إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الظهار [6]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أوجب الله سبحانه وتعالى عقوبات وكفارات لمن اجترأ على حدوده، ومن تلك الكفارات كفارة الظهار المغلظة، وقد بين ربنا تبارك وتعالى في محكم التنزيل ترتيب تلك الكفارات، فشرع بدايةً في عتق الرقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً. وقد تدارس العلماء أحكام تلك الكفارات وأنواعها، ووضحوا كثيراً من الأمور التي يحتاجها الناس في أداء الكفارات، ومن ذلك: اشتراط التتابع في الصيام، وذكر الأمور والأعذار التي لا توجب استئناف الصيام بل رخص فيها الشارع، وحكم تبييت النية للصيام، وحكم مجامعة الزوجة المظاهر منها ليلاً، وذكر الأمور المنبغي مراعاتها في كفارة الإطعام والمجزئ في ذلك.

    1.   

    اشتراط التتابع في كفارة الصيام لشهرين متتابعين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: يجب التتابع في الصوم ]

    يبدأ المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الخصلة الثانية من خصال كفارة الظهار، وهي التي أوجبها الله عز وجل على من عجز عن إعتاق الرقبة، وهذه الخصلة هي صيام شهرين متتابعين، ولهذا الصوم أحكام، لذا قال رحمه الله: [فصلٌ: يجب التتابع].

    فمن أحكام هذا الصوم: أنه يجب على المكفِّر أن يصوم شهرين متتابعين، والتتابع المراد به الموالاة، فلا يفصل بين صوم يوم وآخر بالفطر، فلو أفطر يوماً ولو قبل تمام الشهرين بيسير؛ فإنه ينقض التتابع إلا إذا كان معذوراً شرعاً بذلك القطع، والدليل على ذلك قوله تعالى: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، فنص الله تبارك وتعالى على التتابع، والتتابع هو الولاء دون وجود فاصل، فلما قال: شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أي: أنه تتتابع أيام الشهرين دون وجود فطر بينها، فإذا وجد الفطر فله حالات: الحالة الأولى: أن يكون معذوراً فلا يقطع.

    الحالة الثانية: ألَّا يكون معذوراً فيوجب القطع واستئناف صيام الشهرين متتابعين.

    وقد بين الله تعالى أنه يجب على المكفر أن يصوم شهرين دون أن يسمي شهوراً معينة، ولذلك يجوز له أن يصوم الشهرين ولو كان في زمان اليسر، وزمان اليسر مثل أيام البرد، فإنه يطول ليلها ويقصر نهارها، فيسهل صيامها، ومن هنا نص طائفة من العلماء على أنه لو تحرى أيام البرد وصامها؛ فإن صيامه صحيح؛ لأن الله أطلق الشهرين، فكل من صام شهرين متتابعين؛ فقد أدى ما أوجب الله عليه.

    كذلك لو قطع هذين الشهرين المتتابعين صومُ رمضان، فلو ابتدأ الصوم بشهر شعبان ثم صام رمضان ثم أفطر يوم العيد بأمر الله عز وجل، ثم صام بعده فإنه لا يقطع التتابع، ويصدق عليه أنه قد صام شهرين متتابعين، وسيبين رحمه الله الأمور التي يعذر فيها الصائم، فلو تخلل صيامه فطر لأسباب شرعية؛ فإن صومه صحيح ويجزئه، ولا يُلزم باستئنافه من جديد.

    1.   

    الأعذار التي لا تؤثر في قطع صيام الشهرين المتتابعين

    قال رحمه الله: [ فإن تخلله رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام تشريق وحيض وجنون ومرض مخوف ونحوه، أو أفطر ناسياً أو مكرهاً أو لعذر يبيح الفطر؛ لم ينقطع ].

    يلاحظ أن الله تعالى أطلق الشهرين، ومن هنا لا يخلو الصائم للشهرين من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يصوم من ابتداء الشهر، فإذا صام من ابتداء الشهر؛ فإنه إذا تبين أن الشهر ناقص فصومه تام، فلو مثلاً صام المحرم وصفراً، وكان المحرم تسعة وعشرين يوماً، فإنه يحكم بصحة صومه وإجزائه؛ لأنه صام شهرين متتابعين.

    الحالة الثانية: أن يصوم ستين يوماً إذا كان صومه أثناء الشهر، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم فإنه يتم ستين يوماً تامةً كاملة، وقال بعض العلماء: إنه لو ابتدأ في العاشر من محرم اعتد بالعاشر في الشهر الذي يتم فيه الشهرين، فحينئذٍ من العاشر محرم إلى العاشر من صفر شهر، ومن العاشر من صفر إلى العاشر من ربيع الأول شهر، فلو كان شهر محرم ناقصاً وصفر ناقصاً؛ فإنه سيصوم ثمانية وخمسين يوماً، فيعتد الابتداء.

    ولكن هذا المذهب محل نظر، والصحيح: أنه إذا ابتدأ من بداية الشهر أجزأه الشهر ناقصاً وكاملاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة)، والمراد بهذا أن الشهر إذا كان تسعاً وعشرين، فإن الله يكتب للصائم أجر الثلاثين، وقال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)، فعقد ثلاثين في المرة الأولى، وخنس الإبهام في المرة الثانية، أي: يكون تسعة وعشرين وثلاثين، لكن نعتبر الشهر تسعة وعشرين إذا ثبت في الهلال أنه ناقص؛ لكن إذا ابتدأ أثناء الشهر؛ فإننا نلزمه بستين يوماً، فالأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً.

