إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [118]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدعاء أفضل العبادة، وله آداب، منها: العزم في المسألة، ولإجابة الدعاء أسباب ينبغي معرفتها والإتيان بها، كما ينبغي معرفة موانع الدعاء وتجنبها، وقد جاء ذكر الأسباب والموانع في كثير من النصوص.

    1.   

    حكم قول: اللهم اغفر لي إن شئت وما شابهه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول: (اللهم اغفر لي إن شئت):

    في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له)، ولـمسلم : (وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه) ].

    قوله: (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت) يعني: ما حكمه؟ هل هذا يجوز أم أنه من المحرمات التي تنقص التوحيد؟

    هذا فيه نقص في توحيد الإنسان، ولا يجوز أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم أعطني إن شئت، اللهم أدخلني الجنة إن شئت، يعني: لا يجوز أن يعلق سؤال الله جل وعلا بالمشيئة لما سيأتي، بخلاف سؤال المخلوق، فإن الإنسان إذا سأل مخلوقاً ينبغي له أن يعلق عطاءه بمشيئته يقول: أعطني كذا إن شئت؛ لأن المخلوق فقير محتاج، وقد تتعلق نفسه بالمسئول به ويستحي، وتصبح نفسه معلقة به، فيصبح السائل قد ارتكب محرماً من أجل ذلك؛ لأنه أخذ شيئاً ونفس صاحبه لم تطب به، وهي متعلقة به، وذلك أن المخلوق فقير محتاج دائماً لا ينفك عنه الفقر، أما رب العالمين فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل غنى فهو منه.

    ما يترتب على عدم العزم في المسألة

    قوله في الصحيح: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء)؛ لأن الله لا مخلف له، وفي رواية أخرى: (فليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء).

    تعليق سؤال الله أمور الدنيا أو أمور الآخرة بالمشيئة لا معنى له، بل هو من المحرمات، كما يدل عليه الحديث ويدل عليه المعنى، وذلك أن الذي يعلق السؤال بمشيئة الله لا يخلو: إما أن يعتقد أن إعطاء الله جل وعلا له ذلك قد يكون عن إكراه من الله، وهذا تنقص لله جل وعلا، فإن الله لا يحمله سؤال السائل على أن يعطي شيئاً لا يريده، فهو تعالى الله وتقدس لا يحمله إلحاح الملح على أن يعطي شيئاً وهو لا يريد إعطاءه؛ لأن كل شيء بمشيئته، فالملك كله له، والخلق كله له، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحمله على أن يفعل شيئاً وهو لا يريد.

    ومثل ذلك ما يلهج به كثير ممن لم يعرف الله حق المعرفة، فيسأل الله بالمخلوقين، كأن يقول: أسألك بفلان، وأسألك بنبيك فلان، وبكذا وكذا، يتصور أنه إذا سأله بفلان فأنه يعطيه أكثر مما لو سأله بأسمائه وصفاته سبحانه؛ لأن فلاناً يحمله على العطاء، تعالى الله وتقدس، وهذا تنقص لله جل وعلا، فهذا معنى.

    المعنى الثاني: أن قوله: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت) يعطي مفهوماً خاطئاً وهو: أن هذا السائل كأنه يقول: إن حصل لي ذلك المطلوب وإلا ليس بلازم، وهذا يشعر بالاستغناء عن السؤال، وهذا أيضاً لا يجوز أن يقع من العبد، العبد يجب عليه أن يظهر الفقر والفاقة والرغبة الشديدة، وأنه لا غنى له عن ربه وعن سؤاله.

    وهناك معنىً ثالث: وهو ما أشار إليه في الحديث: (إن الله لا مكره له)؛ لأنه قد يقول: هذا الشيء عظيم، وهذا الذي أسأل الله أن ييسره لي أنا ما أستحق هذا الشيء، فيعلقه بالمشيئة، فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأن الله جل وعلا مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتعاظمه شيء) يعني: ليس عنده شيء عظيم.

    وقد قال بعض الناس في مخلوق:

    وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

    ونحو ذلك، ورب العالمين جل وعلا هو أكرم الأكرمين، وعطاؤه بلا عد ولا حساب، يعطي من يشاء، يعطي الجنة والجنة لا ثمن لها،

    لا يمكن أن يحصل الإنسان على شيء يساوي قيمة الجنة، وإنما هي بفضل الله تعالى يتفضل بها على عبده، كما أنه تفضل عليه بالإيمان وهداية القلب والتوفيق، كذلك تفضل عليه بأن يدخله الجنة، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد أنه إذا سأل الله مسألة أن يقول: هذا شيء كبير بالنسبة إلى الله، هذا لا يجوز، كل شيء بالنسبة لله جل وعلا صغير.

