إسلام ويب

تفسير سورة الفاتحةللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    مقدمة في فضل تعلم القرآن وتعليمه ومكانة أهله

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قد صح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعطي القرآن الكريم اهتماماً عظيماً جداً، وعلى هذا ربى أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ومن مظاهر هذا الاهتمام بكتاب الله تبارك وتعالى: أن إقراء القرآن وتحفيظ القرآن كان أول ما عمد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إبلاغ دعوته الكبرى، فكان مبعوثوه إلى مختلف الجهات أول ما يقومون بإقراء الناس القرآن. وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـعمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كتاباً أمره فيه بأشياء منها: أن يعلم الناس القرآن ويفقههم فيه كما جاء في سيرة ابن هشام . وروى البخاري عن أبي إسحاق عن البراء قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا ويحفظاننا القرآن. وكان مصعب رضي الله تعالى عنه يسمى: المقرئ، يعني: الذي يقرئ الناس القرآن ويعلمهم كتاب الله تبارك وتعالى. وكان الرجل من المسلمين إذا هاجر من المدينة دفعه النبي صلى عليه وآله وسلم إلى رجل من الحفظة ليعلمه القرآن. ولما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ثم أراد الرجوع إلى المدينة استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقرئهم القرآن ويفقههم في دينهم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة، فبعث معهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القراء) إلى آخر الحديث كما هو في صحيح مسلم ، وفيه ذكر غدر هؤلاء القوم بالقراء، حيث قتلوهم رضي الله تعالى عنهم. وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإكرام أهل القرآن إكراماً خاصاً ومتميزاً، حتى إنه صلى الله عليه وآله وسلم سماهم اسماً ينبض بأعظم المعاني، حيث سمى أصحاب القرآن وأهل القرآن: أهل الله وخاصته، كما رواه ابن ماجة وأحمد والدارمي من حديث أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يميز بين الناس ويرتبهم ترتيباً يخضع لحفظ كل منهم من القرآن الكريم، فمثلاً: في إمامة الصلاة يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، حتى عند دفن الموتى كان يقدم أكثرهم قرآناً، وعند اختيار أمير على مجموعة من الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم اختار ذلك الصحابي الذي كان يحفظ سورة البقرة وقال: (أنت أميرهم). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله -يعني: من علامات تعظيم الله سبحانه وتعالى وإجلاله- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقصد) رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه. قوله: (وحامل القرآن) يعني: وإكرام حامل القرآن. قوله: (غير الغالي فيه) يعني: الذي لا يغلو في تعامله مع القرآن، حتى يضيع غير ذلك من الواجبات عليه. قوله: (والجافي عنه) وهو البعيد عن القرآن الهاجر للقرآن. وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فدل على أن أشرف الوظائف الانشغال بتعليم القرآن وتعلمه؛ ومن أجل هذا الحديث قعد الإمام الجليل أبو عبد الرحمن السلمي أربعين عاماً يقرئ الناس القرآن بجامع الكوفة مع جلالة قدره وكثرة علمه. وسئل سفيان الثوري رحمه الله تعالى أيهما أفضل الجهاد أم تعليم القرآن؟ فرجح تعليم القرآن في الثواب والفضل على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وعن عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه -كما في الحديث الذي رواه الحاكم )، والله أعلم بصحته. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤم القوم أكثرهم قرآناً، فإن كانوا في القراءة واحداً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة واحداً فأفقههم فقهاً، فإن كانوا في الفقه واحداً فأكبرهم سناً)، فهذا فيه رد على بعض الناس الذين حينما يختارون إمامهم في الصلاة يقدمون السن على ما عداه من الاعتبارات، وينبغي التقديم على الترتيب الذي دلنا عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يؤم القوم أكثرهم قرآناً)، وهذا في حالة عدم وجود إمام راتب للمسجد. وكان القراء أصحاب مجلس عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه وأصحاب مشاورته. ففضل الاشتغال بالقرآن الكريم لا يدانيه فضل، وكل من انتسب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عامة، وإلى الدعوة السلفية بصفة خاصة، فينبغي أن يتميز باهتمامه بالقرآن العظيم، ووجود علاقة خاصة بكلام الله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). وقد ثبت في فضيلة حفظ كتاب الله عز وجل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقال لصحاب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). ومما يرغب في حفظ القرآن الكريم كثرة الأحاديث في فضل ذلك، ومنها: أن الله تبارك وتعالى لا يحرق أو لا يعذب بالنار صدراً هو وعاء للقرآن، فإن ضم القلب كلام الله تبارك وتعالى فيرجى من رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعذب بالنار هذا القلب الذي وعى القرآن وتشرف به، فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وجاء في بعض التفاسير لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) أن الإنسان إذا نال شرف القرآن فعليه أن يستغني به عما عداه، عليه ألا ينزل إلى مرتبة التنافس مع الناس في الدنيا، وألا يذل نفسه وقد حمل القرآن الكريم، وأن يكون عزيزاً، وهذا على أحد أوجه تفسير الحديث. فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، ويكفي أنك إذا شرفت بنيل إجازة من القراء المشايخ فقد نلت شرفاً عظيماً جداً لا يدانيه شرف، ويكفي أنك ستكون في سلسلة تظل تتدرج من شيخك إلى شيخ شيخك، إلى التابعين، إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى رب العزة، فكأنه حبل طرفه عندك والطرف الآخر عند الله عز وجل، فهل يعلم أحد شرف ونسب أعظم من هذا النسب؟! طرف سلسلة الإسناد تبدأ به وتنتهي بالله عز وجل! فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وشرف التفقه فيه فوق كل شرف، ألا ترى أنه لا يصد واحداً من أهل القرآن عن إمامة الناس في الصلاة، حتى لو كان أعرابياً أو عبداً مملوكاً أو حتى ولد زنا على قول الإمام أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني . إذاً: شرف القرآن يرفع عنه كل وضيعة، ويؤهله لإمامة الصلاة التي هي من الوظائف الشرعية الشريفة. كذلك القيام على خدمة المصحف الشريف وتعليمه للناس هو فخر الفاخرين، وشرف من يطلب الشرف، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وفي الحقيقة نحن مقصرون تقصيراً شديداً بالنسبة للاهتمام بتحفيظ القرآن ومدارسته، وقد قال بعض السلف: عجبت لمن لم يحفظ القرآن ولا يعلم تأويله كيف يلتذ بتلاوته؟! أي: عجبت ممن يقرأ القرآن وهو لا يعرف تفسيره كيف يلتذ بتلاوته؟!

    الفضائل التي اجتمعت للقرآن الكريم

    الاشتغال بمعاني القرآن وتفسير القرآن، والاشتغال بتلاوته وحفظه وتجويده ومدارسته أمر مهم، ونحن على أعتاب هذا الشهر الكريم المبارك شهر رمضان، الذي أراد الله تبارك وتعالى أن يشرف هذا الشهر العظيم بربطه ربطاً وثيقاً بالقرآن، فقال تبارك وتعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، فاجتمع لهذا القرآن الشرف من كل الوجوه: شرف المكان، فقد أنزل في أشرف بقاع الأرض وهي مكة المكرمة والمدينة النبوية. شرف النبي، فقد أنزل إلى أشرف نبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام. شرف اللغة، فقد نزل باللغة العربية التي هي لغة أهل الجنة. وقد نزل به أشرف الملائكة وهو جبريل عليه السلام. وهو لأشرف أمة وهي أمة الإسلام، وأمة التوحيد. ونزل في أشرف شهر، وهو شهر رمضان. ونزل في أشرف ليلة وهي: ليلة القدر: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:1-2]. فاجتمع للقرآن العظيم هذا الشرف العظيم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أصحابه من بعده، ثم السلف الصالح من بعدهم إذا دخل شهر رمضان يزيدون من الاهتمام بكتاب الله تبارك وتعالى، حتى كان بعض السلف كـسفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك كل شيء من العلم، وانشغل فقط بتلاوة القرآن الكريم وتدبره.

    1.   

    الطريقة المثلى لحفظ القرآن وفهم معانيه

    نبدأ بتفسير القرآن تيمناً بهذا الشهر الكريم، واستدراكاً لما نحن مقصرون فيه بالفعل، وهذه حقيقة لا تنكر، وللأسف الشديد أن بعض أهل البدع عندهم اهتمام بالقرآن الكريم حفظاً ومدارسة وتلاوة أكثر منا مع ما هم عليه من المخالفة للسنة، ونحن أولى بالقرآن منهم، فعلينا أن نستدرك ونصحح التقصير الواقع منا في حق كتاب الله تبارك وتعالى. فمن أجل ذلك نحاول أن نجتمع على هذه السنة الحسنة، وأن نشرع بإذن الله تبارك وتعالى في محاولة لتنظيم موضوع حفظ القرآن بالنسبة للإخوة الحضور إن شاء الله تبارك وتعالى، وقد تم اختيار كتاب (قرة العينين)، وهو حاشية القاضي محمد كنعان على تفسير الجلالين، وسنتكلم إن شاء الله على هذا التفسير بالتفصيل، على أساس أننا نجمع بين حفظ القرآن ودراسة التفسير دراسة مختصرة ومبسطة. وكثير من إخواننا الحضور قد حفظوا القرآن ولله الحمد، ومن الله عليهم بذلك، وحتى تكون لهم فضيلة أيضاً فإنهم يشاركوننا في المراجعة، وذلك بدراسة التفسير. ولن تكون الجرعة كبيرة، حتى نعين أكبر قدر من الإخوة مهما تفاوتت ظروفهم وإمكاناتهم في أن نكون معاً في قافلة واحدة بإذن الله تبارك وتعالى، والمجال مفتوح لمن أراد أن يسبق، فيعطى سورة أخرى أو في نفس السورة بمعدل أكبر حسب ظروفه، لكن المعدل الذي سنجتهد إن شاء الله في حفظه هو ربع حزب في كل أسبوع، وأعتقد أن هذا أقل ما ينبغي، فإذا حفظنا بمعدل ربع حزب في كل أسبوع فإن شاء الله بعد أربع إلى خمس سنوات يكون قد حفظ الإنسان القرآن كله. وقد يستبعد بعض الناس الزمن ويقول: خمس سنوات أو أربع سنوات هذا كثير! فنقول: ربما حاول شخص منذ عشر سنوات وهو إلى الآن لم يفعل شيئاً يذكر، ومعلوم أن الأيام تجري والزمان يجري، وطالب العلم يستثنى من كراهة طول الأمل، بل يستحب لطالب العلم طول الأمل؛ لأنه لولا طول الأمل لما أقدم أحد على حفظ القرآن، ولا على حفظ كتب السنة، ولا على طلب العلم الشرعي الشريف، فطول الأمل يباح لطالب العلم؛ من أجل تحصيل الفضائل، وتحصيل هذه العلوم العظيمة. نرجو من الإخوة ألا يخيبوا ظننا فيهم، فكل واحد لا يبعد نفسه عن هذه القافلة إن شاء الله تبارك وتعالى.

    1.   

    مميزات تفسير الجلالين وخصائصه

    إن المتأمل في تفسير الجلالين -إذا كان على علم بالتفسير ويراجع كتب التفسير- يجد أن فيه مميزات عظيمة جداً، فما وضعت فيه الكلمة إلا بحساب دقيق على وجازته، فكل كلمة فيه موضوعة نتيجة اختيار ودراسة وتحقيق وتمحيص، والكتاب يجمع كثيراً جداً من المميزات التي سنلمسها بأنفسنا. لكن كتاب تفسير الجلالين لا يستطيع أحد أن ينتزع منه الفائدة المرجوة إلا إذا درسه على غيره ممن يستطيع أن يوضح له سبب وجود هذه الكلمة بالذات دون غيرها في هذا الموضع، فربما كثير من الناس يقرءون فيه لوحدهم دون أن يكون لهم علم بالتفسير من قبل فيشعر أحدهم أنه كلام عادي، يعني: لا فائدة منه، والحقيقة بخلاف ذلك، ونحن لا نريد أن نتوسع في التفسير، بحيث إننا لا نزيد في التفسير على ربع حزب بحيث يواكب التفسير الحفظ. تفسير الجلالين شمل كثيراً جداً من الفوائد على وجازته، ومن أجل أن ننهي تفسيراً كاملاً للقرآن في هذا الوقت الوجيز، فإننا سنأخذ في الأسبوع ربع حزب، والكتب كثيرة جداً في التفسير، لكن العبرة بأقل حجم وأكثر فوائد. فمن مميزات تفسير الجلالين أن فيه تفسير المفردات الذي هو علم غريب القرآن، فعلم غريب القرآن موجود ضمن هذا التفسير بسهولة ويسر. تجد أسباب النزول. تجد القراءات المشهورة. تجد الناسخ والمنسوخ. تجد الإشارة إلى أحكام القرآن. تجد الأحاديث المرفوعة التي فسر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض الآيات. تجد الإعراب. تجد كثيراً جداً من الفوائد. وفي مقابل ذلك ستجد بعض المؤاخذات وهي تنحصر في أمور محدودة: الأمر الأول: تأويل بعض صفات الله تبارك وتعالى. الأمر الثاني: الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة. الأمر الثالث: الإسرائيليات. من أجل ذلك قام القاضي محمد كنعان بعمل حاشية سماها: (قرة العينين على تفسير الجلالين)، فإن تيسرت لكم فبها ونعمت، وإن لم تتيسر فتفسير الجلالين أشهر تفسير موجود على الإطلاق، وهذا سر من أسرار اختيارنا له، وهناك بعض طبعات المصاحف الشريفة معها تفسير الجلالين، فما نذكر من فوائد مزيدة يمكن تقييدها بقلم في الهوامش. وأرجو من الإخوة كما أنهم يجتهدون في حفظ القرآن يجتهدوا أيضاً في حفظ تفسير الجلالين بجانب حفظ القرآن، فإن هذا مما يعين على فهم التفسير.

    1.   

    مقدمات متعلقة بتفسير الجلالين

    مقدمة محقق ومراجع تفسير الجلالين

    يقول القاضي كنعان : (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أحمده حمداً يوازي نعمه، ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن تفسير الجلالين من أوجز التفاسير وأدقها عبارة، قال عنه في كشف الظنون: وهو مع كونه صغير الحجم كبير المعنى؛ لأنه لب لباب التفسير-يعني: خلاصة خلاصة التفاسير- لذلك اعتبره العلماء تفسيراً للمنتهين من طلبة العلم لا للمبتدئين منهم، ولا عجب في ذلك؛ فلقد تضمن تفسيراً للآيات بعبارات مختصرة موجزة اكتفى في كثير منها بالتلميح والإشارة، واعتنى مؤلفاه رحمهما الله تعالى اعتناءً كبيراً؛ ببيان وجوه القراءات والإعراب، حتى بات هذا التفسير خلاصة من خلاصات العلوم، لا يستفيد منه الفائدة المرجوة، ولا يدرك قيمته سوى طلبة العلم بين أيدي العلماء. ولكنه مع ما فيه من فوائد لم يخل من إسرائيليات وروايات لا أصل لها، وأحاديث ضعيفة الإسناد أو موضوعة، نقلت إلى الجلالين من دون بيان ولا تنبيه، فأساءت هذه القصص والأخبار الباطلة إلى محاسن هذا التفسير ومكانته. ومع ذلك فقد انتشر انتشاراً واسعاً؛ بسبب طباعته على هوامش المصحف الشريف، الأمر الذي دفع أكثر الراغبين في الحصول على نسخة من كتاب الله تعالى الذي بهامشه تفسير الجلالين، فتهافتت مؤسسات الطباعة والنشر على طباعته وتوزيعه بأعداد كبيرة لا تحصى، من دون تنبيه أو انتباه إلى ما فيه. فلم نجد من بين دور النشر كافة من اعتنى بهذا التفسير كما هو الواجب حتى الآن، لا من حيث المعنى وذلك ببيان ما فيه من إسرائيليات وتفسيرات غير دقيقة؛ ليعرف القارئ وجه الصواب فلا يقع في اعتقاد باطل، أو يفهم معنىً غير صحيح لآية من كتاب الله عز وجل، ولا من حيث النص، وذلك بتحقيقه وضبطه وتحرير عبارة مؤلفيه الجلالين رحمهما الله تعالى، والغريب في الأمر أن ينتشر هذا التفسير كل هذا الانتشار، وتسمح السلطات في جميع بلاد المسلمين بتداوله، مع ما فيه من إسرائيليات وقصص باطلة وأخبار موضوعة! ثم يقول القاضي كنعان : لذلك رأيت واجباً علي بعد أن اطلعت على ما في تفسير الجلالين من فوائد مجهولة وغامضة، وما فيه بالمقابل من إسرائيليات وقصص وأقوال غير صحيحة، أن أقوم بمراجعته وقراءته على مهل، فأقبلت على العمل فيه بقراءة دقيقة وتحقيق هادئ، فتوقفت عند كل جملة غير مستقيمة المعنى فصوبتها، أو نقل غير محقق فبينت ما فيه ووجهته.

    أسباب عدم تفسير المحقق للقرآن وتوجهه لتحقيق الجلالين

    بعض الناس قد يقول: لماذا بذل المحقق هذا الجهد الجليل في تصحيح ومراجعة تفسير الجلالين؟ فهلا وضع تفسيراً مستقلاً من البداية؟! قال كنعان : لم أرغب في ذلك لسببين: أولهما: قصور باعنا في هذا الفن، وتهيبنا الخوض في لجته؛ خوفاً من الوقوع في عثرات خطيرة كما فعل بعض المعاصرين الذين استهونوا هذا الشأن، فشت بهم الفكر، وعثرت أقلامهم عثرات جسام لا عذر لهم فيها، ولا مبرر يعفيهم من عقابها وعواقبها. فهو لا يرى من قدر نفسه أنه يستطيع أن يستبد بتصنيف كتاب مستقل في تفسير كلام الله تبارك وتعالى كما سهل ذلك على غيره ممن تسنم هذه الذروة دون أن يتأهل لها، وبالتالي تخبط وصدر منه تعد على كلام الله، وعلى معاني كتاب الله تبارك وتعالى. يقول كنعان: من ذلك قول أحدهم في تفسير قول الله تبارك وتعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]: ولكنه رغم ذلك ترك للناس حرية اختيار الإله الذي يرضونه مصدراً لنظام حياتهم! انظر كيف فهم معنى: (لا إكراه في الدين)! فجعل معناها أن الله سبحانه وتعالى ترك للناس حرية اختيار الإله الذي يرضونه مصدراً لنظام حياتهم، بل ترك لهم حرية الكفر والإلحاد في الله تبارك وتعالى، ولكل إنسان أن يختار الإله الذي يعجبه! هذا الكلام فيه هدم للإسلام، وكل دين الإسلام يتحطم بمثل هذا التفسير المنحرف، وهذا عدوان على كتاب الله وليس تفسيراً لكتاب الله تبارك وتعالى. هذا نموذج من نماذج التحريف الشديد في كلام الله، ومثله ما حصل من بعض المعاصرين أيضاً مثلاً في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62] يقول: كل هؤلاء يمكن أن يدخلوا الجنة! واستدل بهذه الآية على أن الأديان كلها سواسية، فما دام أن اليهودي أو النصراني يؤمن بالله واليوم الآخر فقد يدخل الجنة! ثم يقول كنعان : وكأنه هو المفسر الذي لم يفسر قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)[الأنفال:39]. (فتنة) يعني: شرك، والمعنى حتى لا يبقى في الأرض شرك. وإعراب (فتنة) فاعل، ولفظة (تكون) هنا تامة وليست ناقصة أو ناسخة، ففتنة فاعل لتكون. ومعناها: أي حاربوا المشركين حتى لا يبقى على وجه الأرض شرك، وهذا هو الهدف الأسمى من رسالة الإسلام، ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. يقول أيضاً: ومن هذه النماذج تفسير أحدهم الأكل من الشجرة في قوله تعالى: وَكُلا مِنْهَا [البقرة:35] بقوله: إن الأكل هو العلاقة الزوجية بين آدم وحواء عليهما السلام من وطء وغيره، فهذا هو المقصود بالأكل من الشجرة! إلى غير ذلك من الأقوال التي قيلت بدافع من التسرع والعجلة وعدم التحقيق، وأحياناً بدافع التشوف إلى التجديد، وإنه لمنزلق خطير. يقول: فلم أشأ أن أنشئ تفسيراً جديداً؛ لأن تفاسير القرآن الكريم كثيرة جداً ولله الحمد، وقد أخذ بعضها عن بعض، بل الذي ينقصنا هو القراءة الدقيقة الواعية لتلك التفاسير، والرجوع في فهم النص القرآني إلى مصادره الموثوقة؛ لكي لا يقول أحد في كتاب الله برأيه. إذاً: هذا هو السبب الأول الذي منع المحقق من تصنيف مصنف مستقل في التفسير. السبب الثاني: يقول: إن أي تفسير جديد لم يحقق الغاية التي نسعى إليها ألا وهي تبصير المسلمين بكتاب الله تعالى، ومساعدتهم على فهم آياته، وتنبيههم إلى ما في هذا التفسير وأمثاله من روايات وأقوال لا يجوز اعتقاد مضمونها؛ لأن التفسير الجديد لن ينتشر بين أيدي الناس على النحو الذي بلغه تفسير الجلالين، من حيث الشهرة وثقة الناس فيه. فمهما ألف معاصر في التفسير فهل سيقبل عليه الناس كإقبالهم على تفسير الجلالين؟ لا، إذاً نستثمر شهرة هذا التفسير، وإقبال الناس عليه، بأن نقوم بتصحيحه، فنستفيد مما فيه، ونتجنب ما فيه من الأخطاء. قال كنعان : فلدينا عدد من التفاسير الحديثة لا يعرفها أكثر الناس، فيكون إصلاح هذا التفسير الواسع الانتشار مع إبقائه على نحو ما هو عليه الآن بهامش المصحف الشريف أكثر فائدة وأعم نفعاً، بل نراه واجباً وجوب كفاية، لذلك قمنا بهذا الواجب بفضل الله تعالى وتوفيقه.

    اسم تحقيق تفسير الجلالين ومعناه

    قال كنعان : تنامى هذا العمل وكبر حتى صار جزءاً يتكامل مع التفسير، فسميناه: قرة العينين على تفسير الجلالين. ومن المناسب أن نعرف ما معنى قرة العينين؟ قال: قولهم: أقر الله عينه، القر ضد الحر. يعني: القر هو البرد، ومعنى أقر الله عينه يعني: أبرد الله دمعته؛ لأن العرب عندهم أن الدموع نوعان: دموع ساخنة. ودموع باردة. فما الفرق بينهما؟ دموع الفرح تكون باردة، ودموع الحزن تكون حارة ساخنة. يقول هنا: أقر الله عينه، يعني: أبرد الله دمعته، فهذا التعبير مقصود به أن يكون مسروراً، حتى إنه من شدة سروره يبكي دموعاً باردة. وقال الأصمعي : أقر الله عينه، أي: أبرد الله دمعته؛ لأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، وأقر: مشتق من القرور، والقرور هو الماء البارد، وقال غير الأصمعي : معنى أقر الله عينك أي: صادفت ما يرضيك فتقر عينك من النظر إليه. وقال أبو طالب : معنى أقر الله عينه، يعني: أنام الله عينه، والمعنى: صادف سروراً أذهب سهره فنام. وقال عمرو بن كلثوم : بيوم كريهة ضرباً وطعناً أقر به مواليك العيونا يعني: نامت عيونهم لما ظفروا بما أرادوا منه، هذا معنى: قرة العينين.

    ترجمة مؤلفي تفسير الجلالين وتحديد ما فسره كل منهما

    قولنا: تفسير الجلالين، من هما الجلالان؟ ومن الأسبق منهما؟ الجلالان كلاهما من مصر. لقد ألف هذا التفسير علمان مشهوران من أعلام الإسلام كل واحد من هذين الإمامين الجليلين لقبه جلال الدين، وهما: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد المحلي ، نسبة إلى المحلة الكبرى مدينة في مصر، المتوفى عام 864 هجرية -يعني: سنة 1459 ميلادية، في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وفي النصف الثامن من القرن التاسع الهجري - والإمام المحلي هو الذي فسر فاتحة الكتاب وحدها، ثم من أول سورة الكهف حتى آخر سورة الناس. أما الإمام الآخر فهو الإمام أبو الفضل عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر الأسيوطي أو السيوطي ، بضم السين، نسبة إلى أسيوط أو سيوط بضم الهمزة والسين، إحدى مدن الجنوب في مصر، وتعرف الآن بأسيوط بفتح الهمزة، المتوفى سنة 911 هجرية- الموافق سنة 1505 ميلادية- وهو الذي فسر التتمة، فكمل ما لم يفسره الإمام المحلي من البقرة إلى الإسراء، وقد وهم صاحب (كشف الظنون) في نسبة هذا القسم إلى الجلال المحلي ، فكثير من الناس يظن ما دام أن هذا تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي ، فيتوهم أن المحلي فسر من الفاتحة إلى الإسراء، والسيوطي كمل؛ لأن: المحلي فسر الفاتحة، فظن أنه واصل التفسير إلى الإسراء، لكن المحلي فسر الفاتحة فقط ثم فسر من الكهف إلى الناس، أما السيوطي فمن البقرة إلى الإسراء. والإمام السيوطي رحمه الله تعالى وضع هذا التفسير وعمره اثنتان وعشرون سنة أو أقل منها بشهور، وذلك بعد وفاة الجلال المحلي بست سنين، وكتب كل هذا التفسير العظيم والدقيق دقة متناهية في أربعين يوماً! قال كنعان : لم يضع الجلالان رحمهما لله تعالى لهذا التفسير اسماً، بل عرف بين العلماء بتفسير الجلالين أو بالجلالين، وقد اعتمد الجلالان في تفسيرهما هذا على عدد من التفاسير، أشار إليها الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة، عند ترجمته للإمام موفق الدين الموصلي ، فقال: وله التفسير الكبير والصغير جود فيه الإعراب وحرر أنواع الوقوف، وأرسل منه نسخة إلى مكة والمدينة والقدس، قلت: وعليه اعتمد الشيخ جلال الدين المحلي في تفسيره، واعتمدت عليه أنا في تكملته مع الوجيز وتفسير البيضاوي وابن كثير . ولم يكتب الجلال المحلي مقدمة ولا خاتمة للقسم الذي فسره، أما الجلال السيوطي فقد كتب مقدمة مختصرة في أول سورة البقرة، وكتب خاتمة للقسم الذي فسره، وقد نقلناها من حيث كانت في آخر تفسير سورة الإسراء إلى هنا في هذه المقدمة لإفساح المجال ثمة للتفسير. قال السيوطي في خاتمة ما فسره: هذا آخر ما كملت به تفسير القرآن الكريم الذي ألفه الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق جلال الدين المحلي الشافعي رضي الله عنه، وقد أفرغت فيه جهدي وبذلت فكري فيه، في نفائس أراها إن شاء الله تعالى تجزي، وألفته في مدة قدر ميعاد الكليم -أي: في أربعين يوماً-، وجعلته وسيلة للفوز بجنات النعيم، وهو في الحقيقة مستفاد من الكتاب المكمل، وعليه في الآي المتشابهة الاعتماد والمعول، رحم الله امرأً نظر بعين الإنصاف إليه، ووقف فيه على خطأ فأطلعني عليه، وقد قلت: حمدت الله ربي إذ هداني لما أديت مع عجزي وضعفي فمن لي بالخطا فأرد عنه ومن لي بالقبول ولو بحرف. قوله: (فمن لي بالخطأ فأرد عنه) يعني: من يبحث لي عن خطأ فينصحني وأرجع عنه. قوله: (ومن لي بالقبول ولو بحرف) يعني: من يضمن لي أن يقبل الله مني حتى ولو حرفاً واحداً مما كتبت. ثم قال: هذا لم يكن قط في خلدي أن أتعرض لذلك؛ لعلمي بالعجز عن الخوض في هذه المسالك، وعسى الله أن ينفع به نفعاً جماً -وفعلاً نفع الله به نفعاً جماً-، ويفتح به قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وآذاناً صماً، وكأني بمن اعتاد المطولات وقد أضرب عن هذه التكملة وأصلها حتماً -يعني: أن بعض الناس سيعرض عن هذا التفسير؛ لأنه متعود على المطولات، مثل تفسير ابن جرير والقرطبي وغيرها من المطولات، فيصرفه عنه الحجم، دون أن يلتفت إلى المعاني العظيمة المركزة في هذا التفسير- فعدل إلى صريح العناد ولم يتوجه إلى دقائقها فهماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، رزقنا الله به هداية إلى سبيل الحق وتوفيقاً واطلاعاً على دقائق كلماته وتحقيقاً، وجعلنا به من الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

    اهتمام العلماء بتفسير الجلالين ومكانته عندهم

    لقد حظي تفسير الجلالين باهتمام عظيم جداً من العلماء منذ أن أُلف إلى يومنا هذا، وهذا دليل على مكانته عندهم، ولذلك فقد قام كثير منهم بشرحه وتوضيح دقائقه في مؤلفات وحواشي بلغت بعضها الأربعة مجلدات، وكما أشار كنعان في المقدمة أنه لطلاب العلم المنتهين وليس للمبتدئين، وأن المبتدئ يصعب أن يستقل بفهمه، بل لابد أن يقرأه على شيخ عالم بالتفسير، حتى يقف على حقائقه ودقائقه. ويكفي أن هذا الكتاب ألفت فيه كثير جداً من الشروح والحواشي، فنذكر هنا بعضها: حاشية للشيخ محمد بن عبد الرحمن العلقمي ، سماها (قبس النيرين على تفسير الجلالين). حاشية للشيخ محمد بن محمد الكرخي ، سماها (مجمع البحرين ومطلع البدرين على الجلالين)، في أربعة مجلدات، وله حاشية أخرى صغيرة عليه في مجلدين. حاشية للحافظ الملا علي القاري ، سماها (حاشية الجمالين على الجلالين). حاشية للشيخ سليمان بن عمر الأزهري ، وهي المشهورة بحاشية الجمل ، سماها (الفتوحات الإلهية لتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية)، وهي في أربعة مجلدات. فانظر إلى هذا الكتاب الذي حجمه صغير كيف في أربعة مجلدات أو أكثر! فما معنى هذا؟! وإذا قرأت الشرح تجده أصعب من الأصل، فهذا يدل على أنه فعلاً لب لباب التفسير، وخلاصة خلاصات التفسير. وتوجد حاشية لتلميذ الشيخ الجمل الصاوي تسمى بحاشية الصاوي على الجلالين، وهي مشهورة هنا في مصر، ألفها الشيخ أحمد بن محمد الصاوي ، وقال في مقدمتها: -ولما كان كتاب الجلالين من أجل كتب التفسير، وأجمع على الاعتناء به الجم الغفير من أهل البصائر والتنوير، وجاءني الداعي الإلهي بقراءته فاشتغلت به على حسب عجزي، ووضعت عليه كتابة ملخصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع الشيخ سليمان الجمل. وحاشية الصاوي وحاشية شيخه الجمل من أشهر الحواشي على تفسير الجلالين. وتوجد حاشية للشيخ سلام الله الدهلوي ، سماها (حاشية الكمالين على الجلالين). وحاشية للشيخ محمد بن صالح آل السعود السبعي الحسنوي المصري في ثلاثة مجلدات. وحاشية للشيخ سعد الله بن غلام القندهاري ، سماها (كشف المحجوبين عن خدي تفسير الجلالين). وحاشية للشيخ مصطفى الدومي، سماها (ضوء النيرين لفهم تفسير الجلالين). ثم قال كنعان : وأخيراً كتابنا المختصر الذي سميناه (قرة العينين على تفسير الجلالين). ثم ذكر في المقدمة كلاماً مفصلاً في منهجه وعمله في هذا التحقيق، وذكر لماذا لم يتوسع ولم يفصل في موضوع التفسير العلمي، وهو الاتجاه الحديث من التفسير للقرآن الذي يسمى: التفسير العلمي! وليس معنى هذا أن ما عداه ليس علمياً، لا، بل التفسير العلمي بمعنى: المعاصر للعلوم الحديثة، كعلوم الطب والتشريح والفضاء وهذه العلوم الطبيعية الحديثة، وهو محاولة لكشف وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وقد طعن القاضي كنعان على هذا المنهج، وهو منهج ربط القرآن بالاكتشافات العلمية التي هي بعد في مرحلة النظرية التي يمكن أن يثبت فشلها إلى غير ذلك من المآخذ.

    1.   

    تفسير سورة الفاتحة

    الأقوال في كون البسملة من الفاتحة أم لا

    يقول الإمام جلال الدين المحلي رحمه الله تعالى: [سورة الفاتحة مكية، سبع آيات بالبسملة إن كانت منها، والسابعة (صراط الذين ..) إلى آخرها، وإن لم تكن منها فالسابعة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين ..) إلى آخرها ]. هناك إجماع على أن سورة الفاتحة سبع آيات، لكن الخلاف هل البسملة آية من الفاتحة أم ليست آية منها؟ وخلاصة الكلام في هذا: أنها آية منها في قراءة، وليست آية منها في قراءة أخرى، فعلى القول بأن البسملة آية من الفاتحة فتكون هي الآية الأولى، ثم تكون الآية الأخيرة صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] .. إلى آخر السورة. وإن لم تكن البسملة آية من الفاتحة، فتكون الآية الأولى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وتكون الآية السابعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]. ويقدر قبل البسملة كلمة: أبدأ باسم الله أو أقرأ باسم الله، أو قولوا: باسم الله؛ لتكون مناسبة لقولنا فيما بعد: إياك نعبد، فمعناها: قولوا: (الحمد الله رب العالمين)، (الرحمن الرحيم)، قولوا: (إياك نعبد وإياك نستعين). فيقدر في أولها (قولوا) ليكون ما قبل (إياك نعبد) مناسباً له؛ لكونها من مقول العباد.

    مشروعية التعوذ قبل التلاوة وبيان معنى الاستعاذة

    يستحب قبل تلاوة القرآن أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فما معنى: أعوذ؟ أي: أستجير بالله دون غيره من سائر خلقه، يعني: أعوذ بالله من الشيطان أن يضرني في ديني أو أن يصدني عن حق يلزمني له. ومن هو الشيطان؟ الشيطان هو كل متمرد من الجن والإنس، فأي شيء يكون متمرداً من جنس معين يطلق عليه شيطان، لماذا؟ لأن أخلاقه وطباعه وأفعاله تفارق وتشذ عن أخلاق وصفات وأفعال باقي جنسه، ولبعده عن الخير، يقول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112]، فدل على أن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين. ومم اشتقت كلمة شيطان؟ اشتقت من مادة شطن بمعنى: بَعُدَ، يقال: شطنت داري من دارك، يعني: بعدت داري من دارك، ويقول الشاعر: نأت بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بها رهين نوىً: يعني: رحل وسافر، وشطون يعني: بعيد، بمعنى أن سعاد رحلت إلى مكان بعيد. والرهين: فعيل بمعنى: مفعول، كما تقول: كف خضيب أي: مخضوب، ولحية دهين أي: مدهونة، ورجل لعين أي: ملعون، وكذلك الرجيم المقصود به: الملعون المشتوم، فكل مشتوم بقول رديء أو سب يطلق عليه لفظ المرجوم، والرجم هو الرمي بقول أو بفعل، وله شاهد من القرآن وهو قوله عز وجل: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم:46] يعني: لأرمينك، وهذا من الرمي بالقول. وسمي الشيطان رجيماً لأن الله طرده من سماواته، ورجمه بالشهب والكواكب.

    أسماء سورة الفاتحة

    سورة الفاتحة لها عدة أسماء منها: أم الكتاب. السبع المثاني. الشافية. الكافية. الواقية.

    فضل سورة الفاتحة

    تفسير قوله تعالى: (الحمد لله)

    يقول المفسر رحمه الله تعالى: [الحمد لله جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها، من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، والله علمٌ على المعبود بحق] يعني: كلمة إله تطلق على المعبود سواءً كان معبوداً بحق أم معبوداً بغير حق. لذلك يطلق على كل ما عبد من دون الله إله، فالشيطان -مثلاً- إله يعبد بدون حق، قال الله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [مريم:44]. إذاً: الشيطان يعبد من دون الله بغير حق، والمال إله يعبد من دون الله بغير حق: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، والأصنام آلهة باطلة، وهكذا، فكل ما عبد عموماً مطلقاً فهو إله سواءً في ذلك الذي يعبد بحق أم بغير حق، والله سبحانه وتعالى وحده هو الإله المعبود بحق، لا إله إلا الله، معناها: لا إله حق إلا الله. (لا) في قوله: لا إله ما إعرابها؟ (لا) نافية للجنس. فأين خبرها؟ خبرها مقدر تقديره (حق) أي: لا إله حق إلا الله، ولا يجوز أن يقدر خبر (لا) النافية للجنس بكلمة موجود؛ لأنه توجد آلهة باطلة. وجملة (الحمد لله) المقصود بها الثناء على الله سبحانه وتعالى، من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، والحمد هنا بمعنى: الثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله من صفات الجمال والكمال.

    تفسير قوله تعالى: (رب العالمين)

    قوله تعالى: (رب العالمين) يعني: مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم، العالمين جمع عالم، فكل طائفة من هذه الأمم يطلق عليها عالم، عالم الملائكة، عالم الجن، عالم الإنس، وهكذا، كل هذه العالمين أو العوالم الله سبحانه وتعالى هو خالقها تبارك وتعالى. مم تشتق كلمة عالم؟ مشتقة من العلامة. لماذا سميت علامة؟ لأنها علامة على موجدها؛ وهو الله سبحانه وتعالى، فهي دالة عليه تبارك وتعالى.

    تفسير قوله تعالى: (الرحمن الرحيم)

    قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) أي: ذي الرحمة، وذي إرادة الخير لأهله. وللفائدة فإن أكبر كتاب توسع في تفسير سورة الفاتحة هو كتاب (مدارج السالكين شرح منازل السائرين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين) للإمام ابن القيم ، ففي الجزء الأول منه توسع جداً في تفسير الفاتحة، وعموم الكتاب هو شرح لمعنى قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ويقع الكتاب في ثلاثة مجلدات كبار.

    تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)

    قوله تعالى: (مالك يوم الدين) هذه قراءة صحيحة عن عاصم وغيره أيضاً، وفي قراءة صحيحة أخرى (ملك يوم الدين). ما المقصود بالدين هنا؟ الدين هنا المقصود به الجزاء، وهو يوم القيامة. لماذا خص يوم الدين بأن الله سبحانه وتعالى يملكه، مع أن الله يملك يوم القيامة ويملك أيام الدنيا، فلماذا خص يوم الدين بذلك؟! لأنه لا ملك ظاهر في ذلك اليوم لأحد إلا لله تبارك وتعالى، والدليل من القرآن: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ لا يجيب أحد، فيجيب الله عز وجل نفسه قائلاً: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]. أما قوله على القراءة الأخرى: (مالك يوم الدين) فمعناه: أنه مالك الأمر كله في يوم القيامة أو هو الموصوف بذلك دائماً كغافر الذنب، فصح وقوعه صفة لمعرفة.

    تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)

    قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: نخصك بالعبادة من توحيد وغيره، فلا نوجه توحيدنا إلا إليك، ونطلب المعونة على العبادة منك وحدك لا من غيرك.

    تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين..)

    قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ( اهدنا ) أي: أرشدنا إلى الصراط المستقيم. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، وصراط إعرابها بدل. ( صراط الذين أنعمت عليهم ) أنعم عليهم بالهداية. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة:7] وهم اليهود. وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] وهم النصارى. فدل على أن الهداية ليست عند اليهود ولا عند النصارى، وإنما هي عند الذين أنعم الله تبارك وتعالى عليهم. إذاً: هذه فائدة هي: أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى.

    استحباب قول آمين حين الفراغ من الفاتحة في الصلاة

    في حاشية القاضي كنعان : يسن بعد قراءة الفاتحة قول: (آمين) في الصلاة وغيرها. فمن السنة إذا سمع الإنسان الفاتحة سواءً داخل الصلاة أو غيرها أن يقول: آمين، لماذا؟ لما فيها من الدعاء، وكلمة (آمين) ليست من كلمات القرآن الكريم باتفاق العلماء، وهي اسم فعل طلب أو دعاء، ولا تقل: اسم فعل أمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تقول في حقه: فعل أمر، ولكن تقول: اسم فعل دعاء أو طلب، بمعنى: اللهم استجب! وهي اسم فعل أمر مبني على الفتح. عن وائل بن حجر الحضرمي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))[الفاتحة:7]، فقال: آمين، يمد بها صوته) ، وآمين فيها حركتان فقط للمد الذي في أول الكلمة، وليس ست حركات كما يفعل بعض الناس، فحينما يقول الإمام: (ولا الضالين)، فقولوا: (آمين) وتمد بمقدار حركتين فقط؛ لأنها لو كانت ست حركات في (آمين) لشدد الميم. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755897510