    وبناءً على ذلك تقول: من صام شهرين متتابعين في كفارة الظهار أو القتل أو غيرها من الكفارات كالجماع في نهار رمضان، فإن ابتدأ من ابتداء الشهر، اعتد به ناقصاً أو كاملاً، وإن ابتدأ أثناء الشهر أتم ستين يوماً ولو كان الشهران أو الثلاثة فيها نقص.

    صوم رمضان لا يقطع تتابع الكفارة

    قوله: (فإن تخلله رمضان) يعني ابتدأ الصوم في شعبان وأتم شهراً أو أتم بعض الشهر فدخل عليه رمضان، فرمضان لا يقطع التتابع، فيصوم رمضان، ولكن إذا جاء يوم العيد ففيه ثلاثة أوجه للعلماء:

    الوجه الأول: من أهل العلم من قال: يصوم يوم العيد ولا يفطر.

    الوجه الثاني: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ولا يقطع تتابعه.

    الوجه الثالث: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ويقطع التتابع.

    والصحيح: أنه إذا ابتدأ بما قبل رمضان ثم صام؛ فإنه يفطر يوم العيد، ولا يقطع فطر يوم العيد التتابع؛ لأنه مأمور بفطره، وهذا الوجه هو المعتبر: أعني أن فطر يوم العيد مأمور به شرعاً، فقد ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (أنه خطب الناس على المنبر، وبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى)؛ لأنهما يوم ضيافة من الله عز وجل.

    فالرخصة لمن ابتدأ الصوم وجاءه هذان اليومان أن يفطر، ولا يقطع ذلك التتابع حتى في صيام الكفارات الأخر، ككفارة اليمين على الصحيح أنه يصوم الثلاثة الأيام متتابعة، فلو أنه صام قبل يوم العيد في التاسع الذي هو يوم عرفة ناوياً به الكفارة؛ فإنه يفطر يوم العيد -يوم النحر- ثم يصوم الحادي عشر والثاني عشر؛ لأنه يجوز صيام أيام التشريق لغير الحاج.

    الفطر الواجب لا يقطع تتابع الكفارة

    قوله: [أو فطر يجب كعيد].

    أي: أو تخلله فطر يجب، صورة المسألة: أن يصوم شهرين متتابعين، ثم يجب عليه أن يفطر مثل ما ذكرنا لدخول يوم عيد؛ لأن يوم العيد يجب الفطر فيه، إذاً تلاحظ أن صوم رمضان صوم يجب لشهر، ويوم العيد فطر يجب ليوم عيد الأضحى ويوم عيد الفطر.

    قوله: [ وأيام تشريق ].

    أيام التشريق اختلف في صومها، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الصيام، وأن من العلماء من منع من صوم أيام التشريق، والحقيقة أنه لا إشكال أن الحجاج لا يصومون أيام التشريق؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (أيام منى أيام أكلٍ وشرب وبعال)، فبين عليه الصلاة والسلام أنها أيام فطر، وهذا الأصل فيه أن يكون للحاج، لكن بعض العلماء ألحق غير الحاج بالحاج، فجعلها أيام ضيافة لعموم الأمة توسعة من الله عز وجل على العباد.

    فمن قال بالخصوص منع من صومها للحاج، ومن قال بالعموم منع من صومها مطلقاً، سواء كان حاجاً أو غير حاج، والأشبه والأصل الذي يقتضي أنها خاصة بالحاج.

    ومما يدل على أنها خاصة بالحاج، قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام أكل وشرب وبعال)، لأن الحاج كان ممنوعاً من جماع أهله، أما الحلال فلا يقال له: (أيام أكل وشرب وبعال)، لأنه لما نص على البعال دلّ على التحلل الأكبر الذي يحصل بطواف الإفاضة، فنبه أنهم لما طافوا طواف الإفاضة يوم النحر حل لهم النساء، وحل لهم كل شيء، فهم فيها في ضيافة الله عز وجل.

    قوله: [ وحيض ].

    فلو أن امرأةً وجب عليها أن تصوم شهرين متتابعين، كفارة قتل أو جماع في نهار رمضان حيث كانت مطاوعة -كما تقدم معنا- فصامت ثم جاءها الحيض، فإن جاءها الحيض لم يقطع تتابعها، بحيث لو كانت عادتها ثمانية أيام فصامت شهر محرم، وجاءت الثمانية الأيام أثناء محرم؛ فإنها تفطر أيام الحيض فقط، ثم بعد ذلك تصوم من بعدها؛ لأنه لا يتيسر من المرأة أن تصوم الشهرين المتتابعين، إلا بتخلل للعادة؛ لأن الله جعل للمرأة أن تحيض في كل شهر مرة كما تقدم معنا في كتاب الحيض.

    قوله: [ وجنون ].

    لو أنه وجبت عليه كفارة فعجز عن الرقبة، فصام شهرين متتابعين، فابتدأ في محرم فصامه، ثم جُنّ ثم أفاق في ربيع، فحينئذٍ يبني على صومه السابق، وهو حال جنونه ساقط عنه التكليف، ثم إذا رجع له التكليف؛ يرجع مخاطباً بالأصل من إتمام العدة التي أوجب الله عليه، فيصوم ما بقي.

    1.   

    ذكر المرض الذي لا يقطع التتابع في صوم الكفارة

    قوله: [ ومرض مخوف ].

    إذا كان الصائم للشهرين المتتابعين مريضاً مرضاً مخوفاً، يخشى لو أنه لو صام لهلك، وقال الأطباء: لا بد أن يفطر؛ فأفطر أياماً، وبعدها رجعت له صحته، فهذه الأيام التي أفطرها لعذر المرض المخوف لا تقطع التتابع، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وتقدم معنا ما هو المرض المخوف، وبينا هذا في أحكام عطية المريض مرض الموت، فإذا قرر الأطباء ذلك وهم الأطباء الذين عندهم خبرة ومعرفة وهم الذين يرجع إليهم في هذا الأمر، وقد بينا أن علماء وفقهاء الإسلام رحمهم الله، يقولون: يسأل كل أهل علمٍ عن علمهم، فإذا كان الأمر يتعلق بالمرض؛ رجعنا إلى الأطباء؛ لأنهم أعلم بأمور الصحة لتعليم الله لهم، فنسألهم: هل هذا المرض مخوف أم لا؟ كأن يكون صام شهراً ثم أصابه مرض، فإذا قال الطبيب: لا بد وأن يفطر، لأنه حدث عنده عجزٌ في كليتيه مثلاً، أو على الأقل يفطر عشرة أيام حتى تعود له صحته، فعادت له صحته بعد العشرة فاستأنف، فهذه العشرة الأيام التي قال الأطباء إنه ينبغي عليه فطرها، لا يضر قطعه الإتيان بها؛ لأنه معذور، وبناءً على ذلك: أصبح العذر الشرعي: هو وجود أمرٍ من الشرع بالفطر مثل أيام العيد، أو أمر من الشرع بالصوم مثل رمضان، أو يكون معذوراً شرعاً بجنون أو مأموراً شرعاً بالفطر لسبب يتعلق به كالمريض.

    قوله: [ ونحوه ].

    يعني لمن يعذر؛ فلو كان المرض غير مخوف، بمعنى أن المريض يشق عليه الصوم ولكنه ليس بمرض مخوف، فهل يفطر؟ الجواب: لا؛ لأن المرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام في الصيام: القسم الأول: إذا كان المرض يغلب على الظن أن صاحبه لو صام لمات؛ فهذا يجب عليه أن يفطر، فحينئذٍ تنتقل الرخصة إلى عزيمة؛ لأن الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، والله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فهذه النصوص تدل على حرمة تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والله تعالى جعل الشريعة شريعة رحمة، فلو قلنا له: صم، صارت شريعة عذاب، والله يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، ومعنى (من حرج) إزهاق الأنفس، فإذاً يجب عليه الفطر.

    القسم الثاني: أن يكون المرض لا يسري بالإنسان إلى الهلاك إذا صام ذلك اليوم، ولكن يحدث عنده نوع من الحرج، ويمكنه أن يصبر، فحينئذٍ له أن يفطر فيأخذ برخصة الله، وله أن يصوم فيأخذ بالعزيمة، فإن صام فلا بأس، وإن أفطر فلا حرج، فهنا وجهان مشهوران مفرعان على مسألة الفطر في السفر، أقواهما أنه إذا أصابه حرج، فالأفضل أن يفطر، هذا في السفر وإذا كان صومه في رمضان.

    أما في الكفارة كما هنا: فإذا كان يستطيع أن يصوم ولو بنوع من العناء؛ فيجب عليه أن يتم ما أوجب الله عز وجل؛ لأن مقصود الشرع أن يؤدبه؛ ولذلك جعل الشهرين متتابعين حتى أن الصحيح القوي في صيامه للشهرين المتتابعين يجد المشقة والعناء، زجراً من الله له عن ارتكاب ما يوجب الكفارة مرةً ثانية، وزجراً من الله عز وجل لعبده عن الوقوع فيما نهاه عنه، وزجره عنه لما حرمه، وإلا كانت الكفارات لا تؤدي ولا تحقق مقصود الشرع.

    القسم الثالث: أن يكون مرضاً يسيراً خفيفاً، فهذا مثله لا يعتد به ولا يوجب الرخصة، خلافاً لمن قال من بعض فقهاء الظاهر: إن مطلق المرض يوجب الرخصة.

    والحاصل أنه إذا كان يصوم الكفارات التي يجب فيها التتابع وهو مريض؛ فإننا نسأل الأطباء، فإن قالوا: هذا المرض مرضٌ مخوف ولا يمكن معه الصوم، نقول له: أفطر ولا يقطع فطرك التتابع، وإن كان مرضاً يمكن الصبر معه؛ فإنه يبقى على الأصل من إلزامه بإتمام الصيام.

    1.   

    حكم الفطر بالنسيان والإكراه في صوم الكفارة

    قوله: [ أو أفطر ناسياً].

    كان عليه صيام شهرين متتابعين، وفي يومٍ من الأيام أكل أو شرب يظن أنه غير صائم، فإذا أفطر ناسياً ففيه وجهان:

    الوجه الأول: من العلماء من قال: إن الفطر نسياناً يقطع التتابع.

    الوجه الثاني: ومنهم من قال: لا يقطع التتابع لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نسي فأكل أو شرب وهو صائم؛ فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فهذا نص واضح الدلالة على أن الناسي إذا أكل أو شرب ناسياً لصومه أن ذلك لا يؤثر في الصوم وهذا هو الصحيح، لدلالة السنة عليه.

    قوله: [ أو مكرهاً].

    الإكراه تقدم بيان حقيقته لغة وشرعاً، وبيان شروط الإكراه ومتى يحكم بكون الإنسان مكرهاً، وصورة المسألة: لو كان يصوم شهرين متتابعين ثم في أثنائها هدده شخص، فوضع عليه -مثلاً- السلاح وقال له: إذا لم تفطر فسأقتلك، فمذهب طائفة من العلماء: أنه إذا كان مكرهاً إكراهاً ملجئاً؛ فإنه لا يؤثر في صومه، ومن الإكراه الملجئ أن تربط يداه ثم يوضع الطعام في فمه، أو تربط يداه ويسقى الماء بدون اختيار منه، فإذا فسد اختياره وانعدم رضاه؛ فإنه لا يقطع ذلك تتابع صيام الكفارة.

