إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [136]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لله الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأصل أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به ورسوله صلى الله عليه وسلم، دون تحريف أو تأويل أو تعطيل أو تمثيل، ولكن كثير من المبتدعة -ممن خالفوا منهج الحق- تجاوزوا هذا الأصل، ووقعوا في المحظور. فانطبق عليهم قوله: (وما قدروا الله حق قدره).

    1.   

    المذهب الحق في نصوص الصفات إمرارها كما جاءت دون تأويل أو تعطيل

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر:67] الآية، أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة.

    قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته، قال مجاهد : نزلت في قريش، وقال السدي : ما عظموه حق عظمته، وقال محمد بن كعب : لو قدروه حق قدره ما كذبوه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره].

    هذه الأقوال كلها حق، ولكن المفسرون عادتهم أن كل واحد يذكر الشيء الذي يناسب السامع الذي يسمع، فيذكر بعض المعنى.

    وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، ومذهب السلف فيها وفي أمثالها: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية) متفق عليه.

    وفي رواية لـمسلم : (والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله).

    وفي رواية للبخاري : (يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه].

    هذا حديث متفق عليه رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما -وغيرهما من أئمة الحديث- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود) والحبر هو العالم، وهو يهودي لم يسلم فقال: يا محمد! وهكذا عادة اليهود يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه، وما يخاطبونه بما أمر الله أن يخاطب به؛ لأن الله جل وعلا يقول: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] يعني: لا تقولوا: محمد بن عبد الله، ولكن قولوا: رسول الله، نبي الله.

    فقال: (يا محمد إنا نجد -يعني: في التوراة التي نزلت على موسى وتوارثوها- أن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ أين الجبارون المتكبرون؟) هذا حين يقبضهم بيده جل وعلا، فيصبحوا كلهم في قبضته، وقد قال الله جل وعلا في هذه الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني: ما عظموه التعظيم الذي يجب له، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . فلما قال اليهودي هذا الكلام؛ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لما قال هذا الحبر، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. إلى آخرها.

    1.   

    فوائد حديث الحبر الذي قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع)

    هذا الحديث يدلنا على أمور:

    أولاً: يدلنا على عظمة الله وكبريائه، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، وأن السموات على سعتها وعظمها تصبح بالنسبة إلى الله حقيرة صغيرة جداً، كما قال عبد الله بن عباس : إن الله يقبض السماوات كلها، فتكون في كفه جل وعلا كالخردلة، لا يجوز للإنسان أن يتصور أن هناك شيئاً أكبر أو أعظم من الله، وإذا كان بهذه العظمة فكيف يسوغ للإنسان أن يقول: إنه مع خلقه بذاته حال معهم؟ وكيف يسوغ لإنسان أن يقول: إن السموات تكون فوقه إذا نزل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة : (إذا بقي ثلث الليل الآخر ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيبسط يده فيقول: هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر) ما يجوز أن يتصور متصور أن هذا النزول الإلهي في آخر الليل إلى السماء الدنيا تكون فيه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه تعالى الله وتقدس، بل ينزل وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء.

    ثانياً: قوله جل وعلا: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] هذا يوم القيامة، وقوله جل وعلا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] هذا أيضاً يوم القيامة حين يحشر الناس على وجه هذه الأرض بعدما يمدها، ويزيد فيها، ويذهب جبالها ووهادها؛ فتصير قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً؛ حتى تتسع للخلق من الجن والإنس، منذ خلقوا إلى آخر مولود منهم، فيجمعهم عليها راغمين ذليلين حقيرين، ترى الذي عصوا الله كالذر تطؤهم الأقدام، فإذا طال بهم الوقوف استشفعوا بالأنبياء أن يأتي ربهم جل وعلا ليقضي بينهم؛ فيأتي جل وعلا وهو على عرشه فوق سماواته بل فوق كل شيء؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء.

    ثالثاً: فيه أن لله يدين يقبض بهما إذا شاء أن يقبض، فيقبض السماوات والأرض، وإحداهما يمين، كما قال جل وعلا: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، وفي صحيح مسلم: (يطوي السموات بيمينه، والأرض بشماله) وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وصح تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عباس في قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ يقول في تفسيرها: يطوي السموات بيمينه، والأرضين بيمينه، وشماله خلو ما فيها شيء، أي: أن جميع مخلوقاته يطويها بيمينه فقط، هكذا قال حبر الأمة، ومثل هذا لا يقوله عن رأيه، إنما يقوله عن علم تلقاه من مشكاة النبوة.

    رابعاً: في هذا النص التصريح بأن ليديه أصابع جل وعلا، يمسك بها ما يشاء، ويضع عليها ما يشاء، وفيها أيضاً إثبات هزه الأشياء هزاً قوياً وقوله: أنا الملك، يعني: الملك الحق الذي ليس لأحد معه ملك تعالى وتقدس، وجاء هذا موضحاً في تفسير قوله جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:18-19] وقبلها قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، يقول العلماء فيها: إن الله جل وعلا إذا كان يوم القيامة قبض على سمواته وأرضيه، ويطويها بيده، ثم يهزهن ويقول: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه فيقول: لله الواحد القهار، جاء هذا في آثار مروية عن السلف، وفيه ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأمور التي يجب الإيمان بها، ويجب أن يعلم الإنسان عظمة الله جل وعلا، وأن نصفه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله على حد قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ تعالى وتقدس، فكل ما وصف الله جل وعلا به نفسه، وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب أن نؤمن به على ظاهره، خلافاً لما يقوله الأشاعرة وأهل الكلام الذين يقولون: هذه ظواهر لا يجوز اعتقادها؛ لأنا لو اعتقدنا ظاهرها لدلت على التشبيه لله تعالى وتقدس، ونحن نقول: هذا باطل، وظن سوء بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

    أما كونه ظن سوء بالله؛ لأن الذي دعاهم إلى هذا القول هو تصورهم أن هذه الصفات مثل صفاتهم التي يعقلونها من أنفسهم، تعالى الله وتقدس، ولهذا إذا سمعوا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) قالوا: كيف ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل، وآخر الليل يختلف باختلاف المناطق والأقاليم؟ فلو قلنا بهذا لكان النزول دائماً متواصلاً طوال أربع وعشرين ساعة!

    ونحن نقول: هذا القول الذي تقولونه، والتقدير الذي تقدرونه؛ لو كان النزول مثل النزول المعهود لكم، نزول جسم إلى جسم، ولكن هذا نزول الله، والله جل وعلا يستمع لخلقه كلهم في آن واحد وهم يناجونه ويعبدونه، كل واحد منهم يقول: يا رب يا رب، وهو يسمع كل واحد، لا يشغله سماع هذا عن سماع الآخر.

    وكذلك يرزقهم كلهم في آن واحد، ويعلم ما في نفوسهم في آن واحد، وكذلك إذا صار يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكل واحد يكلمه رب خالياً به، يرى أنه ما يكلم غيره، وهو يكلم الخلق كلهم، فالرب جل وعلا لا يجوز أن نقيسه بالمخلوقين في أفعاله وأوصافه، فالذي يقول مثل هذا القول؛ ما قدر الله حق قدره تعالى الله وتقدس.

    فالمقصود: أنه يجب علينا أن نعتقد ما قاله الله في نفسه، وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، على ما يليق بالله وعظمته وكبريائه، ولهذا يقول الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فأثبت لنفسه السمع والبصر الذي هو موجود في المخلوقات، ولكن سمعه وبصره ليس كسمع المخلوق وبصره، وكذلك سائر أوصافه جل وعلا، فهذا ظن السوء بالله.

    أما ظنهم السوء بالرسول صلى الله عليه وسلم فواضح، فعلى قولهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ أمته ما ظاهره الكفر، وتركهم بدون أن يوضح لهم، تعالى الله وتقدس أن يقر نبيه على هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم وضح للأمة غاية الإيضاح، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر لنا مثل هذه الأحاديث قال: لا تعتقدوا ظاهرها أبداً، بل جاء ما يدل على أنه يريد منا أن نعتقد ظاهرها على ما يليق بالله، ففي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب) يعني: إذا تأخر المطر، وإذا أجدبت الأرض، فمن الناس من يقنط ويستبعد الخير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة: (ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب، فقال أبو رزين العقيلي : يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، فقال: إذاً لا نعدم خيراً من رب يضحك -وفي رواية إذاً: لا يعدمنا ربنا خيراً إذا ضحك-) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

    وفي حديث عائشة أنه قال: (أو يضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: إي والله) أقسم صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نعظم ربنا جل وعلا، فلا يكون ضحكه كضحك المخلوق -تعالى وتقدس-، ولا تكون يده كيد المخلوق، وهكذا بقية أوصافه.

    فهذه طريقة أهل السنة: يقبلون ما جاء عن الله وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم مخبراً به عن ربه جل وعلا من غير تحريف يسمونه تأويلاً، وهو في الواقع تحريف، فأهل البدع قالوا: يد الله قوته، أو نعمته، أو سلطانه، أو قهره، هكذا قالوا، وهذا في اليد الواحدة فكيف باليدين، كما قال جل وعلا: قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فهل يجوز أن نقول: نعمتان مبسوطتان؟ النعمة لا حصر لها، ولو كان مثل ما يقولون لبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهم يقولون: اعتقاد ظاهر هذه النصوص كفر، ولازمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقر الأمة على الكفر، فنقول: من اعتقد هذا فهو لم يشهد أن محمداً رسول الله في الحقيقة؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله أنه رسول بلغ ما أنزل إليه من ربه البلاغ المبين، ولم يترك الأمر مشتبهاً ملتبساً على الخلق، بل وضح وبين في آخر مشهد عظيم شهده مع أمته، لما خطب في منى وفي عرفات وفي حجة الوداع قبيل وفاته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني أيها الناس، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، -هكذا قالوا له- فصار يشهد ربه عليهم، يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها إليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ، فالذي يقول هذا القول فإنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ.

    ثم يجب على العبد المسلم أن يعتقد عقيدة جازمة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وأنه صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله وأخشاهم له، وأعظمهم غيرة على الله أن يوصف بغير ما وصف به نفسه، فلا يمكن أن يقر اليهودي على مثل ذلك، قال أحد شراح الأشاعرة في شرحه لهذا الحديث -وللأسف فإنه شرح كلام الرسول صلى الله عليه وسلم-: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً من جرأة اليهودي على التشبيه، وهذا ظن سوء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث يضحك على الباطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع الباطل غضب ولا يقوم أحد لغضبه، فلا يقال: إنه يضحك من الباطل والكفر! فيجب أن ينزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا القول، بل آحاد الأمة يتنزه عن مثل هذا.

    فالمقصود أن الباطل واضح، والحق واضح جلي، وليس هناك طريق للعصمة من الخطأ والزلل والضلال إلا بكتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فقط.

    ويكفينا أن نذكر نموذجاً واحداً فقط، وإلا فالباب في الحقيقة أمره يتطلب كلاماً كثيراً، ولكن نذكر الطريقة حتى يترسمها الإنسان، والشيء القليل يكفي عن الشيء الكثير.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه، والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي ، كلهم من حديث سليمان بن مهران -هو الأعمش - عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.

    قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: (جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم! أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر قال: وأنزل الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. . الآية) ، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به].

    1.   

    بعض المسائل المستفادة من الحديث

    في هذا الحديث مسائل:

    أولاً: قد يقول قائل: سورة الزمر مكية، فكيف يقول: فنزلت الآية، وقد نزلت في مكة؟ والله جل وعلا يقول قبل هذه الآية: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. [الزمر:65-67].. إلى آخره؟

    الجواب: الواقع أنه جاء في بعض الروايات: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية)، وقد يتكرر نزول الآية أكثر من مرة كما جاء في أن الفاتحة نزلت مرتين، وكذلك بعض الآيات، ومثل هذا جاء في قوله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] كما في الصحيحين: أن هذه نزلت بسبب سؤال اليهود في حديث عبد الله بن مسعود حيث قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض حوائط المدينة، ومعه عسيب يتوكأ عليه، فمررنا على ملأ من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون، فقال واحد: والله لنسألنه، فقال: يا رسول الله! أخبرنا عن الروح، يقول عبد الله بن مسعود فسكت وبقي متكئاً وكأنه يوحى إليه ثم بعد ذلك قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فقال بعضهم لبعض: ألم نقل لكم: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون؟) أي: أنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وهم يزعمون أنهم أوتوا علماً كثيراً.

    المقصود: أن سورة الإسراء مكية نزلت في مكة، والجواب أن يقال: إما أن تكون الآية نزلت مرتين، وإما أن يكون كما في الرواية الأخرى: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    الأمر الثاني مما يؤخذ من هذا الحديث: أن الحق يجب أن يقبل وإن كان من عدو لك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له هذا اليهودي ذلك قبل، وجاء بما يصدق قوله مما أنزل عليه.

    الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً وفرحاً بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يفرح أن يكون هناك شهود له ممن سبقه، ونزل عليه علم يشهدوا له بالحق الذي جاء به، فهذا هو سبب ضحكه وتعجبه صلى الله عليه وسلم.

    ثم الأمور الأخرى التي أشرنا إلى بعضها سابقاً تؤخذ من هذا أيضاً.

    1.   

    حكم الإشارة عند ذكر صفات الله تعالى

    قال الشارح رحمه الله: [وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسين بن حسن الأشقر قال: حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن أبي الضحى عن ابن عباس قال: (مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماوات على ذه -وأشار بالسبابة- والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. ) وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به].

    وهذا يؤخذ منه: أن الإشارة عند ذكر صفات الله توضيحاً وتبييناً لا بأس به، وأما ما جاء عن البعض أنه قال: لو أن إنساناً قرأ قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أو ما أشبه ذلك، أو قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وأشار بيده، فإنه يجب أن تقطع يده؛ لأن هذا تشبيه، نقول: هذا من قول الجهمية الذين لا يريدون أن يسمعوا أوصاف الله جل وعلا وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره لهذه الإشارة أولى بالقبول، وقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر قالت : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر قبض الله جل وعلا للسماوات والأرض يوم القيامة، فجعل يقول بيده هكذا يمجد الرب نفسه، حتى رأيت المنبر يتحرك من تحته، فقلت: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).

    وكذلك جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: (كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد، فاطلعت عليها يوماً فوجدت الذئب قد أخذ شاة منها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فأسفت -يعني: غضبت- فضربتها في وجهها، ثم ندمت -فالإنسان في حالة الغضب يقع في أشياء لا يريدها- ثم ذهبت إلى رسول الله فأخبرته بذلك، فعظم ذلك عليه -يعني: كوني ضربتها- فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ فقال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال صلى الله عليه وسلم لها: أين الله؟ فأشارت بيدها وقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) وهؤلاء يقولون: لو أشارت اليد إلى الله لوجب قطعها؛ لأنهم معطلة، عطلوا الله جل وعلا عن أوصافه تعالى الله وتقدس عما يقولون ويعتقدون.

    1.   

    أدلة إثبات اليدين لله تعالى

    قال الشارح رحمه الله: [قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم قال البخاري : حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثنا الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟) تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.

    وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد قال: حدثنا عمي القاسم بن يحيى بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك) تفرد به أيضاً من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.

    وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية يوماً على المنبر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن به) ].

    قال المصنف رحمه الله: [ولـمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) ].

    في هذا الحديث إثبات الشمال، والمقصود أن لله جل وعلا يدين، وأما ما جاء في الصحيحين في قصة آدم أن الله جل وعلا (قبض بيديه فقال له: اختر؟ فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين) فمقصود هذا أن كلتاهما كاملة تامة لا يلحقها نقص، ليس كالمخلوق الذي يمينه أكمل من شماله، هذا هو المقصود بقوله: (وكلتا يديه يمين).

    وإذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النص وجب قبوله والقول به؛ لأنه معصوم فيما يبلغ عن الله جل وعلا.

    قال الشارح رحمه الله: [كذا في رواية مسلم ، وقال الحميدي : وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه، وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه) ].

    يعني ليس في البخاري لفظ (شماله).

    قال الشارح رحمه الله: [وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم . ].

    قال المصنف رحمه الله: [وروي عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم].

    في هذا إثبات الكف لله جل وعلا، فليده كف، وقد ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره، وهو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك القبض.

    1.   

    عظم الكرسي بالنسبة للسماوات

    قال المصنف رحمه الله: [قال: وقال: ابن جرير : حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد : حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) ].

    هذا هو الصواب الصحيح من أقوال العلماء أن الكرسي غير العرش، فقد قال الله جل وعلا: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] فالكرسي تحت العرش، وجاء عن السلف أنهم قالوا: الكرسي يكون المرقاة للعرش، يعني: الشيء الذي يجعل تحت الكرسي توضع عليه القدم، ولهذا قال ابن عباس : الكرسي موضع قدمي الرحمن جل وعلا، وإذا كانت السموات بالنسبة للكرسي على سعتها كسبعة دراهم ألقيت في ترس، فإن العرش أعظم من الكرسي، فالكرسي بالنسبة للعرش كدرهم ألقي في فلاة، فالعرش هو أكبر المخلوقات وأعظمها وأعلاها، والله جل وعلا فوق العرش تعالى وتقدس.

    1.   

    عظم العرش بالنسبة للكرسي

    قال المصنف رحمه الله: [ وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض) ].

    يعني: أن الكرسي مع كونه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] أوسع من السموات والأرض وأكبر، فهو بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة، والعرش كما جاء في الآثار له قوائم، ويحمل كما قال الله جل وعلا: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فأخبر جل وعلا أن له حملة، وأن له ملائكة يحفونه، ويسبحون بحمد ربهم، ويقدسونه، وهؤلاء هم أقرب الملائكة إليه، وأعظمهم طاعة له جل وعلا، وأعظمهم خلقاً، وأخبر أن هؤلاء يستغفرون للذين آمنوا.

    1.   

    سمك ما بين كل سماء والتي تليها

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ].

    وهذا اعتقاد أهل السنة، حيث يعتقدون أن الله فوق عرشه تعالى وتقدس كما قال الله جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وأن علم الله في كل مكان، وأن قول الله جل وعلا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] معناه: بعلمه واطلاعه وسمعه وبصره وقبضته وإحاطته، وهو فوق عرشه تعالى وتقدس، فهو أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756038060