إسلام ويب

تفسير سورة الحجرات [14-18]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يذكر الله تعالى في آخر سورة الحجرات ما كان من الأعراب ودعواهم الإيمان، فرد عليهم مبيناً أنهم أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. ثم بين الله تعالى حقيقة الإيمان والمؤمنين، وأن المنة له على المؤمنين أن هداهم للإيمان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا...)

    الشيخ: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:14].

    هؤلاء القبائل من البدو والأعراب جاءوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يريدون حقن دمائهم وحفظ أموالهم، فقالوا: آمنا، فكذبهم الله وقال لهم: لا تقولوا: آمنا، ولكن قولوا: أسلمنا، أي: استسلمنا لك يا رسول الله، فلا تحاربنا محاربة الأعداء، ولا تأخذ منا أموالنا غنائم، وكان ذلك قولاً قالوه، وإلا فالإيمان الذي هو التصديق بالجنان لما يدخل بعد في قلوبهم، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الشاعر اللبيب عندما سمع شعره: (آمن لسانه وكفر قلبه) أي: قال باللسان ما لم يعتقد بالجنان.

    فهؤلاء الأعراب جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا منافقين، فقالوا: أسلمنا وهم لم يؤمنوا بعد، ولم يصدقوا، كما قال جمهور المفسرين.

    وقيل: أسلموا صادقين، ولكن الإيمان والتصديق لم يدخل القلوب بعد، فلم يعرفوا له معنى ولم يتخلقوا بأخلاقه، فالله نبههم وحذرهم من أن يستمر ذلك فيهم.

    وفي حديث جبريل أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، فجعل الإيمان غير الإسلام، فالإيمان: التصديق بالقلب، والإسلام: العمل بالجوارح، وهو الاستسلام لأوامر الله ورسوله من صلاة وزكاة وصيام وحج، وترك المنكرات ظاهرها وباطنها، وفعل الصالحات ظاهرها وباطنها.

    أما الإيمان: فهو التصديق بالقلب، أن يكون القلب مصادقاً للسان فيما يقوله، وعندما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله يكون قد آمن قلبه بأن كل من جعلت له الإلهية من بشر أو جن أو ملائكة أو حجر فإلهيته باطلة، فلا إله بحق ولا معبود بحق إلا الله جل جلاله.

    قال تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات:14]، أي: قلتم آمنا، ولم تؤمنوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، أي: جئنا مستسلمين حقناً لدمائنا وحفظاً لأموالنا.

    قوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، (لما) نافية، أي: لم يحدث ذلك بعد، فإنما أسلم منكم اللسان ونطق بالشهادتين، أما الإيمان الذي هو التصديق بالجنان ومصادقة القلب لما يقوله اللسان فلم يحدث منكم بعد.

    قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14].

    أي: إن أنتم أخلصتم في الطاعة لله فيما به أمر وعنه نهى، وأطعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما به أمر وعنه نهى بإخلاص لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]، أي: لا ينقصكم من أجوركم وأعمالكم شيئاً، بل يزيدكم الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف مضاعفة مما يشاء الله جل جلاله.

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:14] فالله يغفر لمن استغفره ويرحم من تاب إليه وأناب وعاد إلى الصراط المستقيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ...)

    قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].

    أي: إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله وبمحمد رسول لله صلى الله عليه وعلى آله بقلوبهم وألسنتهم.

    ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، فلم يكن عندهم شك في الإيمان ولا تردد.

    وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات:15]، أي: وتقدموا مجاهدين أعداء الله اليهود والنصارى والكفرة والمرتدين بموالاتهم.

    فهؤلاء المؤمنون الذين بذلوا الأموال رخيصة في سبيل الله، والذين جاهدوا بالأنفس فبذلوا أنفسهم رخيصة لله، وجاهدوا فقاتلوا وقتلوا، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، لا من قال: آمنت، ولما يدخل الإيمان قلبه، فالمؤمن الحق الكامل هو من آمن بالله مخلصاً وبالرسول مخلصاً، ثم جاهد بماله وجاهد بنفسه في سبيل الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم ...)

    يقول الله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات:16].

    أي: أبلغ بكم السفه والجهل إلى أن تعلموا الله وتخبروه بأنكم مؤمنون وأنتم لستم كذلك، فكأنكم تخبرونه بشيء لا يعلمه ولا يطلع عليه؟!

    قال الله جل جلاله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وأنتم ظننتم بجهلكم لعدم دخول الإيمان في قلوبكم أنكم بقولكم: آمنا أخبرتموه تعالى بما لا يعلم.

    قوله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ [الحجرات:16]، أي: قل - يا رسولنا - لهؤلاء: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات:16]، أتخبرونه بما لا يعلم؟! أتخبرونه بدينكم وهو الذي وسع علمه ما في السموات وما في الأرض؟!

    ولذا قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات:16].

    فالله عليم بكل شيء، فهو عليم بما في السماوات وبما في الأرض وبالخواطر وبالضمائر وبما تخفي النفوس وبكل شيء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا ...)

    قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

    فهؤلاء قبائل من البدو الأعراب جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وقالوا: نحن المهاجرون، هاجرنا بأموالنا وبأنفسنا إلى الله ورسوله، وأخذوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله! نحن قد آمنا بك وآمنا بربك، ولم نقاتلك كما قاتلتك قبائل العرب وهم الذين قالوا: آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.

    قال تعالى: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، فالمن لله الذي هداكم ووفقكم فآمنتم وأسلمتم، هذا إن كان إيمانكم وإسلامكم صدقاً، وقد قال تعالى في الآية السابقة: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

    فامتنان الله عليهم بالإيمان فيما إذا كان الخبر قد صدق، والجنان قد صدق اللسان وكانوا مؤمنين حقاً، ولذلك قال تعالى: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، أي: إن كانوا صادقين في إيمانهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض ...)

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات:18].

    أكد الله على أنه يعلم ما في السموات ويعلم ما في الأرض وما في ضمائرهم وما تتحدث به نفوسهم، لا تخفى عليه خافية جل جلاله وعز مقامه، فكيف بقول هؤلاء الجاهلين عندما زعموا الإيمان ولم يكونوا صادقين وأرادوا بذلك أن يصدقهم رسول الله وأن يقبل الله منهم؟! فهيهات هيهات أن يقبل منهم وهو أعلم بضمائرهم وبحقيقة إيمانهم وبصدق الصادق منهم وكذب الكاذب!

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الحجرات:18]، يعلم ما غاب في السماوات من عبادة وما يحدث فيها من أمر، وما يحدث فيها من خلق، ويعلم ما غاب في الأرض مما في الأرحام ومما لا يزال في حكم الغيب، يعلمه الله جل جلاله وعز مقامه، فقد خلق الخلق ودبره، وعلم باطنه وظاهره، وانفرد بذلك جل جلاله.

    عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:27]، وخاصة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد علمه الكثير وأخبره بالكثير من الغيب مما مضى ومما عاصره ومما أتى بعده، وذلك من معجزاته ودلائل صدق نبوته وصدق ما جاء به صلى الله عليه وعلى آله.

    قال تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات:18].

    فالله بصير وناظر ومراقب لعملكم، يعلم الصادق من الكاذب، والبار من الفاجر، ويعلم كل شيء، لا تخفى عليه خافية، ولذلك فالمؤمن الحق عندما يريد أن يرتكب حراماً لا يحسب حساباً للناس ولا لحاكم ولا لقريب ولا لبعيد، ولكن الحساب كله عنده أن الله يعلم حركته ويعلم غيبه، ويعلم عمله، ويعلم ما في ضميره وما تتحدث به نفسه، فتجده في كل الأحوال يخاف من ربه أن يخرج عن أمره وعن طاعته فيغضب عليه ويعذبه، وقد يحبط عمله.

    وبهذا نكون قد ختمنا تفسير سورة الحجرات بعون الله جل جلاله، فمنه العون، وبه نقوم، ولا حول لنا ولا قول ولا قوة إلا بالله جل جلاله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756036862