إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران [169-185]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً...)

    يقول تبارك وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]. قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا [آل عمران:169]. إذا رجعنا إلى سياق الآيات السابقة يقول عز وجل: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، إلى قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]. فنلاحظ أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر، كما ذكر أيضاً عن المنافقين في سورة النساء أنهم إذا غنم المسلمون وظفروا قال أحدهم: يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:73]، هذا في حالة الغنيمة، أما إذا وقع البلاء وسقط الشهداء فيقول: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72] أي: حاضراً، ليس الشهيد المذكور هنا في الآية هو الذي يقتل في سبيل الله، بل المقصود بالشهيد: هو الذي حضر المعركة، والمنافق يحمد الله أنه لم يكن حاضراً ساعة الجهاد والقتال. فلذلك هنا يبين الله تبارك وتعالى لهم أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر، بل إن كان في سبيل الله فهو من أجلَّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون. إن الحذر من القتل لا يجدي ولا يغني كما قال عز وجل: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] أي: لا تحسبنهم أمواتاً تعطلت أرواحهم.

    حياة الشهداء في الجنة

    وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ليس المقصود هنا نفي حياة البدن؛ لأن البدن افتقد الحياة بالفعل، لكن المقصود هنا حياة الأرواح. يقول تعالى: (( بَلْ أَحْيَاءٌ )) أي: بل هم أحياء، فوق أحياء الدنيا؛ لأنهم مقربون من الله تبارك وتعالى. ((عند ربهم يرزقون))؛ لأنهم بذلوا له أرواحهم، فهم أحياء يرزقون، لا رزقاً معنوياً بل رزقاً حقيقياً كما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: (( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ))) . وأخرج مسلم عن مسروق قال: (سألنا عبد الله عن هذه الآية: (( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ))، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية)، وهذا رواه الإمام أحمد ، ورواه ابن جرير عن أبي كريب . قال ابن كثير : وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة. ومنهم من يكون على هذا النهر باب الجنة. وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله تعالى أعلم. ثم قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها أيضاً، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم. حديث عزيز عظيم، أي: خاصية تكاد تكون غير موجودة في غيره من الأحاديث، وهي أن ذلك الحديث اجتمع في روايته ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه). قوله: (يعلق) أي: يأكل، وفي هذا الحديث (أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة)، وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان. يقول الواحدي : الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون).

    علاقة الروح بالبدن

    وقال البيضاوي : الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس الذي نحسه ونراه، بل هو جوهر مدرك بذاته، لا يفنى بخراب البدن. أي: أن هذه الآية تدل أن في الإنسان غير هذا الهيكل الجسماني، وإنما له جوهر مدرك بذاته لا يفنى، عنده إحساس وإدراك؛ لأن الأرواح تتنعم وتستلذ، فلا يفنى الإنسان بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، وهذا واضح جداً في حالة النوم، فإذا كان الإنسان نائماً فإنه تطرأ عليه كل المشاعر الإنسانية من اللذة والفرح والغم والهم والسرور والبكاء، وغير ذلك من الأحاسيس التي يجدها الإنسان بروحه عند نومه، فالذي يتنعم أو ينقبض في المنام هو الروح، والبدن ساكن، فهكذا أيضاً بالنسبة للأموات. ومما يؤيد ذلك قول الله تبارك وتعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، وكذلك حديث: (أرواح الشهداء في جوف طير خضر) . يقول الشهاب : ليس الإنسان مجرد البدن بدون النفس المجردة، بل هو في الحقيقة النفس المجردة، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق به، وهو جوهر مدرك بذاته من غير احتياج إلى هذا البدن، فالبدن يحتاج للروح، لكن الروح في إدراكها وإحساسها لا تحتاج إلى البدن؛ لوصف هذا الإنسان أو الروح بعد مفارقة الجسد بالنعيم والسرور وغير ذلك. وقال أبو السعود : وفي الآية دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف، لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه. في الحقيقة هناك معنى مهم يتعلق بهذه الآية، سبق أن ناقشناه بالتفصيل في سورة البقرة عند قوله تبارك وتعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، فهذه الآية تثبت حياة للأرواح بعد الممات. لكن تنفي أيضاً إدراكنا لكيفية هذه الحياة؛ لأنه قال: بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، فنحن لا نستطيع أن ندرك كنه وكيفية هذه الحياة.

    تفسير قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله

    فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:170]. قوله: (( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ )) أي: بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان. (( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ )) أي: بإخوانهم المجاهدين الذين. (( لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ )) أي: لم يقتلوا فيلحقوا بهم حتى الآن. (( مِنْ خَلْفِهِمْ )) أي: بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم، أو لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم. (( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )) معنى الآية: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به، وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم لمن خلفهم حث للباقين من بعدهم على الجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء.

    تفسير قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل)

    يقول تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:171]. أي: يسرون بما أنعم الله عليهم من زيادة الكرامة وتوفير أجرهم عليهم، فكرر الاستبشار المذكور في الآية السابقة. فالبشارة الأولى تتعلق بنفي الخوف والحزن، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170]، أما هنا فالبشارة بشيء زائد على ذلك (( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ )) وهو ما يقارن عدم الخوف وعدم الحزن من نعمة عظيمة لا يقدر قدرها وهي ثواب أعمالهم. (( وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )) أي: الشهداء، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان وكونه مناطاً لما نالوه من السعادة. ذكر القاسمي رحمه الله تعالى كلاماً طيباً جداً عن ابن القيم رحمه الله تعالى في فضيلة الشهداء: يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون في غزوة أحد، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال، فشق ذلك عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم فيها، قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؟ قال: فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة، ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف أبو سفيان على المسلمين ولم يكن قد أسلم، ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر)، يعني: واعدهم العام القابل أن يلتقوا من جديد في بدر حتى يمحو المشركون المعرة التي لحقتهم في بدر، فأرادوا أن يوافوهم العام القابل في نفس المكان كي يثأروا من غزوة بدر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: نعم قد فعلنا)، يعني: نحن مستعدون لمواجهتكم في بدر، قال أبو سفيان : فذلكم الموعد. ثم انصرف هو وأصحابه، فلما كان في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا). فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف، فأنزل الله عز وجل: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172]. واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: (يا رسول الله! إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي أسير معك فأذن له، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يلحق بـأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد ؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، إذ فاضوا عليكم ومستعدون لهزيمتكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك). قال البخاري : عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ((( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ )) الآية، قالت عائشة لـعروة : كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر رضي الله تعالى عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير).

    تفسير قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)

    في بعض كتب السيرة: أن المشركين أرسلوا رسولاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حمراء الأسد، فأخبروه بأنهم قد جمعوا المسير إليه وإلى أصحابه؛ ليستأصلوا بقيتهم، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، هذا الرسول بلغ الرسالة، فقال الصحابة رضي الله عنهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فأنزل الله تعالى في ذلك: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ )) أي: الركب الذين استقبلوهم. (( إِنَّ النَّاسَ )) أي: أبا سفيان وأصحابه. (( قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ )) أي: الجموع؛ ليستأصلوكم. (( فَاخْشَوْهُمْ )) فلا تأتوهم. (( فَزَادَهُمْ )) ذلك القول. (( إِيمَانًا )) أي: تصديقاً بالله ويقيناً، يعني: لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا، بل ثبت به .. الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه، وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص (( فَزَادَهُمْ إِيمَانًا )). (( وَقَالُوا حَسْبُنَا الله )) أي: كافينا أمرهم. (( وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))، أي: نعم الموكول إليه، والمفوض إليه الأمر هو الله تبارك وتعالى.

    تفسير قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل)

    فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]. (( فَانْقَلَبُوا )) أي: رجعوا من حمراء الأسد. (( بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ )) أي: رجعوا بالعافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين. (( لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ )) أي: لم يصبهم قتل ولا جراح، مع أنهم كانوا مستعدين للجهاد. (( وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ )) بطاعته وطاعة رسوله بخروجهم. (( وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )) وفيه تحذير للمتخلف، وتخطئة رأيه، حيث حرم نفسه مما رجعوا به. وفي قوله تعالى: (( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))، استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة، وهي الكلمة التي قالها المؤمنون هنا كما في هذه الآية حينما قيل لهم: (( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ))، وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار. وهذا هو الراجح في هذه الآية أن تحمل على غزوة حمراء الأسد، وهي التي تسمى: غزوة بدر الصغرى، أو غزوة بدر الثانية. روى ابن جرير : أنه لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش، فيقولون: قد جمعوا لكم، يريدون أن يكيدوهم بذلك ويرعبوهم، فيقول لهم المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى قدموا بدراً فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد، وتخلف المشركون ولم يحضروا الموعد المتفق عليه. (( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ))، النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه. يقول ابن كثير: والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد.

    أقوال المفسرين في قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا....) وما بعدها من الآيات

    يقول السيوطي رحمه الله تعالى في هذه الآيات: ونزل في الشهداء -يعني: شهداء أحد قالوا: (من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم). ثم قال تعالى: (( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ))، بالتخفيف والتشديد. أي: قُتِلوا أو قتِّلوا. (( فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))، أي: لأجل دينه. (( أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ))، يعني: بل هم أحياء حياة لا يدرك أهل الدنيا حقيقتها، كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]. (( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ )) (أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت)، كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره. (( يُرْزَقُونَ )) أي: يأكلون من ثمار الجنة. (( فَرِحِينَ )) حال من ضمير يرزقون. (( بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ )) أي: يفرحون. (( بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ))، أي: من إخوانهم المؤمنين، ويبدل من الذين: (( أَلَّا خَوْفٌ )) أي: بأن لا (خوف عليهم) أي: الذين لم يلحقوا بهم (ولا هم يحزنون) أي: في الآخرة. المعنى: يفرحون بأمنهم وفرحهم. (( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ )) أي: ثواب. (( مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ))، زيادة عليه. (( وَأَنَّ ))، بالفتح عطفاً على نعمة، وبالكسر استئنافاً يعني: أنها قراءة أخرى ( وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين) أي: بل يأجرهم. ((الَّذِينَ))، هذا مبتدأ. اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي: استجابوا دعاءه بالخروج للقتال لما أراد أبو سفيان وأصحابه العود تواعدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سوق بدر العام المقبل من يوم أحد. يقول القاضي كنعان: ما ذكره الجلال السيوطي هو قول مجاهد وعكرمة . وقال القرطبي : وقد شذا في قولهما هذا. وذلك أن جمهور المفسرين على أن هذه الواقعة هي غزوة حمراء الأسد، فهي بعد أحد مباشرة. يقول: وقال ابن إسحاق والواقدي : إنها نزلت ثناء على المسلمين الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معركة أحد، ثم خرجوا معه في اليوم التالي ليوم أحد، خرجوا معه فساروا ثمانية أميال من المدينة وكانوا ستمائة وثلاثين رجلاً، ووصلوا إلى موضع يقال له: حمراء الأسد، فأقاموا به بضعة أيام، ثم رجعوا إلى المدينة من غير أن يلقوا عدوهم، فعرفت هذه بغزوة حمراء الأسد، وكانت جبراً لخللهم يوم أحد عندما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتفرقوا عنه. قال القرطبي : وتفسير الجمهور لهذه الآية أنهم سبعون رجلاً انتدبهم النبي صلى الله عليه وسلم ليذهبوا في أثر كفار مكة مخافة أن يرجعوا. فلذلك كان قول السيوطي مرجوحاً كما ذكرنا، إنما المقصود هنا غزوة حمراء الأسد؛ وذلك لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ، أي: في أحد، وخبر المبتدأ (للذين أحسنوا منهم) يعني: بطاعته (واتقوا) أي: مخالفته. (أجر عظيم) وهو الجنة. (الذين) هذه بدل من (الذين) قبله أو نعت. (قال لهم الناس) أي: نعيم بن مسعود الأشجعي ، وقد أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين وهم يستعدون للقاء المشركين في موسم بدر. (( إِنَّ النَّاسَ )) أبا سفيان وأصحابه المشركين. (( قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ )) الجموع ليستأصلوكم إن خرجتم للقائهم في موسم بدر. (( فَاخْشَوْهُمْ )) ولا تأتوهم. (( فَزَادَهُمْ )) أي: ذلك القول. (( إِيمَانًا )) تصديقاً بالله ويقيناً. (( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ))، أي: هو كافينا أمرهم. إن كثيراً من الناس يقولون كلمة: (حسبنا الله) ولا يستحضرون معناها. حسبي الله معناها: الله يكفيني هذا الشر أو هذا الضر أو هذا الأذى، أو يكفيني الرزق أو غير ذلك من الأمور. (( وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )) أي: نعم من يفوض إليه الأمر هو الله تبارك وتعالى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ))، قال جماعة من العلماء: المراد بالناس القائلين: (( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ))، نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع. ويدل لهذا التفسير الإشارة المفردة في قوله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]. قال صاحب الإتقان: قال الفارسي : ومما يقوي أن المراد به واحد بكلمة الناس قوله: (( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ ))، فوقعت الإشارة بقول: (ذلكم) إلى شخص واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعاً لقال: (إنما أولئكم) فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ على أن المقصود شخص واحد. يقول: (( فَانْقَلَبُوا )) أي: رجعوا من بدر (( بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ )) بسلامة وربح. (( لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ )) أي: من قتل أو جرح. (( وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ )) أي: بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الخروج. (( وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ))، أي: على أهل طاعته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه..)

    إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. قال تبارك وتعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]. (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: إنما ذلك قول الشيطان. (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءه الكفار، وحينئذ فـ(أولياءه) تكون مفعولاً ثانياً للفعل (يخوف)، والمفعول الأول محذوف، تقديره: يخوفكم أولياءه، كما قرئ كذلك. فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . يقول السيوطي : (إنما ذلكم) أي: القائل لكم: إن الناس إلى آخره، (الشيطان يخوف) أي: يخوفكم (أولياءه) أي: الكفار. إذاً هنا المفعول الأول يكون محذوفاً وهو الضمير. (( فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ))، في ترك أمري وعصيان رسولي. (( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) حقاً، فلا تأبهوا بهذا التخويف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)

    وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]. قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، أي: لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله، وقرئت في السبع: (ولا يحزِنك). إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ، أي: لأنهم لن يضروا الله شيئاً. قوله: (لن يضروا الله) أي: لن يضروا أولياء الله. قال عطاء : يريد أولياء الله، نقله الرازي . قال أبو السعود : تعليل للنهي وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبداً، أي: لن يضروا بذلك أولياء الله ألبتة، وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم، هذا معنى رائع جداً في الحقيقة، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا أي: لن يضروا أولياء الله. لماذا عبر الله تبارك وتعالى عن أوليائه بذاته المقدسة سبحانه وتعالى، (إنهم لن يضروا الله شيئا)؟ كما قلنا: إن تعليق نفي الضرر به تعالى لتشريف أولياء الله المؤمنين، والإيذان بأن مضرتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى، فإن من يؤذي أولياء الله كأنه يؤذي الله عز وجل، وجاء هذا صريحاً في الحديث القدسي المشهور: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ففي هذا مزيد مبالغة في التسلية يعني: لن يضروا أولياء الله شيئاً، والله عبر عن أذية أوليائه بأذيته هو تبارك وتعالى. قال المهايمي: أي: لن يضروا أولياء الله؛ لأنه الله يحميهم إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجيزهم إياه عن حمايتهم، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئاً، بل يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ أي: أنه يريد أن يضرهم الضرر الكلي الذي ليس بعده ضرر، ويريد الله أن يمكر بهم كي يوقع بهم الضرر الذي لا ضرر أعظم منه، وهذا الضرر هو أنه يريد ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أي: في النار. قال بعض المفسرين: ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يحزنك) بضم الياء وكسر الزاي، وبفتحها وضم الزاي من حزنه وهي لغة في أحزنه. (( الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ )) أي: يقعون فيه سريعاً بنصرته، وهم أهل مكة أو المنافقون، أي: لا تهتم بكفرهم. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا بفعلهم، وإنما يضرون أنفسهم. (( يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا )) أي: نصيباً (( فِي الآخِرَةِ )) أي: الجنة، فلذلك خذلهم الله. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أي: في النار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان..)

    إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:177] قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ أي: أخذوه بدله. الإيمان: إما أنه الميثاق الذي أخذ عليهم في الأزل، أو الإيمان الفطري الذي فطروا عليه من التوحيد، فكأنهم أخذوا الكفر بدل الإيمان. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا بكفرهم. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم..)

    قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]. (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) الإملاء والاستدراج من الله سبحانه وتعالى لأعدائه المحاربين دينه وأوليائه. وقوله: (( أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ )) أي: بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتأخيرهم دهراً طويلاً، حيث يدعهم الله سبحانه وتعالى يتقلبون في البلاد ويغترون بما هم عليه. فلا يحسبن هؤلاء أن هذا الإملاء خير لهم، بل هو في الحقيقة سبب مزيد عذابهم؛ لأنهم إذا طال عمرهم في الكفر والمعاصي والصد عن سبيل الله، فمعنى ذلك أن الزيادة في العمر شؤم عليهم.. يقول عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) هذا هو منطوق الحديث، أما مفهومه: (شركم من طال عمره وساء عمله)؛ لأن من طال عمره في الشر زادت سيئاته، أما من مات قبل أن يطول عمره، وعنده معاص وظلم للناس فإنه ستقل سيئاته، فلذلك يقول الله تعالى هنا: (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ))، بل هو سبب مزيد عذابهم؛ لأنه (( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ))، بكثرة المعاصي فيزادوا عذاباً. (( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )) أي: لهم في الآخرة عذاب ذو إهانة، في أسفل دركات النار. قوله: (( أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ))، في (ما) وجهان: أن تكون مصدرية أو موصولة. إذا قلنا إنها موصولة فقد حذف عائدها، أي: إملاؤنا لهم، أو الذي نمليه لهم، وإذا قلنا: إنها موصولة فحق كلمة (ما) أن تكون غير متصلة بـ(أن) وعندما تكون (ما) مصدرية فتوصل بـ(إن). ولكنها وقعت في مصحف الإمام متصلة، مصحف الإمام هو مصحف عثمان رضي الله عنه، فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف، وما الثانية (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) هذه متصلة فهي تسمى: ما الكافة؛ لأنها تمنع عمل إن، وأنا أذكر بيتين من الشعر ذكرهما أحد العلماء في شأن شخص أراد وظيفة، وكان من أراد أن ينال الوظيفة لابد أن يبذل رشوة أو هدية، فقال لهم هذا الرجل: ما أعطي، أو: ما أدفع الرشوة، فعزلوه وقالوا له: ما تستحق العمل، فكفوه عن العمل؛ فلذلك نظم أحد العلماء بيتين فقال مخاطباً هذا الرجل الشريف أو الأمين: عزلوك لما قلت ما أعطي وولوا من بذل أوما علمت بأن ما حرف يكف عن العمل (( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ))، في قوله تعالى: (مهين) معنى لطيف، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها، كانت العاقبة هي النقيض، وذلك بالإهانة. وذلك أن الله سبحانه وتعالى عندما يملي للإنسان فإنه سبحانه وتعالى يعطيه المال والصحة والعافية، ثم تراه يغتر وقد يشتم الله سبحانه وتعالى ويفعل أقبح أفعال الكفر، ومع ذلك يمد له ويملي له حتى يكون نصيبه من العذاب أشد واستحقاقه له أكبر، ومثل هذا الشخص المتجبر المتكبر المغرور أخبر الله سبحانه وتعالى بأنه سيعامله بنقيض قصده، فتكون عاقبته في الدنيا المهانة. قوله: (( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )) إذا لاحظنا هذا المعنى، فإنها معاملة له بنقيض قصده؛ لتعززه وتجبره، فهو يريد العزة لنفسه، فعاقبه الله في الآخرة بالعذاب المهين، فوصف عذاب مثل هذا الشخص بالإهانة؛ ليكون جزاؤه جزاءً وفاقاً. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في هذه الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب، وبين في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة، كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] البأساء: الفقر والفاقة، والضراء: هي المرض، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [الأعراف:95]، لما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى لم يتضرعوا، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا إلى الله، فماذا يفعل بهم؟ يمد لهم ويملي لهم إملاء، ويستدرجهم استدراجاً، يقول تبارك وتعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا [الأعراف:95]، أي: كثر فيهم الخير والرزق والبركة وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95] ، أما نحن ففي مأمن فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95]. وكقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:42-43]، إلى قوله تعالى: أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]. بين سبحانه في موضع آخر أن ذلك الاستدراج من كيده المتين وهو قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183]. وبين في موضع آخر أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج، فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيراً من ذلك الذي أوتوه في الدنيا، كقوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ [المؤمنون:55]* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:56]، وقال عز وجل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، وقوله عز وجل: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، ما دام أكرمني في الدنيا لابد أن يكرمني في الآخرة، وقوله تعالى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، وقوله: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35]، ونظائر ذلك من القرآن الكريم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه)

    مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]. لقد أشار الله تبارك وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد: وهي أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أ عدائهم يوم بدر وصار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأظهر المنافقون في هذه الغزوة ما كانوا يكتمونه، وظهر ما كانوا يسترونه ويخفونه، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً بين أظهرهم وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحرجوا منهم، ولذلك قال تبارك وتعالى هاهنا: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]. (ما كان الله ليذر) أي: ليترك (المؤمنين). (على ما أنتم عليه) من الاختلاط بالمنافقين وعدم التباين، بل لا يزال يبتليكم (حتى يميز الخبيث من الطيب) ولا يميز إلا بهذا الابتلاء؛ لأنه (ما كان الله ليطلعكم على الغيب). هناك طريقتان لمعرفة الطيب من الخبيث: الأولى: بالاطلاع على الغيب ومعرفة الغيب، وهذا لا يكون، نحن لا نستطيع أن نطلع على الغيب. الثانية: وهي أن يقع الامتحان والفتنة والابتلاء فيمتاز الناس فيظهر أولياء الله من أعدائه. (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) يعني: هذا الطريق ليس متاحاً لكم؛ لتعرفوا الطيب من الخبيث؛ لكن تأتي المحن والابتلاءات فيمتاز المؤمن من المنافق كما جاء في حديث: (فتنة الدهيماء)، إنها فتنة حرب وهرج، وجاء في آخر الحديث: (أن الفتنة تشتد حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه). يقول السيوطي : (ما كان الله ليذر) أي: (ليترك المؤمنين). (على ما أنتم) أيها الناس عليه من اختلاط المخلص بغيره (حتى يميز) بالتخفيف والتشديد قراءتان، يعني: يفصل. (الخبيث) أي: المنافق. (من الطيب) أي: المؤمن بالتكاليف الشاقة المبينة لذلك، ففعل ذلك يوم أحد. (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز. (ولكن الله يجتبي) أي: يختار. (من رسله من يشاء) فيطلعه على الغيب كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على حال المنافقين. (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا) النفاق. (فلكم أجر عظيم).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله...)

    وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]. قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ، بالياء والتاء. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، أي: بزكاته. هُوَ خَيْرًا لَهُمْ أي: هذا البخل خيراً لهم. أي: لا تحسبن بخل الباخلين خيراً لهم، أو لا يحسبن الباخلون بخلهم خيراً لهم. بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ ، يعني: ما بخلوا بزكاته من المال. يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -اللهزمتان: جانبا الفم- ويقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية (( سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ ))). وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أي: يرثهما بعد فناء أهلهما، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بالتاء والياء، خَبِيرٌ فيجازيكم به. يقول القاسمي : اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه، وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله، يعني: أن هذا المال ليس مالهم وإنما هو عطية من الله. (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) ليس مالهم وإنما هو مال الله تبارك وتعالى؛ للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله، أي: إذا كان الله هو الذي أعطاك فيجب عليك أن تبذل في سبيله هذا القدر البسيط، وهو نسبة الزكاة المعروفة، كما قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فلا يحسبن هؤلاء ذلك خيراً لهم بل هو شر لهم؛ لأنه سيجلب لهم العقاب (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) وقد جاءت أحاديث كثيرة في تفاصيل هذا العذاب أشرنا إلى طرف منها. ثم أشار تعالى إلى أنهم وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله فهي راجعة إليه: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، أي: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقون في سبيله؟ ونظيره قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] فهذا على حقيقته، كما قال الزجاج : أي أن الله تعالى يفني أهلهما فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون؛ لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، يعني: فيجازيكم على المنع والبخل، وفي قراءة أخرى (والله بما تعملون خبير) فيجازيكم به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء...)

    قال عز وجل: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]. لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) الآية. وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس أيضاً قال: (دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس -بيت العبادات عند اليهود- فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له: فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له: أشيع ، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص ! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله، قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقره، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر ؟! فقال: يا رسول الله! إن عدو الله قال قولاً عظيماً، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل فيما قال فنحاص : (( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ))). ولما كان مثل هذا القول لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية الشناعة أشار إلى وعيده الشديد فقال تعالى: (( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ))، أي: ما قالوه مع هذه العظيمة الشنعاء، في صحائف الحفظة. (وقتلهم الأنبياء) أي: سنكتب أيضاً قتلهم الأنبياء بغير حق، وإنما ضمه مع ما قبله إيذاناً بسوابقهم القبيحة، فلذلك ربط الله سبحانه وتعالى هذا القول الشنيع بجرائم آبائهم، ونسبها إليهم مع أنهم ليسوا هم الذين قتلوا الأنبياء اليهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا راضين بذلك، بل هم سعوا في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليس قولهم: (( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ )) بأول جريمة يرتكبونها، ومعلوم أن من اجترأ على قتل الأنبياء لا يستبعد منه أن يقول هذا الكلام. (( وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ )).

    فوائد من قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء...)

    هنا بعض الفوائد منها: الأولى: إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون قائلها شخص واحد: (( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا )) فتكلم عن هذا الواحد بصيغة الجمع؛ لرضا الباقين بذلك، ونظائره في التنزيل كثيرة. الثانية: إضافة عذاب الحريق إضافة بيانية، بمعنى: ذوقوا العذاب الذي هو الحريق. حاسة الذوق تكون لإدراك الطعم، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هاهنا لأن العذاب مترتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه هي تحصيل المطاعم، فالذي دفعهم إلى قولهم: (( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ )) هو بخلهم، فهم يبخلون بأن يؤتوا مما آتاهم الله من فضله. المال إنما يقصد بصفة أساسية من أجل أن يأكل الإنسان منه، فأهم شيء عند الإنسان من تحصيل المال هو الطعام؛ فلذلك هم يتهالكون على هذا المال خوفاً من فقدان هذا الطعام، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال؛ لأن أغلب استعمالات المال هي في الطعام. كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10] وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)

    ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182] قوله تعالى: (( ذَلِكَ )) أي: العذاب. (( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ )) تقديم الأيدي هو عملها؛ لأن من يعمل شيئاً يقدم يده، والتعبير بالأيدي عن الأنفس؛ لأن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهن، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار العمل عليه.

    صيغة المبالغة في قوله: (ظلام) ووجه الإشكال والجواب عنه

    وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182] (ظَلَّامٍ) صيغة مبالغة من الظلم، تفيد كثرة الظلم، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل، فلو قيل: (وأن الله ليس بظالم) لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره، فما الجواب عن ذلك؟ الجواب من أوجه: أحدها: أن الصيغة للنسب من قبيل نسبة البزاز إلى البز والحرير، والعطار إلى العطر، لا للمبالغة. أن الله لا ينسب إلى الظلم؛ لأنه عندما تقول -ولله المثل الأعلى-: هذا ليس بعطار، فأنت لا تقصد المبالغة، وإنما تقصد نفي نسبته إلى بيع العطر. الوجه الثاني: أن صيغة (فعال) استعملت في لغة العرب لا على معنى الكثرة والمبالغة، بل تأتي على معنى الفاعل كقول طرفة : ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترشد القوم أرشد هذا في معلقة طرفة بن العبد التي مطلعها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد يقول التبريزي في قوله: ولست بحلال التلاع: (التلاع) مجاري الماء من رءوس الجبال إلى الأودية. (وقوله: (ولست بحلال التلاع) أي أنني لا أتواجد في ذلك المكان ولا أسكنه مخافة أن يراني ابن السبيل والضيف، فهو ينزه نفسه عن البخل؛ لأن الذي يريد أن يهرب من الضيوف بسبب البخل يختبئ في هذه التلاع. قوله: (ولكن متى يسترشد القوم أرشد). أي: أنني لا أحل في التلاع، بل أنزل في الفضاء وأرشد من يسترشدني، وأعين من استعانني. والرشد يكون بالعطية، ويكون بالمعونة. فمثل هذا الشخص الكريم الذي ينزه نفسه عن البخل، بقوله: (ولست بحلال التلاع) لا يقصد بذلك نفي المبالغة، لأن المعنى سيكون مقتضياً أنه في بعض الأحيان يختبئ من الضيوف أو من ابن السبيل؛ فلذا كان يقصد مجرد الحلول بدون المبالغة؛ فهنا جاءت (فعال) لا يراد بها الكثرة؛ لأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة. الوجه الثالث: هو أن المبالغة جاءت لمراعاة الجميع، كما تقول العرب مثلاً: فلان ظالم لعبده، ثم يقولون: وهو ظلام لعبيده، فتستعمل كلمة (فعال) إذا كان المتعلق به الفعل جمعاً. كذلك هنا نزه الله تعالى نفسه عن ذلك بقوله: (( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ))، لرعاية صيغة الجمع في العبيد. الوجه الرابع: أنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان للظلم القليل المنفعة أترك. الوجه الخامس: أن المبالغة لتأكيد معنىً بديع؛ وذلك لأن جملة (( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )) اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، بمعنى: أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده لغير ذنب. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، ولتصويره بصورة يستحيل صدور الظلم عنها، كما يعبر عن ترك الإفادة عن الأعمال بإضاعتها، فصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى ولإبراز ما ذكر من التعبير بغير ذنب في صورة مبالغة في الظلم. (( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )) فالله سبحانه وتعالى لو عذب الناس بدون ذنب يرتكبونه هل يكون ظلاماً للعبيد؟! هذه صيغة منفرة ينزه الله سبحانه وتعالى عنها؛ بل إنما يعذبهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا...)

    قال تبارك وتعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183]. ((الَّذِينَ قَالُوا)) نصب بتقدير: أعني، أو على الذم، أو رفع بتقدير: هم الذين قالوا. (إن الله عهد إلينا) أي: أمرنا. (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ) تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم: (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالمعجزات الواضحات. (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي: وبنفس هذا الذي قلتموه، وهو القربان الذي تأكله النار. (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي: لم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم؟! (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك...)

    فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184]. (فإن كذبوك) أي: بعد بطلان عذرهم المذكور. (فقد كذب رسل من قبلك) فلا تحزن وتسلَّ. (جاءوا بالبينات والزبر)، الزبر: جمع زبور أي: الكتب الموحاة منه تعالى. (والكتاب المنير) أي: الواضح الجلي. والزبور والكتاب واحد في الأصل؛ وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين، فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة.

    حقيقة القربان عند أهل الكتاب وأنواعه

    هنا فائدة تتعلق بقربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم: القربان معناه لغة: ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته، وكانت ذبائح العبرانيين عجيبة جداً، وكان المستعمل لهذه الذبيحة بتعيين الله: الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام، وكانت الذبائح على نوعين عامين: الأول: كانت تقرب لتكفير الخطايا. الثاني: كانت تقرب شكراً لله على نعمة وبركاته. ثم قال صاحب كتاب (مرشد الطالبين): فالذبيحة اليومية عند أهل الكتاب كانت مشهورة جداً، كان عليهم أن يتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى يومياً في الصباح والمساء بهذه الذبائح. الذبيحة اليومية عندهم خروف ليس فيه عيب، يقدم كفارة للخطايا، وذلك مرتان: صباحاً ومساءً طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلاً، والتي في المساء عن خطاياهم نهاراً، وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم. ولهذا ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقودا، وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان. خلاصة الكلام فيما يتعلق بهذه الآية يقول تعالى: (( تَأْكُلُهُ النَّارُ )) أي: أنه يذبح على هذه الكيفية، فبعدما يذبح تنزل نار من السماء فتأكله، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها الذبيحة، وفي عهد سليمان أيضاً كما جاء في كتبهم: (أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت الذبائح) وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار.

    1.   

    تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا..) وما بعدها

    يقول السيوطي رحمه الله تعالى هنا: (( الَّذِينَ )) هذه نعت للذين قبله (( قَالُوا )) أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا )) أي: قد عهد إلينا في التوراة (( أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ )) أي: لا نصدق رسولاً (( حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ))، فلا نؤمن لك حتى تأتينا أنت أيضاً بقربان تأكله النار، وهو ما يتقرب به إلى الله من نعم وغيرها، فإن قبل هذا القربان جاءت نار بيضاء من السماء فأكلته وإلا بقي مكانه. والعهد إلى بني إسرائيل كان موجوداً، لكن في حق المسيح ومحمد لم يعهد إليهم بذلك، قال تعالى: (( قُلْ)) لهم توبيخاً: (( قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ )) أي: بالمعجزات (( وَبِالَّذِي قُلْتُمْ )) كزكريا ويحيى فقتلتموهما، والخطاب لمن في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفعل لأجدادهم؛ لكنهم كانوا راضين بفعل أجدادهم. (( فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) أي: في أنكم تؤمنون عند الإتيان به. (( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ )) أي: المعجزات (( وَالزُّبُرِ )) كصحف إبراهيم وفي قراءة بإثبات الباء فيهما. (( وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ )) أي: الواضح وهو التوراة والإنجيل، والمعنى: فاصبر كما صبر هؤلاء الرسل الذين كُذِّبوا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم...)

    قال تبارك وتعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. (تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي: جزاء أعمالكم يوم القيامة. فَمَنْ زُحْزِحَ أي: أبعد عن النار وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ أي: نال غاية مطلوبه. فقد أخرج الترمذي والحاكم وصححاه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، أي: اقرءوا إن شئتم: (( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ))[آل عمران:185]). وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أي: ما العيش في الحياة الدنيا. إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ أي: الباطل الخادع الذي لا يدوم، بل يتمتع به قليلاً ثم يفنى.

    أقوال المفسرين في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم...)

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية: (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )) هذه كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب. وقوله: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) قال الزمخشري : فإن قلت: فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم؛ لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور. أي: فما يكون في القبر هو بعض الأجر ومن مقدمات الأجر، أما إكمال الأجر وكماله وغايته فإنما تكون يوم القيامة. وقال الرازي : بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة؛ لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم، حتى الإنسان إذا جوزي في الدنيا فأي متاع في الدنيا لابد أن يصل إليه ما يكدره، ولو لم يكدره إلا خوف انقطاعه وزواله لكان كافياً في تكديره. والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة؛ لأن السرور هناك يحصل بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم، والسعادة بلا خوف انقطاع، وكذا القول في العقاب، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه. (( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ )) أي: أبعد عن النار التي هي مجمع الآفات والشرور. (( وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ )) التي هي جامعة للذات والسرور (( فَقَدْ فَازَ )) أي: حصل له الفوز العظيم، وهو الظفر بالمراد، والنجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) أخرجه مسلم أيضاً. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أي: لذتها أو العيش فيها. إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ المتاع: هو ما يتمتع وينتفع به. والغرور: مصدر غره أي: خدعه وأقنعه بالباطل. وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنيه لذاتها من طول البقاء وأمل الدوام، فتخدعه ثم تصرعه. قال بعض السلف: الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول، فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756032239