أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات: إن من المعلوم بداهة عند كل مسلم ومسلمة أن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً، تعالى الله عن ذلك، إنما هي غاية واحدة، ومقصد أوحد، من أجله خُلق العباد، ألا وهو: تحقيق العبودية لله جل جلاله، فهو السيد المولى، فمن حقه أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
ومنذ أن خلق الله تبارك وتعالى أبانا آدم -وهو قد أخذ عليه العهد، قبل أن يخلقنا- أخذ عليه العهد بأن نعبده ونوحده، ولا نشرك به شيئاً، كما قال جل جلاله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172].
ومع هذا إلا أنه من كرمه جل جلاله، ومن عظيم فضله ومنِّه أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، زيادة في الحجة، وبلاغاً على العباد، وبشارة لمن أراد موعود الله والدار الآخرة.
ومع هذا كله فإن الطائعين قليل، وإن المنيبين إلى الله قليل، في مقابل عامة الناس ممن أغوتهم نفوسُهم، وأضلتهم عن سواء الصراط.
لقد كثر الاجتراء على حرمات الله عز وجل، وتساهل كثيرون في الرتوع في المعاصي، ومع تقدم إنسانِ هذا العصر مادياً وحضارياً تنوعت وسائل الإغواء والانحراف، واجتالت الشياطين أكثر الناس، فأغرقتهم في أوحال المعصية، وأردتهم في حفر الخطيئة، وزاد البُعد عن الله الواحد الأحد.
وفي المقابل فإنه سبحانه لم تنقطع نعمه، ولم تنتهِ فضائله، بل هي متتابعة تترى على عباده، ومع ذلك تساهل الكثيرون، ورتعوا في المعصية، واستخفوا بحق الله تبارك وتعالى، فاللهم حلمك وعفوك.
فيما من أطلق لنفسه العنان، ولم يرعَ لله تبارك وتعالى حقاً! إلى متى وأنت تقتات المعصية وتألفها؟! ألم يحن بعد وقت الرجوع إلى الله تبارك وتعالى؟! ألم يئن الوقت الذي تنطرح فيه بين يدي مولاك؟! أما آن لك أن تفيق من سكرة الذنب؟!
أيها السائر في طريق الهوى واللذة العابرة! رويداً .. رويداً ..! أتعرف مَن تعصي؟! أتعرف من تبارز بذنبك؟!
إنه الله الجبار الذي بيده ملكوت السماوات والأرض.
أيها المسرف على نفسه! كفاك .. كفاك ..! آن لك أن تضع عصا الترحال، وأن تذرف دموع الندم على ما فات وسلف من الأزمان الماضية، آن لك أن تبكي الدموع الغزار، وأن تذرفها على ما سلف من ذنوبك وخطاياك، نعم، آن لك أن تعترف بذنبك لربك، وأن تقول بلسان النادم الأواب:
دعني أنوح على نفسي وأندبُها وأقطع الدهر بالتذكارِ والحزنِ |
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني؟! |
دع عنك عذلي يا من كنت تعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني |
أنا الذي أُغْلِق الأبوابَ مجتهداً على المعاصي، وعين الله تنظرني |
يا زلةً كُتِبَت في غفلةِ ذَهَبـَت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني |
تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزنِ |
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديتُ في ذنبي ويسترني! |
إي والله يا عباد الله! ما أحلم الله عنا! كم عصيناه وسَتَرَنا؟! كم خالَفْنا أمرَه فما عاجَلَنا بعذابه؟! أظهر للناس الجميل، وأخفى عنهم القبيح من سرائرنا، فاللهم رحمة من عندك تكفر بها ما سلف من ذنوبنا وخطايانا.
أيها الإخوة والأخوات: إن هذه الكلمات دعوة لنا جميعاً بلا استثناء إلى الباب المفتوح .. إلى النهر العذب الزلال .. إلى الروضة الغنَّاء التي لا يذبل زهرها، ولا تذوي رياحينها وورودها .. إلى التوبة النصوح .. إلى التوبة من التقصير في الطاعة، ومن الوقوع في المعصية .. إلى التوبة إلى الله الكريم الجواد الرءوف الرحيم.
إن شأن التوبة -يا عباد الله!- شأن عظيم، إنها علامة صدق الإيمان، وقرب العبد من الله الواحد الديان، وليست التوبة كما يظن البعض خاصة بأهل المعاصي، ممن ظهر فجورهم، وبان فسقهم، بل هي عامة لنا جميعاً، كما قال الله جل جلاله في كتابه الكريم: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وجاء في صحيح مسلم من حديث الأغر المزني رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة)، هذا نبي الله صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم ويستغفره مائة مرة، فما بال غيره؟!
وسنقف وإياكم أيها الإخوة والأخوات في هذه المحاضرة بعض الوقفات حول هذا الموضوع المهم الذي كلنا بحاجة إليه، لعلنا أن نحيي بهذه الوقفات القلوب، ونقربها من الله علام الغيوب.
إن حصر ثمار التوبة أمر شاق، ويحتاج إلى وقت طويل، ولا أظن أن المقام سيتسع إلى ذكرها جميعاً؛ ولكن حسبنا أن نذكر بعضها، وكفى بِما سنذكره، فإنه مِمَّا يساعد، ومِمَّا يدفع العبد إلى أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى.
أرأيت أخي المسلم أكرم من ربك عز وجل؟! إنه إذا جئته تائباً منيباً فإنه يكفِّر ما سلف من سيئاتك، وأعظم من ذلك أنه جل جلاله يقلب تلك السيئات إلى حسنات، يقول الله جل جلاله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:68-70].
فيا أيها المذنبون -وكلنا كذلك!- ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟! ألا تحبون أن تغسلوا عنكم أدران الذنوب بماء التوبة الطهور؟!
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتَى به يوم القيامة، فيقال له: عملتَ يوم كذا وكذا) يُذَكَّر، يا عبدي! عملتَ ذنب كذا يوم كذا، فهل يستطيع أن ينكر العبد في ذلك المقام؟ كلا، إنه ليس بين يدي بشر من البشر، بل إنه بين يدي الله جل جلاله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يقول: (عملتَ يوم كذا وكذا، وعملتَ يوم كذا وكذا، فيقول العبد: نعم -لا يستطيع أن ينكر- وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تُعْرَض عليه) إذاً: الذي عُرِض عليه إنما هو صغار الذنوب، ولم تُعْرَض عليه الكبائر، بل أخفيت عنه (فيقال له بعد ذلك: فإن لك مكان كل سيئة حسنة) كرماً من الله جل جلاله، وعند ذلك يطمع العبد، وهذه طبيعة الإنسان، فيتذكر ذنوبه الكبار فيقول: (أي ربِّ! قد عملتُ أشياء لا أراها هاهنا، قال الراوي: فلقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتى بدت نواجذه).
وأورد المنذري في الترغيب والترهيب، والطبراني في المعجم بإسناد حسن، عن أبي طويل رضي الله عنه: (أنه أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت من عمل الذنوب كلها، ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها -يعني: لا صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها- فهل لذلك من توبة؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل أسلمتَ؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام -وهذه بشارة لكل تائب وتائبة- تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله خيرات كلهن، فقال هذا الصحابي: يا رسول الله! وغَدَراتي وفَجَراتي؟! قال: نعم، فقال: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! فما زال يكبر حتى توارى عن القوم).
وإن شئت أن ترى كرم الله جل جلاله، وفيض عطائه على التائبين، فلنقف سوياً مع قصة لصحابي وصحابية وقعا في معصية، وتابا منها، وهم بشر كغيرهم، يخطئون ويصيبون، لكن الفرق بينهم وبين كثير من المذنبين أن أولئك القوم سرعان ما يبادرون إلى التوبة، وسرعان ما يعودون إلى الله جل جلاله، وذاك هو مصداق قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
إنها قصة الصحابي الجليل ماعز، والصحابية الجليلة الغامدية رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.
