إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت (16)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نعم الله عز وجل على عباده تترى، وإفضالاته عليهم لا تعد ولا تحصى، ومن هؤلاء العباد من اصطفاه الله وخصه بنعم إضافية ليست لغيره، ومن ذلك جعله حرماً آمناً لأهل مكة، إلا أنهم كفروا بنعمة الله، ولم يرعوها حق رعايتها، فأورث الله عز وجل الأرض لعباده المؤمنين، وأخزى الكافرين، وتوعدهم بالعذاب الأليم يوم الدين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وما زلنا مع آيات سورة العنكبوت المكية المدنية، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:65-69].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65].

    من هؤلاء الذين يعنيهم الله ويقصدهم بكلامه؟

    المشركون في مكة، وبخاصة أولئك الطغاة المعاندين.

    فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت:65]، في السفينة، كانوا يركبونها في الذهاب إلى الحبشة أو إلى الهند أو إلى غيرها، إذا ركبوا في السفينة واضطربت أمواج البحر والرياح والعواصف ومالت السفينة وكادت تغرق يوحدون الله عز وجل، ولا يشركون به شيئاً ، لا يعرفون اللات ولا العزى ولا مناة، بل يا ألله.. يا ألله.. يا ألله.. يا ألله.. نجنا.. نجنا، نجنا، فلما ينجيهم إلى البر ويخرجون إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، يقولون: لولا الله والربان لغرقنا، لولا الله والرئيس لغرقنا اليوم، يشركون مع الله غيره، بل ويعبدون غير الله عز وجل ويؤلهون الأصنام والأوثان.

    إسلام عكرمة بن أبي جهل

    هذه اللطيفة نكرر القول فيها: وهي أن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عن عكرمة ولعنة الله على أبي جهل ، عكرمة كان شديد الكفر قويه، لا يريد أن يسلم أبداً، لاسيما بعد ما مات أبوه وهلك في بدر.

    إذاً: فلما فتح الله على رسوله مكة هرب، قال: لا أقابله ولا أنظر إليه، فذهب إلى ساحل البحر ووجد سفينة تريد أن تقلع فركبها؛ حتى لا يشاهد الإسلام ورسوله، فلما مشت السفينة مسافة في البحر، جاءت أمواج واضطرابات ورياح، فنادى ربان السفينة: ادعوا الله ينقذكم.. ينجيكم.

    قال عكرمة : ماذا يقول هذا؟ يقول: ادعوا الله، وحدوا الله.. وحدوا الله؟ لماذا هربت أنا؟

    إذاً: والله لتردني لأؤمن من جديد، فرده صاحب السفينة إلى الساحل وجاء إلى مكة وأسلم. هذا عكرمة رضي الله عنه.

    دعاء الأولياء في الشدة والرخاء عند الجهلاء

    ولطيفة أخرى لا تنسوها: ذكر الشيخ رشيد رضا تغمده الله في رحمته في تفسيره المنار، قال: كان هناك مجموعة من المؤمنين يركبون السفينة من غزة إلى كذا في البحر، واضطربت السفينة وهم ذاهبون إلى الحج، فإذا بهم: يا رسول الله، يا عبد القادر ، يا فلان.. يا فلان.. يا فلان، الأولياء كلهم ينادونهم والله لا ينادونه، وبينهم موحد إن شئتم قولوا: وهابي -كما يقولون- قال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك.. ما تحمل، ما أطاق، في حالة الهلاك يدعون الأولياء وينادونهم وينسون الله عز وجل، فغضب هذا المؤمن قال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك.

    وهذه طبيعة الإنسان، فالمشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله وبعده إذا ركبوا في السفينة واضطربت الأمواج وخافوا الغرق فزعوا إلى الله عز وجل وحده، ولا يشركون معه.

    معنى قوله تعالى: (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)

    قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، لا يذكرون معه صنماً ولا حجراً ولا نبياً ولا أحداً.

    قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ [العنكبوت:65]، ينقذهم.. يعودون إلى الشرك ويشركون. عرفتم هذه؟

    وجماعتنا سواء في البر أو في البحر الجهل غطاهم وغشاهم وأعماهم يشركون في البر وفي البحر، في الرخاء والشدة والعياذ بالله.

    ما سبب هذا يرحمكم الله؟

    الجهل، ما علمناهم.. ما عرفناهم.. ما جلسنا إليهم، ما أتوا إلى ديارنا، و.. و.. عالم كامل مئات القرون، من القرن الرابع وهم يتخبطون إلى اليوم، لكن في هذه الفترة لاحت أنور العلم بواسطة هذه الأجهزة وهذه الأدوات، وتقارب الزمان والمكان وخف ذلك الشرك. خف بكثرة، وإلا كان كما قلت لكم: يذكر الله: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، فإذا سقطت السبحة من يده يقول: يا رسول الله. عرفتم أو لا؟

    وقد قلت لكم: السيارة نركبها مع أحد المؤمنين ممن تورطوا وما إن مالت بنا إلا وهو ينادي: يا رسول الله!

    تقول له: تريد أن تهلك أنت، تشرك؟ لو مات مات على الشرك.

    إذاً: نقول: الحمد لله على أن لاحت أنوار التوحيد، وأصبح أكثر المؤمنين موحدين، ولا يدعون رسول الله ولا فاطمة ولا الحسين ولا ولا.. إلا ما كان من الروافض الله أعلم بهم، يكتبون على السيارة يا علي .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون)

    ثم قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].

    لم؟ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66].

    لم يفزعون إلى الشرك بعد الخروج إلى الفتنة؟

    من أجل أن يكفروا بما أعطاهم الله عز وجل وما آتاهم من تلك النجاة.

    وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت:66]، إذاً: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66]، عاقبة هذا، بعد موتهم في جهنم والخلود فيها.

    وقرئ: (ليكفروا ما آتاهم وليتمتعوا)، بصيغة الأمر، وليتمتعوا بكفرهم وباطلهم، فسوف يعلمون عاقبة ذلك، والكل صحيح.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم...)

    وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].

    مالهم لا يبصرون؟!

    مالهم لا ينظرون؟!

    مالهم لا يعقلون ولا يفكرون؟!

    من حرم مكة؟

    العالم بأسره! إلى إندونيسيا إلى أمريكا السرقة والتلصص والسبي والقتل والإجرام والحرب وأهل الحرم آمنون؟!

    من أعظم الآيات، هذه وحدها أية كافية في أنه لا إله إلا الله!

    العالم بأسره.. الغزو، السلب، النهب، يسلب بعضهم بعضاً، يغزوا بعضهم بعضاً، في المدن في العالم بأسره، وخاصة في الجزيرة حولهم، والحرم المكي صاحبه آمن، يدخل الرجل فيجد قاتل أخيه فلا ينظر إليه بعينه!

    يمر بقاتل أبيه فلا ينظر إليه!

    هذا فعل الله وتدبيره، وما إن تدخل الحرم حتى تكون آمناً، لا تخاف على نفسك ولا على مالك ولا على عرضك أبداً.

    من فعل هذا؟ أليس الله؟ بلى.

    فكيف إذاً يشركون به غيره ويعبدون معه سواه؟!

    فكيف لا يؤمنون برسوله وكتابه الذي أنزله عليه؟!

    أين العقول؟! أين البصائر؟! أين.. أين..؟

    مالهم؟ الكفر أعماهم وغطاهم.

    قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا [العنكبوت:67]، رؤية بصرية عقلية علمية، أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [العنكبوت:67]، من كل المخاوف، من دخله يأمن على نفسه، على ماله، على عرضه، والله يبيت في الشوارع لا يخاف أحداً.

    من جعل هذا في قلوب أهل الحرم؟ الله.

    أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، بالخطف، كانت السرقات والتلصص والإجرام والغلبة، قبيلة تثور على قبيلة وتسلبها أموالها وهكذا إلى عهد قريب.

    معنى قوله تعالى: (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون)

    قال تعالى: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، يا للعجب! كيف هذا؟ يؤمنون بالباطل ويكفرون بالحق، وبنعمة الله، يؤمنون بالشرك والباطل ويكفرون بالتوحيد، يؤمنون بأن الله أمنهم وأبعد السوء والشر عنهم في حرمه، وهم يعرضون عن كتابه ورسوله، وما يذكرون هذا ولا يتفكرون.

    أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، والعياذ بالله تعالى.

    معاشر المستمعين! يجب أن نسأل أنفسنا: هل نحن مؤمنون بالباطل؟

    هل نحن بنعمة الله كافرون؟

    نبرأ إلى الله من ذلك، فلا نؤمن إلا بالحق الذي جاء به القرآن وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، ولا نكفر بنعمة الله، بل نحمد الله عليها ونشكره عليها، فإن كانت عبادة أديناها، وإن كان معروفاً فعلناه.

    هذا الذي ينبغي أن نعيش عليه؛ حتى نخالف هذه الأمة الباطلة الهابطة، ولا نكون ممن يؤمنون بالباطل ويكفرون بنعمة الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ...)

    ثم قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [العنكبوت:68]، والله لا أحد.

    الذي ينسب إلى الله زوجة وولداً.. أي كذب أعظم من هذا الكذب؟

    الآن عالم النصارى من أمريكا إلى الصين يؤمنون بأن عيسى ابن الله!

    كيف يؤمنون هذا الإيمان؟

    كيف يعتقدون هذا الباطل؟

    كيف يكذبون على الله؟

    كيف يتخذ الله ولداً وهو خالق البشرية كلها؟!

    كيف يتخذ ولداً وليس له زوجة؟!

    كيف هذا يتم؟!

    الآن ملايين النصارى يؤمنون بهذا الإيمان والعياذ بالله.

    ليس هناك افتراء أعظم من هذا على الله! تنسب إليه الشريك والولد! تنسب إليه صنم، وتقول: هذا يعطيني ويمنعني، وهذا وسيلتي إلى الله ربي، وتستغيث به وتدعوه!

    كيف يتم هذا ويقع؟ ليس هناك ظلم أفظع من هذا الظلم!

    وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى [العنكبوت:68]، أي: اختلق الكذب على الله.

    كيف قال عيسى ولده أو عيسى ثاني اثنين مع الله أو العزير ابن الله، وما إلى ذلك..؟!

    أو هذه الأصنام والأحجار آلهة مع الله عز وجل تنفع وتضر وتعطي وتمنع؟!

    ثانياً: أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ [العنكبوت:68]، وهنا المراد من الحق: الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن.

    أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ [العنكبوت:68]، وقد كذب اليهود والنصارى والمجوس، والآن من الصين إلى الأمريكان كلهم كذبوا بالحق الذي هو محمد لما جاءهم إلا من أسلم ودخل في الإسلام.

    أليسوا مكذبين؟ بلى.

    هل قالوا: آمنا بأن محمداً رسول الله؟! ما قالوها، مصرون على أنه ليس برسول، ولا يسألونه هل هو نبي أو رسول أو غير ذلك، ولا يريدون أن يتخلوا عن عباداتهم الباطلة ولا عن شهواتهم وأطماعهم الفاسدة.

    فهل هناك ظلم أعظم من هذين؟

    الأول: الذي يكذب على الله وينسب إليه ما الله برئ منه ويشرك به غيره.

    والثاني: من يجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويكذب بها، وهي أسطع من نور الشمس!

    أمي لا يقرأ ولا يكتب ينزل عليه كتاب أعجز الإنس والجن وهو بين يدي الناس!

    ألا نسأل: على من نزل هذا الكتاب؟

    ما أنزله الله إلا على عبد ورسول من رسله، فنؤمن بأنه رسول الله.

    معنى قوله تعالى: (أليس في جهنم مثوى للكافرين)

    وأخيراً: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68]، قولوا: بلى.

    إذاً: فمصيرهم ومأواهم.. منزلهم وإقامتهم الدائمة الأبدية في جهنم؛ لأنهم كافرون بالله ولقائه، بالله ورسوله، كافرون بالله وتوحيده.

    إذاً: هذا هو الختم الأخير: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68]، بلى.

    فإن قلت: وكيف؟ يعيشون أياماً على كفرهم وشركهم وبعدها ينتقلون بعد الموت مباشرة إلى عالم الشقاء الذي يخلدون فيه أبداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ...)

    ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

    ما هذا الكلام الإلهي؟! سبحان الله العظيم!

    ما هذا الخبر العظيم؟! اسمع: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت:69]، من أجلنا وفي سبيلنا.

    (جَاهَدُوا): بذلوا الجهد والطاقة في قتال الكافرين بنا والمشركين بعبادتنا، والخارجين عن أنظمتنا والفاسقين عن عباداتنا!

    جاهدوا هؤلاء، وجاهدوا أهواءهم وشهواتهم وأنفسهم والشياطين؛ لأن ميادين الجهاد متعددة:

    أولاً: الكافرون والمشركون إذا أعلنا الحرب عليهم تحت راية لا إله إلا الله وقيادة إمام المسلمين.

    هذا أول جهاد، قتال الكفار من أجل أن يدخلوا في الإسلام.

    ثانياً: جهاد النفس. لو لم تجاهد نفسك والله ما نجوت، تحملك على كل القبائح وكل الرذائل.

    لولا الجهاد والمقاومة لها والله تهزمك وتقع في كل المفاسد.

    ثالثاً: جهاد الهوى وهو ما تميل إليه النفس أيضاً، إذا لم تجاهد نفسك فيه تكره ما تهواه، وتحب ما يهوى الله ويحب الله لوقعت في فتنة أخرى.

    رابعاً: جهاد الدنيا وزخارفها وما تغري به وتعرضه وما تفتن به، هذا أيضاً يحتاج إلى مجاهدة حتى لا نستسلم ولا ننقاد لها لا نجري وراءها ونترك عبادة الله ونخرج عن طاعته، هذا وعد الصدق.

    وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت:69]، ماذا نعطيهم؟ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، الطرق الموصلة إلى رضانا وإلى الجنة دار النعيم في جوارنا.

    لَنَهْدِيَنَّهُمْ [العنكبوت:69]، وعزة الله وجلاله، سُبُلَنَا [العنكبوت:69] الطرق التي تصل بالعبد إلى رضا الله وجواره في دار الملكوت الأعلى. ‏

    أوصاف النفس البشرية

    وهنا ألفت النظر إلى أن الله تعالى ذكر النفس وقال: إنها لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]، الآية من سورة يوسف، هذه كلمة الصديق عليه السلام وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53].

    لماذا؟ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]، كثيرة الأمر بالسوء، هذا وصف للنفس.

    وصف ثان: يقول تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2]، هذا وصف ثان.

    وأخيراً: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

    اللهم اجعلنا من أهل هذه النفوس.

    إذاً: اعلم يا عبد الله! اعلمي يا أمة الله! أن النفس أمارة بالسوء، فجاهدي نفسك، جاهد يا عبد الله نفسك، لا تسمح لها أبداً، ولا تمشي وراءها ولا تقبل ما تهواه وتدعوك عليه، ولكن اقبل ما دعاك الله إليه ونبهك عليه، وذكرك به، وامش على هذا الطريق، فإذا أنت عصيتها وخرجت عن طاعتها في هذه المرحلة تنتقل بك إلى المرحلة الثانية تصبح لوامة، تفعل الخير، وتفعل الشر وتلوم، تدعوك إلى باطل تفعله ثم تتألم وتلومك، هذه المرحلة الثانية انتبه!

    فإذا أنت تجاوزت المرحلة الثانية أصبحت نفسك والله ما تأمر إلا بالمعروف، مطمئنة إلى الخير والبر والتقوى، ولا تطمئن إلى معصية أبداً ولا إلى نسيان ولا إلى غفلة، لا تطمئن ولا تسكن إلا مع عبادة الله وذكر الله وطاعته، مطمئنة.

    كم مرحلة للنفس؟ ثلاث مراحل، تحتاج إلى جهاد حتى تصل بها إلى المرحلة الثالثة وهي أن تكون مطمئنة، إذا صلت فرحت، إذا تصدقت فرحت، إذا ذكرت فرحت، إذا.. إذا.. هي دائماً مطمئنة وراضية بما أعطاها الله وقسم لها، حتى ولو كانت في مرض شديد أو فقر عظيم.

    معنى قوله تعالى: (وإن الله لمع المحسنين)

    ثم قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، هيا نكون من المحسنين يكون الله معنا.

    ومن كان الله معه ينهزم؟ لا. ينكسر؟ لا. تغلبه الدنيا أو الشهوات أو الشياطين؟ الجواب: لا.

    إذا أردت أن يكون الله معك فتسلم من كل المخاوف وتنجو من كل المعاطب فعليك بالإحسان، أحسن فقط!

    أحسن ماذا؟ أحسن خدمتك لله عز وجل، أحسن عبادتك، من وضوئك إلى صلاتك، من رباطك إلى جهادك، من صدقتك إلى قيامك إلى قعودك إلى مشيك!

    أحسن عبادة الله وأدها على الوجه الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم!

    وهنا يجب أن نتعلم فنعلم ونعمل بما نعمل، فنعلم ما لم نعلم؛ لأنه لابد من معرفة كيف نؤدي هذه العبادة؛ حتى نحسن أداءها، إذا من لا نعرف كيف له أن يحسن؟

    فلهذا طلب العلم فريضة، فلا تستطيع أن تحب الله ورسوله وأنت لا تعرف ما يحبانه وما يكرهانه، فلابد من معرفة محاب الله ورسوله، وما يكره الله ورسوله، ومن ثم تحسن الخدمة والطاعة والعبادة، فيكون الله معك، ينصرك، يحفظك، يرعاك، يعطيك، يمنعك من المخاوف و.. و.. ويدخلك الجنة دار النعيم المقيم.

    وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، المحسن: الذي يتقن العمل ويجيده.

    وفي الحديث الصحيح: سئل الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان: فقال في الإحسان: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، ومن ثم لا تستطيع ألا تجيد العبادة وألا تتقنها، أبداً لا تستطيع.

    إذا كنت تتوضأ أمام الله.. تغتسل أمام الله.. تصلي أمام الله.. تنفق أمام الله، في هذه الحال لا يمكنك أن تسيء في العبادة أبداً، لابد وأن تؤديها كما يحب الله، وهذه المنزلة عالية، ما كلنا نصل إليها، لكن دونها منزلة وهي عندما تقوم العبادة تعلم أن الله يراك، وهو والله يراك.

    ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، منزلتان عالية، وأخرى دون ذلك، وكلا المنزلتين فيها رضا الله عز وجل.

    الأولى: ( تعبد الله كأنك ترى الله )، ومن ثم تحسن العبادة وتتقنها كيف ما كان نوعها.

    الثاني: إذا نزلت إلى هذا المستوى العام: أن تعتقد أن الله يراك وأنت تعمل، فلما تدخل في الصلاة اعلم أن الله يراك، وينظر إلى صلاتك.

    والله تعالى أسأل أن نكون من المحسنين ليكون الله معنا فنأمن من المخاوف والمعاطب وننجو من عذاب الله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات:

    أولاً: بيان أن مشركي العرب لم يكونوا ملاحدة لا يؤمنون بالله تعالى، وتقرير أنهم كانوا موحدين توحيد الربوبية مشركين في توحيد الألوهية. أي: العبادة ].

    هذه الحقيقة التي تقررت، وهي أن مشركي العرب في الجاهلية إلى أن بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم إليهم، كانوا موحدين.. توحيد الربوبية ما كانوا بلاشفة ولا علمانيين ولا طبعيين بل كانوا يؤمنون بوجود الله، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، مؤمنين بالله الخالق الرازق، مؤمنين بربوبيته وأنه رب كل شيء، ولكنهم مشركون في عبادته.. في ألوهيته، الشياطين زينت لهم الأصنام والأوثان وعبدوها بحجة التقرب إلى الله عز وجل، فكانوا بذلك مشركين.

    والآيات القرآنية تقرر هذه الحقيقة، ومشركو العرب في الجاهلية كانوا موحدين في ربوبية الله عز وجل، لا يعتقدون أن هناك من يخلق أو يرزق مع الله، ولكنهم مشركون في العبادة يعبدون معه غيره. نعم.

    [ ثانياً: إيقاظ ضمائر المشركين بتنبيههم بنعم الله تعالى عليهم؛ لعلهم يشكرون ]. إيقاظ الغافلين من المشركين، في مكة بهذه الآيات، لعلهم يذكرون ويشكرون؛ فالآيات نزلت لإيقاظهم وتنبيههم وتحريكهم؛ حتى يتوبوا ويرجعوا، نعم.

    [ ثالثاً: لا ظلم أعظم من ظلم من افترى على الله الكذب ] قطعاً [ وكذب بالحق لما جاءه، وانتهى إليه وعرفه فانصرف عنه مؤثراً دنياه متبعاً لهواه ]. لا ظلم أفظع ولا أعظم من الشرك والكفر بالله وبرسوله ولقاء الله عز وجل.

    [ رابعاً: بشرى الله لمن جاهد المشركين وجاهد نفسه والهوى والشياطين بالهداية إلى سبيل الفوز ] الحمد لله [ والنجاة في الحياة الدنيا والآخرة ]. هذه البشرى لكم جميعاً إن شاء الله يا من جاهدتم في سبيل الله أنفسكم ودنياكم.

    [ خامساً: فضل الإحسان وهو إخلاص العبادة لله تعالى وأداؤها متقنة مجودة كما شرعها الله تعالى، وبيان هذا الفضل للإحسان بكون الله تعالى مع المحسنين بنصرهم وتأييدهم والإنعام عليهم وإكرامهم في جواره الكريم ].

    هذه فضيلة الإحسان.. ما فوقها فضيلة، حسبك أن يكون الله معك، أما قال: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]؟

    بلى. فجود وحسن عبادتك وذكرك وطاعتك لله، يكون الله معك، ومن كان الله معه فلن يخذل ولن ينهزم ولن ينكسر في الدنيا ولن يشقى في الآخرة.

    اللهم اجعلنا ممن أنت معهم يا رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956265