إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [60-62]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يحذر الله المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة أنهم إن لم ينتهوا عن الإيذاء والتعرض للمؤمنات ليبيحن لرسول الله قتلهم والتنكيل بهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض...)

    قال الله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60].

    ذكرنا في الدرس الماضي أن آية الحجاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] عامة، وكان الفساق والمنافقون في المدينة المنورة ينتهزون فرصة خروج هؤلاء الكرائم والعقائل إلى قضاء حاجتهن ليلاً، ولم يكن في دور المدينة مراحيض، فكان هؤلاء إذا رأوا أمة حاولوا الفسق بها، ولذلك أمر الله الحرائر أن يلبسن الحجاب ليميزن ويعرفن أمام هؤلاء المنافقين فيهابون رجالهن وآباءهن فلا يفعلون ذلك، هذا بالنسبة للنساء.

    أما بالنسبة للحكم فقد تهدد هؤلاء وأوعدهم بأنهم إن لم ينتهوا عن هذا ليسلطن عليهم رسوله عليه الصلاة والسلام، فيطردهم عن جواره ويقتلهم تقتيلاً، ويمكر بهم مكراً حيث وجدوا بعد طردهم عن المدينة.

    قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ [الأحزاب:60] تهديد ووعيد لهؤلاء المنافقين، والمنافق هو من أظهر غير ما يبطن، وكانوا في المدينة كثيرين من الأوس والخزرج واليهود.

    وقوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:60] أي: مرض قلوب هؤلاء بسبب أنهم كانوا فساقاً زناة، ومرض القلب هنا فسر بالزنا والسعي خلفه.

    وقوله: وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الأحزاب:60] الإرجاف هو التهديد والوعيد من قبل أعداء الله ليخيفوا المؤمنين، فكان هؤلاء المرجفون إذا خرج النبي عليه الصلاة والسلام لمعركة من المعارك، أو أرسل سرية من سراياه لمحاربة أعداء الله يخرجون للمعركة وبعضهم يبقى في المدينة، فمن خرج منهم فإنه قبل أن يصل إلى المعركة ينسحب؛ ليخاف المجاهدون الصادقون، ويشيعون بأن جيش الأعداء أكثر عدداً وعدة، ولا قبل لنا بهم.

    وقد فعل ذلك كبير المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول في غزوة أحد، حيث انسحب بمن كان معه، والبعض كان منافقاً والبعض الآخر كان ضعيف الإرادة والنفس، حيث فر وهو لا يعلم لماذا يفر.

    فالله تهدد هؤلاء وتوعدهم، وقد قيل: إن الواو في قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الأحزاب:60] زائدة، فتكون هذه كلها صفات لهؤلاء المنافقين، فهم الكذبة الذين يشيعون الرعب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليفروا من المعركة وينسحبوا منها، وهم مرضى القلوب الذين يرغبون في الفحش والزنا والفساد، فهم قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين.

    وقوله: وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الأحزاب:60] أي: من أهل المدينة ومن سكانها.

    وقوله: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الأحزاب:60] هذه اللام يقال عنها لغة ونحواً: اللام الموطئة للقسم، فيكون المعنى في الآية: أن الله يقسم بأن هؤلاء إن لم يكفوا ولم يتوبوا عن نفاقهم وفجورهم وإرجافهم وكذبهم فلنعلمنك بهم لتعرفهم واحداً واحداً، ولنسلطنك عليهم فتقتلهم وتبيد خضراءهم، أو تطردهم عن جوارك من المدينة المنورة.

    وقوله: ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60] أي: بأن يبقوا قلة لا تملك لنفسها أمراً ولا نهياً، وإنما يكونون قلة ذليلة حقيرة يمكن القضاء عليهم في كل وقت وزمن.

    أو أنهم لا يبقون في جوارك إلا زمناً قليلاً ومدة قليلة، وكل ذلك تشتمله الآية في معناها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً)

    قال الله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:61].

    فقوله: (مَلْعُونِينَ) أي: حال كونهم مطرودين من رحمة الله، وحال كونهم مغضوباً عليهم من الله ورسوله.

    وقوله: أينما ثُقِفُوا [الأحزاب:61] أي: أينما وجدوا.

    وقوله: أُخِذُوا [الأحزاب:61] أي: أسروا واعتقلوا وأمسكوا.

    وقوله: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:61] في لغة العرب أن زيادة المبنى في الكلمة يدل على زيادة المعنى، كان يكفي أن يقال: وقتلوا فقط.

    فقوله: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا [الأحزاب:61] يأمر الله نبيه بقتلهم، وهذا أمر بصيغة الخبر أن يقتلهم قتلاً مدمراً، أو يطردهم بحيث لا يبقي منهم أحداً في المدينة، أو يأسرهم فيبيعهم كما يباع الرقيق.

    إذاً: سلط الله النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء المنافقين وأمره بتأديبهم؛ لما يقومون به من فساد وفسوق ونفاق وإرجاف وكذب على الله والرسول في المدينة، وشأن اليهود الفساد، وهم الذين أفسدوا طائفة من الأوس والخزرج، حتى صاروا منافقين متظاهرين بالإسلام وهم ليسوا كذلك، وكانت النتيجة أن نبي الله عليه الصلاة والسلام بعد أن نزلت عليه هذه الآية قام على المنبر في مسجده النبوي، وذكر النفاق والمنافقين وأخذ يشير إليهم: قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان، وطردهم من المسجد وأعلن نفاقهم، وإذا بهم يكشفون، فيهجرون ويطردون ويلعنون.

    وكانت النتيجة بعد ذلك أن خرج عن جواره من المدينة من خرج خوفاً على حياته، وحضر منهم من حضر القتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي منافقاً، فقتل قتل الكافرين.

    مثال ذلك: أنه في معركة من المعارك رأى الصحابة رجلاً يقاتل قتالاً في غاية ما يكون من الحماسة والشجاعة ويصول على الأعداء يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً إلى أن جرح، فذهبوا يخبرون رسول الله عليه الصلاة والسلام عن بلائه وشجاعته وقتاله، فقال لهم: (هو في النار، فعجبوا وقالوا له: إن كان هذا معنا وقد أبلى وهو في النار فأين نحن ولم نبل بلاءه ولم نقاتل قتاله؟ قال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: هو في النار) .

    فذهبوا ليترصدوه ويترقبوه، فأتوه وهو يجود بنفسه ويحتضر ويموت، فقالوا له: هنيئاً لك يا فلان الجنة، قال: والله لم أقاتل من أجل الدين وإنما أقاتل عصبية وأقاتل للقبيلة والعشيرة، فتبين أنه تظاهر مع المؤمنين أنه مؤمن وكان كذاباً منافقاً.

    قال ابن عباس: هذا خبر في الآية بمعنى الأمر، وكأن الله يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: اطرد هؤلاء عن جوارك، وأبعدهم عن كرامة المؤمنات وشرفهن أو اقتلهم تقتيلاً.

    ومن هنا قال علماؤنا: الحدود في الزنا تكون جلداً للأعزب، ورجماً للمحصن المتزوج. هذا إذا تراضى هو وإياها ودخلا مكاناً لا يراهما الناس ثم كشفا، أما إذا اختطفها، فهذا يعتبر مفسداً في الأرض، وجزاء هذا أن يقتل ويصلب، بأن تقطع يده ورجله من خلاف بهذه الآية وبالآيات الأخرى.

    والأحكام تؤخذ من مختلف الآي، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33] وهذه الآية فيها: حيثما وجدوا فإنهم يقتلون تقتيلاً قال تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا [الأحزاب:61].

    إذاً: هؤلاء مفسدون في الأرض؛ لأنهم أخافوا وأرعبوا المؤمنات في دينهن، وفي عرضهن وشرفهن.

    وهذه الآية التي في سورة الأحزاب خاصة بالزناة، وتلك التي في سورة المائدة عامة بالزنا وغيره من أنواع الفساد، فجزاء هذا أن يقتل، والتقتيل معناه: أن تقطع يده ورجله ويترك بدون حسم حتى يموت، أو يصلب حياً ويبقى مصلوباً إلى أن ينزف دمه ويموت مصلوباً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)

    قال الله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62].

    أي: هذه سنة الله.

    و(سنة) منصوبة على المفعولية المطلقة، أي: سن الله سنة، ثم هي سنة الله في الأولين والآخرين من المنافقين.

    والأنبياء السابقون وأتباعهم أمروا بتقتيل أو طرد كل من نافق وكل من نشر الفساد والإرجاف، وكل من حاول أن ينتهك أعراض المسلمين، كما أمر نبينا عليه الصلاة والسلام بتقتيلهم وتدميرهم وطردهم عن جواره.

    فقوله: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ [الأحزاب:62] أي: سنة الله وحكم الله ودين الله في معاقبة هؤلاء، وفيمن مضوا من الأمم السابقة.

    وقوله: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] أي: لن تجد يا رسول الله في سنة الله وحكمه تبديلاً أو تغييراً، وهذا ما اتفقت عليه جميع الشرائع السماوية، وجميع الأنبياء والرسل عليهم صلاة الله وسلامه في مكافحة الفساد وعقوبة المفسدين، والله لا يأمر بالفحشاء، فلم يأت دين من الأديان يأمر بالزنا والفاحشة، ولا بالفساد بأنواعه، ولذلك فإن جريمة الزنا جريمة الاغتصاب والأخذ بالعنف والقوة وقطع الطريق، والاعتداء على العقائل والكرائم من المؤمنات المسلمات هي كما أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرين، وهي الأمر والسنة الإلهية في الأمم السابقة، ولن تغير ولن تبدل سنة الله في الأمر بترك الفواحش والعقوبة لأهلها من قتل وطرد وصلب وقطع أيد وأرجل من خلاف.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755904966