أيها المؤمنون: تعيش الأمة الإسلامية إحباطاً ويأساً وهي ترى عدوها الكافر منتجاً ومصنِّعاً ومنظَّماً، وتنظر إلى نفسها وهي في شتاتٍ وفُرقةٍ وتخلف، فهل هذه هي النهاية؟! وهل هذا هو الفصل الأخير في حياة الأمة؟! وما هو المخرج من ذلك؟
أقول: لا يوجد في العالم حضارة عرفها الإنسان كحضارة الإسلام، شهد بذلك الشرق والغرب، الصديق والعدو؛ حتى قال غوستاف لوبون: ما عرف العالم مُصْلِحاً ولا فاتحاً أحلم ولا أعدل من المسلمين!
كيف كنا في فجر الرسالة؟! كيف حالنا يوم كنا خير أمة أخرجت للناس؟! من الذي زكانا؟! يقول الله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، كنتم خير أمة عرفها الدهر، وصوتت لها الأيام، وكتب لها التاريخ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أنا أذكر لكم ثلاثة نماذج من صدر الإسلام، من خير أمة أخرجت للناس، ثم اسأل التاريخ الشرقي والغربي؛ تاريخ اليونان، والرومان، والفرس، والأمريكان، وقل لهم: هل عندكم مثل هذه النماذج؟!
بالله عليكم، وتالله عليكم، وأسألكم بالله! هل في العالم حاكمٌ وإمام يكشف القميص عن جسده أمام رعيته على المنبر وهو يقول: (اقتصوا مني اليوم، قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، اقتصوا مني قبل يوم القيامة)، من الذي قال ذلك؟
محمد عليه الصلاة والسلام الذي أعلن في عرفة وقال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).
محمدٌ عليه الصلاة والسلام الذي أعلن حقوق الإنسان، وكرامته ومكانته، يقول يوم النحر: ( كل دمٍ من دماء الجاهلية تحت قدمي هذا موضوع -سلمت قدمك- كل ربا من أموال الجاهلية تحت قدمي هذا موضوع -سلمت قدمك-).
وأسألكم بالله هل في العالم رجلٌ إمامٌ حاكمٌ يحكم عشرين دولة، يذهب إلى بيت عجوز -كما روى أهل العلم بأسانيد صحيحة- فيكنس بيتها، ويصنع طعامها، ويغسل ملابسها. من هو؟ إنه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
انقلوا هذه الأخبار إلى العالم، وقد اعترف بها الكثير من الغربيين، كـكيريسي موريسون، وغوستاف لوبون، وغيرهم من مؤرخي الغرب.
هذا نموذج لـأبي بكر الذي يبكي على المنبر ويقول: [قوموني أيها الناس].
وأسألكم بالله! هل في العالم إمام وحاكم يلبس المرقَّع وهو يحكم من طنجة إلى مشارف كابول، كان على المنبر، وبطنه يقرقر من الجوع بين الخطبتين فيقول: [قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين] من هو؟ إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
يا من يرى عمراً تكسوه بردتُه والزيت أُدمٌ له والكوخ مأواهُ |
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ |
كيف كنا؟! وكيف صرنا؟! انظروا لأمسنا المشرق، وليومنا المظلم، ماذا حل بنا؟! لماذا تخلفنا وصرنا في آخر الركب؟! كنا في مشرق تاريخ الأيام في قيادة الركب، لماذا؟! لأنا اعتززنا واحتمينا بالإسلام، لأنا انتصرنا بالواحد الأحد، فنَصَرَنا جل في علاه.
ذهب عمر رضي الله تعالى عنه يستلم مفاتيح بيت المقدس ، عليه ثيابٌ ممزقة، فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه: [البس يا أمير المؤمنين لباساً لائقاً، فإن النصارى سوف يشاهدونك -وقد دوخ الدنيا- قال: لا. نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله].
فلما اعتز بعض المسلمين بغير الدين أذلهم الله، فعاشوا الذل والمسكنة والتخلف، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وانتهوا من قيادة البشرية.