    1.   

    حكم الترخص في صوم الكفارة بالإفطار برخص الفطر

    قوله: [ أو لعذر يبيح الفطر ].

    هذا فيه نظر، والصحيح الاقتصار على الأعذار التي تقدمت، وهي التي فيها الإلزام أو فيها ما يدل على الرخصة، سواء كان بعذر من الشرع، كأن يرخص الشرع للإنسان فيفطر، أو يوجب عليه الصيام كرمضان، أو يكون عذراً متلبساً به يمنع من صحة صومه كالحائض، فهذه هي الأعذار المؤثرة.

    أما أن يكون العذر سفراً، والسفر عذر من أعذار الفطر، فلو سافر وهو صائم شهرين متتابعين وأراد أن يترخص؛ نقول له: لا رخصة، لأن هناك فرقاً بين عذر الحيض الذي يغلب ولا يقطع التتابع ويهجم على الإنسان بالطبيعة، وبين عذر رمضان الذي هجم على الإنسان بحكم الشرع، وعينه الشرع وألزم به ولا محيد للصائم عنه، فصائم رمضان في السفر يمكنه أن يفطر ويمكنه أن يصوم فهو مخير، فجاء واختار أن يفطر.

    أما في الكفارة هنا فإذا اختار أن يفطر فقد اختار أن يقطع تتابع صومه، فهناك فرق بين رخصة السفر التخييرية وبين الرخصة التي معنا، فإن سافر ومرض في سفره مرضاً؛ أوجب أن يُرخص له؛ لأنه وصل إلى حد الخوف، فهذا ينتقل من رخصة السفر إلى رخصة الفطر بالمرض، وقد بينا أنها لا تقطع التتابع.

    قوله: [لم ينقطع] أي: لم ينقطع التتابع وصومه معتبر ومجزئٌ في الكفارة.

    1.   

    الأمور التي ينبغي مراعاتها في كفارة الإطعام لستين مسكيناً

    قال رحمه الله: [ ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرة فقط ].

    الخصلة الثالثة من خصال الكفارة هي الإطعام، ومسائلها مفرعة على ما تقدم معنا في أحكام الزكاة؛ لأنها صدقة واجبة، فألحقت بالأصل الواجب من الزكوات كالزكاة الواجبة في الأصل وزكاة الفطر.

    قوله: (ويجزئ التكفير) بمعنى أنه يوجب براءة ذمة المكفر، فحد الإجزاء هو الذي يلزم به الشرع، فإذا قام به المكلف فقد برئت ذمته، وخلي من التبعية، وبناءً على ذلك بين رحمه الله أنه يجزئ في كفارة الظهار ما يجزئ في صدقة الفطر، من برٍ وتمر وشعير وزبيب وأقط، ونحو ذلك من الطعام.

    قوله: [لا يجزئ من البر أقل من مد].

    تقدمت معنا هذه المسألة: هل يعتد بنصف الصاع الذي هو مدان أو يعتد بربع الصاع الذي هو مُدّ؟ وتقدم معنا أن هناك ما يسمى بالمد الصغير، الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك ما يسمى بالصاع النبوي، وهناك ما يسمى بالمد الكبير.

    فأما بالنسبة للمد الصغير: وهو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فلو أن شخصاً وسط في الخِلقة أخذ بكفيه تمراً أو بُراً، فإن هذا القدر غالباً يملأ المد، وهذا المد هو الذي كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال موجوداً توارثه الناس جيلاً عن جيل ورعيلاً عن رعيل إلى زماننا هذا؛ ولذلك نص العلماء: أن العبرة في المد والصاع والكيل بمد المدينة وصاعها وكيلها؛ لأنها توارثها الناس أمة بعد أمة، وتوافرت الدواعي على حفظه، والمحافظة عليه، وكان الوالد رحمه الله يحرر الصاع بكبار السن الذين هم من الثقات، وكان هناك رجل من حفظة القرآن كنت أحرر الصاع والمد على يديه -رحمه الله ورحمنا الله جميعاً- فهذا الشيء توارث مثلما توارث الناس أن هذا المكان هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا المكان هو الروضة، وأن هذا المكان هو مسجد قباء، وهذا ما يسمى بنقل الكافة عن الكافة، فما خالف هذا فإنه لا يعتد به؛ لأنه مما توافرت الدواعي لحفظه والمحافظة عليه.

    وقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- للمدينة بمدها وصاعها، وقال: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، وهذا أمر ثبت به النص ولا مجال لرده أو لإنكاره، بل إنه مجرب أنه إذا كيل الشيء بصاع المدينة ومده وضع الله فيه البركة، وقد لمست ذلك ووجدته، والحديث في الصحيحين ولا إشكال فيه.

    فهذا المد يخالف غيره مثل المد الشرقي الذي كان الحنفية رحمهم الله يخالفون فيه الجمهور، فالإمام مالك رحمه الله أخذ بمد المدينة، ولما نازعه محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة قال الإمام مالك : يا فلان، قم فائتني بصاع، ويا فلان! قم فائتني بصاعك، فأمر رجالاً من أهل المدينة أن يأتوا بآصبعهم فأحضروها، فقال كل واحدٍ منهم: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الفطر على زمان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فحزروه وقدروه، فوجدوه موافقاً لتقدير الإمام مالك ، أن الصاع يسع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لهذا: مد، ويقال له: ربع صاع، وبعضهم يعتبره أصغر وأقل المكيلات الموجودة، فهناك من يقول: إن الصاع خمسة أمداد أو يقرب منها، وهذا القول غير محرر؛ لأن المعروف والثابت والذي نص عليه الأئمة والعلماء: أن مد النبي صلى الله عليه وسلم ربع الصاع، وهذا هو الذي عليه العمل عند العلماء والأئمة.

    واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة: هل البر كغيره في الكفارة أم لا، على وجهين:

    الوجه الأول: يقول: إنه يختلف البر عن غيره.

    الوجه الثاني: التسوية بين البر وغيره.

    ثم الذين سوَّوا أو خالفوا منهم من يبتدئ بالربع على الأصل ويقول: ستون مسكيناً الذين يجب إطعامهم في كفارة الظهار، يكون لكل مسكين ربع صاع الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم الصغير، فإذا كان لكل مسكين ربع صاع والكفارة لستين مسكيناً، فمعنى ذلك: أن خمسة عشر صاعاً هي كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ لأن ربع الصاع لمسكين فـ(4 × 15 = 60)، هذا وجه لبعض العلماء رحمهم الله، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في قصة خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بعرق من تمر، فأمر أوساً أن يطعمه أهله، والعرق فسره بعض أئمة السلف كـسعيد بن المسيب رحمه الله وهو إمام المدينة وفقيهها قال: فيه خمسة عشر صاعاً، العرق مثل الزنبيل أو القفة الموجودة في زماننا، والزنابيل الكبيرة هذه لها أسماء: مِكتل، عَرق، فهذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك: أن لكل مسكين ربع صاع.

    وفي رواية أخرى لقصة خولة رضي الله عنها تقتضي أن يكون نصف صاع أي: مدين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعينه بعرق، فقالت هي: وأنا أعينه بعرق ثانٍ) فأصبح المجموع ثلاثين صاعاً؛ لأن عرقاً مع عرق يكون خمسة عشر صاعاً مع خمسة عشر صاعاً فيكون المجموع ثلاثين صاعاً، فهذان وجهان، أقواهما في الحقيقة الربع، وأحوطهما النصف.

    قوله: [ولا من غيره أقل من مُدَّين]

    كما ذكرنا أن العلماء يفرقون بين البر وغيره كالتمر والزبيب والأقط، وبينا هذا في صدقة الفطر، وبينا وجهه.

    قوله: [لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليهم]

    كأن يكون مسكيناً، أو فقيراً، فيعطى ربع صاع أو نصف صاع على التقدير الذي بيناه.

    قوله: [وإن غدَّى المساكين أو عشَّاهم لم يجزئه]

    أي: المعتبر ستون مسكيناً، وإن غدَّى هؤلاء المساكين أو عشَّاهم اختلف العلماء رحمهم الله في الكفارة: هل يجب عليك أن تملِّك المسكين أو يجب عليك الإطعام؟

    والفرق بين القولين: أننا لو قلنا: يجب عليك تمليك المسكين، فمعنى ذلك: أنك تدفع الزكاة إليه، وهو إن شاء طبخها اليوم أو طبخها بعد غد، أو باعها، فهو حرٌ في نفسه؛ لأن الله أمرك أن تدفع هذا القدر له، وهو قدر ما يطعمه، فإن شاء طعمه اليوم، وإن شاء طعمه غداً، وإن شاء أطعمه غيره، فلا تلزمه بشيء، فهذا حق من حقوقه جعله الله عز وجل له.

    ومن أهل العلم من قال: إنه إذا صنع الطعام وأطعمه المسكين فقد أطعمه الطعامٍ معتبر، فيصدق عليه إذا أكل المسكين طعامه أنه قد طعم، والله عز وجل أمره أن يطعم المسكين وقد أطعمه، ولا شك أن الأحوط أنه يعطى المسكين؛ لأن الله يقول: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] فبين أن ما لزم واجباً للمسكين أنه يمكن منه، وقد جاء عن بعض السلف رحمهم الله كـأنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يجمع ثلاثين مسكيناً في آخر يوم من رمضان ويطعمهم صدقة عن فطره في شهر رمضان، هذا فعل لبعض السلف، والأحوط أنه يعطى المسكين الطعام كما ذكرنا.

    1.   

    حكم تبييت النية في صيام الكفارة

    قوله: [ وتجب النية في التكفير من صوم وغيره ].

    وتجب النية في التكفير من صومٍ وغيره، وقد بينا في كتاب الصيام: أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، وذكرنا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن أم المؤمنين بقوله: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له)، فدل على أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، ولأن هذا الصوم وجب كفارة، ولا يمكن أن يكون مبرئاً للذمة إلا بنية وقصد، فوجبت النية.

    1.   

    حكم مجامعة الزوجة ليلاً أثناء فترة صيام الكفارة

    قوله: [ وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع ].

    وإن أصاب المظاهر زوجته نهاراً فلا إشكال لأنه أصبح مفطراً، أو ليلاً فإنه يقطع التتابع، وهكذا لو أفطر في يوم العيد، فجامع زوجته بناءً على أنه مرخص له في الفطر، قطع التتابع، لا من أجل كونه مجامعاً، بل من أجل كون الشرع اشترط أن تكون الكفارة قبل أن يتماسا، وإذا جامعها قبل تمام الكفارة قطع التتابع ووجب عليه أن يستأنف، ولذلك قال تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، فهذا يدل على أنه يجب أن يكون التكفير قبل المسيس، فإن حصل المسيس أثناء الكفارة من صيامه وجب عليه أن يستأنف، لأن ذلك يقطع تتابعه.

    قوله: [ وإن أصاب غيرها ليلاً لم ينقطع ].