ولا أحسب إلا أن الجميع يعلم تفاصيل هذه القصة وأحداثها، لكنها بحق قصة عجيبة، لا يمل من تكرارها، ولا يمل من إعادتها، فإن فيها من العبرة ما يهز الوجدان، ويرفع منسوب الإيمان في قلب كل من أراد الله والدار الآخرة.
جاء في صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: (جاء
لقد كان بإمكان هذا الصحابي الجليل حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم في أول مرة: (ارجع) كان بإمكانه أن يذهب، وأن يقول: ها قد أخبرتُ رسول الله، وقد برئت ذمتي، وانتهى شأني، لكنه رضي الله عنه كان في قلبه الإيمان بالله، والخوف من سطوته وعذابه، ثم ماذا؟! إنه جاء يطلب ماذا؟! لقد جاء يطلب التطهير من ذنبه، وهو يعلم ما هو التطهير الذي يريده، إنه القتل، وأي قتل؟! إنه رمي بالحجارة حتى الموت، وأمام الناس في مشهد يشهده كل من يعرفه، فيشاركون في رمي الحجارة حتى تزهق روحه، فالأمر صعب وشاق.
لكن مع هذا كله كان يلح ماعز رضي الله عنه وأرضاه في طلب ذلك، لِمَ كل هذا؟
لأجل أن ينجو من عذاب الله، إنه يعلم أن العقوبة في الدنيا وإن كانت قاسية، وإن كانت صعبة وأليمة؛ لكن ليست بأقسى ولا بأخزى من غمسة واحدة في نار جهنم، أعاذنا الله وإياكم منها، فكان شأنه أن يتحمل ويتصبر على ألم الدنيا، وعلى مصاب الدنيا، وعلى فضيحة الدنيا، ولكن كل ذلك في مقابل أن ينجو من عذاب الله تبارك وتعالى يوم القيامة.
وقبل هذا لما جاء هذا الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة وكرر عليه الطلب، ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم بد من أن يأمر به فيُرْجَم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، نعم، لقد رُجِمَ ماعز رضي الله عنه، (فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة
وأما صاحبته الغامدية فإن قصتها أعجب وأعجب، لقد عَلِمَت بالطريقة التي مات بها ماعز رضي الله عنه، فلم تستخفِ عن الناس، ولم تهرب منهم، بل لقد كان شأنها عجباً من العجب، فلنستمع إلى قصتها وشأنها.
جاء أيضاً في صحيح مسلم في قصة هذه المرأة: (أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول لله! إني زنيت فطهرني، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشاح عنها يميناً، فجاءته من عن يمينه، فقالت له ذلك، فأشاح عنها شمالاً، فجاءته من ناحية الشمال، فقال لها ذلك، يصد النبي صلى الله عليه وسلم وجهه عن هذه المرأة لعلها أن تذهب، لعلها أن تستر نفسها، ولكنها رضي الله عنها قالت له صلى الله عليه وسلم: لعلك أن تُرَددَني كما رَدَّدْتَ
فلله درها! ما أعظم إيمانها! وما أشد صبرها! وما أكبر يقينها بربها جل جلاله! (... أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فطمت صبيها، فجاءت به وفي يده كسرة من خبز تقول: يا نبي الله! ها قد فطمته، وقد أكل الطعام -وهذا دليلها؛ كسرة خبز في يد الصبي، إنها تريد أن تنجو من حرارة المعصية التي أكلت قلبها طوال هذه السنوات، وطوال هذه الأشهر- فدفع النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، وكان من بين من رجمها:
فأبشروا معاشر التائبين والتائبات، أبشروا برحمة الله وتكفيرٍ لخطاياكم ولذنوبكم، ولو كانت الذنوب ما كانت.
إن أسعد الناس هم التائبون والتائبات، إنهم قوم رقت قلوبهم، وخشعت لمولاهم؛ فأورثهم الله حلاوة وجدوها في نفوسهم، وهذه اللذة لا تكون إلا لمن أظهروا فقرهم لله، وانطرحوا بين يديه خاشعين باكين، وأنابوا إليه، لقد ذاقوا بذلك حلاوةً رَزَقَهُم الله إياها لا تحصل لأي أحد إلا لمن كان على مثل حالهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: القلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يُسَر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه.
وقال: إن في القلب فقراً وجوعاً وتفرقاً لا يَلُمُّ شعثَه إلا الله، ولا يسد خلته إلا عبادة الله ومحبته.
وما ذكره رحمه الله هو مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء في صحيح مسلم، من حديث العباس بن عبد المطلب : (ذاق حلاوة الإيمان مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً).
وانظروا -عباد الله!- إلى كلام ابن القيم وهو يتحدث عن شيخه شيخ الإسلام الذي سبق ذكر قوله آنفاً، فـشيخ الإسلام ابتلي كثيراً، وتعرض لكثير من المشقة، وكثير من العناء في حياته .. هُدِّد .. سُجِن .. طُرِد من بلاده .. كَثُر حاسدوه وشانئوه .. ومع ذلك كله هل كان تعيساً؟ هل كان شقياً؟ هل كان كثير الأحزان؟
اسمع واسمعي أيها الإخوة والأخوات، اسمعوا قول ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام.
يقول رحمه الله: كان شيخ الإسلام يقول في سجوده -وهو محبوس-: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وقال لي مرة -احفظوا هذه الكلمة العظيمة عباد الله، فإنها كلمة تكتب بماء الذهب-: المحبوس مَن حُبِس قلبُه عن ذكر ربه، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل القلعة -السجن- وصار داخل سورها، نظر إلى السور وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
ثم يقول ابن القيم: وعلم الله ما رأيتُ أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم، وأقواهم، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف -الكلام لـابن القيم وهو خارج السجن- يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقينا، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه!
أَوَيَفْرَح الله؟! نعم، إن ذلك من صفاته تبارك وتعالى، بل إن من صفاته أنه يضحك، جل شأنه، وقد روى البيهقي في سننه، والطبراني في معجمه، والإمام أحمد في مسنده بسند فيه مقال، عن أبي رزين رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ضحك ربنا من قنوط عبده وقرب غِيَرِه -يعني: تغير حاله- قلت: يا رسول الله! أَوَيَضْحَك الرب عز وجل؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقلت: لن نعدم خيراً من رب يضحك).
إذاً: الله جل جلاله يفرح بتوبة عباده، يفرح بتوبتهم وهو الغني عنهم، وهم الفقراء إليه، الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
الله غني عن عباده، ومع هذا يفرح بتوبة عبده وأمَتِه إذا تابا إليه، أي فرحة هذه؟
اسمع وصفاً ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور معروف، يبين كيف فرحة الله بتوبة عبده إذا تاب إليه:
جاء في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب إليه مِن أحدكم كان على راحلته -تأملوا المثال، رجل كان على راحلته- في صحراء دوية مَهْلَكَة، ففَلَتَت منه ناقتُه، وندت عنه، فذهب يبحث عنها -صعد الجبال، نزل الوديان، يبحث يميناً وشمالاً فلم ير لها أثراً- وعلى هذه الدابة طعامه وشرابه وكساؤه -أين هو؟ في صحراء ما بها أحد ينقذه ولا يساعده- فلما أيس من البحث وتعب جلس تحت ظل شجرة -ينتظر ماذا؟! ينتظر الإسعاف؟! ينتظر أحداً ينقذه؟! كلا، إنه جلس ينتظر الموت، لقد أيس من الحياة- فبينما هو كذلك إذا به يرفع رأسه، فيرى ناقته قد تعلق خطامها بالشجرة التي هي فوق رأسه، وعليها طعامه وشرابه وكساؤه -تأملوا عباد الله أي فرحة ستتملك قلب ذلك العبد حينما يكون حاله كهذه الحال، حياة جديدة، إنها فرحة عظيمة- فيقوم ويأخذ بخطام ناقته، ويقول فرحاً بهذه النعمة، ويرفع يديه إلى الله شاكراً لربه قائلاً له: اللهم أنت عبدي وأنا ربك) إن الفرح قد تملك قلبه، وأطاش لبه وصوابه، حتى نسي وغلط فقَلَبَ وقال: (أنت عبدي وأنا ربك).