والنماذج كثيرة، وأقف على نموذجٍ لمسلمٍ فقير يعتز بإسلامه وبإيمانه، وأنا أقرأ مذكرة لأحد السائحين يصف شاباً ملتزماً بدينه قوياً بإيمانه، ذهب إلى بريطانيا ليدرس، فسكن مع عائلةٍ إنجليزية، فكان إذا حانت صلاة الفجر قام في جوهم البارد القارس إلى الصنبور فتوضأ وصلى، فتقول له عجوزٌ إنجليزية: لو نمتَ في هذه الساعة، البرد قارس، والماء بارد! قال: لا. إن ديني يأمرني أن أصلي في هذا الوقت، فعلَّقَت بكلمة، وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
الأمة يوم تخلفت عن المسجد والمصحف.. هُزِمَت في ميادين الحياة.. والصناعة.. والعسكرية.. والتربية، من خان حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يخون حيَّ على الكفاح.
هذا فقيرٌ مسلم كان مجاهداً في جيش القادسية ، قادسية (لا إله إلا الله)، دخل على قائد الفرس رستم بثيابٍ ممزقة، ورمحٍ مثلم، فقال رستم : أيها العرب أما تأدبتم؟! -لأن فارس دولة عظيمة، والعرب عندهم أوباش وقبائل متناثرة- ما لكم؟! تجاوزتم طوركم؟! أتيتم تقاتلون دولة فارس؟! [قال ربعي : يا أيها الوزير! إن الله تعالى ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام] فصارت هذه الكلمة رائدة وافية يعتز بها كل مسلم: الله ابتعثنا، نحن أمة خرجت للناس مبْتَعَثَة مرشَّحة لقيادة البشرية، فالواجب أن نكون نحن أكثر الناس تقدماً في الدنيا والدين، جمالاً، وعقلاً، وثقافةً، وعلماً؛ ولكن متى؟!
ويقول آخر: الإسلام قضية عادلة؛ لكن محاميه فاشل.
لم نقدم قضيتنا الإسلامية، وندعو إليها، ونشرحها بأعمالنا، كانوا في عهد السلف ينظرون إلى نماذج مضيئة من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهم فيدخلون في دين الله زرافاتٍ ووحدانا؛ ولكنهم انظر إلى التمزق، والفُرقة، والتخلف، والخصام، والشقاق، فلا يتشجعون للدخول في الدين.
حَجَّ إقبال شاعر الباكستان الشهير، فطاف بالبيت ورأى الحُجَّاج وبكى وقال: يا ألله! أين أحفاد أبي بكر وعمر ؟! أين الذين قدموا الرسالة الربانية؟! أين الذين كانوا مشاعل الخير في العالم؟! ثم نظم ستة أبيات يقول فيها وعيونه تذرف على مجد المسلمين:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال |
يقول: أين هممكم يا شباب الإسلام؟! أين مجدكم؟! أين أجدادكم الذين كانوا يصلون الليل، ويعملون ويجاهدون في النهار؛ يبنون، ويؤدبون، ويعلِّمون، ويدعون إلى سبيل الله؟!
وأصبح وعظكـم من غير نورٍ ولا سحر يطل من المقال |
كثيرة دروسُنا.. محاضراتنا.. خطبنا؛ لكن أين التأثير والنور؟!
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي |
وزلزلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال |
مؤذنون ولا مصلون، أئمة ولا مدعوُّون.
وزلزلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال |
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال |
أيتها الأمة! عرِّفوا أبناءكم على المسجد، بوابة النجاح صلاة الفجر، عندما تخلفت الأمة عن طاعة الله تعالى أصيبت بإحباطٍ في حياتها، يقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله .. الله ..! لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبَّه على وجهه في النار)
هكذا تبدأ حياة المسلم بصلاة الفجر لتكون حفظاً له ورعاية من غضب الله تعالى ومقته، ومن الخسارة؛ ولكن أيها المحبطون، أيها اليائسون! لا يأس، ولا إحباط! الغد لنا بإذن الله، والمستقبل معنا، الله معنا إذا عدنا إليه، ولذلك يقول جل اسمه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
لا تهنوا فالعاقبة إن شاء الله لكم، ولا تحزنوا، وأنتم الأعلَون، لماذا نحن الأعلَون؟ لأن الله ربنا، ومحمد رسولنا، والكعبة قبلتنا، والقرآن كتابنا، فنحن الأعلَون سنداً، ومتناً، واتجاهاً، وعقيدةً، ومنهجاً؛ لكن يحتاج هذا المنهج إلى حَمَلَة.
