إسلام ويب

وصايا لقمانللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حكى الله تعالى لنا على لسان لقمان ما أوصى به لقمان ابنه من الوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة.

    وكانت الوصية بالتوحيد في مقدمة تلك الوصايا نظراً لأهميتها وعظيم قدرها ثم ثنى بالوصية ببر الوالدين وطاعتهما، وثلث بالعبادات، وختمت الوصايا بالوصية بلزوم الأداب الفاضلة والأخلاق الكريمة.

    1.   

    حقيقة الحكمة

    الحمد لله رب العالمين، الحمد الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً، أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    شكر الله لكم اجتماعكم وحضوركم واستقبالكم، وجمعنا الله بكم في دار الكرامة، فإن هذه المجالس من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل، هي مجالس المتقين، وأولياء الله إذا اجتمعوا ذكروا الله، وكما يجتمع الصالحون في هذه الدنيا على ذكره يجمعهم الله عز وجل في جنته على محبته.

    من كان ملتمساً جليساً صالحاً     فليأت حلقة مسعر بن كدام

    فيها السكينة والوقار وأهلها     أهل العفاف وزينة الأقوام

    أيها الإخوة الكرام! ذكر الله قصة لقمان عليه السلام في القرآن بسورة، وتكلم الله عز وجل عن كلام هذا الرجل الصالح، الذي أصلح الله قلبه. وكان لقمان مولى من الموالي، لكن رفع الله عز وجل ذكره بالتقوى، كان مملوكاً ولكن أحيا الله قلبه بالتوحيد والإيمان، ذكر في ترجمته: قال له مولاه: يا لقمان! ائتني بأطيب شيء في الإنسان، وبأخبث شيء فيه واذبح ذبيحة، فذبح ذبيحة وأتى بلسانها وقلبها وقال: هذا أطيب شيء إذا طاب، وهذا أخبث شيء إذا خبث.

    يقول سبحانه وتعالى عنه في القرآن: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لقمان:12] ما هي الحكمة وما معناها، وكيف نعرفها أيها الكرام؟

    الحكمة كما قال السلف: مخافة الله، وفي أثر يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رأس الحكمة مخافة الله).

    معاني الحكمة في القرآن

    والحكمة إذا أطلقت في القرآن فلها معنيان اثنان: إذا ذكرت مع القرآن فمعناها السنة: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة [الأحزاب:34] وإذا ذكرت وحدها فمعناها وضع الشيء في موضعه، ومعناها التسديد في الأمور، يقول سبحانه: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] ولا حكمة لفاجر ولا سداد لعاصي، ومن عصى الله خذله الله، خذله في كلامه وأفعاله وحاله، ومن فجر نزع الله الحكمة من قلبه والنور.

    يروى أن يوسف عليه السلام -وهذا يذكره أهل التفسير في قصصه- لما همت به المرأة وهم بها، ذكر واعظ الله وبرهان الله، ورأى أباه يعقوب عليه السلام وهو يعض بأسنانه على أنامله ويقول: يا يوسف! لا تزنِ فإن من زنى كالطائر ينتف ريشه.

    وهذا كالعاصي إذا أقدم على المعصية، فإن الله ينزع منه النور أولاً، والحكمة والسداد ويخذله، ويجعله من أبعد الناس عن التسديد في الأمور.

    1.   

    عبادة الشكر

    وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12] ثم فسرها الله: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12] لا إله إلا الله ما أعظمها من حكمة! ورأسها شكر الله عز وجل، ولم يفسرها سبحانه وتعالى بمنصب أو بشهادة أو بمال، أو بثروة أو بمكتب أو بمطلوب، بل جعلها شكره سبحانه وتعالى.

    قيل لأحد الصالحين: ما شكر الله؟ قال: أما شكر العينين فالبكاء -يعني: من خشية الله- وشكر القلب الحياء، وشكر اللسان الثناء، وشكر الأذنين الإصغاء.

    هذا هو الشكر، يقول: شكر العينين البكاء، وعين بكت من خشية الله لا تمسها النار، وأما شكر القلب فالحياء من الله عز وجل؛ أن يعيش مراقبة الله وخشية الله، وأما شكر اللسان فالثناء على الله؛ التسبيح والتحميد، والذكر وتلاوة القرآن، هذا هو شكر اللسان، وشكر الأذنين الإصغاء للحكمة ولقول الله عز وجل.

    والشكر ذكر في آيات كثيرة من القرآن أستعرضها معكم أيها الأبرار الأخيار! فإنا نسأل الله عز وجل أن ينظر إلينا في هذا المجلس نظر رحمة، وأن يعلم أنا اجتمعنا لذكره ولطاعته، أتينا من قبائل شتى، ومن أسر متعددة، ومن ألوان مختلفة، ومن أماكن متباينة، جمعنا الرضوان فيه سبحانه وتعالى والرحمة، ولعل الله أن يقول لنا في آخر المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم فقد أرضيتموني ورضيت عنكم، فيا ربنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وخطايانا.

    يقول الله عن الشكر: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] ويقول سبحانه وتعالى في الشكر: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] ويقول سبحانه وتعالى في الشكر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123] وقال سبحانه وتعالى عن الشكر أيضاً لما ذكر سبحانه وتعالى آل داود قال: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] وقال سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].

    حقيقة الشكر

    كيف نفسر الشكر؟

    قالوا: هي أن تثني على المنعم بإنعامه، وأن تجعل نعمته في طاعته ولا تخالف أمره، وهذا من أعظم ما فُسر به، ويقابل الشكر كفران الجميل قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم:28].

    لكن تعالوا نستعرض معاني الشكر، يقول سبحانه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً [سبأ:13] جمع داود عليه السلام آل داود -هذا في التفسير- وكان عددهم ستة وثلاثين ألفاً، رجالاً ونساءً فخطب فيهم وبكى وقال: يا آل داود! إن الله أنعم عليكم بنعم ظاهرة وباطنة، أتريدون أن تبقى؟ قالوا: نعم. قال: قيدوها بالشكر. والله ما خلع نعمة عن عبد إلا يوم يخلع العبد طاعة الله، والله عز وجل ما حبس نعمة عن عبد إلا يوم يعرض العبد عن مرضاة الله، رجل أو أنثى.

    إذا كنت في نعمة فارعها     فإن المعاصي تزيل النعم

    وحافظ عليها بتقوى الإله     فإن الإله سريع النقم

    قالوا: أحد الصالحين نظر بنظرة واحدة إلى منظر لا يحل له فنسي القرآن بعد أربعين سنة.

    قال لهم داود: صلوا في كل ساعة وتناوبوا الليل والنهار، فوزعهم إلى جماعات؛ فما كان يمر عليهم ساعة في الليل والنهار إلا وقوم يذكرون الله ويسبحون الله ويصلون لله: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً [سبأ:13] وهذا مصدر، أي: هكذا فاعملوا: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].

    سليمان بن داود عليه السلام في قصصه أجرى الله له الريح، كما قال سبحانه وتعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] وهذا هو الملك العظيم، يوم قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] فسخر الله له الريح، فكان يأمرها أن تنقله من مكان إلى مكان، فتأتي كالبساط تحته فتحمله ومعه الأمراء والوزراء، والعلماء والجيش، وتنقله من مدينة إلى مدينة، وهذا ما يبلغه العلم الحديث أبداً، وأي علم يبلغ هذه الدرجة؟! ويقول الله في وصف الريح إذا أراد أن يهبط، رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] لأن الإنسان يتساءل إذا رفعت الريح سليمان ومن معه كيف تهبط به، أهناك مدرجات أم تصطدم به في الأرض أم ماذا تفعل؟ قال سبحانه: رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] ومعنى رخاءً: أي أنها تتدرج في خفة سرعتها حتى يقع على الأرض: رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] حيث أراد من الأرض، إذا قال: اهبطي هنا لا تهبط بقوتها، بل تترسل رويداً رويداً حتى يهبط بسلام.

    ارتحل مرة من المرات إلى الهند من أرض فلسطين -كان يسكن عليه السلام في فلسطين - فأمر الريح أن تحمله فحملته، فلما أصبح في الجو مع الناس على البساط؛ غطى شعاع الشمس عن فلاح يزرع في الأرض، فحجب الشمس عن هذا الفلاح، فنظر الفلاح فرأى سليمان عليه السلام بين السماء والأرض ومعه الحاشية، فقال الفلاح وهو بالمسحاة يخدم الأرض: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قالوا: فارتفعت هذه الكلمة إلى الله؛ لأن سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، وأمثالها تصعد إلى الله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] انظر كيف نسب الضمير إليه وحده، فمرت على سليمان هذه الكلمة، فقال للريح: اهبطي هنا، فهبط بجانب الفلاح، قال: يا فلان! ماذا قلت؟ قال: قلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: والذي نفسي بيده لقولك سبحان الله أحسن مما أوتي آل داود.

    ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس -وفي لفظ- أو غربت} قالوا: وأفضل حلية حلية الشكر، تجمل الناس بالذهب ولكن أصبح بلا إيمان لعنة، واتخذوا القصور، ولبسوا الملابس الفارهة، وركبوا السيارات؛ لكن لما تجردت عن الشكر ما أصبح لها طعم، ولا لون.

    لبسنا حالياً من كل وشي     فما سترت ملابسنا الخطايا

    وأحسن لباس لباس التقوى وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

    شكر المرأة لله

    يقول بعض العلماء: إذا أرادت المرأة أن تتجمل فلتتجمل بتقوى الله، فما لبست أعظم من تقوى الله حلة، لا ذهباً ولا فضة.

    هل عرفت المرأة أن أعظم حلة تتحلى بها هي تقوى الله؟ هل علمت المرأة المسلمة أن حجابها وسترها، وعفافها وذكرها أعظم زينة يزينها الله بها في الدنيا والآخرة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:90-89].

    هل علمت المرأة أمام الموضات، وأمام الغزو، والزحف الماكر، والعدوان والحرب على المرأة، أن زينتها في حفظ عرضها ونفسها ودينها وعفافها وتربية بنيها؟ والله! إن هذه المرأة التي تتكشف وتتبرج، وتتزين للناظرين، وتعرض نفسها سلعة للعيون، وتحاول أن تقدم نفسها في صورة بهية -على زعمها- لهي من أشوه النساء في الدنيا والآخرة.

    إذا وقع الذباب على طعام     رفعت يدي ونفسي تشتهيه

    وتجتنب الأسود ورود ماء     إذا كن الكلاب ولغن فيه

    أراد الإسلام أن تكون المرأة درة في صدف، وأراد الكفار والفجار والمعرضون أن تكون سلعة معروضة كاللحم عند الجزار، تراها العيون وتلمسها الأيدي، فأقول هذا بمناسبة ما هو شكر المرأة لله؟ شكرها التقوى والحجاب والعفاف، قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] وهذه الجاهلية أدهى وأطم من تلك الجاهلية، من سمع في الجاهلية الأولى أن المرأة تمر على خياط في عهد أبي جهل فتقف معه وتخلو به، وتركب مع السائق الساعات الطويلة وهي متزينة متجملة متعطرة، فقدت زوجها ونسيها زوجها وغاب عنها وغاب عنها الإيمان؟

    هل علم أن امرأة كانت تجوب السوق من الصباح إلى صلاة الظهر تخالط الهندوكي والسيخي والمسيحي والفاجر المعرض المتهتك؟ متى كان هذا؟ ألا إن هذا كفر بنعمة الله عز وجل، وهذا من أسباب السخط والمحق -والعياذ بالله- في الأمة، ويوم تصل المرأة إلى هذا المستوى فقد كفرت بأنعم الله، وقد جحدت معروف الله.

    كيفية شكر الله

    قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12] يا لقمان! اشكر لله.

    يقولون: داود عليه السلام قال: يا رب! كيف أشكرك؟ ما أستطيع أن أشكرك، قال: يا داود! أتعلم أني أنا المنعم؟ قال: نعم. يا رب!قال: فقد شكرتني.

    ضاع فرس لـجعفر الصادق رحمه الله قال: والله لئن وجدت فرسي؛ لأشكرن الله شكراً من أعظم ما يشكره به الشاكرون، فلما وجد الفرس وركبه قال: الحمد لله رب العالمين، قالوا: أين الشكر؟ قال: قد قلته، قلت: الحمد لله رب العالمين.

    ولذلك لما أراد الله أن يثني على نفسه قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [فاطر:1] وهي من أعظم الكلمات؛ حتى إن عمر رضي الله عنه مر على أعرابي في السوق فقال: يا أعرابي! كيف حالكم -ليس من القضايا المهمة أن يدري عمر ماذا حدث للبدوي هذا لكن يريد أن يسمع كلامه- قال الأعرابي: الحمد لله يا أمير المؤمنين! قال عمر: إياها أريد، يعني: أريد الكلمة أن تنطقها وأن تقولها لتكتب في ميزان حسناتك وهي من أعظم الكلمات.

    وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12] هذا تعبير القرآن وبلاغته وهذا سر بقاء القرآن، فهذه الوثيقة -المصحف- معنا ألف وخمسمائة سنة، ووثيقة ماركس اثنتان وسبعون سنة وداسها جرباتشوف بجزمته وهو من أبناء وأحفاد ماركس، لكن قرآننا يثبت عظمته، ويثبت جماله وجلاله، وبقاءه وخلوده وحفظ الله له.

    سمعتك يا قرآن والليل واجم     سريت تهز الكون سبحان من أسرى

    فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها     وسرنا على الأفلاك نملؤها أجرا

    وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12] من صلَّى صلَّى لنفسه، من صام صام لنفسه، صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: يقول الله تبارك وتعالى: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً} والله لو كان العالم -كل العالم- على تقوى أتقى الأتقياء؛ يصلون ويصومون ويذكرون، ولم يكن فيهم رجل واحد ما زاد في ملك الله ذرة.

    {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً}.

    وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12] يستغني الله عز وجل وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6].

    والله عز وجل هو الغني سبحانه وتعالى، لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة الطائع، قال: ومن كفر بهذه النعم؛ فإن الله غني حميد، أي: لا يحتاج إليهم وليس في حاجتهم، وإنما تسببوا لأنفسهم بويل وخسران وبضر في الدنيا والآخرة.

    والآن انتهى من المقدمة؛ وعرفنا بلقمان وترجمته وحياته في آية واحدة.

    والقرآن لا يأتي بالحزئيات التي أشغلنا أنفسنا بها، ولد عام كذا وكذا في يوم كذا وكذا وفي ساعة كذا وكذا، وكان يأكل كذا وكذا، وكان له من الأطفال كذا وكذا، لا. فالقرآن يأتي بقضايا كلية، يوم يتكلم عن الكلب في سورة الكهف ما أتى بلونه، وبعض المفسرين يقول: لونه أسود، قال الآخرون: لا. مبرقش، قال الآخرون: لا. أحمر يميل إلى الصفرة، ما بقي إلا أن يقولوا: بنفسجي، القرآن ما عرض لهذا، بل أتى بالمقصد وسماه كلباً، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً [الكهف:22].

    وقال عن الطعام والشراب: لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259] قالوا: كان شرابه التوت، قال قوم: لا. عصير الزيتون، وقال قوم: لا. ما بقي إلا الميراندا أو الببسي، فالقرآن ما عرض لهذا ولكن أتى بقواعد كلية، فترجم للقمان في آية، ثم تكلم عن وصاياه.

    1.   

    وصايا لقمان لابنه

    والوصايا هي الحث على خير والتحذير من شر، وأعظم وصية في الحياة الوصية بالتقوى، سئل ابن تيمية في المجلد العاشر من الفتاوى من رجل من المغرب يقول له: يا شيخ الإسلام! أوصني، قال: أما إن سألتني على الوصية فلا أعظم وصية من وصية الله للناس لمن عقلها وتدبرها: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فهذه أعظم وصية وهي أعظم شهادة في الدنيا أن اتقوا الله.

    وقد وصى عليه الصلاة والسلام أصحابه بوصايا عديدة، وكان يوصي الرجل بحسب ما يراه من استعداد: (أتى رجل فقال: أوصني يا رسول الله! فإن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) حديث صحيح رواه الترمذي وغيره، ويقول عليه الصلاة والسلام عند الترمذي عن ابن عباس: (احفظ الله يحفظك -وهي من أعظم الوصايا- احفظ الله تجده تجاهك...) الحديث.

    التحذير من الشرك بالله

    قال: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ [لقمان:13] أي: يوصيه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] أولاً: قال: يا بني! وهذا أدب تربوي، وعليك أن تعتبر بهذا الكلام؛ أنك إذا أردت أن تدعو الناس فعليك أن تلين لهم في الخطاب، وأن تأخذهم بالمحبة وأن تأخذهم بسهولة من اللفظ ويسر من الكلام، يا بني! هذه قضية تربوية قال: يا بني! يا حبيب قلبي! يا أقرب الناس إلى روحي! لا تشرك بالله.

    والشرك له صور متعددة، فليس هو عبادة الصنم والحجر والوثن فقط، بل له صور، وبعض العلماء يقول: من توله بلعبة حتى قدمها على حُبِّ الله ووالى من أجلها وعادى من أجلها؛ فقد أشرك بها لقوله سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية:23].

    وأحد المفكرين كذلك يقول: الكرة تعبد من دون الله. هذه الكرة التي يلعب بها، بلغ حال بعضهم أن عبدها من دون الله، فترك الصلاة من أجلها، وأخر الصلاة من أجلها، وبعضهم يجمع من أجلها الصلاة على المدرجات الظهر والعصر، فأفتى نفسه من أجل ألا تفوته المباراة، وبعضهم إذا -وقد عرض في سؤال وأظنه معتوهاً أو أحمقاً- حان الأذان، وخاف أن يذهب إلى المسجد فيفوته الشوط والمباراة؛ فرش غترته أمام شاشة التلفزيون وقام يصلي وهو ينظر إلى المباراة! وهذا حدث، وكان يركع سريعاً ويسجد سريعاً؛ حتى يجمع بين الحسنيين، وهما حسنيين كوجهه في الحسن وكعقله ورشده، فأي حب بعد هذا الحب؟!

    بل بلغ بهم الولاء والبراء حتى يقول بعضهم: أنا هلالي حتى الموت، أو نصراوي حتى الموت، وهي أقرب إلى النصراني، سبحان الله! أحفاد خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب هلاليون حتى الموت! وأنا لا أهاجم الأندية لذاتها، فأنا عضو شرف في نادي الهلال، لكن يوم يسجد نادي الهلال لله، ويوم يدعو أصحابه إلى مبادئ الله، ويوم تتجه النوادي إلى الله وهم إخواننا وأبناء عمومتنا؛ لكن حينما نلتقي نحن وإياهم تحت مظلة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن صلوا وعرفوا الله، وتوضئوا وقرءوا القرآن؛ فنحن وإياهم سواء، ورسالتنا واحدة وهم دعاة.

    يقولون: أن رجلاً كان هلالياً وامرأته كانت نصراوية، فتبارى الفريقان فانتصر أحدهما على الآخر، فاحتدم البيت، وقام الخصام حتى طلق الرجل زوجته، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فأي تربية وأي ولاء هذا؟

    وبعضهم ببعض اللعب تبلغ به الشغف، مثل البلوت، تجد بعضهم مسلوب الإرادة، فتجده يلعب من صلاة العشاء إلى الساعة الثانية ليلاً، لا ذكر ولا صلاة، ولا قرآن ولا تسبيح، ولا دعاء ولا تبتل، ولا طلب علم ولا تحصيل، يلعب هذه اللعبة ويهيم بها ويراها في المنام فهل بعد هذا حب؟ وهل بعد هذا ولاء؟

    والله عز وجل يريد من العبد أن يعيش ذاكراً الله دائماً وأبداً: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].

    يقولون: كان شيخ الإسلام ابن تيمية لسانه لا تفتر عن ذكر الله، قالوا: نراك يا أبا العباس! ما تفتر أبداً عن ذكر الله، قال: قلبي كالسمكة، إذا خرجت السمكة من الماء ماتت، وقلبي إذا ترك الذكر مات. فانظر إلى الحب، يحبهم ويحبونه.

    يقول ابن القيم: ليس العجب من قوله يحبونه؛ فإنهم يحبونه لأنه منعم، لكن العجب من قوله يحبهم، خلقهم ورزقهم وأحياهم وأعطاهم ثم قال: يحبهم. فنسأل الله أن نكون وإياكم من أحبابه، ومن أقرب الناس إليه، فإنه -والله- الفوز في الدنيا والآخرة، لكل من أراد أن يكون من الصالحين الأخيار.

    يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] بدأ أولاً بالعقيدة، وهذه المسألة كما ترى هي التي دائماً نكررها للناس، فقضيتنا الكبرى هي العقيدة، وبعض الناس يقول: لا يحتاج أن تتكلمون في العقيدة أو: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] عرفناه ونحن في الابتدائية، ولا تشغلونا بالعقيدة ويكفي، ولا والله لا يكفي، بل نتكلم عن العقيدة اليوم وأمس وغداً، وهي قضيتنا الكبرى وهي رسالة الرسل عليهم السلام، وهي أعظم القضايا على الإطلاق، فلذلك بدأ بها.

    والمسلم دائماً يكون حكيماً، إذا أتى إلى مجتمع أو أناس، ورآهم في شيء من الانحراف يبدأ بالعقيدة، فكيف تصحح مفاهيم الناس في السنن وهم معرضون عن العقيدة؟!

    إنسان يأتي إلى قوم من البادية، يدعوهم إلى تربية اللحى وتقصير الثياب، ماذا ينفعهم إذا ربوا لحاهم، وقصروا ثيابهم، وهم لا يعرفون الله بأسمائه وصفاته، ولا يعرفون عظمته ولا يعرفون كماله وجلاله؟

    وماذا ينفع الملحد أن يطلق لحيته، ويقصر ثوبه، وهو زنديق قلبه كقلب الحمار؟

    هذا لا ينفع.

    قال: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] فالشرك أعظم ذنب عصي به الله عز وجل، والشرك وصفه الله عز وجل بأوصاف:

    إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فالله عز وجل جعل أعظم الذنوب الشرك.

    قال ابن مسعود في الصحيح: {يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك} وقال نوح عليه السلام لابنه: يا بني! لا تشرك بالله ولو مُزِّقت وسحقت أو كما قال.

    وكانت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عن التوحيد، وصح عنه أنه قال: {من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة} ومعنى مخلصاً من قلبه أي: يعمل بمقتضاها، أما أن يقول: لا إله إلا الله، لكن أبرد من الثلج، تخرج من لسانه لا معنى لها.

    يقول: لا إله إلا الله، وهو عبد للأغنية!

    يقول: لا إله إلا الله، وهو متعلق بالفيلم والشاشة!

    ويقول: لا إله إلا الله، وبيته سكنة لإبليس!

    يقول: لا إله إلا الله، وقلبه وثن!

    يقول: لا إله إلا الله، وهو كالخواجة في تصرفاته وخلقه وسلوكه!

    يقول: لا إله إلا الله، وهو لا يعرف من الإسلام لا رسماً ولا اسماً ولا قرآناً ولا ذكراً ولا صلاة جماعة!

    يقول: لا إله إلا الله، وهو يحارب الملتزمين والأخيار والأبرار وأهل الدعوة وأهل العلم!

    يقول: لا إله إلا الله، وهو يحبذ أن ينتصر الكافر على المؤمن!

    يقول: لا إله إلا الله، وهو يعجب بالكفار ويذكرهم في المجالس.

    ولذلك فروخ العلمانية وأذناب الماسونية دائماً ينفخون في أبواق أعداء الله.. أهل الحضارة.. القوم هنالك.. أهل العظمة والتصنيع.. أهل التكنولوجيا.. أما نحن فأهل الرجعية -يقول عن نفسه- وأهل التخلف والعالم الثالث، والدول النامية، ومن هذا القبيل... هذا رجل مغرور بالله، وهذا رجل مخبول، وهذا رجل بعيد عن الله، فمعنى لا إله إلا الله مخلصاً من قلبك؛ أن تكون عابداً لله.

    سليمان الأعمش الذي ترجم له الذهبي الراوي المحدث لما حضرته الوفاة قال لابنته: يا بنية! لا تبكي عليّ فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة خمسين سنة، فما الحال في رجل يقول لا إله إلا الله وليس بينه وبين المسجد إلا مائة متر أو خمسين متر لكنه لا يصلي فيه! يسمع الله أكبر تدوِّي من على المنارة لكن لا يصلي في المسجد، وليس عنده عذر، هل بقي في قلبه إيمان! ماذا تنفعه لا إله إلا الله! فتجد هذا متهتكاً في الحدود.

    وجلجلة الأذان بكل حي     ولكن أين صوت من بلال

    منائركم علت في كل ساح     ومسجدكم من العباد خال

    والله لو كان في قلبه إيمان لمشى في الظلام، يروى في الحديث: {بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة} كثير من الصالحين، ومن الشباب والأخيار يمشي في الثلج إلى المسجد، وفي شدة البرد القارص، الذي كالسكاكين، لكن في قلبه وقود هائل من الإيمان.

    والله سمعت أنا من شاب من نيجيريا -هذا الشاب من أعبد عباد الله عز وجل- يقول لي: الحمد لله ولو أنام قبل الفجر نصف ساعة فقط، ثم أسمع الأذان -ويسمعني الله عز وجل الأذان- فلا يمكن أن أبقى ولو لحظة، حتى يقول: نام مرة واقترب الأذان؛ فكأنه ما سمع الأذان، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقول: استووا استووا وعدلوا الصفوف قال: فاستيقظت مباشرة؛ لأن من استنار قلبه بنور الله أيقظ الله فطنته على تقوى من الله ورضوان.

    من صور الإشراك بالله

    يقول: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] من أعظم الذنوب في الأرض الشرك، والصور الموجودة الآن التي تنتشر: الكهانة والسحر والشعوذة، وقد انتشرت كثيراً.

    ومن صورها كذلك الولاء للكافر والبراء من المؤمن.

    ومن صورها كذلك تعظيم الكفار على حساب المؤمنين.

    ومن صور الشرك: الاستهزاء بآيات الله، بالمصحف، بأهل الاستقامة، بالرسول صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبالمساجد وبالإسلام.

    ومن صوره كذلك قول بعضهم الإسلام دين رجعية، والإسلام لا يصلح أن يواكب العصر، والإسلام انتهى، وهذه كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5] هذه من المسائل.

    الوصية ببر الوالدين

    ثم قال: وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:14-15] تقوى الله والصلاة تنبي عن بر الوالدين، والذي يترك الصلاة لا تجد فيه خيراً، وبر الوالدين من أعظم الأعمال الصالحة التي نلقى بها الله، ويوم فسد بعض الجيل ووقعوا في ترك الصلوات، والسيئات والمخدرات؛ أتوا من العقوق ما لم يأت به أبو جهل ولا أبو لهب.

    هل تصدقون أن أحداً ضرب أمه أكثر من سبع مرات بيده وهو يدعي أنه مسلم؟ ورأينا شيخاً كبيراً في السبعين يبكي ودموعه تسيل من على لحيته يشكو من ابنه، أي إسلام بقي مع هذا؟!

    فالله قرن حقه بحق الوالدين: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].

    1.   

    الوصية بمراقبة الله

    أيها المسلمون: ويستمر السياق، ويأتي لقمان عليه السلام ليقرر لابنه قضية أن الله يعلم الغيب، وأن الله يطلع على السرائر، وأن الله لا تخفى عليه خافية، وأن الله عز وجل قريب من العبد، وأن الله بعلمه سبحانه وتعالى وبشهوده وبحسابه وباطلاعه مع العبد، وهذا تقرير العقيدة وتقرير التوحيد، قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16] يقول: يا بني! إذا تسترت وراء الجدران فالله معك، إذا تسترت بالحيطان فالله يراك.

    وإذا خلوت بريبة في ظلمة     والنفس داعية إلى الظغيان

    فاستحي من نظر الإله وقل لها     إن الذي خلق الظلام يراني

    جلس صفوان بن أمية مع عمير بن وهب تحت ميزاب الكعبة في الحرم في مكة، والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، وكان آنذاك صفوان وعمير كافرين ومشركين بعد معركة بدر، قال صفوان: يا عمير بن وهب! أما ترى ماذا فعل محمد بنا في بدر، قتل آباءنا وإخواننا وأقاربنا فما رأيك؟

    فقال عمير بن وهب: والله -أو أقسم بآلهته- لو وجدت من يقوم بأهلي وأطفالي لذهبت إليه في المدينة فقتلته.

    قال صفوان - وهم تحت الميزاب ما معهم إلا الله-: أنا أقوم بأهلك وأطفالك وأزواجك، الهدم هدمي والدم دمي والحياة حياتي.

    فأخذ عمير سيفه، فحشاه بالسم شهراً كاملاً، حتى أصبح السيف أزرق، ثم ذهب إلى المدينة، فلما دخلها دخلها بعد صلاة العصر وسيفه معه، فرأى عمر عمير بن وهب أقبل يريد المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة في المسجد، وليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم سيف ولا رمح ولا حراسة.

    عناية الله أغنت عن مضاعفة     من الدروع وعن عال من الأطم

    وإذا العناية لاحظتك عيونها     نم فالحوادث كلهن أمان

    يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] أي: يحفظك.

    فرأى عمر رضي الله عنه عمير بن وهب مقبلاً، فرأى في عيونه الشيطان، فأخذه عمر بتلابيبه ومحاميل سيفه بيد واحدة -وكان عمر قوياً، قوة الإيمان- وأدخله المسجد عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فأجلسه صلى الله عليه وسلم للتحقيق:

    والسؤال: يا عمير بن وهب! ماذا قدم بك؟

    الجواب: قدمت لأفدي الأسارى الذين عندك، يعني آخذ بمالي الأسارى الذين أسرتهم في بدر وهذا الكلام كذب.

    قال عليه الصلاة والسلام: لا والذي نفسي بيده! لقد جلست في يوم كذا أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة فقال لك: كذا وكذا وقلت له: كذا وكذا، أليس كذلك يا عمير؟

    قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.

    دور المراقبة في إصلاح الفرد والمجتمع

    فعلم الغيب واطلاع الله على كل خافية قضية كبرى لا بد أن نعرفها، ونحن لو عرفناها ما كان وقع ما وقع، وما كان وجد من الشباب من أفطر في رمضان، فقد وجد من الجيل من يذهب في نهار رمضان تحت الكباري وفي الغابات والمنتزهات يأكل ويشرب في النهار، يستحي من الناس: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء:108] يعني: نظر الناس إليه أعظم من نظر الله عز وجل، لو وجد الإيمان بأن الله مطلع على كل خافية؛ ما كان هناك خلوة بالأجنبي والأجنبية من النساء، وما كان هناك خيانة زوجية، من الرجال لنسائهم، بأن يعاشر أجنبية لا تحل له، أو تعاشر أجنبياً من دون زوجها، وتخون الله وشرع الله ولا إله إلا الله والحجاب والدين،والاحترام والخلق، وتنكر كل شيء من مبادئها، وتنسى القبر الضيق يوم تحشر فيه وحيدة، وتنسى العرض على الله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ [الأنعام:94] ما معنى هذه الآية؟

    يقول: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [لقمان:16] أصغر من البرة مثل السمسم، انظر إلى الوصف وتأمل: إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ [لقمان:16] صخرة مقفلة وهي داخلها: أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ [لقمان:16] يعني ملقاة في البحر أو في البر: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16] وهذا وصف عجيب دقيق، إذا كان مثقال سمسمة يأتي بها الله عز وجل، فكيف بمن سجلت حسناته وسيئاته في سجلات؟ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].

    إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16] انتهى من الوصايا. أولاً عرض العقيدة، وتحدث عن بر الوالدين، ثم تكلم عن الأسماء والصفات بشيء من الأفعال والاشتقاق.

    1.   

    الوصية بالصلاة والمحافظة عليها

    بعد ذلك أتى إلى العبادات، قال تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17]

    يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17] وقضية الصلاة في حياة المسلم هي قضية الإسلام والدين، وهي أكبر قضية بعد التوحيد، نادى بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما بلغ الجيل مبلغ ترك الصلاة إلا يوم دخلوا في باب الكفر، ودخلوا الإلحاد والزندقة.

    وقضية أن يترك الإنسان الصلاة معناها أنه يكفر، إلا أن يعود إلى الإسلام، ومعناها أنه كتب على نفسه أنه مرتد، وأحل دمه للسيف، وعرضه وماله، يقول عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) ويقول: (بين المسلم والكافر ترك الصلاة) وهي أحاديث صحيحة، ويقول في الصحيح: (والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) نعوذ بالله من النار.

    ترك الصلاة كفر، وما أظن مسلماً يظن أنه بقي معه ذرة من إيمان ويترك الصلاة، ووالله! ما يدري الإنسان ويتعجب كيف يبلغ بالإنسان مبلغاً أن يسمع بالرسول عليه الصلاة والسلام والقرآن وقيام الساعة ولقاء الله عز وجل والجنة والنار والصراط والميزان ثم يترك فريضة واحدة؟! كيف يستطيع؟ هل يعيش مطمئناً؟ هل يستطيع أن يأكل ويشرب وهو يعلم -مثلاً- أنه ما صلى المغرب، وأنه تركها قطعاً؟! ماذا ينتظر هذا إلا أن تنـزل عليه صاعقة تلعنه وتخزيه من السماء؟! أعوذ بالله من الخذلان والخسار.

    يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17] وهي زاد الداعية وزاد المسلم وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46].

    فقضية الصلاة هي زاد المسلم في الحياة، كان يقول عليه الصلاة والسلام إذا اهتم واغتم: (أرحنا بها يا بلال).. (وكانت قرة عينه في الصلاة) ذكر عمر الصلاة وهو في سكرات الموت فقال: [[الصلاة الصلاة! لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]].

    1.   

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان:17] ميـزتنا نحن عسكريون ومدنيون، كباراً وصغاراً رجالاً وإناثاً، أنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ويوم يبلغ بالإنسان أن يموت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قلبه يتبلد إحساسه ويصبح كالبهيمة، ويموت تماماً، والذي تموت الغيرة في قلبه معناه أنه ليس عنده لله وقار ولا مكانة، قال سبحانه وتعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79] والله يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

    الأمر بالمعروف واجب عليّ وعليك، فليس هناك هيئة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس هناك فئة أو كيان يجب عليها وحدها فقط أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أنا وأنت جميعاً إن لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؛ فإنا معرضون لغضب الله وسخطه وعذابه.

    الرجل في بيته، والمرأة في بيتها، والأستاذ في مدرسته، وكذلك العامل والموظف والفلاح والتاجر إنها رسالتنا، لكن انظر إلى واقعنا يوم تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصبح أهل المعصية أكثر، وأصبحت لهم الصولة والجولة، وأصبحت لهم المكانة، وأصبح الإنسان ما يستحي أن يعرض بضاعته من اللهو واللغو.

    بالله عليكم في عهد السلف الصالح، هل يستطيع أحد أن يأتي بأدوات الغناء على مستواهم القديم في المدينة المنورة في جانب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبيعها ويعرضها للناس، هل يستطيع أحد أن يفتح مكاناً ويحلق لحى المسلمين، يقول أحد الدعاة: رأيت صالون حلاقة اسمه صالون النشامى، والنشامى هؤلاء معناهم الأبطال، يعني: حلق لحى النشامى، هؤلاء كم هم أبطال، وكم هم أخيار، وكم فيهم من الرجولة هؤلاء النشامى الذين جعلوا لحاهم تحت الأقدام!

    ويقول: رأى في صالون آخر صالون اللحية الغانمة، ولعلكم تسمعونها في شريط أطب مطعمك، يقول: صالون اللحية الغانمة، ما لها من لحية ليس فيها من الغنم شيء! وإنها -والله- بعيدة من الله.

    إنما أقول: سُكِتَ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن نقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللين وبالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالكلمة المؤداة.

    تصور لو أن عاص من العصاة كصاحب من يروج الأغاني يمر عليه عشرون أو ثلاثون مني ومنك ومن الناس يقولون: اتق الله، الغناء حرام فقط، ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس إلى أن يبلغ العدد عشرين في يوم؛ أما يعود في البيت ويسأل نفسه ويقول: عشرون أو ثلاثون مروا عليّ اليوم كل يقول: اتق الله اترك الغناء، أجل حدث شيء، والناس كلهم يخالفوني إذاً أتوب إلى الله. ولكن نرى المعاصي واستمرأناها، وآكلناهم وشاربناهم وجالسناهم وأصبحت هذه من الخفيفة، حتى إذا نهيت عن بعض الأمور؛ كأن ترى الإنسان يشرب باليسرى فتقول: لا تشرب باليسرى، فيقول لك زميلك: يا أخي! أولاً: خلِّ حالك في شأنك، الأمر الثاني: نفسك نفسك، ثالثاً: يا أخي! ما تعرفون دائماً إلا الشرب والأكل بالشمال واليمين، كلها واحدة والأمر فيه سعة.

    وإذا قلت له في اللحية قال: ما تعرفون إلا اللحى دائماً وتقصير الثياب.. والقضية أكبر من تقصير الثياب، فالقضية قضية إسلام، حتى يضيع الدين ويصبح مقطعاً ممزقاً بين يدي هؤلاء الذين لا يعرفون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتصوروا الإسلام.

    ويقول بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] وهذا فيه حرارة يقول:

    أقسمت أن أوردها حرة     وقاحة تحت غلام وقاح

    إذا سألت الله في كل ما     أملته نلت المنى والنجاح

    معناه أنه يذوق حرارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: واصبر على ما أصابك، سوف تضرب أو تؤذى أو تسب، أو تجرح، فاصبر على ما أصابك.

    صور من حياة السلف في الأمر بالمعروف

    كان أحد الصالحين -ترجم له الذهبي - يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال: فيضربونه في بغداد حتى يغمى عليه، فيرشونه بالماء فيستفيق فيقول: وعزتك وجلالك لآمرن بالمعروف وأنهى عن المنكر، نعم. محمد صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه الشريفتين ولسان حاله يقول:

    إن كان سركم ما قال حاسدنا     فما لجرح إذا أرضاكم ألم

    إن كان هذا يرضيك فأهلاً وسهلاً بالجرح، وأهلاً وسهلاً بالضرب، حتى لما جرحت إصبعه عليه الصلاة والسلام قال:

    هل أنت إلا إصبع دميت     وفي سبيل الله ما لقيت

    يقول: الأمر سهل في سبيل الله، وفي طاعة الله وفي مرضاة الله سبحانه وتعالى، وقصص الآمرين بالمعروف كثير منهم النابلسي عالم من علماء المسلمين، محدث كبير ترجم له أهل العلم، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، كان إذا وقف في الصلاة فكأنه سارية، كان يخرج ومعه سكين في جيبه، فإذا رأى جرار الخمر شققها، لكن هذا إذا كان التغير باليد لمصلحة أعظم، أما إذا علمت أنك لو غيرت بيدك؛ كانت المفسدة أعظم فلا يجوز لك أن تغير بيدك؛ لأنك سوف تجر مفسدة أعظم من ذلك.

    وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} فهو على مستويات بقدر المصلحة.

    والتغيير باليد مهمة السلطة التنفيذية. فكان هذا العالم -النابلسي - يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان يؤدب ويحلق رءوس المبتدعة من غلاة الصوفية الذين يخالفون السنة، أتى مرة في مجلس الحديث فسأله سائل عن الحكام الفاطميين، والحكام الفاطميين أكثرهم زنادقة، كـالحاكم بأمر الله الذي كان زنديقاً ملحداً، فكان إذا خرج إلى السوق سجد له الناس، فقالوا للنابلسي: ماذا ترى في الحكام الفاطميين؟ وهو في القاهرة لأن النابلسي كان في القاهرة، والحاكم موجود في القاهرة وهو يدرس الحديث في المسجد، قال النابلسي: من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم واحد، وليرم الفاطميين بتسعة أسهم، وبلغت السلطان الكلمة بعد صلاة العشاء مباشرة بعد الدرس، وأرسل إليه الجنود، فقالوا: قم يريدك السلطان، فعرف أنه من أجل الكلمة فتبسم وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، معناها: أنني بعت نفسي من قبل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111].

    ووصل إلى السلطان، وكانت الكلمة قد بلغت السلطان خطأ، قال النابلسي: إن من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم وليرم الفاطميين بتسعة، فبلغت السلطان: إن من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة وليرم الفاطميين بسهم واحد، وهذه أسهل من الأولى، فقال له الحاكم بأمر الله -عليه غضب الله فهو ملحد زنديق-: يا نابلسي! قال: نعم. قال: أنت الذي يقول قبل العشاء في مجلس الدرس: من كان عنده عشرة أسهم فليرمنا بسهم واحد وليرم النصارى بتسعة أسهم، قال: لا. الفتوى خطأ، قال: كيف؟ قال: قلت: من كان عنده عشرة أسهم فليرمكم بتسعة وليرمِ النصارى بسهم.

    فسلط يهودياً عليه وقال له: اسلخ جلده كما تسلخ الشاة قبل أن تذبحه، فنكسه وعلقه بأرجله في الشمس. ومما يروى أنه وُجد من يظلله كرامة من كرامات الأولياء.

    ولما بلغ اليهودي سلخ جلده إلى القلب رحمه اليهودي! فطعنه بالسكين في قلبه فمات، وكان يتبسم وهو يسبح، يقولون: كان منكوساً ودمه يقطر وهو يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

    وهذا من أعظم ما يكون عند مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب على كل مسلم ما دام حياً في عقله وفي إدراكه أن يأمر بحسب استطاعته: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].

    1.   

    الوصية بلزوم الأدب والأخلاق

    الآن ينتقل إلى السلوك والأدب، قال تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] لا تصعر خدك للناس، والصعر داء يصيب الجمل في عنقه فيصبح مصعوراً دائماً يمشي كذا، ولذلك المتكبر تجده كالطاوس، يقولون: أحمق الناس المتكبر، فهو يرى الناس لا شيء، وهو أتفه الناس لديهم، فهو يتعالى على الناس ولكن الله يقول: اخسأ لن تعدو قدرك، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه، وجزاء المتكبر أن يحشر يوم القيامة في صورة الذر؛ يطأه الناس بأقدامهم يوم العرض الأكبر، فهو سمين بدين كبير لكن يأتي في صورة الذرة؛ لأنه تضخم في الدنيا فصغره الله وحجمه يوم العرض الأكبر.

    من صفات المتكبرين أنه يحب أن يتحدث مع الناس دائماً في الطريق، فلا يحب أن يمشي وحده، ودائماً تجده يتكلم ولو كان كلاماً لا نفع فيه، لكن يحدث الذي عن يمينه، والذي عن يساره ويشير بيده.

    ومنها كذلك أنه لا يجود بالسلام، بل دائماً ينتظر منك أن تسلم عليه؛ لأنه يرى نفسه في رتبة عالية، كيف أسلم على هؤلاء الجنود وأنا أعلى مستوى؟! فتجده لا يبذل السلام، وتجده إذا دخلت في مكتبه يعطيك رءوس أصابعه، كأنه يقطر عليك السلام بالقطارة، ولا يمزح إلا مع مثله أو أعلى منه؛ لأنه يقول: إذا مزحت قلَّت هيبتي، ومحمد صلى الله عليه وسلم مازح الأطفال، ومازح العجائز عليه الصلاة والسلام، وما زاده الله إلا رفعة.

    ومن صفات المتكبر: أنه غضبان دائماً بدون شيء، فتجده إذا خرج من بيته كأن زوجته ضربته على وجهه، فدائماً غضبان بدون سبب، لكن غضب الكبر، يقول:

    وجوههم من سواد الكبر عابسة     كأنما أوردوا غصباً إلى النار

    هانوا على الله فاستاءت مناظرهم     يا ويحهم من مناكيد وفجار

    ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً     أهدوك من نورهم ما يتحف الساري

    تروى وتشبع من سيماء طلعتهم     بوصفهم ذكروك الواحد الباري

    من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    وهؤلاء أولياء الله وأحباب الله.

    ومن صفات المتكبر أنه يستخدم دائماً: أنا وفعلت وقلت وراجعت ودخلت وخرجت، ويترجم لنفسه في المجالس دائماً، فيكون أمقت الناس عند الله عز وجل وأبعدهم من الله.

    وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [لقمان:18] فالخطر بالأيادي، ونفخ الصدر، والصعر بالوجه كلها من علامة المتكبرين.

    وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:18-19] يعني: امش قصداً إلى حاجتك وبتؤدة وسكينة وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63].

    ثم قال: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19] لا ترفع صوتك فوق اللازم، فهذا هو أدب القرآن، فيتدخل القرآن حتى في قضية تنظيم الصوت، لأن الواثق من نفسه يتكلم بهدوء، والمسلم عاقل رشيد في ألفاظه، تجد الآن أبعد الناس عن الطاعة والمسجد ليس عندهم عقول، فينادي زميله في الشارع فتسمعه من وراء كيلو مترات عدة، أو تراه يصفر لزميله تصفيراً، ولكن لو كان ملتزماً لما عمل ذلك.

    وتجد بعضهم يلعن زميله قبل أن يلقاه وقبل أن يسلم عليه، ويصيح صياحاً، وقد قال تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19].

    يقول: يا بني! لا تفعل هذه الأفعال، يا بني! حياة الإيمان أعظم، يا بني! المؤمن منظم في الحياة، يا بني! هناك آداب لا بد أن تسلكها.

    فلا إله إلا الله ما أعظمها من وصايا!

    بدأ بالعقيدة والعبادة وبر الوالدين ثم العبادة ثم الأخلاق والسلوك، فهل لنا أن نعود من هنا فنتدبر هذه الآيات، ونعيد قراءتها في التفسير، كـتفسير ابن كثير، ونجعلها قضيتنا الكبرى حتى نطبقها في واقعنا وحياتنا لنعيش حياة السعادة، وحياة الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10].

    فالحمد لله أولاً وآخراً، وسراً وجهراً، والحمد لله ليلاً ونهارا،ً الحمد لله الذي جمعنا بكم، والحمد لله الذي جعلنا نتكلم عن الإيمان، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718694

    عدد مرات الحفظ

    764850101