إذاً: هي فرحة عظيمة، هذه فرحة الله جل جلاله، فهو يفرح بتوبتكَ، ويفرح بتوبتكِ -أيتها الأخت المسلمة!- أشد فرحاً من فرحة هذا الرجل بناقته التي عليها طعامه وشرابه وكساؤه.
إنه كرم الله وجوده، إنه فضل الله وعطاؤه، فلا مجال بعد ذلك لأحد أن يبتعد، أو أن يتردد عن القرب من الله جل جلاله، كيف والله يقول كما جاء في الحديث القدسي الذي جاء في صحيح البخاري من حديث أنس يقول الله العليم الكريم الغني عن عباده: (مَن تقرب مني شبراً تقربتُ منه ذراعاً، ومَن تقرب مني ذراعاً تقربتُ منه باعاً، ومَن أتاني يمشي أتيته هرولة -القائل هو الله يا عباد الله! الله! إذا اقتربتَ منه قليلاً اقتربَ منك أكثر من ذلك، بل ويعطيك أفضل العطايا- ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ...) الحب ممن؟ من الله جل جلاله، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] يقول ابن القيم رحمه الله: ليس العجب في قوله: (يحبونه)، إنما العجب في قوله: (يحبهم). فالذي يحب هو الله جل جلاله، قال الله: (... فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وماترددت في شيء -لاحظوا! مَن يقول هذا الكلام؟! يقوله الله- وما ترددتُ في شيء ترددي في نزع روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) هذا فضل الله، وهذا جود الله للتائبين والتائبات.
أيها الإخوة والأخوات: إن أمامنا يوماً لا مفر منه، ولا محيص عنه، وإن أمامنا موقفاً لا بد منه، إنه يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات، إنه يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين، يوم أهواله شديدة، وساعاته عصيبة، فليت شعري ما حالنا في مثل ذلك اليوم؟! بل ما حالنا في ذلك اليوم الوحيد الذي ليس مثله يوم؟! أنحن من المكرمين المُعَزَّزين، أم نحن من المهانين المبعدين؟! فاللهم لطفك ورحمتك.
أقف وإياكم -أيها الإخوة والأخوات- وقفة تنقلنا إلى ذلك العالم الأخروي، إلى الحديث عن ذلك العالم وإن كان الحديث عنه يطول، فإنه يوم عصيب، شابت له رءوس الصالحين، وأقضَّ مضاجعهم، فأدأبوا أنفسهم ووقفوا في ظلمات الليل باكين متضرعين إلى الله، يرجون النجاة من هول ذلك اليوم.
جاء عند ابن المبارك في كتاب الزهد ، وأبي نعيم في الحلية ، والطبري في تفسيره ، وحسن إسنادَه ابن حجر عن ابن عباس رضي الله عنه قال -تأملوا واسرحوا بأخيلتكم معي قليلاً لننـتقل وإياكم إلى ذلك اليوم الآخر- يقول رضي الله عنه: [إذا كان يوم القيامة مُدَّت الأرض حتى تكون كالأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجُمِع الخلائق في صعيد واحد، جنهم وإنسهم -لاحظوا أن الجن والإنس يجتمعون كلهم في مكان واحد- قال: ثم تنشق السماء الأولى عن أهلها ...] من أهلها؟ أهلها الملائكة، وهل فيها ملائكة؟ نعم، إن الملائكة قد ملئوا السماوات السبع كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن من حديث أبي ذر يقول صلى الله عليه وسلم: (أَطَّت السماء -ثقلت السماء- وحُقَّ لها أن تَئِط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله جل وعلا).
يقول ابن عباس: [... ثم تنشق السماء الأولى عن أهلها، فيتناثرون على أهل الأرض -يا له من موقف مرعب مخيف، يتناثر أهل السماء على أهل الأرض- فيفزعون منهم، فيخافون ويقولون: أفيكم ربنا؟! -هل من بينكم الله؟!- قال: فيقولون: تعالى الله، وإنه آتٍ] هذا اليوم الذي يأتي فيه الله، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22] هذا يوم الحساب.
قال ابن عباس: [فوالذي نفسي بيده! إن أهل السماء الأولى لكَمِثْل أهل الأرض من إنسهم وجنهم بالضعف] تخيل المشهد، أهل السماء الأولى مثل أهل الأرض من الجن والإنس مرتين.
[قال: ثم تنشق السماء الثانية عن أهلها، فيتناثرون على أهل الأرض من الإنس والجن والملائكة، فيفزعون منهم ويقولون: أفيكم ربنا؟! فيقولون: تعالى الله، وإنه آتٍ، قال ابن عباس : ووالذي نفسي بيده! إن أهل السماء الثانية لكمثل أهل الأرض من جنهم وإنسهم وكمثل أهل السماء الأولى بالضعف -مرتين-، والسماء الثالثة كذلك، والرابعة، والخامسة، إلى السابعة، في كل سماء يتناثر أهلها على أهل الأرض، ويكون عددهم كعدد من سبق من الإنس والجن والملائكة بالضعف -لا إله إلا الله! خَلْق الله، وما يعلم خلق الله إلا هو جل جلاله- قال: ويجيء الله تبارك وتعالى والأمم جِثِيٌ صفوفاً، فينادي منادٍ: اليوم يوم الكرم] يوم الجوائز .. يوم الأعطيات .. يوم الأفضال التي توزع على عباد الله [قال: فينادي منادٍ: اليوم يوم الكرم، لِيَقُم الحامدون لله على كل حال؟ قال: فيقومون، ويُسَرَّحون إلى الجنة، ثم يقال: أين الذين تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16]؟ قال: فيقومون، ثم يُسَرَّحون إلى الجنة، ثم يقول: أين الذين لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37]؟ -هذا اليوم العظيم- قال: فيقومون، ثم يُسَرَّحون إلى الجنة، قال: ثم بعد ذلك يخرج عنق من النار، يشرف على الناس، له عينان تبصران، ولسان فصيح، فيقول: إني وُكِّلت بثلاثة -يعني: ثلاثة أصناف-: إني وُكِّلْت بكل جبار عنيد، قال: فيلتقطهم من بين الناس كما يلتقط الطيرُ حَبَّ السمسم، ثم يُلقي بهم في غمرات جهنم -عافانا الله وإياكم منها-، قال: ثم يخرج ثانية فيقول: إني وُكِّلْت بكل من آذى الله ورسوله، فيلتقطهم من بين الناس، كما يلتقط الطيرُ حَبَّ السمسم، ثم يهوي بهم في غمرات جهنم، ثم يقول: إني وُكِّلْت بأصحاب التصاوير، فيلتقطهم من بين الناس كما يلتقط الطيرُ حَبَّ السمسم، ثم يهوي بهم في غمرات جهنم، فإذا أُخذ هؤلاء وهؤلاء نُشرت الصحف، ووضعت الموازين، ودُعي الخلائق للحساب].
أيها الأحبة في الله: إنه مشهد عصيب تشيب فيه رءوس الولدان، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
فمن ينجو عندئذٍ؟ من يسلم من كربات الموطن، وهول المطلع؟!