يقول كيريسي موريسون الغربي: قدمنا لكم الثلاجة، والطائرة، والبرَّادة، وكل معالم الحياة، فقدموا لنا غذاء الأرواح، قدموا لنا (لا إله إلا الله).
ويقول أحد الدعاة المشاهير في كتاب له: حاورتُ قسيساً أمريكياً في ولاية أوروغون ، فذكرتُ له الإسلام، قال: نعم. الإسلام دين عظيم؛ لكن ما وجد من يحمله حملاً صحيحاً، ما وجد من يؤديه بالطريقة المناسبة لهذا الدين، وعظمة هذا الدين.
يقول أحد الصحابة رضوان الله عليه: (أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكئ في ظل الكعبة -يوم التعذيب والحصار في مكة، في أول أيام الرسالة؛ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم- فشكونا له حالنا -كانوا قلة أذلة وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الأنفال:26]- قال: فقلنا: يا رسول الله! ألا ترى ما أصابنا؟! ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فاتكأ صلى الله عليه وسلم -وهو في فقر وحاجة، هذا الذي فتح دينه العالم، يربط الحجر على بطنه، لا يجد تمرات يملأ بها بطنه، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- قال: اصبروا لقد كان يؤتى بالرجل فيمن قبلكم -يعني: من الصالحين- فيوضع المنشار في مفرق رأسه ثم يشق نصفين ما يرده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر -يعني: الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه؛ ولكنكم قومٌ تستعجلون).
أنتم تستعجلون النتائج، أنتم تريدون النصر بين عشية وضحاها، لا. إن لم يأتِ هذا النصر في هذا الجيل سوف يأتي في الجيل المقبل الواعد، جيل القرآن، جيل العلم، جيل المعرفة، جيل الطهر، جيل التضحية، هذا هو الجيل الذي يستحق النصر.
ويقول أحدهم وهو يبشر الأمة بفأل حسن:
لا تهيئ كفني ما مت بعد لم يزل في أضلعي برق ورعد |
أنا تاريخي ألا تعرفه؟! خالد ينفث في جسمي وسعد |
تاريخنا مشرق متى درسناه دراسة صحيحة، وعدنا إليه عودة صادقة، كان سلفنا يقدمون للإسلام أعمالاً، وليست خطباً رنانة ودروساً فصيحة.
هذا يهودي سكن بجانب عالم في خراسان اسمه: ابن المبارك، عالمٌ زاهدٌ محدث، فسكن اليهودي بجانب ابن المبارك، فكان هذا العالم إذا اشترى ثياباً يبدأ بأبناء اليهودي، وإذا اشترى خبزاً أو فاكهةً أعطى جاره اليهودي، واستمر الحال هكذا، وفي الأخير أتى اليهودي إلى هذا العالم إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله وقال: أريد أن أسلم.
قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله إن ديناً أخرجك وأمثالك لهو دين حق ودين صحيح.
وقد ذكر هذا الذهبي المؤرخ وغيره، فدل هذا على أن أعمالنا يجب أن تسبق أقوالنا، وأن نقدم الإسلام قضية عادلة للعالم.
بالله! هل أمرنا الإسلام بترك العمل .. بترك التصنيع .. بترك الاختراع والاكتشاف، والله يقول لنا: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]؟!
بالله! هل أمرنا الإسلام أن نكون ضعفاء، كسالى، متخاذلين، مترَفين، لا حركة، ولا نشاط؟!
هذا عمر رضي الله تعالى عنه يدخل إلى المسجد، وهناك فرقة من الشباب آثرت البطالة والعطالة على العمل، وفهمت أن معنى الإسلام أن تبقى في المسجد، وأن تقرأ المصحف، وأن تأتيك الصدقات من خارج المسجد لتأكل من أموال المسلمين- فقال عمر : من أنتم؟ -هذا خليفة المسلمين، الحاكم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: من أنتم؟ قالوا: مؤمنون، قال: كلنا مؤمنون، قال: ماذا تفعلون هنا؟ قالوا: نعبد الله، قال: كلنا يعبد الله، قال: من يعطيكم طعامكم وشرابكم؟ قالوا: جيراننا، قال: جيرانكم خيرٌ منكم، جيرانكم يعني: أعْبَدَ منكم، انتظروا قليلاً، فذهب وأحضر عصاه الدرة، التي إذا ضرب بها إنساناً أخرج من رأسه وساوس الشيطان، فضربهم، وقال: اخرجوا، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً.