    بلا خلاف بين العلماء، فإنه لو عنده زوجتان ظاهر من إحداهما، ثم صام كفارة، فجامع الثانية ليلاً لم يقطع ذلك تتابعه؛ لأنه ممنوع ممن ظاهر منها دون التي لم يظاهر منها.

    1.   

    الأسئلة

    الوقت المناسب لابتداء صيام الكفارة للنفساء

    السؤال: بالنسبة للنفساء إذا كانت عليها كفارة فهل تبني وتستكمل صيامها منذُ انقطاع الدم أم بعد تمام الأربعين يوماً؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد..

    فهذا السؤال مفرع على مسألة الحكم على المرأة بكونها نفساء، فإن طهرت المرأة النفساء -كما تقدم معنا في كتاب النفاس- قبل الأربعين وحُكم بطهرها؛ وجب عليها أن تتم الصوم ولا يجوز لها أن تفطر، فلو أنها نُفِست ثلاثين يوماً ثم رأت علامة الطهر بعد الثلاثين؛ وجب عليها أن تتم ما عليها من صوم، ولا يجوز لها الفطر حينئذ.

    وأما إذا تخلل بحيث تقطع فنفست ثلاثين يوماً فصامت يوماً إتباعاً لما قبله، فبان الدم في اليوم الذي يليه فتفطر، وقد بينا كما في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تمكث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً) وبناءً على ذلك: لا يحكم بكونها منتهية من نفاسها طاهرةً منه إذا تقطع دمها إلا بعد تمام الأربعين كما فصلناه وبيناه في كتاب النفاس، وبناءً على ذلك تقطع وتفطر إذا عاودها الدم قبل تمام أربعين يوماً. والله تعالى أعلم.

    حكم إسرار الإمام بالقراءة في الصلاة الجهرية

    السؤال: إمامٌ أسر بالقراءة في صلاة جهرية ساهياً هل يفتح عليه من المأمومين، وإذا كان قد شرع في قراءة الفاتحة سراً هل يبني جهراً أم يستأنف من بدايتها، وهل يسجد للسهو؟

    الجواب: الجهر بالقراءة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: منهم من يرى وجوبه، ومنهم من يرى سنيته، والذين يقولون بالسنية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صلاته الظهر، بأنه كان يسمعهم الآية أحياناً، فقالوا: هذا يدل على أن الجهر سنة، لكن لو حصل من الإمام هذا، فإنه يسبح له وينبه على ذلك بأنه حاصل منه على سبيل السهو لا على سبيل القصد، وما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان قصداً، فينبه على ذلك ويسبح له، وإذا لم ينتبه فلا بأس بأن يفتح عليه.

    وإذا نبه فإنه يبدأ من الموضع الذي انتهى إليه، كأن يكون قرأ مثلاً آيتين من الفاتحة ثم نبه، فعليه أن يستأنف من الموضع الذي نبه فيه، ولا يرجع إلى الأول؛ لأنه لا يجوز أن يعيد الركن، ولا أن يعيد أجزاء الركن، وقد فعل ما أمر الله به من قراءة الفاتحة ولا تجب عليه قراءة الفاتحة إلا مرة واحدة، ولو قلنا: يرجع من أول الفاتحة فإنه بذلك يكررها، وهكذا لو أنه كان أثناء الفاتحة، فقالوا له: سبحان الله، يقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فيتمها من المكان الذي وصل إليه.

    ولو أتم قراءة الفاتحة فإنه يقرأ السورة التي تلي الفاتحة ولا يكرر قراءة الفاتحة، واختلف العلماء: هل إذا كرر المصلي الفاتحة تبطل صلاته أم لا؟

    قال بعض العلماء: إذا كرر الفاتحة بطلت صلاته؛ لأن الفاتحة ركن، ومن كرر الفاتحة مرتين كان كمن ركع مرتين، فكما أن تكرير الأركان الفعلية يوجب البطلان، كذلك تكرير الأركان القولية موجبٌ للبطلان.

    وعلى الإمام أن يحتاط ويستبرئ لدينه خاصةً إذا كان إماماً، فإنه يحتاط، وأميل إلى أنه يعيد الصلاة وأن تكرار الأركان القولية كتكرار الأركان الفعلية؛ لأن حكمهما في الشرع سواء من حيث الإلزام، فيكون تكرارهما موجباً عند القصد والتعمد لبطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.

    حكم توكيل الدلال للشراء في بيع المزاد

    السؤال: نحن مجموعة نرغب في التجارة في الرطب، ولكن وجدنا في حراج الرطب أمراً لم نعلم حلاله من حرامه، تنزل مجموعة من الرطب فيحرج عليها دلال، فيتزاود الناس من أجل شرائها، وإذا بلغ الزنبيل -مثلاً- تسعين ريالاً؛ يقول الدلّال: سجّله بخمس وتسعين ريالاً لفلان من الناس، فنسأله: أين هو؟ فيقول: هو غائب، ولكنه وكلني، فهل يصح البيع، وهل يجوز أن يوكل المشتري الغائب الدلال على نفس البضاعة لكي يشتريها؟

    الجواب: ليس هناك حرج، والتوكيل جائزٌ شرعاً، إن شاء وكل الدلال أو غير الدلال، ولكن المحرم ألا يكون على وجه النصيحة بحيث يُضر صاحب البضاعة، فإذا كان الدلال حابى بحيث علم أن وكيله قال له: لا تصل خمسة وتسعين وأريد هذه البضاعة وأرغبها، فحرج عليها حتى تصل تسعين أو ثمانين، وإذا وصلت التسعين خذ خمسة وتسعين واقفل المزاد، فإذا قفل المزاد فقد ظلم صاحب السلعة؛ لأنه ربما وجد من يرغبها بمائة، وربما وجد من يرغبها بست وتسعين، فإذا كان الدلال يتقي الله عز وجل وينصح لصاحب السلعة فلا بأس ولا حرج؛ لأن هذا توكيل شرعي، ويجوز أن يوكل الدلال وغيره، إنما المحظور أن يكون هناك ظلم لصاحب السلعة الأصلية، كأن يوقف السعر عند حد معين محاباة لمن وكله فإنه لا يجوز له ذلك شرعاً، وليس هناك أي مانع شرعي؛ لأنه بيعٌ صحيح لسلعة قيمتها خمسة وتسعون ريالاً، فكما أن غير الدلال يجوز له أن يشتريها بخمسة وتسعين، فكذا الدلال، وكون الدلال وكيلاً لا يوجب فساد البيع، ولا يؤخر في البيع ألبتة، والله تعالى أعلم.

    ومسألة المزاد في السلع ليس فيها شيء، وهناك من العلماء من منعه ونهى عن بيع المزايدة وفيه حديثٌ ضعيف، والصحيح: أنه يجوز التحريج على السلع بشرط ألا يكون هناك نجش، فلا يدخل أشخاص يرفعون القيمة حتى يغروا الناس في شرائهم، وهذا بيناه وفصلناه في كتاب البيوع وأنه محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تناجشوا)، وأما بيع المزاد فإنه بيع لا بأس به ولا حرج فيه، والله تعالى أعلم.

    لكن تبقى مسألة المحاذير الموجودة من بيان العيوب وكشفها، فهذه أمانة، وعلى كل بائع يتقي الله عز وجل، وليس هذا خاص ببيع المزاد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)، والله تعالى أعلم.

    متى يأخذ المغمى عليه حكم المجنون

    السؤال: إذا كان المغمى عليه أشبه بالمجنون، فهل هذا الحكم يكون مطرداً في جميع أبواب الفقه؟

    الجواب: المغمى عليه من حيث الأصل يأخذ حكم المجنون.

    وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على وجهين، منهم من يقول: إنه كالنائم، فهو مكلف وتجري عليه أحكام المكلفين، ومنهم من يقول: إنه كالمجنون، وتجري عليه أحكام سقوط التكليف ونحوها؛ لأنه أشبه بالمجنون منه بالنائم، والقول الذي يقول: إنه أشبه بالمجنون من النائم أقوى وأرجح؛ لأن النائم إذا أيقظته يستيقظ، والمغمى عليه إذا أيقظته لا يستيقظ، فهو في غلبة العقل كالمجنون، ثم القياس يضعف في الإلحاق بالنائم أكثر من ضعفه بالمجنون، لذلك فأنا أميل إلى القول بأنه في حكم المجنون من حيث الأصل إلا إذا دل الدليل على الاستثناء. والله تعالى أعلم.

    مدى تأثير الوسوسة في الصلاة

    السؤال: الوسوسة في الصلاة هل تؤثر في أجر الصلاة؟

    الجواب: يوجد تفصيل: فإذا كانت الوسوسة -حديث النفس- تهجم على الإنسان بحيث لا يمكن أن ترفع، كالذي يكون واقفاً في الصلاة ثم تذكر مالاً من أمواله كأن تذكر مزرعته أو سيارته أو ابنه أو بنته، فهذا شيء يهجم دون أن يكون للمكلف فيه اختيار، فهذا لا يحاسب الله عليه العبد ولا يؤاخذه ولا ينقص درجة الكمال في الصلاة؛ لأنه لا يمكن أن يسلم منه أحد، وهذا شيطان للصلاة يوسوس للعبد، فإذا هجم عليه هجوماً فأوّل الوسوسة لا يؤاخذ عليها، أما إذا استرسل معه ولم يقطع، فهذا يؤثر في كمال الصلاة ويؤثر في أجرها، ويؤثر في حصول المغفرة بها كما في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه: (أنه توضأ أمام الناس فأسبغ الوضوء ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، فصلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه).

    فقوله: (لا يحدث) جعله كأنه هو الذي يحدث، فمعناه أن هناك شيئاً يهجم على الإنسان ليس بيده، فالذي يسترسل مع هذه الوسوسة فذلك يؤثر ويقطع الكمال وينقص الأجر لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يكتب له إلا نصفها إلا ربعها إلا ثلثها، ولما فاته منها خيرٌ له من الدنيا وما فيها)، فهذه اللحظات التي يقضيها الشيطان بالوسوسة على الإنسان لو يعلم ما له من الأجر عند الله والمثوبة؛ فإن ذلك الذي له عند الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، هذه اللحظات اليسيرة فقط!

    ولا شك أن هذا يدل على عظيم ما يكون في الصلوات من الأجر والمثوبة، وقد حكى الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، أي: ليس له من الأجر في الصلاة إلا قدر الذي عقله من الصلاة وأدرك، وقد يصلي الرجلان الصلاة الواحدة، كتف أحدهما بجوار كتف الآخر، وبينهما من الإخلاص وحضور القلب وعظم الأجر من الله كما بين السماء والأرض، فهذا كله لا يعلمه إلا الله عز وجل المطلع على سرائر الناس وضمائرهم وقلوبهم.

    نسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته وأن يجبر كسرنا وأن يكمل نقصنا، والله تعالى أعلم.

    حكم المشكك في السنة وغير المصدق بها

    السؤال: ما نصيحتكم لشخص يقول: لا تصدقوا كل ما نُقِل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: هذا الحديث رواه البخاري أو مسلم ، لا يصدق ولا يكذب؟

    الجواب: اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نعوذ بالله من طمس البصائر، ولا يزال الإنسان في خير ورحمة وبر وهدى في دينه ما تمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله لا يحجب عن نار الله إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تنعم عينه ولن تطأ قدمه الجنة إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صراط إلى الجنة إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الزمان زمن فتن، تكلم فيه كل من هبّ ودبّ، وكل زاعق وناعق، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فالذي يُوصى به الرجوع إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عن طريق العلماء العاملين الذين عُرِفوا بضبطهم وإتقانهم وأخذهم للعلم، فهؤلاء الذين يُحتكم إليهم في دين الله وشرع الله.

    وأما بالنسبة لهذه الكلمات الجارحة التي تمس مشاعر المسلمين، والتي يطلقها إما من لا دين عنده -والعياذ بالله- وإما أصحاب الأهواء الذين يريدون تشكيك المسلمين في عقائدهم ونزعهم عن دين ربهم، وإما الحسد كأن يحسد الإنسان على دينه كما ذكر الله عن أهل الكتاب، فهذا ليس إلا تشكيكاً في بدهيات عند المسلمين هي أوضح من الشمس في رابعة النهار.

    وليعلم الإنسان أن خير ما يُقال في هؤلاء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الفتن، وبيّن عليه الصلاة والسلام أن هناك همجاً رعاعاً أتباع كل زاعق وناعق، فالذي يتبع كل زاعق وناعق فإنه على هلاك بلا إشكال ولا مرية.

    والشخص الذي يجعل زمام دينه لكل من هبّ ودب عليه أن يعلم أنه على ضلال مبين، فلا يعرف الحق إلا بأهله الذين عُرِفوا بالتمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الحجة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله جعل السنة مبينة لكتاب الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].

    وصدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه حيث أخبر قبل هذا الزمان بقرون عديدة وكشف الله له ما هو كائن، فكان معجزة من معجزاته فقال عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته شبعان ريان، يبلغه الحديث مما قلته أو عملته فيقول: ما وجدنا هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، فهذه هي السنة التي هي أحب إلينا من أنفسنا، ولا يصدنا عنها غرور المغرورين ولا فتن المفتونين ولا إرجاف المكتوفين ولا إبطال الملحدين، إنما علينا أن نتمسك بدين الله وشرعه.

    وليضع كل مسلم في كل دعوة مصادمة لدين الله عز وجل نصب عينيه كلمةً قالها الله جل وعلا من فوق سبع سماوات ثبتت قلوب المؤمنين والمؤمنات، وهي قوله عز من قائل: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43]، وزيادة المبنى في لغة العرب تدل على زيادة المعنى، ما قال له: أمسك الذي أوحي إليك، ولكن فاستمسك ، فورد التأديب بهذه الحروف التي لها الوقع القوي في النفوس، ومع أنه لو قال: (اثبت) لكان لها معنى، لكن (استمسك) حتى صوت الكلمات والحروف لها معنى وخطاب مباشر، وخطاب لخير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، فمن باب أولى غيره، فنبه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يزعزعها وأن الذي يحول بينها وبين وحيها شيء عظيم وكبير، يحتاج إلى قوة وثبات يحتاج إلى اللائق بالإنسان مع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستمساك يدل على عظم الشيء الذي يحول بينك وبينه.

    فعلى هذا: ينبغي على كل مسلم أن يثبت على الحق وأن يوصي إخوانه بذلك، فالسنة حجة على من بلغته إذا صحت وثبتت فقل: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

    من الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يعلمها، أنه إذا عوَّد نفسه إذا صحت السنة أن يسلِّم ويستسلم ويعمل، فليعلم أن حظه من الهداية والرحمة على قدر تمسكه وعمله وتسليمه، وقلَّ أن تجد عبداً من عباد الله إذا بلغته السنة طأطأ رأسه وأسلم لله نفسه إلا وجدته أثبت الناس جناناً، وأصلحهم حالاً وأشرحهم صدراً وأكثرهم توفيقاً من الله عز وجل، ولن تجد شخصاً كثير الشكوك كثير الأوهام كثير الرد للسنة إلا وجدته أعمى البصيرة كثير الفتن والقلاقل، إلا أن يرحمه الله برحمته.

    وتأمل قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فهذا وعيد شديد لكل من يعترض على السنة، ويردها ويخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالحذر كل الحذر! لا تقبل عن طريق الله وسبيلها تحويلاً، ولا تقبل عن قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم بديلاً أبداً، وعليك أن تستمسك بما أوحى الله، وهذه سنة ماضية للعلماء وورثة الأنبياء، فإنهم يدعوا الناس إلى التمسك بالحق، وعلى الخطباء وأئمة المساجد وطلاب العلم أن يعودوا الناس محبة السنة، وأن يذكروهم -خاصةً في هذا الزمان- بقول الله وقول رسوله عليه الصلاة والسلام وهدي السلف الصالح في محبتهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملهم بها وتطبيقهم لها، وأن الله عز وجل أسعد أمماً وسيسعد من بقي كما أسعد من مضى بهذه السنة.

    فهنيئاً ثم هنيئاً لمن نور الله بصيرته وثبَّت قلبه، وجعل محبة السنة في فؤاده، فلم يلتفت إلى هذه الفتن ولا إلى هذه المحن، وثبَت على الحق بتثبيت الله.

    نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

    اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، نسألك بعزتك وقدرتك أن تعيذنا من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، ومن إلحاد المبطلين، ونسألك بعزتك وقدرتك على خلقك أن تكبت أعداء الدين.

    اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم.

    اللهم اكفِ الإسلامَ وأهلَه أهلَ الضلال بما شئت، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756330263