إسلام ويب

مختصر التحرير [44]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يقابل خطاب التكليف الخطاب الوضعي، وهو ما يستفاد من نصب الشارع علماً معرفاً لحكمه، ولا يشترط له تكليف ولا قدرة ولا كسب ولا علم، إلا في سبب عقوبة أو نقل ملك. ومن أحكام الوضع العلة، وهي ما أوجب حكماً شرعياً لا محالة.

    1.   

    خطاب الوضع

    تعريف خطاب الوضع

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    سبق لنا أن خطاب الشرع نوعان: خطاب تكليف، وخطاب وضع.

    خطاب التكليف هو الذي يقتضي الأحكام الخمسة السابقة، وهي الواجب، المباح، المحرم، المكروه، والمندوب.

    هذا يسميه العلماء حكماً تكليفياً؛ لأنه يخاطب به المكلف، فيؤمر وينهى ويرخص له، أما خطاب الوضع فليس للمكلف فيه فعل ولا عمل، بل هو من وضع الله عز وجل، وضع أشياء وعلامات تثبت الشيء أو تنفيه؛ ولهذا قال: [خطاب الوضع: خبر استفيد من نصب الشارع علمًا معرفًا لحكمه].

    (خبر): يعني: بأن نقول: هذا سبب، هذا علة، هذا مانع، فهذا خبر بإزاء قولنا هذا واجب، وهذا حرام، إذا قلنا: هذا واجب وهذا حرام نسميه حكماً تكليفياً، وإذا قلنا: هذا سبب، هذا علة، هذا شرط، هذا مانع، فهذا نسميه خطاباً وضعياً.

    فيقول المؤلف: (خبر) يعني: يصدر منا نحن، (استفيد) يعني: استفدناه (من نصب الشارع علمًا) يعني: دليلاً، وهي مفعول نصب الذي هو مصدر، (معرفًا لحكمه) يعني: يعطينا معرفة لحكم هذا الشيء.

    فالسبب الذي هو ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، من الذي وضع هذا السبب لوجوب الزكاة؟ الشارع، هذا السبب علم يعني: كالعلم، كالدليل، كالجبل يعرف لنا حكماً، وهو وجوب الزكاة عند وجود السبب الذي هو النصاب.

    المانع خبر استفدناه من نصب الشارع علماً معرفاً لحكمه، يعني: أنه إذا وجد مانع انتفى الحكم.

    قال: [ولا يشترط له تكليف]؛ لأنه من وضع الله، وليس من فعل البشر حتى نقول: لا بد أن يكون المخاطب به مكلفاً، فكون ملك النصاب سبباً لوجوب الزكاة ليس للمكلف فيه دخل أي: ليس المكلف هو الذي عمل أن يكون هذا سبباً.

    وتمام الحول شرط في وجوب الزكاة، وليس من فعل المكلف؛ فلهذا لا يشترط له تكليف.

    قد تقول: كيف لا يشترط له تكليف؟ أليس لا يجب الشيء إلا على مكلف؟

    والجواب: نعم، لكن سبب الوجوب ليس من فعل المكلف، فمثلاً: زوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر، وليس زوال الشمس من فعلك حتى تكلف به، وإذا لم تكلف بالشيء فلا يشترط له تكليف.

    قال: [ولا كسب]، يعني: ولا يشترط أن يكون من كسب الإنسان، أي: من فعله، بل ولا يلزم، بل قد يكون ليس من فعله جزماً، صحيح أن الإنسان قد يتجر فيكسب مالاً يبلغ النصاب، فيكون المكلف سبباً لوجود السبب، لكن لا نلزمه أن يتجر لأجل أن تجب عليه الزكاة.

    قال: [ولا يشترط له علم، ولا قدرة]: وسبب ذلك أنه ليس من فعل الإنسان حتى نشترط له العلم، فزوال الشمس ليس من قدرتنا ولا من علمنا، فهي تدور والإنسان لا يعلم، وتدور والإنسان غير قادر على منعها ولا على زوالها، فالمهم أن خطاب الوضع لا دخل للإنسان فيه، ولا صنع له فيه، بل هو من وضع الله عز وجل يجعله سبباً يتبين به الحكم.

    ثم قال: [إلا سبب عقوبة أو نقل ملك]، سبب العقوبة هذا للإنسان فيه دخل، كالجلد، أي: جلد المائة للإنسان فيه ترك، وهو الزنا، هذا مثلاً المكلف، فإذا قيل: ما سبب عقوبة هذا الشخص بمائة جلدة وتغريب عام؟ يقال: الزنا، والزنا من فعل الإنسان.

    لكن سبب وجوب صلاة المغرب غروب الشمس، وليس هو من فعل المكلف.

    إذاً ما كان سبب عقوبة فهو ينسب للإنسان، كالزنا، والسرقة، والقذف، لكن زوال الشمس ليس من فعل الإنسان، وبلوغ الإنسان ليس من فعله، وهو أن يتم خمسة عشرة سنة سواءً رضي أم لا، لو أن رجلاً بلغ خمس عشرة سنة وخاف من إلزامه بالشرائع وقال: أنا ليس لي إلا ثلاث عشرة سنة، فهل يمكنه هذا؟

    الجواب: لا يمكنه؛ لأن هذا من غير فعله.

    وكذلك نقل الملك، فمثلاً: ما سبب نقل ملك هذا الشيء من زيد إلى عمرو؟

    الجواب: سببه البيع. والبيع من فعل المكلف، ومع ذلك جعل الله البيع سبباً لانتقال الملك، لكن الإرث فيه انتقال للملك وليس من فعل الإنسان. إذاً قول المؤلف: (أو ملك) ليس على إطلاقه، فقد يكون انتقال الملك بسبب لا أثر للإنسان فيه.

    ولكن لقائل أن يقول: المؤلف لم يقل: (وانتقال الملك)، بل قال: (نقل ملك)، وفرق بين نقل وانتقال، فالإرث فيه انتقال، والبيع نقل.

    يعني يمكن أن يدافع عن المؤلف فيقال: إن المؤلف رحمه الله لم يقل: (أو انتقال ملك) حتى نقول: إن هذا يدخل فيه الإرث، بل قال: (أو نقل ملك)، والنقل لا يكون إلا باختيار، وإذا كان باختيار فهو من فعل المكلف.

    أقسام خطاب الوضع

    ثم قال: [وأقسامه] أي: أقسام خطاب الوضع أربعة: [علة، وسبب، وشرط، ومانع]، هذه أحكام وضعية أربعة أضفها إلى الأحكام التكليفية السابقة الخمسة يكون الجميع تسعة، خمسة منها تكليفية، وأربعة وضعية.

    1.   

    العلة

    تعريف العلة لغة

    يقول: [أصلاً: عرض موجب لخروج البدن الحيواني عن الاعتدال الطبيعي].

    يعني: العلة في الأصل هي المرض، يقال: اعتل فلان، أي: مرض، ولو قال المؤلف رحمه الله: العلة في الأصل هي المرض، لكان أوضح وأخصر، لكن هذا من جملة ما يأتي به المناطقة من الكلام المزين المزخرف.

    فقوله: (عرض) يعني: ليس ذاتياً؛ لأن المرض طارئ. (موجب لخروج البدن) يعني: أنه إذا وجدت العلة أوجبت أن يخرج البدن الحيواني عن الاعتدال الطبيعي، بأن تغلب عليه الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، فيختل، وهم رحمهم الله ذكروا هذه الطبائع الأربع، مع أنه ربما يكون هناك طبائع أخرى لم تدرك في الطب السابق وأدركت في الطب الحديث، المهم متى خرج الإنسان عن الاعتدال الطبيعي فإنه يسمى معتلاً ومعلولاً وبه علة وما أشبه ذلك.

    وإذا اصفرت الشجرة، هل نقول: هذا الاصفرار علة؟ كلام المؤلف يدل على أنه لا يقال؛ لأنه يقول: (البدن الحيواني)، فلا نقول للشجرة إذا اصفرت: إن فيها علة، لكن قال بعض العلماء: بل نقول؛ لأن علة كل شيء بحسبه، وكما أننا نسمي الشجرة الخضراء حية، وإذا يبست سميناها ميتة، فإذا اصفرت سميناها مريضة، ولا سيما في الوقت الحاضر، الآن الشجر لها أطباء وصيادلة وأدوية.

    على كل حال أقول: إنه لا مانع من أن نقول: إن اصفرار الأشجار يكون علة لها ومرضاً، ومرض كل شيء بحسبه، هذا في الأصل.

    قال: [ثم استعيرت عقلًا لما أوجب حكمًا عقليا لذاته ككسر لانكسار].

    استعيرت: يعني استعارها الناس، أي أخذوها من أصلها الذي هو اعتلال البدن إلى ما أوجب حكماً عقلياً لذاته مثل: الكسر للانكسار، لو قال إنسان: لماذا انكسرت هذه الزجاجة؟

    فالكسر سبب للانكسار، يقولون: انكسرت هذه الزجاجة؛ لأنك كسرتها، فالكسر علة عقلية موجبة للانكسار، لكن الحرق هل هو علة في الاحتراق؟

    نقول: نعم، الحرق علة للاحتراق، يعني: لا حصر بالمثال الذي ذكره المؤلف، فالحاصل أن ما أوجب شيئاً عقلياً لذاته فهو علة عقلية.

    والأثر علته المؤثر، ما من مؤثر إلا وله أثر، والله أعلم.

    تعريف العلة شرعاً

    ثم قال المؤلف: [ثم شرعًا لما أوجب حكمًا شرعيا لا محالة] يعني: تطلق العلة في الشرع على كل شيء أوجب حكماً شرعياً.

    وقوله: (لا محالة) يعني: ولا بد.

    قال: [وهو المركب من مقتضيه، وشرطه، ومحله، وأهله، ولمقتضيه وإن تخلف لمانع أو فوات شرط].

    يعني: أن العلة إما أن تكون كاملة بحيث تتم الشروط للمحل والمقتضي والشرط والأهل، فالمقتضي خطاب الشرع، يعني أول شيء نبحث عنه المقتضي، هل دل الشرع مثلاً على وجوب الصلاة، هذا هو المقتضي.

    الثاني: الشرط، وشرطها هو التكليف، أي: أن يكون بالغاً عاقلاً.

    الثالث: محله: أن يكون قابلاً كالنصاب في الزكاة.

    الرابع: أهله: أن يكون مسلماً مثلاً.

    فإذا وجدت الشرائط كلها سمي هذا علة؛ لأن هذا يوجب الحكم لا محالة.

    وقد تطلق العلة على مقتضي الحكم وإن تخلف الحكم لمانع، كالقرابة في الإرث علة للإرث، لكن هل هي موجب للإرث لا محالة؟ لا؛ لأنه قد يوجد بعض الموانع كالقتل، فالقتل مانع من الإرث وإن كان الإنسان قريباً؛ ولهذا قال: (وإن تخلف لمانع أو فوات شرط).

    قلنا مثلاً: القرابة علة للإرث، يتخلف الإرث لوجود مانع، أو لفوات شرط، ومن الشروط مثلاً العلم بالجهة المقتضية للإرث، ومن الشروط أيضاً: أن نتحقق حياة الوارث بعد موت المورث، فنقول: مثلاً القرابة علة للإرث وإن كان القريب قاتلاً، أو كان مجهول الاتصال بمورثه، فصارت العلة شرعاً تطلق على ما أوجب الحكم لتمام الشروط وانتفاء الموانع، وتطلق على ما أوجب الحكم وإن تخلف الحكم لوجود مانع.

    إذاً العلة في الشرع تطلق على معنيين:

    المعنى الأول: على كل ما أوجب الحكم، وتمت فيه الشروط، وانتفت فيه الموانع.

    والثاني: على ما أوجب الحكم الذي هو المقتضي، وإن تخلف الحكم لوجود مانع أو فوات الشرط.

    فمثلاً الصلاة: وجوب الصلوات الخمس إذا تمت الشروط وانتفت الموانع، بحيث كان الإنسان بالغاً عاقلاً مسلماً ودخل الوقت، وأتى بجميع الشروط نقول: هذه علة تامة توجب الحكم.

    الثاني مما تطلق عليه العلة شرعاً: على ما يقتضي الحكم وإن تخلف الحكم، مثل: القرابة سبب للإرث، لكن قد يتخلف الإرث إما لوجود مانع كالقتل، وإما لفوات شرط كالعلم بحياة الوارث بعد موت المورث، وهكذا.

    إطلاق العلة على الحكمة

    ثم قال: [وللحكمة وهي المعنى المناسب الذي ينشأ عنه الحكم].

    الحكمة هي المعنى المناسب للحكم، ويسمى علة، ودائماً نحن نعبر فنقول: علة ذلك كذا وكذا، أي: حكمته، ونقول: اللام للتعليل، ونستدل بلام التعليل على ثبوت الحكمة لله عز وجل.

    قال: [كمشقة سفر لقصر وفطر ودين وأبوة لمنع زكاة وقصاص].

    أي: مثلاً: السفر يباح فيه القصر والفطر، والعلة الموجبة للحكم أو المقتضية للحكم هي الدليل، أما الحكمة فهي المشقة، من أجل دفع المشقة عن المكلف رخص الله في الفطر وفي القصر للمسافر.

    كذلك أيضاً (دين وأبوة لمنع زكاة وقصاص)، يعني: إذا كان على الإنسان دين فإنه لا زكاة عليه مع أن النصوص توجب الزكاة، قال: لوجود مانع، وهو الدين، وما الحكمة في أن الدين يمنع الزكاة؟ يقول: الحكمة: لأن المقصود بالزكاة المواساة، والمدين لا يتأهلل للمواساة؛ لأنه هو نفسه بحاجة إلى أن يواسىى، فرجل عليه مائة ألف ريال وبيده مائة ألف ريال، حقيقة الأمر أن المائة ألف ريال التي بيده مستحقة لغيره؛ لأن ذمته مشغولة بها، فلا يستحق أن تجب عليه الزكاة؛ لأنه هو نفسه محتاج إلى المواساة.

    وهذا أحد الأقوال في المسألة: أن الدين مانع من وجوب الزكاة، سواء في الأموال الظاهرة كالثمار والزروع والمواشي، أو الباطنة كزكاة الذهب والفضة وعروض التجارة، وهو المذهب، وعلى هذا فمن عليه دين فإنه يسقط مقدار الدين لا يخرج منه زكاته، ولكن هناك قول آخر يمنع من هذا، ويقول: إن الدين واجب في المال لكونه مالاً، بقطع النظر عن المواساة وعدمه، وعلى هذا فالدين لا يمنع الزكاة مطلقاً.

    والقول الثالث قول فيه تفصيل: الأموال الظاهرة لا يؤثر فيها الدين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لأخذ الزكاة من الأموال الظاهرة، ولا يسأل أهل الأموال: هل عليهم دين أم لا، وهذا يدل على أنه لا فرق بين المدين وغيره، إذ لو كان هناك فرق لاستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ ولأن الأموال الظاهرة تتعلق بها أطماع الفقراء، فإذا لم يعطوا من الزكاة بحجة أن عليه ديناً صار في هذا شيء من حمل العداوة والبغضاء على الأغنياء

    ثم إن الدين باطن ليس بظاهر، وهذه الأموال ظاهرة، ولا يمكن أن نلغي ما يجب في الأموال الظاهرة بأمر باطن قد يكون الإنسان فيه كاذباً، وقد يتواطأ مع شخص فيقول: ادع علي ديناً وأنا سأقر لك به، من أجل ألا تؤخذ الزكاة منه.

    أما الأموال الباطنة فإن الدين يمنع من وجوبها كالذهب والفضة وعروض التجارة؛ لأن الزكاة وجبت مواساة، وهذه أموال باطنة لا يعلم بها، وإخراج الزكاة أيضاً أمر باطن لا يعلم به، وعلى هذا فلا تجب الزكاة في الأموال الباطنة لمن عليه دين بخلاف الأموال الظاهرة.

    والراجح الوجوب مطلقاً.

    وأما قوله: (وقصاص لأبوة)، فيقولون: إن الرجل إذا قتل ابنه فإنه لا يقتص منه، والحكمة: أن أباه كان سبباً لوجوده، فلا ينبغي أن يكون هو سبباً لعدمه.

    واستدلوا أيضاً بحديث: (لا يقتل والد بولده)، ولكن الصحيح خلاف ذلك، وأننا إذا علمنا أن الأب متعمد لقتل ابنه عمداً لا إشكال فيه فإنه يثبت القصاص، وتعليلهم بأن الأب سبب لوجود الابن، فنقول: إن الابن لم يكن سبباً في إعدامه، بل السبب في إعدامه هو نفسه، فهو الذي قتل فكان سبباً في إعدام نفسه، ثم إن الآيات والأحاديث الدالة على القصاص عامة ليس فيها تفصيل، فوجب الأخذ بالعموم.

    أقسام العلة العقلية

    قال في الشرح: [ثم] استعيرت العلة [شرعاً] أي من التصرف العقلي إلى التصرف الشرعي، فجعلت فيه لمعان ثلاثة، أحدها: [ما أوجب حكماً شرعياً] أي ما وجد عنده الحكم [لا محالة] أي قطعاً، [وهو] المجموع [المركب من مقتضيه] أي مقتضي الحكم، [وشرطه ومحله وأهله] تشبيهاً بأجزاء العلة العقلية، وذلك لأن المتكلمين وغيرهم قالوا: كل حادث لا بد له من علة، ولكن العلة إما مادية كالفضة للخاتم والخشب للسرير، أو صورية كاستدارة الخاتم وتربيع السرير، أو فاعلية كالصانع والنجار، أو غائية كالتحلي بالخاتم والنوم على السرير].

    العلة المادية ما يتكون منه الشيء، يعني: مادة الشيء، مثل: الفضة للخاتم، يعني لولا الفضة ما كان خاتم، والخشب للسرير، حتى عندنا الآن نقول: مواد البناء، أي الذي يتكون منها البناء، هذه تسمى علة مادية، يعني: ما يتكون منه الشيء.

    والعلة الصورية يعني: هيئته وشكله، الخاتم مستدير، لا يمكن أن يصير خاتم حتى يكون مستديراً، والسرير مربع، ولا يكون سرير إلا إذا كان مربعاً، وهذا في الغالب.

    والعلة الفاعلية: هو الذي أحدث هذا الشيء، كصانع الخاتم وناجر السرير، فالسرير لا يمكن أن يكون سريراً إلا بمن ينجره، والخاتم لا يكون إلا بصائغ يحول الفضة إلى خاتم، ولهذا عند الفلاسفة: أن الله هو العلة الفاعلة، وقد مر علينا أن هذا من باب الإلحاد في أسماء الله أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، كتسمية الفلاسفة له علة فاعلة.

    والعلة الغائية: أن ننظر ما الغاية من هذا الخاتم؟ التزين به، والتحلي به، لولا هذه الغاية لما صنع الخاتم، ومثله الجلوس أو النوم على السرير، أنا لولا أني أريد أن أنتفع بهذا السرير بجلوس أو نوم ما صنعته.

    فكل عين موجودة لا بد فيها من هذه الأمور الأربعة، والغالب أن العلة الغائية تكون أيضاً علة باعثة، يعني: هي التي تبعث على الفعل، وقد تكون العلة موجبة وباعثة وليست غاية، كالكسر في الانكسار، إنسان معه فنجان انكسر، هذه علة فاعلة ولكنها ليست غائية، لأن كل إنسان لا يحب أن نكسر فنجانه.

    وأقول: تقدم لنا أن العلة يراد بها أيضاً الحكمة، وهي المعنى المناسب للحكم، لكن ينبغي بالنسبة للشرع ألا نسميه علة، بل نسميه حكمة، فنقول: شرع الله كذا، والحكمة كذا وكذا، ولا نقول: والعلة، لكن مع ذلك لو عبرنا وقلنا: العلة صح، ولكن الأفضل حين يضاف إلى الله أن نسميه حكمة، ومثل المؤلف بالمشقة للقصر في السفر، وكذلك أيضاً الدين لإسقاط الزكاة، وأبوة لمنع القصاص، فالأبوة على المشهور عند عامة أهل العلم تمنع القصاص، وقد سبق أنهم عللوا بأن الأب سبب في وجود الابن، فلا ينبغي أن يكون الابن سبباً في إعدامه، وقلنا: إن هذه العلة معلولة بأن الولد ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل السبب هو الأب؛ لأنه هو الذي اعتدى وقتل النفس، فكان من العدل أن نقتص منه، وهذا القول هو الصحيح، لكن بشرط أن نتيقن أن الأب قد تعمد؛ لأن تعمد الوالد لقتل ابنه بعيد جداً، فلا بد أن نتحقق تحققاً كاملاً بأن الوالد قصد قتل ابنه، فالصحيح: أنه إذا قتله عمداً عدواناً لا شبهة فيه فإنه يقتص منه؛ لعموم الآيات الدالة على وجوب القصاص، بل والأحاديث الدالة على وجوب القصاص من غير استثناء.

    1.   

    السبب الشرعي

    ثم قال: [والسبب لغةً ما توصل به إلى غيره].

    ومنه قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15]، ومنه سمي الرشاء سبباً؛ لأنه يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر.

    يقول المؤلف: [وشرعًا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته].

    أما قوله: (ما يلزم من وجوده الوجود) فهذا وصف خرج به الشرط والمانع؛ لأن المانع يلزم من وجوده العدم، والشرط لا يلزم من وجوده الوجود، أما السبب فيلزم من وجود الوجود.

    وقول المؤلف: (ومن عدمه العدم)، يعني: يلزم من عدمه العدم.

    وقوله: (لذاته) أي: لا لغيره؛ لأن الشرط قد يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ولكن لغيره، مثاله: رجل أراد أن يصلي، واستكمل جميع الشروط إلا الوضوء، ثم توضأ، فهنا لزم من وجود الوضوء وجود صحة الصلاة، لكن لا للوضوء، بل لغيره؛ لأنه لإكمال الشروط، فصار هذا الشرط متمماً فصح الحكم بسببه، لا لأنه سبب يصحح ولكن لأنه شرط تمت به الشروط فصح.

    أما السبب فإنه يوجد الشيء بوجوده لذات السبب، ومثاله: دخول الوقت للصلاة، فإنه سبب للوجود وشرط للصحة، يعني مع أن دخول الوقت جامع بين السببية والشرطية، فهو سبب لوجوب الصلاة، وشرط لصحتها.

    قال: [ فيوجد الحكم عنده لا به].

    بخلاف العلة فإن الحكم يوجد بها، لا عندها، فيفرقون بين السبب وبين العلة، والصحيح: أن العلة التي يراد بها السبب لا فرق بينها وبين السبب، وكلاهما يوجد الحكم به لا عنده، فمثلاً زوال الشمس وجد به وجوب صلاة الظهر، هم يقولون: لم يوجب صلاة الظهر، وإنما جعل الزوال علامة على الوجوب، فحصل الوجوب عنده لا به.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756827642