هذا منهج الإسلام فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، إذا صليتم فاخرجوا إلى معاملكم، الطبيب إلى عيادته، المزارع إلى مزرعته، الأستاذ إلى مدرسته، الإداري إلى مكتبه، الطالب إلى فصله، انتشروا، وابنوا، وعمِّروا، وانشدوا واقصدوا وجه الله.
بالله! هل أمر الإسلام أتباعَه أن يكونوا دراويش، لا يعتنون بمظهرهم، ولا بثقافتهم، ولا بحياتهم، وإنما يبقون كأنهم رهبان؟!
حكى الله سبحانه وتعالى عن النصارى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، يقول: عن فعل هؤلاء الدراويش الرهبان المسيحيين الذين هم في الصوامع، لا نظافة، ولا طهر، ولا معرفة، ولا علم، يقول: ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] فنحن لم نكتب عليهم أن يدمروا أنفسهم؛ فهم جَوَّعوا أنفسَهم، وسهروا، ودمَّروا أخلاقهم، وقالوا: إن هذا من الدين، ويقول سبحانه: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، نحن كتبنا على المسلم أن يكون قوياً: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، خذ الدرس بقوة، كن قوياً في علمك، واقتصادك، وأدبك، وخطابتك، ومظهرك.
يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم : (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ)، الضعف غير مرغوب، لا بد أن تكون قوياً في عبادتك، وكلمتك، ومظهرك، حتى إن شباباً رأتهم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهم على مظهرٍ من العبادة والزهد، لكنهم يمشون مشيةً مميتة، مشية متهاونة متخاذلة، وهم منكسو رءوسهم، وعليهم ثياب ممزقة، فقالت: [من أنتم؟ قالوا: نساك -يعني: عُبَّاد زُهَّاد- قالت: كان
هذا هو الإسلام الذي نريده، يريد الإسلام القوة، فالله عز وجل قوي يحب الأقوياء، جميل يحب الجمال.
وَفَد رجل يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل هو من الكِبْر أن ألبس جميلاً؟ -أحب أن يكون حذائي وثوبي جميلاً، فهل هذا من الكبر؟- قال: لا. إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكِبْر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس).
وللأسف أن النصوص لا تُفهم فهماً صحيحاً، فتجد أحد الناس لا يلبس إلا رثاً وهو يستطيع أن يلبس خيراً، لا يتنظف، ولا يتطيب، ولا يلبس، ولا يتجمل، بحجة أنه يتواضع، فإذا عاملتَه وجدتَ وجهاً عبوساً، وكلمة غليظة، وتصرفاً مشيناً، فقلب الآية، الإسـلام يريد جمالاً، ونظافةً، وطهراً، وعلماً، ويريد تواضعاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (الكِبْر بَطَرُ الحق -يعني: أن ترد الحق، وأن تجابه الناس الذين معهم أدلة وعندهم حق، بالباطل- وغَمْطُ الناس): أي: تزدري الناس، حتى إن بعض الناس ولو كان عابداً يرى أن الناس هالكون، وهو الناجي وحده، الناس كلهم عنده في النار، وهو الفائز بإذن الله، وقد رد على هذا النوع رسول الله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم حيث يقول: (من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم).
الرحمن الرحيم هو الذي فتح باب التوبة، الواحد الأحد هو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
بالله! هل أمر الإسلام أتباعه أن يتركوا العلم، والتدين، ويشتغلوا بالدنيا إلى حد الانغماس والتهالك عليها؟! لأن عندنا تطرفاً، إما في التجويع، وعدم أخذ النفس حقوقها، وإما في الترف والبذخ إلى درجة مسخ الفطرة.
هل طلب الإسلام من أتباعه أن يكون الإنسان خادماً للمال، حارساً عليه، خازناً له، ثم لا يؤدي حقوق الله تعالى؟ لا صدقة، لا بِر، لا بناء مساجد، لا إغاثة، وآلاف المسلمين فقراء بل ملايين، وآلاف الصبايا سبايا، وآلاف اليتامى مشردون، وآلاف الأمهات ثكالى، ثم يأتي هذا يرينا ثروته في قصورٍ تناطح السحاب، وسياراتٍ فارهة، إسراف بالمال، وفي سفهٍ في الحياة، هل هذا الذي يريده الإسلام؟! كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، أعوذ بك اللهم من غنىً مطغٍ.