إنهم أهل الإيمان .. أولياء الله .. المسارعون إلى مرضاة ربهم .. إنهم التوابون والتوابات .. إنهم المنيبون والمنيبات .. الذين أعدوا لهذا اليوم عدته، وأخذوا له أُهْبته .. فهنيئاً لهم هنيئاً .. هنيئاً لهم الأمن يوم يفزع الناس .. هنيئاً لهم الطمأنينة يوم يخاف الناس .. هنيئاً لهم الشبع يوم يجوع الناس .. هنيئاً لهم الرِّي يوم يعطش الناس .. إنهم في ذلك اليوم العصيب الذي يبلغ الجَهْد من العباد مبلغاً عظيماً، وتنزل فيه الشمس على رءوس الخلائق، فيكادون أن يغرقوا في العرق.
هؤلاء الثلة من عباد الله من التائبين والتائبات يأتون ويَرِدُون على حوض محمد صلى الله عليه وسلم، يَرِدُون عليه ليشربوا من يده الشريفة شربة هنيئةً باردةً لا يظمئون بعدها أبداً .. انتهى وقت الشدة والعناء .. ذهب كل ذلك لتبدأ لهم حياة جديدة، ونعيم سرمدي مقيم، فيسقيهم محمد صلى الله عليه وسلم بيده، ويعطي كل رجل منهم، وكل امرأة منهم بيده صلى الله عليه وسلم كأساً من ماء الكوثر؛ من حوضه الشريف، فلا يظمئون بعدها أبداً.
فيأتي أناس من هذه الأمة ممن اجترءوا على الحرمات، واعتدوا على المعاصي والموبقات، يريدون أن يشربوا كما يشرب غيرهم فماذا يكون حالهم؟ تعترضهم الملائكة فتضربهم على وجوههم وتردهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول عليه الصلاة والسلام: (لََيَرِدَنَّ عليَّ الحوض أقوامٌ فيُخْتَلَجُون دوني -يُبْعَدُون عني- فأقول: أي ربِّ، أصحابي .. أصحابي ! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً .. سحقاً!).
أيها التائبون: أبشروا بموعود الله وجنته .. أبشروا بدار زيَّنها الله بيده، وختم عليها، فلا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .. أبشروا بالأنهار المطردة .. أبشروا بالقصور الفارهة .. أبشروا بالهواء العليل .. أبشروا بنعيم مقيم .. أبشروا بلقيا الأنبياء، وبلقيا محمد صلى الله عليه وسلم .. تجلسون إليه .. تضاحكونه .. تكلمونه، بل أبشروا بما هو أعظم وأجل وأكبر، أبشروا بلقيا الله تبارك تعالى في جنات النعيم، أسأل الله ألا يحرمني وإياكم من واسع فضله.
هل بقي بعد ذلك مجال لمتردد ألا يسلك طريق التائبين؟!
إن الأمر واضح وجلي، فالله الله بالتوبة.
إن هناك عدداً من العوامل التي تعين العبد وتساعده على أن ينهض إلى ركب التائبين فيكون منهم، ومن ذلك:
إن من خير ما يعين العبد على الرجوع إلى ربه أن يعلم علم اليقين أن الله مطلع عليه، عالم بسرائره، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، كما قال عز وجل: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].
إنه العالم بالسرائر .. العالم بالعلانية .. الذي لا تخفى عليه خافية .. إنه سبحانه لا يضره ولا يمنع بصره أن يكون الإنسان في قعر داره، أو في جوف البحار، أو أن يتدثر بلحافه، لا يمنع ذلك أن يراه الله جل جلاله وهو مستوٍ على عرشه. مَن علم ذلك فليخجل من ربه ولْيَسْتَحِ منه، كيف يجترئ على معصيته وهو يعلم أن الله تبارك وتعالى يراه؟! أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].
يُحكى أن رجلاً راود امرأة على الفاحشة، وكانت امرأةً صالحة، فأبت عليه ذلك، ومع مرور الأيام وقد كانت هذه المرأة فقيرة، وهذا الرجل غنياً جاءت إليه تطلب المال، فقال: لا، حتى تمكنيني من نفسك -حتى أفعل الحرام-.
فقالت له: حسناً؛ لكني أشترط عليك شرطاً.
قال: ما هو؟
قالت: أن تغلق الأبواب، فلا يرانا أحد، فقام فرحاً جذلاً وغلق كل الأبواب، ثم عاد.
فقال: ها قد غلّقت الأبواب.
قالت: أكل الأبواب؟
قال: نعم.
قالت: بقي باب واحد لم تغلقه.
قال: ما هو؟
قالت: الباب الذي بينك وبين الله، هل تستطيع أن تغلقه.
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108].
فقام هذا الرجل مرتعشاً خائفاً نادماً تائباً إلى الله تبارك وتعالى.
وفي العصر الحاضر: يُذكر أن أحد الشباب سافر إلى إحدى البلاد المشهورة بالبغاء والزنا، فبينما هو في شقته مع معشوقته وهَمَّت نفسه بمعاقرة الفاحشة معها، نظَرَت هذه البغي وكانت بوذية، نظرت فوجدت على الطاولة تمثالاً صغيراً لإلهها بوذا، فقامت وأخذت لحافاً صغيراً وغطت إلهها، فتعجب هذا الشاب وسألها: لماذا فعلتِ هذا؟
قالت: إنني أخجل وأستحي أن أفعل هذه الفعلة أمام إلهي.
فقال: الله أكبر! تخجلين أن تفعلي هذا مع إله صنعتموه بأيديكم، مع حجر أصم لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأنا لا أخاف ولا أستحي من الله الذي يراني من فوق سبع سماوات؟!
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيانِ |
فاستحي مِن نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
إن الله جل جلاله عالم بالسرائر والخفيات، فإذا علم العبد ذلك علم اليقين كان ذلك مما يعينه على أن يهجر المعصية، ويقبل إلى الله تبارك وتعالى ويكون من التائبين.
أيها المسرف على نفسه بالذنوب: أتدري من عصيت؟! أتعلم عظمة ربك ومولاك؟!
تأمل معي وانظر إلى آيات ربك في السماء والأرض لتنظر ولتعلم عظمة الخالق الذي اجترأتَ على معصيته، وقف -معي يا أخي في الله وأختي في الله- قليلاً مع آيات من كتاب الله، واسرح بخيالك في ملكوت الله في سمائه وأرضه، يقول الله تبارك وتعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [النمل:60-64].
إن العاصي والمذنب حينما يعصي فإنما يعصي خالق السماوات السبع، ليس ملِكاً من ملوك الأرض، ولا سيداً من ساداتها، بل هو سيد الملوك، وملِك الملوك، ذو الطول، شديد العقاب، سبحانه! جل جلاله وعَظُم اسمه وتقدس.
جاء عند أبي داود من حديـث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون كم بين السماء والأرض؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة عام) كل سماء وسماء بينها مسيرة خمسمائة عام، ما بين الأرض والسماء الأولى خمسمائة، وما بين الأولى والثانية مثلها، إلى السماء السابعة، وسُمْك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، هذه السماوات السبع يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم -يُجري مقارنة بين حجمها وحجم الكرسي؛ كرسي الرحمن- فيقول: (ما مَثَل السماوات السبع في الكرسي إلا كسبعة دراهم ألقيت في ترْس ...) سبعة دراهم صغيرة هذه كأنها السماوات، على ضخامتها وعِظَمها مقارنة بكرسي الرحمن جل جلاله، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة:255] ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (... وما مثل الكرسي في العرش -مقارنة أخرى بين الكرسي الذي وسع السماوات والأرض وبين عرش الرحمن- إلا كحلقة صغيرة ألقيت في فلاة) في صحراء، الله أكبر! وهذا العرش العظيم تحمله ثمانية من الملائكة، فما هي صفة هؤلاء الملائكة؟
جاء عند الطبراني بسند حسنه الألباني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُذِنَ لي أن أحدث في صفة ملَك من ملائكة عرش الرحمن: رِجْلاه في الأرض السفلى -الأرض السابعة، بدايتها- وفوق قرنه عرش الرحمن، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) ملَك واحد وهم ثمانية من الملائكة يحملون عرش الله، فأي عرش هذا الذي تحمله هذه الملائكة الذين هذه هي صفتهم؟! فإذا كان العرش بهذه الضخامة، وبهذا الحجم العظيم، فما بالكم بالذي قد استوى على العرش جل جلاله، سبحانه وبحمده؟!