    إذاً: هذه الأمور، وهذه المعاني الثلاثة، تمنع من أن يعلق الإنسان سؤال الله بالمشيئة، وهذا في المسألة التي يسألها الإنسان ربه ويدعوه، بخلاف الخبر الذي يخبر به، فإن كونه يخبر عن شيء سيقع، هذا يعلق بالمشيئة؛ لأنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله.

    ولا يشكل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في سلامه على الموتى: (من أتى إلى المقبرة فليقل: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون).

    فمعلوم أن الموت لابد منه، ولكن التعليق هنا بالمشيئة لما يكون عليه الإنسان؛ لأنه لا يدري ماذا يموت عليه؟ ولا يدري أين يموت؟ هل سيكون مع هؤلاء أو مع غيرهم؟ وهل يكون موته على الإيمان أو على غيره؟ فهو يعلق المشيئة على ذلك؛ لأنه لا يدري ماذا يقع له؟ لا يدري هل يكون مع هؤلاء المسلم عليهم، أو يكون مع غيرهم؟ وهل يكون على الإيمان الذي كانوا عليه، أو لا يكون على ذلك؟ فلهذا قال: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).

    وأما قول الله جل وعلا: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27]، فهذا خبر عن أمر سيقع، وكل شيء سيقع يعلق بمشيئة الله جل وعلا.

    وأما قوله جل وعلا في ذكر أهل الجنة وأهل النار: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، وقوله في أهل الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108].

    فالمقصود أنه جاء بالاستثناء هذا (إلا ما شاء ربك) -والله أعلم- ليبين جل وعلا أن الخلود والأبدية بمشيئته، وأن أهل الجنة وأهل النار لم يكتسبوها بذواتهم وأعمالهم، وإنما الله جل وعلا هو الذي أعطاهم ذلك، ولو شاء لغير الواقع، فيكون مثل قوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد:31]، والناس أكثرهم غير مهتدٍ، وهذا يبين لنا أن كل شيء بيد الله؛ حتى لا يطمع طامع ويقول: إنه اكتسب صفة من صفات الله جل وعلا وهي البقاء السرمدي في الجنة، وإنما أعطي ذلك فضلاً من الله جل وعلا.

    هذا هو الذي يظهر في معنى الاستثناء بالنسبة لأهل الجنة، وكذلك لأهل النار، وأما الاستدلال بهذه الآية على أن النار تفنى فهو استدلال غير صحيح، فقد ذكر الله جل وعلا آيات صريحة في أنها باقية، والقول بفنائها استناد على مفهوم هذه الآية هو من أقوال أهل البدع.

    1.   

    حقيقة الدعاء والسؤال والمقصود منهما

    الدعاء والسؤال عبادة تعبد الله جل وعلا بها خلقه، وقد جاء في الحديث: (الدعاء مخ العبادة)، والله جل وعلا يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] قوله: (ادعوني) هذا أمر بالدعاء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يغضب إذا لم يسأل).

    والإنسان فقير إلى ربه فقراً لا ينفك عنه، إذا لم تحصل له السعادة والمغفرة والعطاء من ربه جل وعلا فهو هالك ومعذب ولا شك، فيتعين عليه أن يرغب في الدعاء إلى الله، وأن يلح، وأن يعظم الرغبة والإقبال عليه بشدة، والاستثناء وتعليق الدعاء بالمشيئة يدل على خلاف الرغبة وخلاف الجزم، وخلاف كونه فقيراً إليه سبحانه.

    وأما من جانب الرب جل وعلا فهو غني، يعطي ما يشاء بلا عد ولا حساب، ولا يكون الشيء عظيماً عليه بأن يعطيه، فلا داعي للاستثناء؛ لأن الاستثناء فيه نقص من ناحية العبد وجهل، وفيه تنقص من العبد لربه جل وعلا في هذا، وبهذا يتبين لنا أن تعليقه محرم وليس مكروهاً فقط.

    1.   

    مناسبة ذكر باب قول: (اللهم اغفر لي إن شئت) لكتاب التوحيد

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت) يعني: أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب ].