يا حارس المال كم تسعى لخدمته! أقبـل على الله إن الله ديان |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
عرفنا تاجراً كان غنياً مترفاً؛ لكن حبس الصدقة عن الناس، لم يُؤثر عنه أنه بنى مسجداً، أو ساهم في خير، أو سقى ظامئاً، أو أطعم جائعاً، أو أعطى يتيماً، توفي فجأة في مدينة أخرى، صدقوني إن الشهود العيان يقولون: والله لقد نُقِل فجأة بطائرة، ثم ما وجد كفناً؛ لأنه عاجلته المنية، حتى أهدى له بعض الناس في المدينة الأخرى كفناً، وهو درسٌ للأغنياء الذين عطلوا منافع الخير في أموالهم، وسخروها لشهواتهم، ليحارب بها الله تعالى في الأرض؛ في الربا والخمور والغش والخديعة وغسل الأموال وتلويث الثروات والانحراف عن منهج الله تعالى.
فيا علماء الأمة! ويا حكام الأمة! ويا أغنياء الأمة! ويا شباب الأمة! عودة إلى الله الواحد الأحد، والله لا ينظِّم حياتنا إلا كتاب الله تعالى، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، عودوا إلى عزكم وماضيكم التليد.
شباب الحق للإسلام عـودوا فأنتم فجرُه وبكم يسود |
وأنتم سـر نهضته قديماً وأنتم فجرُه الباهي الجديد |
اللهم أعدنا إليك عوداً سليماً حميداً، وردنا إليك رداً مجيداً، ثبت على الحق قلوبنا، وثبت على الإيمان أقدامنا، وسدد في سبيلك سهامنا، وارفع إلى مجدك أعلامنا، واحفظنا يا رب العالمين، ووفقنا لما تحبه وترضاه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
أيها المؤمنون! طريق العودة من واقعنا المأساوي بعد أن نعترف به:
وأنا أقدم لكم هذا اليوم حديثاً قدسياً لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، من كلامه جل في علاه، يقول سبحانه: (وعزتي وجلالي -جل اسمه وتقدست أسماؤه وصفاته- ما اعتصم بي عبدٌ فكادت له السماوات والأرض إلا جعلتُ له من بينها فرجاً ومخرجا)، يقسم الله أن من اعتز به وانتصر والتجأ إليه، ليجعلن له فرجاً من الفتن، ومخرجاً من المحن، ويجعل له تيسيراً بعد عسر، وسهولة بعد صعوبة، ثم يقول: (وعزتي وجلالي! ما اعتصم بغيري عبدٌ إلا زلزلتُ الأرض من تحت قدميه، ثم لم أبالِ في أي أودية الدنيا هلك).
فأول العودة: الاعتصام بحبل الله تعالى، وهو الإيمان بالله جل في علاه، والرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً.
ويقول سبحانه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، أممٌ إسلامية وشعوب تريد الإسلام، خرجوا في الجزائر بالملايين يريدون الإسلام، وفي باكستان ، في كل بلاد العالم يريدون الدين، ثم يُحْكَمون بالحديد والنار، ويُلْغَى الإسلام، ويوضع أول فقرة من فقرات الدستور: الدولة علمانية -يعني: ليست إسلامية- وآخرون يستنشد جيوشهم في الصباح:
آمنت بـالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني |
لا إله إلا الله، محمد رسول الله!
فتحكيم شرع الله في الأرض هو مطلب كل الشعوب الإسلامية، ولو طُلِب تصويت على ذلك لكانت النسبة تفوق التسعين، كلهم يريدون الإسلام، لا خيار لهم إلا الإسلام، فلماذا يُحال بينهم وبين الإسلام؟! لماذا يركن الإسلام للمقبرة، وللجنازة، وللتمائم وللطقوس وحفلات المولد؟! ولكن يُنَحَّى الإسلام من الحكم.. من الاقتصاد.. من الإعلام.. من التعليم.. إن هذا هو الظلم إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] جل في علاه.