أفيجترئ العاصي على أن يعصي الله وهو بهذه الصفة العظيمة؟! سبحانه وبحمده! لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].
إن الله جل جلاله ليُمْلِي للظالِم ويعطيه فرصة بعد فرصة؛ لكنه إن لم يرجع إلى ربه فإن الله عز وجل قد توعَّده بالعذاب والعقاب، إنْ في الدنيا وإنْ في الآخرة، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45].
وجاء في المسند من حديث عقبة بن عامر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتَ الله يعطي العبد من الدنيا وهو مصر على المعصية فاعلم أنَّما هو استدراج من الله، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).
كم مِن عاصٍ استهتر بأوامر الله! وتجرأ على حرماته! فكان له مع الله موعد، وكانت له ساعة انتقم الله جل جلاله منه فيها، وأراه الله قوته، ومِن أعظم المواطن التي ينتقم فيها الله ويتخلى فيها عن عبده وهو بأمس الحاجة إليه: عند الموت، حينما يكون العبد محتاجاً إلى ربه فيتخلى الله عنه في هذه الساعة، وربما أنه يعاقبه بعقوبة يراها الناس في الدنيا ولَعَذاب الآخرة أشد وأبقى.
أيها الإخوة والأخوات: أقف وإياكم وقفة، وأقرأ عليكم رسالة وصلت إليَّ من إحدى الأخوات، لأبيِّن لكم كيف أن الله سبحانه وتعالى يعاجل العقوبة لبعض عباده في الدنيا لتكون عظة وعبرة.
تقول الأخت في رسالتها: كانت إحدى قريباتي مسرفة على نفسها بالمعاصي: إهمال في الصلاة .. تهاون في لبس الحجاب .. هجران لكتاب الله .. متعلقة بسماع الغناء، وبالجملة: فقد كانت مفرطة على نفسها، بعيدة عن ربها، أصيبت فجأة بصداع شديد في رأسها، فارقت بعده الحياة وهي تسب أمها، وتلعنها، وتصرخ وتستغيث؛ ولكن هيهات .. هيهات ..! وأقول: صدق الله العظيم إذْ يقول: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
ثم ماذا حدث؟
لقد حدث أمر مروع، تقول هذه الفتاة: فلما ماتت هذه المرأة انقلبت بشرة جسدها إلى اللون الأسود، ووجهها ويداها وسائر جسدها بشكل مخيف مروِّع، وانتفخت أعضاؤها، وأخذ الدم يسيل من فمها وأنفها، كأنه صنبور ماء متدفق، حاولوا إيقاف هذا الدم حين تغسيلها؛ لكنه لم يتوقف، بل زاد -والعياذ بالله- فكفَّنوها ودماؤها تسيل، حتى صار كفنها الأبيض أحمر من كثرة الدماء، مع أن هذه المرأة لم تُصَب بحادث، ولا بجروح؛ لكن هكذا أراد الله تبارك وتعالى.
تسأل هذه الفتاة عن هذه الحالة البئيسة، ماذا تعني؟! أهي دليل على سوء الخاتمة؟! وتريد جواباً ليهدأ قلقها ويرقأ دمعها، وتذكر من حالتها النفسية بسبب هذا الحدث الشيء الكثير.
فأقول: إننا لا نجزم لأحد بجنة ولا بنار، إلا من شهد الله له بذلك أو رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لكن والله إن مثل هذه الحالة لأمر مروع مخيف لا يتمناه أحد، وشتان بين من يموت ساجداً لله أو قارئاً للقرآن وبين من يموت على مثل هذه الحالة، (والناس شهود الله في أرضه) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن العاصي حين يرتكب فاحشة، أو يقترف خطيئة فإن عاقبة فعله حسرة وهموم في الدنيا، وخزي وندامة يوم القيامة، ولو حصل له لذة في أثناء معاقرته للذنب، ولو أحس بشيء من هذه اللذة إلا أنها لذة ممزوجة بكدر، ثم إنها لذة سرعان ما تنقضي وتنتهي.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتـها من الحرام ويبقى الإثم والعارُ |
تبقى عواقب سوء من مغبتهـا لا خير في لذة من بعدها النارُ |
إن صرعى الشهوات، وعباد الهوى هم أبأس الناس حالاً ولو زعموا غير ذلك، فهم والله في بحر الحزن والنكد غارقون، ولو أظهروا للناس عكس ما يبطنون.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [إنهم -يتكلم عن أهل المعاصي الذين وإن ظهر عليهم شيء من الترف والنعيم، وظهر للناس أنهم سعداء- يقول: إنهم وإن هَمْلَجَت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، إلا أن ذل المعصية في قلوبهم ووجوههم، أبى الله إلا أن يُذِل من عصاه].
فعلام يُرْدي المرء نفسه في وحل المعصية، وهذه عاقبتها في الدنيا؟! أما في الآخرة فالأمر فوق ما يخطر على البال، إنها النار وبئس القرار، إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:15-18].
لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:36-37].
لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:21-22] لِمَ؟ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182].
وشتان بين حياتين: حياة التائبين، وحياة العاصين المذنبين، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
إن الجلوس إلى التائبين والتأمل في مشوار توبتهم ورجوعهم إلى الله لمما يعين على سلوك مسلكهم، ذلك أنهم قوم منكسرة قلوبهم، قريبون من ربهم، يتذكرون حياة اللهو والمعصية، فيجلون، ويخافون، وتقشعر أجسادهم خوفاً من عواقبها، ثم يتأملون في توبتهم، فيخافون ألا تقبل منهم، فقلوبهم كقلوب الطير في خوف، ووجل، وانكسار، ورقة لله تبارك وتعالى، نعم، إنها قلوب التائبين، المنيبين إلى الرحمن الكريم.
فكان لزاماً على كل من أراد التوبة أن يجلس إلى هؤلاء التائبين ليستفيد منهم ويأخذ العبرة والعظة، وإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن يقرأ في سير التائبين وقصصهم، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أكثروا الجلوس إلى التائبين، فإنهم أرق أفئدة].
يقول رحمه الله: عن رجاء بن ميسور المجاشعي قال: كنا في مجلس صالح المري وهو يتكلم، فقال لفتىً بين يديه وعنده الناس: اقرأ يا فتى، فقرأ الفتى قول الله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، قال صالح المري يفسر الآية: كيف يكون للظالمين حميم أو شفيع، والمطالِب لهم رب العالمين؟! إنك والله لو رأيتَ الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم حفاة عراة، مسودَّة وجوههم، مزرقَّة عيونهم، ذائبة أجسادهم، ينادون: يا ويلينا! يا ثبورنا! ماذا حل بنا؟ .. أين يُذهب بنا؟ .. ماذا يُراد منا؟ والملائكة تسوقهم بمقامع النيران، فمرة يجرون على وجوههم، ويسحبون عليها منكبين، ومرة يقادون إليها مقرَّنين .. بين باكٍ دماً بعد انقطاع الدموع، وبين صارخ طائر القلب مبهوت، إنك -والله- لو رأيتَهم على ذلك لرأيتَ منظراً لا يقوم له بصرك، ولا يثبُت له قلبك، ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمُك.
قال: ثم نحب وصاح وبكى قائلاً: يا سوء مَنْظَراه! يا سوء مُنْقَلَباه! وبكى وبكى الناس معه، وكان من بين الحاضرين فتىً مُسرف على نفسه معروف بغفلته، قال هذا الفتى بعد أن سمع ما سمع: أكل هذا في القيامة يا أبا بشر؟
قال: نعم والله يا بن أخي، وما هو أكثر، لقد بلغني: أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم، فما يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المُدْنِف.
فصاح هذا الفتى الذي كان غافلاً وقال: إنا لله! وا غفلتاه عن نفسي أيام الحياة! وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه! وا أسفاه على تضييعي لعمري في أيام الدنيا! ثم بكى واستقبل القبلة فقال: اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك، اللهم فاقبلني على ما كان في، واعف عما تقدم من فعلي، وأقِلْنِي عثرتي، وارحمني ومن حضر، وتفضل علينا بجودك وكرمك يا أرحم الراحمين. لك ألقيتُ معاقد الآثام من عنقي، وإليك أنبتُ بجميع جوارحي، صادقاً لذلك قلبي، فالويل لي إن لم تقبلني.
ثم غُلِب فسقط مغشياً عليه، فحُمِل من بين القوم صريعاً.
فمكث صالح المري وإخوته يعودونه أياماً.
ثم مات رحمه الله، فحضر ميتته خلقٌ كثير، يبكون عليه، ويدعون له.
وكان صالح المري الشيخ كثيراً ما يذكره في مجلسه فيقول: بأبي قتيل القرآن، بأبي قتيل المواعظ والأحزان.
قال: فرآه رجل في منامه بعد موته فقال: ما صنعتَ؟ قال: عمتني بركة مجلس صالح المري، فدخلتُ في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء.
نعم أيها الإخوة والأخوات: كيف لا تكون رحمة الله لِمَن أقبل إلى الله وأناب، واستغفر إليه وتاب؟! إنه الله الكريم الجواد جل جلاله.
لا أدري بأي كلمات سوف أكتب قصتي، أم بأي عبارات الذكرى الماضية التي أتمنى أنها لم تكن، لقد كان إقبالي على سماع الغناء كبيراً، حتى إنني لا أنام ولا أستيقظ إلا على أصوات الغناء، أما المسلسلات والأفلام فلا تسل عنها في أيام العطل، لا أفرغ من مشاهدتها إلا عند الفجر، في ساعات يتنزل فيها الرب سبحانه إلى السماء، فيقول: (هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من سائل فأعطيه سؤله؟!) وأنا ساهرة على أفلام الضياع.
أما زينتي وهيئتي فكهيئة الغافلات أمثالي في هذا السن: قَصَّةٌ غربية .. ملابس ضيقة وقصيرة .. أظافر طويلة .. تهاون بالحجاب .. إلى غير ذلك من ألوان المعصية والتقصير.
تقول: وفي الصف الثاني الثانوي دخلت علينا إحدى المعلمات، وكانت معلمة فاضلة، شدَّني إليها حسنُ خلقها، وإكثارها من ذكر الفوائد، وربطها المادة بالدين، حملتني أقدامي إليها مرة، لا أدري ما الذي ساقني إليها؛ لكنها كانت البداية، جلست إليها مرة ومرتين، فلما رأت مني تقبلاً واستجابة نصحتني بالابتعاد عن سماع الغناء، ومشاهدة المسلسلات.
قلت لها: لا أستطيع.
قالت: من أجلي.
قلت: حسناً! من أجلك.
ثم صمت قليلاً وقلت بعد ذلك: لا، ليس من أجلك، بل لله إن شاء الله.
وكانت قد علِمَت مني حب التحدي فقالت: ليكن تحدٍ بينك وبين الشيطان، فلننظر لمن ستكون الغلبة.
فكانت آخر حلقة في ذلك اليوم.
فلا تسل عن حالي بعد ذلك -تقصد ما واجهها من صراع ومجاهدة- لا تسل عن حالي، وأنا أسمع من بعيد أصوات الممثلين في المسلسلات، أأتقدم وأشاهد المسلسلات؟! إذاً سيغلبني الشيطان، ومن تلك اللحظة تركتُ سماع الغناء ومشاهدة المسلسلات؛ ولكن بعد شهر تقريباً عدتُ إلى سماع الغناء خاصة، واستطاع الشيطان رغم ضعف كيده أن يغلبني لضعف إيماني بالله.
تقول: وفي السنة الثالثة دخلَت علينا معلمة أخرى، كنت لا أطيق حصتها، ولا أطيق رؤية هذا المعلمة، بسبب درجة متدنية حصلت عليها عندها، ولم أكن قد اعتدت الحصول على مثل هذه الدرجة، ولكن عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
وبعد أن ساقت حواراً ساخناً بينها وبين تلك المعلمة التي كانت صالحة وتقية، تقول: بعد ذلك صافحتني المعلمة ووضعت في يدي مصحفاً صغيراً وقبضَتْ على يدي وقالت: لا أقول إنه هدية بل هي أمانة، فإن استطعتِ حملها وإلا فأعيديها إلي.
تقول: فوقع في نفسي حديثها؛ ولكني لم أستشعر ثِقَل تلك الأمانة إلا بعد أن قابلتُ إحدى الأخوات الصالحات فأخبرتُها بما قالت لي المعلمة.
قالت: فتغير وجه تلك الأخت الصالحة، وقالت لي: أتعلمين ما هي الأمانة؟! أتعلمين ما هي مسئولية هذا الكتاب؟! أتعلمين كلام من هذا، وأوامر من هذه؟!
عندها استشعرت ثقل الأمانة التي حُمِّلْتُها، فكان القرآن العظيم أعظم هدية أهديت إلي، فانهمكتُ في قراءته، وهجرت وبكل قوة وإصرار الغناء والمسلسلات، إلا أن هناك نقصاً لا يزال فيَّ، حيث إن هيئتي لم تتغير، قَصَّةٌ غربية، وملابس ضيقة، ونحو ذلك مما يُعَد نقصاً في سمات الفتاة الملتزمة.
ومع طول المجاهدة وكثرة النصائح تحسَّنت حالي والحمد لله.
إلا أن الحدث الذي غَيَّر مجر حياتي، وكان له أبلغ الأثر في نفسي هو: ما حدث لي في يوم من الأيام؛ حيث ذهبتُ مع إحدى الأخوات إلى مغسلة الأموات، فإذا بالمغسِّلة تغسِّل شابة تقارب الثالثة والعشرين من عمرها، وكانت في المستوى الثالث من الجامعة، تقول: ولا أستطيع وصف ما رأيتُ، تُقَلَّب يميناً وشمالاً لتُغَسَّل وتُكَفَّن، وهي باردة كالثلج، أمها حولها، وأختها وأقاربها، أتُراها تقوم وتنظر إليهم آخر نظرة، وتعانقهم وتودعهم؟! أم تُراها توصيهم آخر وصية؟! كلا، لا حَراك، وإذ بأمها تقبلها على خدها وجبينها وهي تبكي بصمت وتقول: اللهم ارحمها، اللهم وسع مدخلها .. اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة، ثم تردف ذلك الكلام الأم وتقول: قد سامحتُك يا بنتي، قد سامحتُك يا بنتي، ثم يُسدل الستار على وجهها بالكفن.
تقول هذه التائبة: ما أصعبه من منظر! وما أبلغها من موعظة! لحظات، وستوضع في اللحد، ويُهال عليها التراب، وتُسأل عن كل ثانية من حياتها!!
فوالله مهما كَتَبْتُ من عبارات ما استطعتُ أن أحيط بذلك المشهد، لقد غَيَّر ذلك المشهد أموراً كثيرة بداخلي، زهدني في هذه الدنيا، وإني لأتوجه إلى كل معلمة، بل إلى كل داعية أياً كان مركزها ألا تتهاون في إسداء النصح، وتقديم الكلمة الطيبة حتى وإن أُقْفِلَت في وجهها جميع الأبواب، فحسبُها أن باب الله مفتوح.
كما أتوجه إلى كل أخت غافلة عن ذكر الله، منغمسة في ملذات الدنيا وشهواتها: أن عودي أُخَيَّة، فوالله إن السعادة كل السعادة في طاعة الله، وإلى كل من رأت في قلبها قسوة، أو ما استطاعت ترك ذنب ما أن تذهب إلى مغسلة الموتى وتراهم وهم يغسَّلون ويكفَّنون، والله إنها من أعظم العظات، وكفى بالموت واعظاً، أسأل الله لي ولكنَّ حسن الخاتمة.
أختكم: أم عبد الله.
يشتكي كثير من العصاة من هموم لازمتهم، وأحزان لم تبرحهم، ومصائب لم تفارقهم، يندبون حظهم وتعاسة حالهم، والحقيقة: أنهم هم سبب ذلك، والعجيب أن بين أيديهم العلاج الناجع لأدوائهم، ومع ذلك فقد أعرضوا، فلم الشكوى إذاً؟! لم التشكي وبين أيديهم العلاج؟!
ولنقف أيها الإخوة والأخوات مع هذه الكلمات الجميلة للإمام ابن القيم رحمه الله وهو يخاطب ذلك المذنب الذي يكثر الشكوى والتألم وبين يديه باب النجاة، يقول رحمه الله كما في مدارج السالكين:
ويستغيث مع ذلك -يعني: المذنب-: العطش .. العطش! وقد وقف في طريق الماء، ومنع وصوله إليه، فهو حجاب قلبه عن سر غيبه، وهو الغيب المانع لإشراق شمس الهدى عن القلب، فتباً له من ظالم في صورة مظلوم! وشاكياً والجناية منه! قد جد في الإعراض وهو ينادي: طردوني، أبعدوني، يأخذ الشفيق صلى الله عليه وسلم بحُجْزَته عن النار وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه، ويقتحمها ويستغيث: ما حيلتي، وقد قدموني إلى الحُفَيْرة وقذفوني فيها؟! والله كم صاح به الصائح: الحذر .. الحذر! إياك .. إياك! وكم أراه مَصارع المقتحمين وهو يأبى إلا الاقتحام، يا ويله ظهيراً للشيطان على ربه! خصماً لله على نفسه! جَبْري المعاصي! قَدَري الطاعات! عاجز الرأي! مضياعاً لفرصته! قاعداً عن مصالحه! معاتباً لأقدار ربه! يحتج على ربه بما لا يقبله هو من ولده وامرأته.
هذا مع تواتر إحسان الله إليك أيها المذنب على مدى الأنفاس، أزاح عِلَلَك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل، وأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرَّفك الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه، أمرك بسؤاله ليعطيك، فلم تسأله، بل أعطاك أجلَّ العطايا بلا سؤال فلم تقبل. تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك .. وتتظلم ممن لا يظلمك إلى من يظلم .. وتدعو من يعاديك ويظلمك!!
وإن أنعم عليك بالصحة والعافية، والمال والجاه، استعنت بنعمه على معاصيه؟! دعاك إلى بابه فما وقفتَ عليه ولا طرقتَه، ثم فتَحَه لك فما ولجتَه، ومع هذا لم يؤيسك من رحمته، بل قال: متى جئتني قبلتُك، إن أتيتني ليلاً قبلتُك، وإن أتيتني نهاراً قبلتُك، وإن تقربتَ مني شبراً تقربتُ منك ذراعاً، وإن تقربتَ مني ذراعاً تقربتُ منك باعاً، وإن مشيتَ إلي هرولتُ إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتُك بقرابها مغفرة، ولو بلغتْ ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتَني غفرت لك، فمن أعظم مني جوداً وكرماً، عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم! أخلق ويعبد غيري! وأرزق ويُشكر سواي! خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد! أتحبب إليهم بنعمي، وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إليَّ! من أقبل إلي تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن أراد رضاي أردتُ له ما يريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنتُ له الحديد.
أهل ذكري أهل مجالستي -جعلني الله وإياكم منهم في هذه الساعة- وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنِّطهم من رحمتي، إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من آثرني على سواي آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.
أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها. انتهى كلامه رحمه الله.
أرأيتم -عباد الله!- إلى هذا الفضل الزاخر من أرحم الراحمين سبحانه وبحمده؟! فما أعظم كرمه وجوده! وما أوسع فضله وعطاءه! فلا حجة والله بعد ذلك لمذنب ولا لمتشكٍ.
إن هناك -يا أيها الإخوة والأخوات!- جملة من المحاذير والمزالق حول موضوع التوبة، يحسُن بنا أن نقف عندها لنحذر منها، وننفر من سلوكها، فكم زلت بها من قدم! وكم هوى بها من إنسان! ومن تلك المزالق والمحاذير:
لا يزال كثير من المذنبين يؤخر رجلاً ويقدم أخرى في شأن التوبة، فمنهم من يؤخرها إلى ما بعد الزواج، ومنهم من يضع في باله سناً افتراضياً إذا وصل إليه فإنه سيتوب، ومنهم من يقول: إذا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة والهرم تبتُ إلى الله، ولكن كثيراً من أولئك لن يمهلهم هاذم اللذات، وقاصم الجبابرة والسادات، فقد هجم عليهم، وخابت آمالُهم، وعاجلهم فخسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين.
إنه -يا عباد الله!- ليس للمرء إلا روح واحدة .. ليس له إلا فرصة واحدة .. ليس له إلا عمر واحد، فإن ضاعت هذه الفرصة فإنه لا فرصة بعدها.
إن التوبة واجبة على الفور، ويحرم التسويف فيها والتأجيل.
يقول ابن القيم رحمه الله: المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى الله بتأخيرها، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة.
وقال ابن الجوزي في كتابه بحر الدموع : يا بطَّال! إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير معذور؟! إلى متى يقال عنك مفتون مغرور؟! يا مسكين! قد انقضت أشهر الخير وأنت تَعُد الشهور، أتُرى مقبولٌ أنت أم مطرود؟! أتُرى مواصَلٌ أنت أم مهجور؟! أتُرى تركب النجب غداً أم أنت على وجهك مجرور؟! أتُرى من أهل الجحيم أم من أرباب القصور؟! انتهى كلامه.
أيها المسوِّف في التوبة: البدار .. البدار! قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء، لا تؤخر التوبة حتى يأتي الأجل، وتحين ساعة الصفر، فعندها هيهات أن تُقبل منك التوبة كما قال الله جل جلاله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:17-18].
كثير من أهل الذنوب والتقصير إذا حُدِّث بحتمية الاستعجال بالتوبة، والإقلاع عن التفريط في جنب الله، بادرك بآيات الرجاء وأحاديثه فقال: الله غفور رحيم .. رحمته وسعت كل شيء .. رحمته سبقت غضبه .. ويكرر قوله: الله غني عنا، وعن طاعتنا، ونحو ذلك من عبارات هي بلا شك حق، لكنه قد استند عليها من أجل أن يسوِّغ فعل المعصية وأن يترك الطاعة.
إن المرء العاقل الذي يحسن الظن بالله، وهو يرجو رحمته ينبغي عليه أن يحسن العمل، وإلا فحُسْنُ الظن مع اتباع الهوى عجز، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعانِد، قال الحسن البصري رحمه الله: [إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بلا توبة، يقول أحدهم: لأني أحسن الظن بربي، وكذَبَ؛ لو أحسن الظن لأحسن العمل].
يقول ابن القيم رحمه الله: كثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه فضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يُرَد بأسُه عن القوم المجرمين.
قال معروف : رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق.
وقيل للحسن البصري رحمه الله: [نراك طويل البكاء -يعني: ما هو السبب؟- فقال الحسن -وهو الزاهد العابد التقي-: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي].
وسأله رجل: [يا أبا سعيد ! كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ قال: والله لَأَن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمِّنونك حتى تلحقك المخاوف].
أيها الإخوة والأخوات: يجب علينا ألا نتساهل بالمعصية أبداً، فإن الحساب دقيق، وإن الديان جل جلاله لا يموت، وإن استصغرت المعصية فتذكَّر عظمة من قد عصيته.
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي رافع قال: (مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بـالبقيع فقال: أُفٍّ لك، فظننته يريدني، فقال: لا، ولكن هذا قبر فلان بعثْتُه ساعياً إلى آل فلان فغلَّ نَمِرَة -يعني: سرق كساءً- فدُرِّع الآن مثلها من النار) وهذا الحديث جاء في قصة شبيهة في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو .
فالحذر .. الحذر ! من الاتكال على سعة رحمة الله وترك التوبة.
من الناس من يرغب في التوبة، وتأكل فؤاده نيران المعصية؛ لكن الذي يمنعه من التوبة هو خشية الرجوع إلى المعصية بعد التوبة، وربما أنه يكون قد سبق له أن تاب؛ لكنه عاد إلى الذنب فجاء إليه الشيطان ونفث في روعه وقال: أنت كذاب .. هذه ليست توبة .. كيف تتوب ثم تعود؟ .. هذا نفاق .. هذا استخفاف بالله، ثم تراه بعد ذلك يستسلم لتلك النـزغات الخبيثة، وذلك المكر الكُبَّار.
والجواب عن مثل هذه الشبهة: أن يقال: بل تُبْ واصدق في توبتك، واندم على زلتك، واعزم على عدم الرجوع إليها، فإن عدتَ فعُد إلى التوبة ثانية، وثالثة، ورابعة، وعاشرة، وإن رأى الله منك الصدق والمجاهدة فإنه سيعينك ويوفقك.
جاء رجل إلى أحد السلف فقال له: الرجل يعمل الذنب ماذا يصنع؟
قال: يتوب.
قال: ثم يعمله أخرى فماذا يصنع؟
قال: يتوب.
قال: ثم يعمله ثالثة ماذا يصنع؟
قال: يتوب.
قال: إلى متى؟
قال: إلى أن يكون الشيطان هو المدحور.
إن من حقق شرائط التوبة وأقلع عن المعصية، ثم عاد إليها بعد ذلك فإن توبته الأولى مقبولة ولا تُحْبَط؛ لأنه كان عازماً على ألا يعود، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (أذنب عبدٌ ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله: أذنب عبدي ذنباً فعَلِم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد ثانية فقال مثلما قال، ثم قال الله له مثل ذلك، فعاد في الثالثة فكان مثل ذلك، فقال الله عز وجل في الرابعة: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرتُ لك) قال النووي في شرحه لـمسلم في قوله عز وجل للذي تكرر ذنبه: (اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك) معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب فقد غفرتُ لك.
كم أقعد اليأسُ من مذنب عن أن يطرق باب الكريم، تعاظَمَ ذنبُه ونسي أن رحمة الله أعظم وأجل، فكلما هم بالتوبة تذكر ذنوبه وموبقاته، فقال: أنَّى لي بمغفرة الله وقد فعلتُ وفعلتُ وفعلتُ، وما يدريكم عن حالي وذنوبي التي اقترفتها، وعن سيئاتي التي اجترحتها؟!
فأقول: صدقتَ، نحن لا ندري عنها؛ لكن حسبنا أن الله يدري بها، ومع ذلك لم يعاجلك بالعقوبة، ينتظر منك أن تطرق باب جوده .. يمهلك شفقة عليك، ورحمة بك؛ لعلك أن تعود، فإن عدت فأبشِر بما لم يخطر لك على بال.
روى ابن ماجة في كتاب الزهد، وصححه الألباني من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم).
وجاء في المسند من حديث صفوان رضي الله عنه قال: (إن في المغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرته سبعون سنة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه).
وبالجملة فإن الله لا يتعاظمه ذنب أياً كان هذا الذنب، وهو القائل جل شأنه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
واسمع يا من أَلَمَّ بذنب وخشي ألا يُغْفَر له، اسمع هذه البشارة الربانية من كتاب الله تعالى القائل عز وجل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:110].
أورد ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين قصة عن بعض الصالحين أنه رأى في بعض الطرق باباً قد انفتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه من خلفه تطرده حتى أغلقت دونه الباب، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكِّراً فلم يجد له مأوىً غير البيت الذي أُخْرِج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مُرْتَجاً -يعني: مقفلاً- فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت بنفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي، وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟! ومن يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلْتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وإرادة الخير لك؟! ثم أخذته ودخلَت.
علَّق ابن القيم على هذه القصة بكلام جميل فقال: تأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلْتُ عليه من الرحمة والشفقة، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟!!
الله أكبر يا عباد الله! ما أعظم رحمة الرحمن جل ثناؤه! وما أعظم مدخره من الرحمات للتائبين والتائبات!
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل إلى الأرض جزءاً واحداً، فمِن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه).
وجاء في بعض الآثار: إن إبليس يوم القيامة يرفع رأسه يريد أن تدركه رحمة الله؛ لِمَا يرى من تَنَزُّل الرحمات على عباد الله.
فيا أيها المذنب! -وكلنا كذلك- هذا هو الباب مُشْرَع بين يديك، فانظر إلى أمرك، وانطرح بين يدي ربك .. انطرح عند عتبة باب مولاك، ومَرِّغ جبهتك تذللاً لسيدك .. فِرَّ منه إليه، فما من عاصم من الله إلا إليه، قل بلسان العبد المعترف الأواب:
أيا من ليس لي منه مجيرُ بعفوك من عذابك أستجيرُ |
أنا العبد المقرّ بكل ذنب وأنت السيد المولى الغفورُ |
فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر فأنت به جديرُ |
أفرُّ إليك منك وأين إلا يفر إليك منك المستجيرُ |
لم يبق والله يا عباد الله من حلاوة العيش -كما قال بعض السلف- إلا أن نُمَرِّغ وجوهنا في التراب ساجدين له سبحانه.
وإن ضاقت عليك الأرض بما رحبت، واستوحشتَ من ذنوبك، وغُلِّقت أمامك الأبواب، فاعلم أن باب الله مفتوح لا يُغْلَق، وارفع شكواك إليه لا إلى سواه، وقُم في ظلمات الليل وبُثَّ همومك وأحزانك إلى ربك، فإنه العليم بالسرائر وما تكنه الضمائر.
طرقتُ باب الرجا والناس قد رقدوا وبتُّ أشكو إلى مولاي ما أجدُ |
فقلت يا أملي في كل نائلةٍ ومَن عليه في كشف الضر أعتمدُ |
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلدُ |
وقد مددتُ يدي بالذل معترفاً إليك يا خير من مُدَّت إليه يدُ |
فاللهم يا غياث السائلين! ويا رجاء المنقطعين! ويا أنيس الخائفين! يا باسط اليدين بالرحمة! يا من رحمته سبقت غضبه! يا ساتر العيب! يا غافر الذنب! يا سامع كل دعوى! ويا مجيب كل نجوى! يا من هو أرحم بعبده أن يُلْقِيه في النار من الأم بولدها! نسألك في هذه الساعة أن تشمَلَنا جميعاً بواسع رحمتك.
اللهم ارحمنا، فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت على ذلك قادر.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر