إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [144-154]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء...)

    لما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود؛ أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144]. هذه الآيات جاءت بعدما أخبر الله سبحانه وتعالى المؤمنين مسبقاً أنه سيحصل تحويل للقبلة، وأن السفهاء من الناس سوف يخوضون في هذا الأمر، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:142-143]. فلما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة المشرفة لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وهي مفخرة العرب ومزارهم، وأيضاً لشدة حرصه على مخالفة أهل الكتاب واليهود؛ أجابه الله تبارك وتعالى إلى تطلعه بقوله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] و(قد) هنا للتحقيق، وليست للتقليل، وهي تأتي للتقليل وتأتي أيضاً للتحقيق كما هنا، (قد نرى) لتأكيد وقوع هذه الرؤية، يقول السيوطي : (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) أي: في جهة السماء، متطلعاً إلى الوحي، ومتشوقاً للأمر باستقبال الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم يود ذلك لأنها قبلة إبراهيم؛ ولأنه أدعى إلى إسلام العرب؛ لأن العرب أيضاً يعظمونها، فإذا حولت القبلة إلى الكعبة المشرفة فهذا سيكون فيه تأليف لهم، وجذب لقلوبهم نحو الإسلام؛ لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام. وفي هذه الآية الجليلة بيان لحسن أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينتظر، ولم يسأل ربه تبارك وتعالى ذلك، وإنما كان يتطلع بقلبه ويتطلع بعينه، وينظر إلى السماء منتظراً ومتشوقاً إلى نزول الوحي بالأمر باستقبال الكعبة المشرفة. يقول تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] (فلنولينك) أي: لنحولنك إلى قبلة (ترضاها) أي: تحبها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] (فول وجهك) يعني: في الصلاة، فاستقبل في الصلاة المسجد الحرام، (شطر) يعني: نحو (المسجد الحرام) أي: الكعبة المشرفة، وإنما لم يقل: فول وجهك شطر الكعبة؛ لأن المقصود استقبال الجهة، وليس عين الكعبة، وعين الكعبة معناه جسم الكعبة، وهذا يكون لمن هو قريب منها، أما من بعد عنها فإنه يستقبل الجهة فقط؛ ولذلك تكون الصفوف حول الكعبة مستديرة، لأنهم لو وقفوا بصورة صفوف مربعة في الجهات فإن الذين عند الأركان والزوايا لن يستقبلوا الكعبة، فلذلك لا بد على من كان مستقبلاً أحد الأركان أن يستقبل جسم الكعبة، وألّا ينعطف، بل يقع امتداد جسمه على جسم أو عين الكعبة المشرفة، فالقريب من الكعبة يجب عليه أن يستقبل عينها، ولذلك فالصفوف تكون مستديرة؛ لأنه بالاستدارة فقط يحصل هذا الاستقبال لكل المصلين. أما من بعد عن الكعبة فواجبه أن يستقبل جهتها؛ ولذلك قال تعالى هنا: (( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ )) أي استقبل في الصلاة (شطر) أي نحو (المسجد الحرام) ولم يقل: الكعبة، وإن كان المقصود هو الكعبة. (( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )) حتى يدفع الله تبارك وتعالى احتمال الخصوصية؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا الأمر كالأمر بقيام الليل خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك نص الله تبارك وتعالى على الأمر باستقبال الكعبة لسائر المؤمنين كي يدفع احتمال الخصوصية في ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )) الخطاب هنا للأمة، والمقصود ولوا وجوهكم في الصلاة؛ لأن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة. (( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ )) الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه أي: التولي إلى الكعبة، (الحق) أي: الثابت (من ربهم) لما في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يتحول إليها. (( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )) والخطاب هنا للمؤمنين، أي: عما تعملون أيها المؤمنون من امتثال أمره، والقراءة الأخرى بالياء (( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )) يعني: اليهود، والله ليس بغافل عما يعملون مثل استنكار أمر القبلة المشرفة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أما خطابه الخاص للنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) فتشريفاً له وإجابة لرغبته، وأما خطابه العام بعده فهو خطاب للأمة (وحيث ما كنتم) أيها الأمة؛ لأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه الصلاة والسلام به كما خص بقوله تبارك وتعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:2]، ولأنه لما كان الأمر في تحويل القبلة أمراً له فقط خصهم بخطاب مفرد؛ ليكون ذلك أبلغ؛ وليكون لهم في ذلك تشريف؛ ولأن في الخطاب العام تعليق حكم آخر به، وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة. (( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ )) هذا ينطبق على ما تقدم ذكره، فإما أن يكون الضمير في (أنه) يعود إلى الرسول أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق من عند الله تبارك وتعالى، وإما أن يكون المراد القبلة نفسها، فجاز أن يكون المراد بقوله: (( لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ )) أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها، ويحتمل أن يرجع الضمير في (أنه) إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة، وهذا المعنى هو الأقرب للسياق، فاليهود كانوا يعلمون مما في كتبهم أن الكعبة هي البيت العتيق التي جعلها الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق، فكان هذا التحويل حقاً، ففي هذه الحالة هم يلزمون بذلك، وعلى كلا الاحتمالين فهم يعلمون أن هذا الأمر حق من عند الله تبارك وتعالى. يقول القاسمي: وثم وجه آخر في علمهم أحقية ذلك التحويل، وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وبيانه: أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ولكافة من اتبعه باستقبال الكعبة من جملة الاستعلان الذي هو مذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية، ويسمى: سفر الاستثناء، وهذا موجود في التوراة إلى اليوم: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، -يعني: أن موسى قبل موته ذكر بني إسرائيل بهذه البشرى- فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران)، وفي بعض الألفاظ الأخرى: (واستعلن من فاران). فهذه البشارة تنبيه على موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، فالله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء وأشار إلى هذا بقوله: (جاء الرب من سيناء). وأشار إلى نزول جبريل على عيسى عليه السلام بقوله: (وأشرق لهم من ساعير)، وساعير: هي البلدة التي ولد فيها المسيح عليها السلام، وذلك في قرية تدعى الناصرة. وقوله: (وتلألأ أو استعلن من جبل فاران)، تلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، وأهل الكتاب لا يشكون أبداً أن كلمة فاران في كتبهم تعني: جبال مكة، أي: الجبال المحيطة بمكة، يقول القاسمي: ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب، فأهل الكتاب يعترفون فعلاً بأن فاران هي مكة، ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين يحاور إسماعيل عليه السلام هكذا: (وكان الله مع الغلام فكبر وكان ينمو رامي قوس، -كما جاء في الحديث: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) عليه السلام- وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران)، وفاران هي: الجبال المحيطة بمكة، فلا شك أن إسماعيل عليه السلام سكن في مكة، وفيها عاش وبها دفن. يقول ابن الأثير : وفي الحديث ذكر جبل فاران وهو من جبال مكة بالعبراني، له ذكر في أعلام النبوة. وفي القرآن الكريم إشارة إلى قريب من هذا المعنى في سورة التين، يقول تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3] وهذا تأييد لهذه البشارة التي بشر بها موسى عليه السلام، (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) والبلد المعروف بالتين والزيتون: فلسطين، وهي الأرض المباركة التي منها ساعير حيث ولد المسيح عليه السلام، فهذه إشارة إلى رسالة المسيح عليه السلام، (وَطُورِ سِينِينَ) وهو طور سينا، فهذه إشارة إلى رسالة موسى عليه السلام، (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) وهذه إشارة إلى مكة المكرمة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وأهل الكتاب يعلمون أن تعظيم القبلة واستقبالها في الصلاة كان فعل إبراهيم وإسماعيل، وأنها تدخل في

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك...إنك إذاً لمن الظالمين)

    ولما ذكر تعالى أن أهل الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة، وأن الاستكبار عن الانقياد للحق صفة راسخة ثابتة فيهم لا تتبدل ولا تتغير، فأقسم الله تبارك وتعالى بعد هذه الآيات مباشرة فقال: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْض [البقرة:145] (ولئن) هذه لام القسم (( أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ )) يعني على صدقك في أمر القبلة، (( مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ )) أي: لا يتبعون قبلتك، ولا يوافقونك أبداً في اتباعها عناداً واستكباراً، (( وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ )) فاستقبال القبلة من الأمارات والعلامات المميزة للمسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فهو المسلم) (( وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ )) وفي هذا قطع لطمعه في إسلامهم، وطمعهم في عودته إليها، فلن يعود أبداً إلى استقبال بيت المقدس. وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي: أن اليهود لن يتبعوا قبلة النصارى ولا العكس. (( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ )) يعني التي يدعونك إليها (( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ )) يعني من الوحي (( إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )) يعني: إن اتبعتهم فرضاً فإنك من الظالمين. يقول تعالى: (( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ )) أي: من اليهود والنصارى ( بكل آية ) أي: برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق، ( ما تبعوا قبلتك ) أي: التي حولت إليها؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة بل قد قامت عليهم الحجة، ولو كانوا تركوا اتباعك والانقياد للإسلام عن شبهة عندهم، ثم أتيت لهم بالحجج التي تزيل هذه الشبهة فقد يتبعونك، والذي ينحرف عن الحق يكون لأحد سببين: إما بسبب الجهل، أو الهوى والعناد والاستكبار والجحود، فأما الجاهل فإنه يعالج بالعلم وإقامة الحجة، وأما مرض الهوى وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41]، وهنا يبين الله تبارك وتعالى أن مخالفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليست ناشئة عن شبهة عندهم، وإلا لكان يمكن أن تعالج بإقامة الحجة، لكن هي ناشئة عن عناد وجحود وتكبر عن الحق، وبالتالي لن تنفع معهم الحجج وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما يعني مهما تأت بآية (( ما تبعوا قبلتك )) أي: لن ينقادوا إليك؛ لأنهم امتنعوا عن اتباعك لا عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، وإنما عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق، (( وما أنت بتابع قبلتهم )) وهذا حسم لأطماعهم في العود إليها، أو للمقابلة يعني: ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك، (( وما بعضهم بتابع قبلة بعض )) يعني فلا اتفاق بين فريقيهم مع كون الكل من بني إسرائيل. قال الزمخشري : أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم -المسلمون- لا يتخلى عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده، وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدي بعضهم، يعني: تيئيس له وقطع لطمعه في إيمانهم. قال الراغب : إن قيل: كيف أعلن بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق؟ -فالمعلوم أن من أهل الكتاب فريقاً قد آمنوا وأسلموا، فكيف نفهم معنى قوله تبارك وتعالى: (ما تبعوا قبلتك)؟- قيل: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، فهذا الحكم يعم الأغلب، فإذا شذ البعض فإنه لا ينافي هذا الحكم الكلي، بدلالة أنك لو قلت: ما آمنوا، وقد آمن بعضهم، لم يكن منافياً، وقيل: عني به أقوام مخصوصون. أيضاً في قوله تبارك وتعالى: (وما أنت بتابع قبلتهم) إشارة إلى أن من عرف الله حق معرفته فمن المحال أن يرتد، ولذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق، ومعنى ذلك: أن الإنسان الذي يرتد وينتكس لم يصل إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يصل إلى المعرفة بالله، أما الذي يصل حق الوصول فإنه لا يترك أبداً دين الله سبحانه وتعالى ومحبته؛ ولذلك فالذي يرجع إنما يرجع من أثناء الطريق قبل أن يصل؛ لأنه بعد أن يصل لا يمكن أبداً بعد أن يتمكن من معرفة الله سبحانه وتعالى وحبه أن يؤثر عليه غيره؛ ولذلك قالوا: ما رجع من رجع إلا من الطريق، أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول. وفي هذه الآية الكريمة أيضاً تنويه بفضل العلم، حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم؛ فلذلك ننبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة، وذلك إشارة إلى قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ فأطلق لفظة العلم على الوحي والنبوة والدلائل والمعجزات، فدل على أن العلم أشرف المخلوقات لأنه ينتظم في معنى هذه الأمور الشريفة. ودلت الآية على أن توجه الوعيد إلى العلماء أشد من توجهه على غيرهم؛ لقوله تعالى: ( من بعد ما جاءك من العلم ).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم...)

    قال عز وجل: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] أي: يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم (كما يعرفون أبناءهم) أي: بنعته في كتبهم، قال عبد الله بن سلام : لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد صلى الله عليه وسلم أشد، يعني من شدة انطباق الصفات الموجودة في التوراة وفي الكتب السابقة في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو يعرفه أشد من معرفته ابنه مع أن ابنه رآه بنفسه، وهذا وصف عن غيب لم يره، لكنه لما رآه صارت معرفته بالرسول صلى الله عليه وسلم أشد من معرفته بابنه؛ ولذلك أسلم عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان من خيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ومن هذه البشارات قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157] حتى صفات الرسول عليه الصلاة والسلام الجسدية وجدت في التوراة، ومن أبرزها ختم النبوة أو خاتم النبوة، وإلى اليوم فإن الإشارة إلى ختم النبوة وإلى العلامة التي بين كتفيه موجودة في التوراة وفي كتبهم، فهو لا يلتبس عليهم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلا تلتبس أشخاص أبنائهم بغيرهم، فشبه المعرفة العقلية الحاصلة بمطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية؛ لأن كلاً منهما يقيني لا اشتباه فيه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لـعبد الله بن سلام رضي الله عنه: أتعرف محمداً كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه، فقبل عمر رأسه. وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [البقرة:146] وإن من أهل الكتاب مع ذلك التحقق ومع ذلك الإيقان بصفته، ( ليكتمون الحق ) أي يخفونه ولا يعلنونه، ( وهم يعلمون ) أي: وهم يعلمون الحق، ويعلمون عاقبة ترك الحق، ولم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإن فريقاً منهم ليكتمونه وهم يعلمون؛ لأن في إظهار كلمة الحق وتفضيلها على الضمير إشارة إلى طبيعة هذا النبي، ولكنهم ينكرونه ويجحدونه (وهم يعلمون) وفي هذا إشارة إلى فظاعة ذنبهم، لأن المرتكب ذنباً عن جهل ليس كمن يرتكبه عن علم؛ ولذلك قال تعالى: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) الحق من ربك: يعني الحق كائن من ربك، (فلا تكونن من الممترين) أي: الشاكين في هذا الأمر، فلا تكونن من هذا النوع، وهذا أبلغ من قوله: الحق من ربك فلا تمتر، ولكن قال: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) يعني الشاكين، يقول الراغب: وليس هذا نهياً عن الشك؛ لأن الشك لا يكون بقصد من الشاك، بل قوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين) حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها، وعلى ذلك أيضاً قوله تعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً...)

    قال تبارك وتعالى: (( ولكل وجهة هو موليها )) ولكل من الأمم (وجهة) أي: قبلة (هو موليها) يعني: موليها وجهه في صلاته، وفي قراءة: (ولكل وجهة هو مولاها) أي مأمور بالتوجه إليها، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] أي: بادروا إلى الطاعات وخذوا بها، أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [البقرة:148] أي: يجمعكم يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام...)

    ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر، فقال تبارك وتعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:149] وهنا إنشاء حكم جديد بخلاف الآيات المشابهة لذلك عما قريب، (ومن حيث خرجت) أي: لسفر (فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) أو (عما يعملون) بالياء وبالتاء، فكرره لبيان أن حكم السفر وغيره سواء، فالمسافرون وغيرهم يستوون في اشتراط استقبال القبلة ما أمكن ذلك، فقوله عز وجل هنا: (ومن حيث خرجت) أي: ومن أي بلد خرجت للسفر، لأنه في الآية السابقة يقول تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) ثم قال ( وحيث ما كنتم ) أي: في حالة الإقامة، أما هنا قال: (ومن حيث خرجت) والخروج يكون في السفر، (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام). ولما عظم أمر القبلة وذكر انتفاء أقوال السفهاء وتنوع ضربهم وجدالهم كان الحال مقتضياً لما فيه تأكيد لأمرها وتعظيمٌ لشأنها، وتوهيةٌ لشبههم؛ فلذلك كرر الله تبارك وتعالى أيضاً الإشارة أو التنبيه إلى أمر استقبال القبلة فقال للمرة الثالثة: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] يقول السيوطي رحمه الله تعالى: كرره للتأكيد، (لئلا يكون للناس) أي: اليهود أو المشركين، (عليكم حجة) أي: مجادلة في التولي إلى غيره، وتنتفي مجادلتهم لكم، من قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، وقول المشركين: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، فهذا معنى قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة) فإذا قلنا إن الناس المقصود بهم هنا اليهود لعنهم الله، فتكون الحجة هي: أن يكون لهم ما يحاجونكم ويجادلونكم به، وهو قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، أي: كيف تجحد ديننا ولا تكون مثلنا على اليهودية أو النصرانية، ثم تستقبل قبلتنا؟ فيكون في تحويل القبلة إلى البيت الحرام إبطال لهذه الحجة، فهو يخالف دينهم ويخالف قبلتهم. وإذا قلنا: المقصود بالناس هم المشركون، فإن المشركين قالوا: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته! فكان في تحويل القبلة إدحاض لهذه الشبهة. (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) يعني بالعناد، فإنهم يقولون: ما تحول إليها إلا ميلاً إلى دين آبائه، والاستثناء هنا متصل، والمعنى: لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء، (فلا تخشوهم) يعني: لا تخافوا جدالهم في التولي إليها، (واخشوني) أي: بامتثال أمري، (ولأتم نعمتي عليكم) وهذا العطف هنا هو على قوله: (لئلا يكون) يعني إنما عليكم أن تمتثلوا هذا الحكم وتنصاعوا إليه، أولاً: لئلا يكون للناس عليكم حجة، وثانياً: لأتم نعمتي عليكم، يعني بالهداية إلى معالم دينكم. قال العلماء في قوله: (ولأتم نعمتي عليكم) إن في هذا الجزء من الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بفتح مكة وكافة جزيرة العرب والأرض، (ولعلكم تهتدون) يعني: إلى الحق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم...)

    قال تبارك وتعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:151-152] في الآية السابقة في قصة إبراهيم عليه السلام قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] فهنا الزاي والكاف قريبة من ختام الآية: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129] ففيها الزاي والكاف، ففي آخر دعاء إبراهيم عليه السلام أن يزكيهم، وفي آخر الآية العزيز الحكيم، والتزكية بالزاي والكاف قرينة للعزيز الحكيم، أما هنا فقال: (يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). قوله تعالى: (كما أرسلنا) هذا متعلق بأتم أي: (ولأتم نعمتي عليكم) كما أرسلنا، يعني: أتمها أتماماً كإتمامها بإرسالنا فيكم رسولاً منكم محمداً صلى الله عليه وسلم، (يتلو عليكم آياتنا) أي: القرآن، (ويزكيكم) أي: يطهركم من الشرك (ويعلمكم الكتاب) وهو القرآن الكريم (والحكمة) وهي ما فيه من الأحكام، وقد ذكرنا من قبل أن أي آية يأتي فيها ذكر الكتاب مقروناً بالحكمة في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فلا بد من تفسير الحكمة بأنها. سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا باتفاق من السلف، (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). (فاذكروني أذكركم) يعني: اذكروني بالصلاة والتسبيح وغيره (أذكركم) يعني: أجازيكم، وفي الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى قال: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه) متفق عليه. (واشكروا لي) أي: نعمتي بالطاعة (ولا تكفرون) يعني: بالمعصية. (كما أرسلنا فيكم) يعني: أيها العرب (رسولاً منكم) المراد به أيضاً من العرب، وفي إرساله فيهم ومنهم نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف، ولأن المشهور من حال العرب: الأنفة الشديدة من الانقياد إلى الغير، فهم لا ينقادون لغيرهم من الأمم، فبعث الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب. (يتلو عليكم آياتنا) أي: يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم؛ لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فتؤدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ومجامع الأخلاق الحميدة، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة. (ويزكيكم) أي: يطهركم من الشرك والأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق (ويعلمكم الكتاب) يعني: القرآن، وهذا ليس بتكرار؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم، ففي صدر الآية (يتلو عليكم آياتنا) فهذا مجرد تلاوة الآيات، أما هنا (يعلمكم الكتاب والحكمة) وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها؛ ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: الحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) إشارة إلى أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل، وجهالة من الأمم، والخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم، فبعث الله تعالى النبي بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم، فصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة، وذلك من أعظم أنواع النعم، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164]، وفي هذا ذم لمن لم يعرف قدر هذه النعم، ذم للذين لا يشكرون الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ونعمة القرآن والوحي الذي علمنا الله به ما لم نكن نعلم، وهذا كقول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم:28] قال ابن عباس: يعني: كفراً بنعمة الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأعظم نعمة امتن الله سبحانه وتعالى بها على البشرية هي بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأولين والآخرين، فهم بدلوا نعمة الله كفراً، أنعم الله عليهم بالرسول فكفروا به وكذبوه وجحدوه وحاربوه، (وأحلوا قومهم دار البوار)، ومن أجل ذلك ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره، فبعدما قال تعالى: (كما أرسلنا) الآية قال: (فاذكروني) يعني: كما أنعمت عليكم بهذه النعمة فاشكروها لي، فهناك ربط بين أول هذه الآية وبين الآية التالية، (فاذكروني أذكركم واشكروا لي) أي: هذه النعمة ولا تكفروا بها، (فاذكروني أذكركم) أي: اذكروني -أيها المؤمنون- بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم، وقد كان بعضهم يتأول ذلك: أنه من الذكر بالثناء والمدح، وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة: أذكركم بالمجيب والثواب، وهذا هو معنى ما قبله، لأن الله تعالى يقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] إذا ذكرتموني بإجابتي وبطاعتي وبعبادتي أذكركم بالمزيد من النعم وبتواليها عليكم، (واشكروا لي) يعني: فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته لكم، (ولا تكفرون) يعني: لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم. وقال السمرقندي : النعمة في الحقيقة هي العلم، وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة وليس بنعمة، فالعلم لا يمل منه صاحبه، بل يطلب منه الزيادة، فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة وهي نعمة بعثه رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة، ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ووقائعهم جعل الله تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرً [البقرة:200] فالانشغال بذكر الله سبحانه وتعالى بدل القعود فيما كانوا عليه في الجاهلية، فإنهم كانوا إذا انقضت المناسك يتفاخرون بالآباء والأجداد وبالعظام البالية الجاهلية، فالله تعالى يقول لهم: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً) أي: دعوكم من موضوع الافتخار بالآباء، وانشغلوا بذكر الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هنا لما علم أن من طباع العرب: ولعهم وشغفهم بذكر آبائهم ووقائع آبائهم جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، كما جعل كتابه عوضاً عن أشعارهم، فالقرآن عوض عن الشعر الذي كانوا يتناشدونه، وذكرهم الله وذكر الله إياهم عوض عن التفاخر الذي كانوا يتفاخرون به بآبائهم، فهز عزائمهم بذلك بما يسره به من ذكره لهم، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة) أخرجه البخاري. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) والأحاديث في فضل الذكر متواترة، ويكفي فيه هذه الآية الكريمة: (فاذكروني أذكركم) جزاء أن تذكروا الله أن يذكركم الله، ولذلك بكى أبي بن كعب لما علم أن الله سبحانه وتعالى تكلم باسمه، قال: (أذكرني باسمي؟ قال: نعم، فبكى أبي رضي الله تعالى عنه) وهذا بلا شك شرف عظيم أن يذكرك الله، فاذكر الله يذكرك الله. أما قوله: ( واشكروا لي ولا تكفرون ) ففيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها، فالكفر هنا كفر النعمة لا الشرك به، والكفر يطلق إما على الستر والتغطية، تقول: كفر البذر يعني: غطاه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] والتكفير للبذرة يعني دفنها في الأرض وكذلك الكفر هنا المقصود به: لا تكفروا نعمتي، وليس المقصود به هنا: كفر التكذيب، وقد وعد الله تعالى على شكره بمزيد الخير فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد، واشكروا لي أفصح وأبلغ من الشكر. فيمكن أن تقول: أشكرك، أو تقول: أشكر لك، وأشكر لك أفصح وأبلغ، قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] والذي أتى في القرآن أن الشكر يتعدى باللام، فيكون أبلغ وأفصح.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)

    أرشد الله تعالى المؤمنين إثر الأمر بالشكر إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر الله عليها، أو أن يكون في نقمة فيصبر عليها، كما جاء في حديث صحيح مرفوع: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). وذكر تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، وفي الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى)، أي: كان إذا اشتد به الأمر أو نزل به الكرب يفزع إلى الصلاة. ثم إن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات، وصبر على المصائب والكربات. وذلك أن الصبر معناه حبس النفس، وبهذا المعنى فهو إما صبر على ترك المحارم والمآثم، وإما صبر على فعل الطاعات، وإما صبر على المصائب والكربات، والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود، أما الصبر الثالث -وهو الصبر على المصائب والنوائب- فهو واجب كالاستغفار من المعايب، فإنك تستغفر من المعايب والذنوب لأنك الذي تسببت فيها، أما الصبر على المصائب فإنه لا اختيار لك فيها، بل يقدرها الله سبحانه وتعالى عليك؛ ولذلك فإننا نحتج بالقدر في المصائب، ولا نحتج به في المعايب، فلا يجوز لإنسان أن يرتكب معصية ثم يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل! بل الواجب في المعاصي أن تظل إلى أن تلقى الله وأنت تستغفر وتندم وتتوب، حتى تعلم حالك عند الله، أما المصائب فهي التي تقول فيها: إنا لله وإنا إليه راجعون، وتصبر وتحتسب. وقوله: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ خص الصلاة ههنا بالذكر لتكررها وعظمها. (إن الله مع الصابرين) يعني بالمعونة. وهذه الآية من الآيات التي فيها ذكر معية الله سبحانه وتعالى لبعض خلقه: (إن الله مع الصابرين) وهذه هي المعية الخاصة؛ لأن من آيات القرآن ما تذكر فيها المعية مع الخلق كافة، ومنها ما يخصص الله سبحانه وتعالى بها بعض عباده، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وفي قوله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7] فهذه معية عامة بمعنى أن الله سبحانه وتعالى مع خلقه أجمعين، وهذه المعية ليست معية للذات -أي: ليس معناها أن ذات الله سبحانه وتعالى تختلط بذوات خلقه، معاذ الله- لكن هي معية للصفات، فهو سبحانه مع العباد بالعلم والمراقبة والشهادة والخبرة بأحوالهم. وجاء أيضاً لفظ المعية خاصاً كما في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقوله: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] فهذه المعية المذكورة في هذه الآية لا تشمل فرعون وجنده وسحرته فهي معية خاصة. كذلك قوله تعالى حاكياً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]. فلو كان المراد: معنا بذاته، لكان التعميم يناقض التخصيص -يعني: لو أن معية الله سبحانه وتعالى هي بذاته لكان التعميم في بعض الآيات يناقض التخصيص في البعض الآخر؛ لأنه سيكون مع الجميع بذاته، تعالى الله عن ذلك- لكنه قد عرف أن قوله (لا تحزن إن الله معنا) أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار. كذلك قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] خصهم بذلك دون الظالمين والفجار. وأيضاً فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أنه يراد به اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، فعندما تقول: سرت مع القمر، ليس معناه أن تختلط ذاتك بذات القمر، بل القمر في السماء وأنت في الأرض، وكذلك حينما ترسل ابنك أو أخاك إلى أطراف الأرض وتقول له: إنني معك، فلا تعني بذلك أن ذاتك مع ذاته، كما في قوله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] فليس فيها اختلاط الذوات. وكذلك قوله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]، وقوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقوله تعالى: وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال:75] ومثل هذا كثير، فامتنع أن يكون قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4] دالاً على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وبين شيخ الإسلام أن لفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته لكل موقف بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد، وهي المعية الخاصة لأولياء الله من الأنبياء والمرسلين والصالحين، أما المعية العامة فهي لكل الخلق، فهو معهم بالسلطان أي: بالعلم بالقدرة وغير ذلك، لكن في الحالتين ليست تقتضي اختلاط الذوات، بل هو على العرش عليم بما يفعله خلقه تبارك وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)

    قال عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] (ولا تقولوا) هذا عطف على قوله من قبل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) يعني: لا تقولوا: هم أموات مثل غيرهم من الأموات, بل موتهم ذو صفة خاصة، فهم ليسوا كغيرهم من الأموات، وهذا هو المقصود من النهي هنا. (بل أحياء) يعني: بل هم أحياء، وأرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت كما جاء في صحيح مسلم. (بل أحياء ولكن لا تشعرون) أي: لا تعلمون ما هم فيه. ففي هذه الآية ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا للشهداء: هم أموات، بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأصبحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الميت؛ ولذلك الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: (لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) يعني: لا تقولوا: هم أموات مثل غيرهم من الأموات، (بل أحياء) يعني بل هم أحياء. ويقول القاسمي : ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا للشهداء: أموات، بمعنى لا تسووهم بالأموات، لا تظنوا أنهم أموات كالأموات الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: ( بل أحياء ) بل قولوا: هم أحياء؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عمران: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]. فقوله في هذه الآية الكريمة في آل عمران: (بل أحياء عند ربهم) هذا تفسير لهذه الآية: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، (بل أحياء) نفهمها من قوله: (أحياء عند ربهم).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756242887