تآخوا على المعصية، وسكتوا عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (كلا والذي نفسي بيده لَتَأْخُذُنَّ على يدَي السفيه، ولَتَأْطُرُنَّه على الحق أطراً، أو لَيُخالِفَنَّ الله بين قلوبكم، ثم يلْعَنُكُم كما لعن الذين من قبلكم)، ترى تاركَ الصلاة، فتقول: نفسي.. نفسي..! هذه حرية شخصية! حرية فردية! لا. الإسلام يأمر بالمعروف: صَلِّ.
ترى شارب الخمر والمرابي ولا تنهاه! بحجة أن هذه حرية الناس في ديانتهم وفي أفكارهم! لا. نحن أمة واجبٌ علينا أن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر.
كان المسـلمون في عهـده عليه الصلاة والسلام أصنـافاً، يقف يوم عرفة ، وهو قرشي، وسلمان الذي يقول عنه: (سلمان منا آل البيت) فارسي، وصهيب رومي، وبلال حبشي، فهؤلاء قدموا للأمة الرسالة لما صدقوا مع الله عز وجل، ولم ينفع صاحب النسب نسبه ولا حسبه، فوَحْدَةٌ يا عباد الله واتحادٌ.
كان عليه الصلاة والسلام إذا خطب لا يشهِّر بالأسماء، بل يقول: (ما بال أقوامٍ يصنعون كذا وكذا)، فالله.. الله..! في الخطاب الإعلامي، أن يكون هادفاً، قيِّماً، مؤدباً، يؤدي رسالته الحقة، ويقول كلمة الحق، لا يَخشى في الله لومة لائم.
وبالمقابل: فإنني أنصح الإعلام بما يقدمه من فضائيات، وصحف ومجلات أن يتقي الله في أمة الإسلام، فالأمة تعيش هزيمة في اقتصادها، وأدبها، وعلمها، وتآلفها، وهم يُشْغِلون الأمة بالسخف من الغناء الهابط الرخيص، من دغدغة المشاعر، والدعوة إلى الفاحشة، والارتكاس في الرذيلة، قنوات تبث ولا تجد فيها كلمة حق، مَحَت القرآن والسنة، ودروس العلم، والتوجيه التربوي، والإرشاد والفهم، وقربت للأمة كل طريقةٍ من طرق الرذيلة، أحذِّر هؤلاء من غضب الله، وأقول: اتقوا الله في أجيالنا وفي شعوبنا.
وأنا أطالع مذكرة للهالكة غولدا مائير اسمها الحقد، وهي مذكرات تباع في الأسواق، تقول: -وهي رئيسة وزراء- منعتُ دخول التليفزيون في ثكنات الجيش الإسرائيلي، فهذه امرأة يهودية تطالب بالجدية في جيشها، وإعلام المسلمين يشيع في بعض قنواته الرذيلة، ويقدم الفحش، ويدعوهم إلى الانسلاخ من الخلق، وإلى التعري من الأدب، أهذا هو الإعلام الراشد؟! ألا فاتقوا الله في إعلامنا، وأحكامنا، وعلمنا، وأدبنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، هذا هو الطريق إن أردنا الإصلاح.
أيها الإخوة: صلوا وسلموا على المعصوم، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسولنا وحبيبنا، اللهم صلِّ وسلم عليه، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين! وبلغ أصحابه، وأحبابه، وآل بيته صلاتنا وسلامنا، وارض عن الجيل الراشد، وعمن تبعهم إلى يوم الدين. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
اللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك، اللهم انصر هذه الأمة، وأيدها يا رب العالمين! وردها إليك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تردنا إليك رداً جميلاً، وأن تهدينا، يا رب العالمين! وأن تصلح من شأننا.
اللهم اكبت عدونا، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم من أراد بلادنا، واحتلال أراضينا، والتعرض لأعراضنا فدمر جنوده، ومزق حشوده، وأغرق أساطيله، واكفنا شره، يا رب العالمين!
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل تدبيره تدميره، وكيده في نحره، واجمع كلمتنا على الحق يا رب العالمين! اللهم اهدنا سبل السلام، ورد شبابنا إليك رداً جميلاً، وأحسن عاقبتنا، ووفقنا لما تحبه وما ترضاه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر