عليه شرحاً، وفي المستقبل إذا حصلت إضافات، فإنك تضيفها على نفس الكتاب، تأخذ كتاباً معيناً في اللغة تكون الإضافات على هذه النسخة التي عندك، ولا تبعها بمئات الألوف، فتكون هذه عندك مرجعاً، مثلاً: كل مسألة في البيوع تفتح الكتاب تجد المتن والشرح وشرح الشيخ، وأشياء أنت قيدتها على مر الزمن.
قال: بذا وبذا، فأعدت عليه السؤال مراراً، كل ذلك يجيبني جواباً واحداً: بذا وبذا، فلابد من الجمع بين الأشياء الأساسية.
هذا نصف الموضوع، ولا نستطيع الزيادة لأن الوقت قد ضاق، ولابد لنا من درس آخر لإكمال هذا، فلعله يكون هناك درس آخر إن شاء الله بعنوان: (المنهجية في طلب العلم) نكمل فيها الكلام عن قضية المنهج في طلب العلم.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسداد في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر