إسلام ويب

تفسير سورة محمد [28]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ...)

    قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]. قوله: (فأحبط أعمالهم) أي: أبطلها، والمراد أعمالهم التي صورتها صورة الطاعة. فنلاحظ هنا في الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أثبت أن للكافرين أعمالاً، وهذه الأعمال في الظاهر هي أعمال صالحة، وقد تكون أعمالاً صالحة عملها قبل الردة، فإنه يحبطها. وهنا نقف وقفة مهمة جداً تتعلق بعمل الكافر.

    شروط العمل الصالح المقبول

    لقد دل القرآن العظيم على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة شروط: الشرط الأول: موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]. وقال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه ولا يقبل. الشرط الثاني: أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين [البينة:5]، وقال تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات). الشرط الثالث: أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة، وهو المتابعة والاقتداء بالنبي عليه السلام، لابد أن يكون موافقاً للسنة. أما الشرط الثالث فهو: أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] إلى آخر الآية، فلا ينال هذا الثواب إلا إذا توفرت صفة الإيمان: (( وَهُوَ مُؤْمِنٌ )) فقيد ذلك بالإيمان، فمفهوم المخالفة أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.

    الآيات الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة ويجازى به في الدنيا

    قوله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]. وقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]. وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40]، ومفهوم هذه الآيات أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بالإخلاص فإن ذلك لا ينفعه؛ لفقد شرط القبول وهو الإيمان بالله جل وعلا، فينبغي الالتفات إلى هذا الأمر، وذلك أن اتصاف الإيمان يكون سبباً في حدوث عمل الآخرة، ولذلك شاع عند العلماء عبارة تلخص هذا القضية وهي قولهم: سيئة الموحد خير من حسنة المشرك، فالشخص الموحد يشهد أن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى ويؤدي لوازم ذلك، فمع التوحيد يعمل السيئة، فهذه المعصية أفضل من الحسنة التي يعملها المشرك، فإذا قصر الموحد في شيء معين أو ارتكب سيئة معينة، فهذه السيئة بالنسبة لحسنة المشرك هي أفضل منها، مع أن هذه سيئة وهذه حسنة، لكن هذه صادرة من موحد، فإنه غاية ما في الأمر أنها تنقص إيمانه، أو أنه يعذب من أجلها إن لم يعف الله عنها، أو تكفرها أعمال صالحة أخرى، وأما حسنة المشرك فلا تنفعه مع الشرك؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، والكلام عن هذه المسألة نسبي، فلا نقول: إن السيئة أمر طيب، ولا نقول: يا أيها الموحدون! تمادوا في السيئات، لا، لكننا نذكر موازنة الأعمال السيئة، فمع كونها قبيحة من الموحد لكنها أفضل من حسنة المشرك. وقد أوضح الله سبحانه وتعالى هذا المفهوم في آيات أخر، فقال في هذه الآيات التي ذكرناها: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19]، وقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124] فالاستدلال هنا على حرية الناس استدلال بالمفهوم على أن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، ومثل قوله: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ [غافر:40] إلى آخره، فالاستدلال هنا بالمفهوم لا المنطوق، فالمفهوم: أن غير المؤمن إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك؛ لأنه فقد شرط القبول وهو الإيمان، وهذا المفهوم وضحته آيات أخرى، بل صرحت به بدلالة المنطوق آيات أخرى منها: قوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] فهذا منطوق، وهو أقوى بلا شك. وقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ [إبراهيم:18]. وقوله تعالى في سورة النور: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، وكذلك قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]. وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19]. وقد بين الله سبحانه وتعالى في مواضع أخر أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا، ولا حظ له منه في الآخرة. إذاً: فعمل الكافر في الآخرة يحبط ويبطل، أما في الدنيا فإنه ينفعه إذا شاء الله ذلك، كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]. وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

    الأحاديث الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة وأنه يجازى به في الدنيا

    ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا، جاء في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)، فالله سبحانه وتعالى لا يظلم العباد شيئاً، فالمؤمن تنفعه الحسنة في الدنيا وفي الآخرة : (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته) يعني: أن الأعمال الحسنة والصالحة التي عملها الكافر ابتغاء وجه الله في الدنيا كبر الوالدين، وإغاثة الملهوف، وصدق الحديث، والوفاء بالمواعيد وغير ذلك، فقد توجد في الكافر بعض الأعمال الصالحة وهو يعملها لله، لكنه غير مؤمن، ولم يشهد بشهادتي التوحيد، فهذا يطعم بحسناته التي عملها لله في الدنيا، فيثاب بسعة الرزق، أو بالصحة، أو بالمال، أو بالجميل، بالجاه.. وهكذا؛ فالدنيا هي جنة الكافر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، فهذه الحياة الدنيا هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يثاب فيها على أعماله، وأما الآخرة فلا يمكن لغير مؤمن وغير الموحد أن ينفعه أي عمل فيها. ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها). وفي مسلم أيضاً عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طُعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته). وهذا الذي أشرنا إليه من دلالة القرآن والسنة على أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، والتنفيس عن المكروب.. ونحو ذلك كله مقيد بمشيئة الله تعالى، كما نص على ذلك قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، فهذه الآية تقيد ما ورد من الآيات المطلقة، فهي مقيدة بأن يشاء الله سبحانه وتعالى ذلك، وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق لاسيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار)، فهذا صريح في أن من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أرسل به، وبلغه ذلك على الوجه الذي أنزله الله عليه ثم لم يؤمن به عليه الصلاة والسلام أن مصيره إلى النار، ولا فرق في ذلك بين يهودي أو نصراني أو مجوسي أو لا ديني. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أسلفها)، فهذه نصوص أخرى تضيف قيداً جديداً وهو: أن أعمال الكافر في حياته تظل موقوفة، أي: ينتظر به، فإذا أسلم أثيب على أعماله الصالحة التي عملها حال كفره، فتنفعه إذا أسلم، وإذا لم يسلم أخذ بالأول والآخر كما ستبين هذه الأحاديث. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها -يعني: حتى قبل إسلامه-، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك الكتاب: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها)، فهذه حال الكافر إذا أسلم، فأول ما يسلم فإنه يمحى عنه ما أمضى من السيئات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما كان قبله ويمحوه. إذاً: فهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة، فإن أسلم قبلت وإلا ردت، وعلى هذا فقوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39]، وقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19]، ونحوها من الآيات يجب أن تحمل على من مات على الكفر، ولا دليل على خلاف ذلك، وفضل الله سبحانه وتعالى أوسع من هذا وأكثر، فلا استبعاد له. عليه الصلاة والسلام: (الإيمان يجب ما قبله) هل المراد به السيئات فقط، وأما الحسنات فدلت هذه الأحاديث على أن الإيمان لا يحبط الحسنات السابقة. ويترتب على هذا مسألة فقهية، وهي: إذا حج المسلم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام فهل يحبط حجه أم لا يحبط؟ اختلف الفقهاء في هذا، لكن الكلام الذي ذكرناه يرجح أنه لا يحبط، ولا يجب عليه إعادته، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحد قولي الليث بن سعد، واختاره ابن حزم وانتصر له بكلام جيد نفيس. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية -أتعبد بها في الجاهلية- من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير)، رواه الشيخان وغيرهما، فهذا يدل على أن الإسلام يجب السيئات فقط، وأما الحسنات فتبقى ويثاب عليها رحمة من الله سبحانه وتعالى. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ فقال: لا يا عائشة ! إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، رواه مسلم . قوله: (إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) يعني: أنه لم يكن موحداً، بل كان مشركاً. إذاً: هذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على أن الكافر إذا أسلم نفعه عمله الصالح في الجاهلية، بخلاف ما إذا مات على كفره فإنه لا ينفعه، بل يحبط بكفره، وفيه دليل على أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل البعثة المحمدية ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو كانوا كذلك لم يستحق ابن جدعان العذاب، ولما حبط عمله الصالح. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فقال فيما قال: من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا)، رواه الروياني، وسنده حسن. وهذا فيه إبطال لحديث شائع على ألسنة الخطباء والوعاظ، وكثير من الناس، وهو: أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل الذمة: (لهم ما لنا، وعليهم ما علينا). وهذا الكلام لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحيح هو هذا الحديث في أنه إنما قال ذلك فيمن أسلم من أهل الكتاب والمشركين.

    شبهة مدح اليهود والنصارى بما عندهم من صفات حميدة

    وهنا شبهة قد يذكرها بعض الناس، فيقول مثلاً: على المؤمنين من المسلمين والنصارى واليهود أن يجتمعوا ويتكتلوا؛ لمواجهة الملحدين مثلاً، وهذا يشيع للأسف الشديد على ألسنة عمائم كبيرة جداً ضخمة، فيقولون مثل هذا الكلام، وخاصة في مؤتمرات التقارب بين الأديان، فيستعملون مثل هذه العبارة الفظيعة، فيدخلون هؤلاء في وصف الإيمان، وبعضهم مثلاً يصف الكافر الفلاني بأنه مؤمن، ويعني: بأنه يؤمن بأن هناك إلهاً -الإيمان بتوحيد الربوبية-، فبعض الناس الجهلة يسمى هذا إيماناً، على هذا فـ أبو جهل كان مؤمناً، وأبو لهب كان مؤمناً، وكفار قريش كانوا مؤمنين، لأنهم كانوا مؤمنين بتوحيد الربوبية بنص القرآن قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] فهؤلاء يجعلون أن الكافر هو الذي ينكر وجود الله، وهذا ليس بصحيح، بل عامة الكفرة حتى فرعون كانوا يؤمنون بأن هناك إلهاً، والدليل على هذا صريح في القرآن كما ذكرنا مراراً، بل لم يحك في القرآن عن طائفة أنها أنكرت وجود الله، بل حتى الدهرية لم ينكروا وجود الله، وإنما أنكروا البعث والنشور. فوصف اليهود أو النصارى بأنهم مؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالله يعتبر هدماً للإسلام من أساسه؛ لأن هذا يضيع الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، فالدلالة واضحة من الآيات في القرآن الكريم والسنة على ذلك، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:72]، وكذلك تكفير القرآن الكريم لليهود وأمثالهم. وقد يشتبه هذا الأمر على بعض الناس خاصة إذا فتنوا بما عليه الكفار من بعض السلوكيات التي ضيعها بعض المسلمين للأسف، وهذا يحصل لكثير من الناس الذين يخالطونهم ويعاشرونهم، فيطلق بعضهم لسانه في ذم المسلمين، ويطلق لسانه أيضاً في مدح الكفار قائلاً: وهؤلاء عندهم عدل! هؤلاء عندهم إنصاف!! حتى أن بعض الملوثين الذين ذهبوا إلى عصابة اليهود في فلسطين المغتصبة يرجع ويتكلم بهذا الكلام كما نشر في بعض الجرائد، ويقول: إن اليهود لم يمسوا حقي، ولم يتعرضوا لي.. إلى آخر هذا الكلام. وبغض النظر عن السر وراء هذه السلوكيات الموجودة عند الكفار خاصة في أوروبا أو أمريكا أو البلاد الغربية، وأنها سلوكيات تجارية في الحقيقة ليست مبنية على مراقبة الله, وفي نفس الوقت يريدون أن يتعاونوا ويريح كل واحد الآخر؛ حتى يستطيع أن يتمتع بالحياة بصورة مستوفاة جيدة، لكن انظر إلى أخلاقهم حينما يأتون إلى بلادنا فكم عذبوا، وكم أحرقوا، وكم قتلوا، وكم نهبوا! وإلى اليوم ونحن نراهم في البوسنة والهرسك على نفس الأخلاق، وتراهم الآن في العراق وفي غيرها وحوشاً كاسرة يدمون قلوب الشعوب، ويستذلونهم استذلالاً لا مثيل له، وليست هذه الآن قضيتنا، لكن كيف نزن الأمور؟ فبعض الناس يقول لك: أنا أشتري من الكافر هذا؛ لأنه أمين، ولأنه كذا وكذا..، ويفتن بالكافر ويطلق لسانه في ذم المسلم، فهذا خلل شديد جداً في فهم مثل هذا الإنسان؛ فالمشركون قد يتلبسون ببعض شعب الإيمان، والمسلم قد يأتي ببعض شعب الكفر، أي: أنه من الممكن أن نجد مثلاً بعض الكفار أميناً، وصادقاً، يحترم مواعيده.. إلى آخره، ومن الممكن أن نجد مسلماً يفعل عكس ذلك، فقد يتلبس المسلم ببعض شعب الكفر لكنه يبقى مسلماً، وقد يتلبس الكافر ببعض شعب الإيمان لكنه يبقى كافراً، فالكفر والإيمان متقابلان، فإذا زال أحدهما خلفه الآخر، والإيمان أصل له شعب متعددة، وأعلى شعبة من شعب الإيمان هي: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ثم بينهما شعب متفاوتة في أهميتها وخطورتها، وهناك بعض الشعب إذا زالت زال الإيمان بالكلية، فمن شعب الإيمان ما يزول بزوالها الإيمان بالكلية، كشعبة لا إله إلا الله، فمثلاً شخص عنده شعب كثيرة من شعب الإيمان، لكن شعبة: لا إله إلا الله ليست موجودة عنده، فكل الذي يعمله حابط في الآخرة ولا ينفعه؛ لأن هذه الشعب بينها علاقة الشرط بالمشروط، فتكون شرطاً في صحة باقي الشعب، ومن شعب الإيمان ما لا يزول الإيمان بزوالها، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر أصل له شعب، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفراً، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً، ولا من معرفة بعض مسائل الفقه أو الطب أن يسمى فقيهاً وطبيباً، إذ لا يلزم الاسم إلا بغلبة ذلك عليه، وإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من شعب الإيمان فهذا الإيمان ينفعه في عدم الخلود في النار، لكن هل ينفعه في عدم دخول النار؟! لا، فقد يسلم، وقد يدخل النار لكن لا يخلد فيها، إذاً: فالتوحيد ينجي من الخلود في النار لا من دخول النار، وأوضح ذلك حديث الشفاعة، فالشفاعة تكون في أهل الكبائر من أمة النبي عليه الصلاة والسلام. فإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من الإيمان فذلك الإيمان ينفقه، لكن لا نقول ينفعه في عدم دخول النار، ولكن في عدم الخلود في النار، إلا إذا كان الفعل المتروك شرطاً في صحة شعب الإيمان الأخرى، فإذا كان المتروك شرطاً في اعتبار الباقي لم ينفعه، ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنه قد قال: لا إله إلا الله، لكن لم يشهد أن محمداً رسول الله، فلا ينفعه ذلك. لذلك إذا قلنا: إن أعلاها لا إله إلا الله فنضيف معها: وأن محمداً رسول الله، ولا تنفع الصلاة من صلاها عمداً بغير وضوء؛ لأن هناك شعبة قبل شعبة الصلاة هي شرط في صحة الصلاة، وهي شعبة الطهارة والوضوء، فشعبة الطهارة شرط في شعبة الصلاة، فمن صلى دون أن يأتي بهذا الشرط بطل يبطل هذا المشروط. إذاً: شعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق الشرط بمشروطه. وكذلك كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله شرط في صحة باقي شعب الإيمان، فمن الجور والجهل والعدوان أن يفضل الكافر الذي افتقد شعبة لا إله إلا الله على المؤمن العاصي الذي معه لا إله إلا الله، فمن جهل الشخص أن يمدح النصراني؛ لأن كل همه هي الدنيا، فما دام أنه يُعطيه الفلوس ويُريحه في البيع والشراء فإنه يمدحه، ويطلق لسانه بالقصائد في مدح الكفار وذم المسلمين، فقد ترك حق الله ونظر في حق نفسه، فيقول: هؤلاء الكفار عندما أذهب إليهم يعاملوني معاملة فيها عدل، وإنما الظلم موجود عند المسلمين.. إلى آخره، فيقال له: فهم ليس عندهم أحياناً الظلم الموجود عند المسلمين؟! بل عندهم أكبر وأفظع ظلم في الوجود وهو الشرك، قال تعالى: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فقد نسي حق الله وبحث عن حق دنياه، فهذا مما نحتاج فيه إلى أن نستعيد الوعي بهويتنا وعقيدتنا وبما أعزنا الله به وشرفنا على العالمين قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فبعض الناس يتعامل مع هؤلاء الكفار على أنهم أناس فوق العالم، فيعظمهم ويبجلهم ويحترمهم أشد الاحترام.

    الأشياء التي تحبط أعمال العبد

    نعود إلى تفسير قوله تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]، لنبين بعض ما يحبط أعمال المؤمن، حتى نكون على حذر من هذا الخطر العظيم. صح عن أبي عامر الألهاني رضي الله تعالى عنه واسمه عبد الله بن غابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان : يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). فعلى الإنسان أن يحذر أن يأتي بهذا الفعل، وهو عدم مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب) كما في بعض الروايات. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهراًً وباطناً، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره -يعني: تكفير السيئات-، ولا مبطل يحبطه من عُجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يمنّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه من يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحفظ، وليس الشأن في العمل، وإنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فقد يعمل الإنسان العمل الصالح ثم يحبطه بعد ذلك، فليس الشأن فقط في أن تعمل العمل الصالح، لكن المهم جداً أن تحفظ هذا العمل مما أحبطه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصى، يقول الله تعالى: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً، قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]. وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض، وهذه ليست ردة، وإنما هي معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها، فالآية تنهى الإنسان إذا خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرفع صوته فوق صوت النبي؛ أن رفع الصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام يحبط العمل، فقد يغضب النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فيغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحبط عمل من أغضبه. فما الظن بمن قدّم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟ أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، ومن هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها لـزيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعينة، قالت: (إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) وليس التبايع بالعينة ردة، فغايته أن يكون معصية، فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذر. وهنا نقف وقفة هنا يسيرة مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، فهذا الحديث استدل به من يقول بتكفير المسلم بالمعصية كالخوارج الوعيدية، وقالوا: هو نظير قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، فقال ابن عبد البر : مفهوم الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله. إذاً: فهناك تعارض بين مفهوم الآية وبين منطوق الحديث، فمفهومها الآية: أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، أي: أن المؤمن لا يحبط عمله، في حين أن الحديث يقول: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) إذاً: فالتعارض هنا بين مفهوم الآية ومنطوق الحديث، فلابد من تأويل الحديث في هذا الحالة؛ لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح، وتمسك بظاهر الحديث الحنابلة ومن قال بقولهم من أن تارك الصلاة يكفر، ويرد على ذلك: بأنه لو كان الأمر على ما ذهبوا عليه لما اختصت العصر بذلك، فأما الجمهور فتأولوا الحديث على عدة تأولات: فمنهم من أول الترك في قوله: (من ترك صلاة العصر)، ومنهم من أول الإحباط في قوله: (فقط حبط عمله)، ومنهم من أول العمل، فالذين أولوا ترك صلاة العصر قالوا: من تركها جاحداً، أي: من ترك صلاة العصر جاحداً فقد حبط عمله، فإذا قال رجل: أنا لا أوافق على أن صلاة العصر فريضة، فالفرائض أربع صلوات فيكون قد جحد وجوبها، فهذا لاشك أنه يخرج من الملة فيحبط عمله؛ لأنه داخل فيمن كفر بالإيمان قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]. إذاً: من أول سبب الترك قال: المراد به من تركها جاحداً لوجوبها، أو معترفاً أنها واجبة لكنه مستخف مستهزئ بمن أقامها. وقيل المراد: من تركها متكاسلاً، لكن الوعيد خرج مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهذا القول رجحه ابن حجر رحمه الله تعالى؛ لأن الترك يطلق أحياناً على الجحود، فقوله: (من ترك صلاة العصر) يعني: من جحد. ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة يوسف: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف:37] أي: إني جحدت. ومن العلماء من أول معنى قوله عليه السلام: (فقد حبط عمله)، فقال: إنه من مجاز التشبيه، أي: من ترك صلاة العصر فقد أشبه من حبط عمله، وقيل: معناه كاد أن يحبط عمله، وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، فكأن المراد بالعمل الصلاة خاصة، أي: لا يحصل على أجر من صلى العصر، ولا يرتفع له عملها حينئذ. ومنهم من أول العمل: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) أي: عمل الدنيا الذي بسببه اشتغل وترك صلاة العصر. وقال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إن الحبط في الآية غير الحبط في الحديث، فالآية: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وإحباط عمل الكافر غير إحباط عمل المسلم، فيقول القاضي أبو بكر بن العربي : إن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث. قال في شرح الترمذي : الحبط على قسمين: حبط إسقاط وحبط موازنة، فحبط الإسقاط: هو إحباط الكفر بالإيمان وجميع الحسنات، فهذا المقصود بالآية: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] فيحبط كل عمل ويضيع. وأما حبط الموازنة: فهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النجاة، فيرجع إليه جزاء حسناته، بمعنى: أن المعصية التي فعلها وهي ترك صلاة العصر تحبط انتفاعه بها لو كان فعلها في وقت هو أشد ما يكون حاجة إلى أجرها؛ وذلك عند ميزان الحسنات والسيئات، فحينئذ سيتعطل ثواب صلاة العصر التي ضيعها في وقت هو أشد حاجة إليها عند ميزان الأعمال، فهذا هو حبط الموازنة. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: قوله خوف المؤمن من أن يحبط عمله يعني: أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، وبهذا التقدير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إن السيئات يبطلن الحسنات، فهناك فرقة ضالة تسمى الإحباطية، يقولون: إن السيئات تبطل الحسنات! فبعض الناس قالوا: إن الإمام البخاري يؤيد هذا المذهب، فقال الإمام الحافظ : لا، فكلامه إذا فهمناه على حقيقته لا يفيد ولا يؤيد مذهب الإحباطية؛ لأن المقصود خوفه من أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص لله سبحانه وتعالى فيه. قال القاضي أبو بكر بن العربي في الرد على الإحباطية: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان: أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة، كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين فيكون إذهاباً حقيقياً. أي: كالكافر إذا أسلم، فإن إسلامه وإيمانه يُحبط الكفر، قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما قبله)، ولو كان مسلماً ثم كفر -والعياذ بالله- وارتد فإن الكفر يحبط إيمانه أيضاً، وهذا الإحباط إذهاب حقيقي في الجهتين. النوع الثاني من الإحباط: إحباط الموازنة، فإذا جُعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة، فإما أن يُغفر له، وإما أن يعذب، فالتوقف إلى أن يحكم فيه هذا توقيف وإحباط من نوع معين؛ لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي

    الأحوال التي تحبط فيها الأعمال الصالحة

    نختم الكلام ببعض العبارات من كتاب الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه المحجة في (سير الدلحة) فلها تعلق بموضوعنا. قال في سبحانه وتعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] هذه الآية كانت تشتد على الخائفين من العارفين، فإنها تقتضي أن من العباد من يبدو له عند لقاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه، معرضاً عنه، غير ملتفت إليه ولا يحتسب له، فإذا كشف الغطاء عاين تلك الأهوال الفظيعة، فبدا له ما لم يكن في حسابه، كما قال تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: لو أن لي ملك الأرض لافتديت به من هول المطلع، والمطلع: هو مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مُطّلع هذا الجبل في مكان كذا، أي مكانه ومقعده، وفي حديث: (لا تمنوا الموت؛ فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة)، رواه أبو نعيم في الحلية. وقال بعض حكماء السلف: كم من موقف خزي يوم القيامة لم يخطر على بالك قط، ونظير هذا قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] ومعنى حديد: حاد. ثم يبين الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى ما يصير هباءً منثوراً من الأعمال، فيقول: النوع الأول: ويشتمل على ما هو أعم من ذلك، وهو أن يكون لهم أعمال يرجون بها الخير فتصير هباءً منثوراً، وتبدل سيئات، وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]. وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. وقال الفضيل في هذه الآية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات. النوع الثاني: أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقره ويستهزئ به، فيكون هو سبب هلاكه، كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وقال بعض الصحابة: إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، رواه البخاري . النوع الثالث: يقول: وأصعب من هذا من زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً. قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]. قال ابن عيينة : لما حضرت محمد بن المنكدر الوفاة جزع فدعو له أبا حازم فجاء، فقال له ابن المنكدر : إن الله سبحانه وتعالى يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] فأخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، فجعلا يبكيان جميعاً. وفي بعض الروايات فقال له أهله: دعوناك لتخفف عليه فزدته! فأخبرهم بما قال. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخبرت عن سليمان التيمي أنه قيل له: أنت أنت ومن مثلك؟ فقال: مه! لا تقول هذا لا أدري ما يبدو لي من الله، سمعت الله يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]. النوع الرابع: يقول: وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويل لأهل الرياء من هذه الآية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، ويل لأهل الرياء من هذه الآية! وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: العالم، والمتصدق، والمجاهد. النوع الخامس: من عمل أعمالاً صالحة وكانت عليه مظالم وعنده حقوق للناس من أموال، أو غيبة ونميمة وغير هذه الأشياء، فهو يظن أن أعماله تنجيه، فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسم الغرماء أعماله حتى تنتهي أعماله ولم يأخذوا كل حقوقهم، فيطرح من سيئاتهم عليه ثم يطرح في النار. النوع السادس: وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم، ففي الحديث: (من نوقش الحساب عذب)، ولو أن الله سبحانه وتعالى عرض على العبد يوم القيامة أعماله فقط فهذا يرجى له أن يستره الله، كما ستره في الدنيا، وأما إذا حصل النقاش فهذه علامة على أنه سوف يعذب، يقول: وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم، وهي: فيقال له: كيف شكرت نعمة الله؟! فتقوم أصغر النعم التي أنعم الله بها عليه فتستوعب أعماله كلها، وتبقى بقية النعم فيطالب بشكرها فيعذب. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من نوقش الحساب عذب أو هلك). النوع السابع: وقد يكون له سيئات تحبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد، فيدخل النار، ونص الحديث: (فإن من أمتي من يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً) وفيه: (هم قوم من جلدتكم، ويتكلمون بألسنتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). وعن سالم مولى أبي حذيفة مرفوعاً: (يجاء يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة)، وتهامة: هي كل ما نزل من نجد في بلاد الحجاز، فمكة كلها من تهامة. (يجاء يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة، حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالهم هباء ثم أكبهم في النار)، قال سالم : خشيت أن أكون منهم. قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم كانوا يصومون ويصلون، ويأخذون هنيهة من الليل، لعلهم كانوا إذا عرض لهم شيء سراً حراماً أخذوه فأدحض الله أعمالهم). وقد يحبط العمل بآفة من رياء خفي، أو عجب به ونحو ذلك ولا يشعر به صاحبه. قال ضيغم العابد رحمه الله تعالى: إن لم تأت الآخرة المؤمن بالسرور لقد اجتمع عليهم أمران: هم الدنيا، وشقاء الآخرة، فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدنيا ويدأب؟ فقال: كيف بالقبول، وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح عمله فيجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه، ومن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. وقال ابن عون : لا تثق بكثرة العمل، فإنك لا تدري يقبل منك أم لا؟ ولا تأمن الذنوب، فإنك لا تدري هل كفرت عنك أم لا؟ وبكى النخعي عند الموت وقال: أنتظر رسول ربي ما أدري أيبشرني بالجنة أو بالنار. وجزع غيره عند الموت قيل له تجزع؟ قال: إنما هي ساعة ولا أدري أين يسلك بي. وجزع بعض الصحابة عند موته فسئل عن حاله؟ فقال: إن الله قبض خلقه قبضتين: قبضة للجنة وقبضة للنار ولست أدري في أي القبضتين أنا! ومن تأمل هذا حق التأمل أوجب له القلق، فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة، من الموت والقبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، كالصراط والميزان، وأعظم من ذلك الوقوف بين يدي الله عز وجل، ودخول النار، ويخشى على نفسه الخلود فيها بأن يسلب إيمانه عند الموت، ولم يأمن المؤمن شيئاً من هذه الأمور قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، فتحقق هذه الأمور يمنع ابن آدم القرار. رأى بعضهم في النوم قائلاً يقول له: وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل وسئل بعض الموتى وكان عابداً مجتهداً عن حاله فأنشد يقول: وليس يعلم ما في القبر داخله إلا الإله وساكنوا الأجداث وفي هذا يقول بعضهم: أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهو وهاموا ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا نهينا أو أمرنا كأهل الكهف أيقاظ نيام وعن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء رضي الله عنه منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء ! ما أنت والنفاق، وما شأنك وشأن النفاق؟ فقال: اللهم! غفراً ثلاثاً، لا يأمن البلاء من يأمن البلاء، والله! إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة وينقلب عن دينه. وقال أبو الدرداء : والذي نفسي بيده! ما آمن عبد على إيمانه إلا سلبه أو انتزع منه فيفقده، والذي نفسي بيده! ما الإيمان إلا كالقميص يتقمصه مرة، ويضعه أخرى. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق، وإنه ليأتي عليه أحايين وما في قلبه موضع إبرة من إيمان. وكان عمرو بن الأسود العنسي إذا خرج إلى المسجد قبض بيمينه على شماله فسئل عن ذلك فقال: مخافة أن تنافق يدي. وقال معاوية بن قرة : ألا يكون فيّ نفاق أحب إلي من الدنيا وما فيها، كان عمر رضي الله عنه يخشاه وآمنه أنا؟! يشير إلى جزع عمر، فقد كان حذيفة رضي الله عنه قد أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين، فكان عم

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757488281