    يبقى ما مناسبة ذكر هذا الباب في كتاب التوحيد؟

    نقول: التوحيد أصله ولبه: الإخلاص، والإخلاص هو معرفة القلب لأمر الله جل وعلا وإنابته له، والرغبة والرهبة منه، فإذا كان عارفاً بمن يسأل، وراهباً منه مقبلاً عليه مخلصاً، فلابد أن يكون في سؤاله جازماً غير متردد، وغير معلق سؤاله بالمشيئة؛ لأنه يظهر الفقر، وهو الذل في العبادة لربه، وكذلك يعظم الرغبة في طلبه من ربه، فناسب أن يذكر ذلك، وإذا لم يكن الإنسان كذلك يكون توحيده ناقصاً، فصار في تعليق المطلوب بالمشيئة نقص في توحيد الطلب.

    1.   

    معنى قول الشارح: (وعطاؤه كلام)

    قال الشارح رحمه الله: [ بخلاف العبد فإنه قد يعطي السائل مسألته؛ لحاجته إليه، أو لخوفه منه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره.

    فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول؛ مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين، فإنه تعالى لا يليق به ذلك؛ لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام ].

    قوله: (وعطاؤه كلام) يعني: أنه يقول للشيء: كن فيكون: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم ، وفيه تعليم للعباد من الله جل وعلا، يروي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا).

    والظلم الذي حرمه الله على نفسه جل وعلا لم يلزمه أحد بذلك، هو الذي حرمه على نفسه تكرماً وجوداً، والظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه وهو كذلك في الشرع.

    ويقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، الله هو الغني عن كل الخلق، ما أحد يضره، ولا أحد ينفعه، وأعمال أهل المعاصي والكفر والفجور، وأهل محاربة الله ومعاداة الله، ومعاداة أوليائه، هذه الأعمال كلها ما يضرون بها إلا أنفسهم، ولا يضرون الله شيئاً.

    والله جل وعلا قد جعل لهم موعداً يأتون إليه ذليلين صاغرين، كل واحد يأتي فرداً كيوم ولدته أمه، ليس عليه حتى شيء يستر عورته، يأتون إليه ما معهم خول ولا مال ولا استعداد ولا أي شيء.

    فهناك يجزيهم الجزاء الذي يستحقونه، أما هذه الدنيا فهي ذاهبة بسرعة، ولو جازى أناساً في الدنيا، فعذبهم في الدنيا، فما تكفي مجازاتهم وعذابهم في الدنيا؛ لأنه ينقطع العذاب وينتهي، يموت الإنسان ثم ينقطع عذابه، وليست الدنيا محلاً لتعذيب الناس، وإنما يعذبهم الله بعذابه الذي أخبر الله جل وعلا عنه بقوله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ [المائدة:37]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ [السجدة:20]، ولهذا يقول جل وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، ما فيه عذاب مثل عذاب الله أبداً، فهو عذاب مستمر، ومع ذلك ما يخلص الموت إلى المعذب فيستريح، ولا يخفف عنه من العذاب، كلما احترق الجلد أعيد مرة أخرى، وهكذا.

    يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)؛ لأن النفع يكون لهم فقط، فيجزون بأعمالهم، ثم يقول: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )، المخيط: الإبرة، فإذا أدخلت البحر ورفعت هل تنقص من البحر شيئاً؟ هذا مجرد تمثيل، وإلا فالله جل وعلا لا ينفد ما عنده.

    وقوله: (عطاؤه كلام) يعني: أنه إذا أراد الشيء قال له: كن فيكون تعالى الله وتقدس، ما يعجز الله شيئاً في الأرض ولا في السماء.

    فعلى هذا لا داعي إلى أن الإنسان يستعظم المسألة التي يسألها من الله، فالله يعطي الشيء الكثير العظيم ولا يبالي تعالى وتقدس، غير أنه جل وعلا يعطي من يستحق العطاء؛ لأنه عليم بالعباد: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وهو جل وعلا كما يقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، له الاختيار، وله الخلق، وله العطاء، وله المنع، ولكن إذا منع أحداً فهو عدل، وإذا أعطى أحداً فهو فضل.

    قال الشارح رحمه الله: [ وفي الحديث: (يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه)، يعطي تعالى لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو الحكيم الخبير.

    فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة].

    معنى العزم في المسألة: أن يقبل برغبة وإلحاح، هذا هو العزم في المسألة، ما يكون متردداً، بل يقبل على ربه جل وعلا راغباً.

    1.   

    نعم الله لا تعد ولا تحصى

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ فإن الله لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة ولا عن عظم مسألة، وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه :

    ويعظم في عين الصغير صغارها ويصغر في عين العظيم العظائم ].

    يعني: المخلوق مهما أعطى فإن عطاءه محدود ومحصور، فلا يجوز أن يقاس رب العالمين جل وعلا في كرمه وجوده وعطائه بعطاء مخلوق ضعيف فقير مهما كان، حتى وإن كان ملكاً، فكلما في الدنيا محدود، فلا يجوز أن يقاس فعل الله بأمور الدنيا، وكل ما في الدنيا من العطاء فهو من الله، فهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وأما هذا: بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا، وإلا فإن العبد يعطي تارة، ويمنع أكثر، ويعطي كرهاً، والبخل عليه أغلب، وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم.

    وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال، من حيث وضعت النطفة في الرحم، فنعمه على الجنين في بطن أمه دارة، يربيه أحسن تربية، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه، ورباه بنعمه حتى يبلغ أشده، يتقلب في نعم الله مدة حياته.

    فإذا كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين، وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم -وإن كان بعضها على يد مخلوق- فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده.

    فإن الله تعالى هو المحمود على النعم كلها، فهو الذي شاءها وقدرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله، فله النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].

    وقد يمنع تعالى عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر أو ليعطيه أكثر، فتبارك الله رب العالمين ].

    يعني: أن السائل لربه لن يخيب أبداً، إذا سأل ربه فلا بد له من إحدى ثلاث:

    إما أن تعجل له مسألته، وإما أن تدخر له في يوم هو أفقر منه إلى هذه المسألة، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم مما لو أعطيها، فهو لا يخلو من واحدة من هذه الأمور الثلاث.

    1.   

    آداب الدعاء وأسباب الإجابة

    ينبغي للسائل أن يلح في السؤال، وأن يكثر من السؤال، فالله جل وعلا أمر بالسؤال ووعد بالعطاء، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] والمفسرون منهم من يقول: أي: ادعوني أعطكم، ومنهم من يقول: ادعوني أثبكم، والمعنى قريب، فالذي يقول: ادعوني أعطكم، معناه أنها مسألة معينة، وأنه يعطي على ذلك.

    وأما الذي يقول: ادعوني أجبكم، معناه أنها عبادة، والعبادة يثاب عليها، والثواب قد يكون عاجلاً، وقد يكون عاجلاً وآجلاً، وقد يكون آجلاً في الآخرة.

    فالمعنى أن الإنسان لن يخيب إذا سأل ربه، وقد يكون عند الإنسان موانع ترد مسألته من قبل نفسه؛ لأن الدعاء له موانع، فمن أعظم الموانع أن الإنسان يأكل حراماً ويلبس حراماً، جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟!).

    وهذه الأمور تدل على إجابة الدعاء، كونه يبتذل، والابتذال مذلة، والافتقار مذلة، وكونه منكسر القلب، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، وانكسار القلب سبب الإجابة، فإذا انكسر قلب الإنسان فمعناه أنه ذل لربه جل وعلا، وافتقر واستشعر الفقر والحاجة من ربه جل وعلا، وألح في ذلك، فالدعاء لا يرد إذا كان بهذه المثابة وبهذه الصفة إلا إن كان كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ورفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة، ولا يكره رفع اليدين في الدعاء إلا في العبادات التي جاءت مقيدة وليس فيها أصل الرفع كبعد صلاة الفريضة مباشرة إذا سلم، والعبادة يجب أن تكون على ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر به ويفعله، ما يزاد فيها.

    ولكن في الدعاء العارض بعد الصلاة النافلة وما أشبه ذلك يرفع يديه، فرفع اليدين من أسباب الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده المؤمن أن يرفع يديه ثم يردهما صفراً) فهو كريم جل وعلا.

    ومن أسباب إجابة الدعاء: لزوم الاسم المعظم: يا رب! يا رب! يا رب! يا رب! وتكراره، وقد جاء أن العبد إذا قال: يا رب! يا رب! فإن الله يقول: لبيك! ويعطيه ما يطلب، وقيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم: يا رب! والرب هو الذي يقوم على مصالح وحاجات الخلق من الرزق، ودفع المؤذيات، وجلب المنافع.

    ولهذا إذا تأمل الإنسان أدعية الرسل في القرآن، وجدها كلها بهذا اللفظ إلا ما شاء الله: يا رب! ربنا، ربنا، ربنا؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يعدل عن هذا الدعاء إلى غيره، وإنما يلزم هذا الاسم، فهو من أسباب الإجابة.

    1.   

    موانع إجابة الدعاء

    من كان يأكل الحرام ويتعامل بالحرام فإن هذا من أعظم موانع إجابة الدعاء؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أنى يستجاب له؟)، والسبب أن مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فالحرام أحد الموانع.

    الثاني من الموانع: أن الإنسان يستبعد أن يستجاب له، يدعو وهو يظن في نفسه أنه لا يستجاب له، لهذا جاء الأمر بالدعاء مع اليقين: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).

    من الموانع: أن الإنسان يدعو فيستعجل الدعاء ثم يترك، يدعو ثم يدعو ثم يقول: لم أجب؛ فيترك الدعاء، فهذا أيضاً من الموانع. جاء أن الإنسان يستجاب له ما لم يستعجل، يقول: دعوت فدعوت فلم يستجب لي. وربما يكون في ذلك خير أراده الله جل وعلا له، فيفتح عليه باب مسألة ربه جل وعلا، فيلح ويكثر من السؤال، ويكون ذلك خيراً فتح عليه.

    الرابع من الموانع: أن يبالغ في الدعاء، مثل أن يسأل سؤالاً لا يليق به، كأن يسأل أن يعطى ما يعطى الأنبياء من الدرجات، والأنبياء لهم درجة خاصة، أو مثلاً يسأل شيئاً ليس له كأن يقول: أسألك القصر المعين الذي فيه كذا .. وفيه كذا .. وفيه كذا .. الذي في أعلى الجنة أو في الجنة أو عن يساره أو في المكان الفلاني أو غير ذلك، هذا اعتداء وعدوان، أو يسأل الله قطيعة رحم؛ ولهذا جاء أن الإنسان إذا سأل يستجاب له ما لم يعتد أو يسأل قطيعة رحم، وغير ذلك من موانع عدم الإجابة.

    أما إذا خلا الإنسان من هذه الموانع فإنه لا يخلو من الأمور الثلاثة التي ذكرناها: إما أن تعجل له دعوته ويراها، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم مما دعا، وإما أن تدخر له هذه المسألة يوم القيامة، فيجدها أحسن مما لو أعطيها في الدنيا، والله كريم عليم بما يسر عبده، ولطيف به، قد يمنعه شيئاً يسأله، فيكون المنع خيراً له.

    قال الشارح رحمه الله: [ قوله: ولـمسلم (وليعظم الرغبة) أي: في سؤاله لربه حاجته، فإنه يعطي العظائم كرماً وجوداً وإحساناً.

    فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه أي: ليس شيء عنده يعظم، وإن عظم في نفس المخلوق؛ لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله، بخلاف رب العالمين، فإن عطاءه كلام: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فسبحان من لا يقدر الخلق قدره، لا إله غيره ولا رب سواه].

    1.   

    مسائل باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت

    النهي عن الاستثناء في الدعاء

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل:

    الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء ].

    يعني: لا يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، فالنهي هنا يدل على التحريم، وليس على الكراهة، فلو فعل ذلك الإنسان لكان قد ارتكب محرماً، وعليه أن يستغفر الله ويتوب.

    بيان العلة في النهي عن الاستثناء في الدعاء

    [ الثانية: بيان العلة في ذلك ].

    العلة واضحة، وهي أنه لم يسأل فقيراً، فالله جل وعلا لايتعاظمه شيء، إذا شاء أن يعطي أعطى، وإذا شاء أن يمنع منع، فلا معنى للاستثناء، ولا معنى للتعليل، فما هناك شيء عظيم عند الله جل وعلا، كل شيء عند الله جل وعلا سهل وميسور.

    قوله: (ليعزم المسألة)

    [ الثالثة: قوله: ليعزم المسألة ].

    يعني: كونه يرغب إلى ربه جل وعلا ويعزم المسألة، بأن يكون راغباً مظهراً الفقر وشدة الحاجة، منكسر القلب من شدة حاجته لما عند ربه، هذا هو العزم في المسألة.

    وإذا عرف الإنسان أن ذلك بيد الله، وأنه قريب ليس ببعيد؛ يعزم المسألة.

    التعليل لأمر الرغبة في الدعاء

    [ الرابعة: إعظام الرغبة.

    الخامسة: التعليل لهذا الأمر ].

    وقد أثنى الله جل وعلا على الذين يدعونه رغباً ورهباً، وهذه صفة عباده الصالحين من الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، فيرهب الإنسان من ذنوبه، ويرغب في عطاء الله جل وعلا وإحسانه، فيكون معظماً ربه، خائفاً من ذنوبه، ولكن الرغبة في المسألة تكون أرجح؛ لأن الله كريم، والعبد لا ينفك عن المعصية، والرب جل وعلا مغفرته ورحمته عامة شاملة لجميع خلقه، حتى الكفار ينعم عليهم، ويغدق عليهم من النعم، وهم مع ذلك يتقوون بنعمه على معاصيه، فهذا يدل على كرمه جل وعلا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756526785