إسلام ويب

أثر دراسة الحديثللشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من يطلع على الجدال بين أتباع أهل المذاهب واختلافاتهم لايشك أن فتنة التعصب المذهبي من عوامل انحطاط المسلمين وتأخرهم؛ لأنها مسخت عقولهم فأصبحوا لا يفكرون إلا بعقول غيرهم، مع أن الأئمة الأوائل لم يتعصبوا لأقوالهم كما تعصب أتباعهم لها، بل حذروا من التعصب لأقوالهم، وأمروا باتباع الدليل، فعلى المسلم أن يتبع الدليل من الكتاب والسنة، مع احترام أقوال العلماء وإجلالهم وإن أخطئوا.

    1.   

    ترجمة الشيخ عبد المحسن العباد

    المقدم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الأمين، الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، بشيراً للمؤمنين، ونذيراً للكافرين، وعلى أصحابه الطيبين الطاهرين، ومن سلك سبيلهم، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن من المصائب التي بليت بها هذه الأمة منذ قرون مضت وإلى يومنا هذا التعصب المذهبي المقيت، وهذا المرض هو الذي أضعف هذه الأمة الواحدة، وفرق صفوفها، إلى أن وصل الحال إلى أسوأ ما وصل إليه من اضطهاد بعض المذاهب لبعض، وقتال بعضهم لبعض، وصلاة المسلمين في المسجد الواحد أربع جماعات متفرقة!

    كل هذا التفرق، وكل هذا المرض الذي ألم بهذه الأمة، كان سببه التعصب المذهبي المقيت، ولا نجاة لهذه الأمة ولا خلاص لها إلا إذا تمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، تطبيقاً لما أمر به النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حينما قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي).

    وحول هذا الموضوع وأثر دراسة الحديث في القضاء على هذا المرض العضال يحدثنا شيخنا وضيفنا الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن العباد.

    وقبل أن نترك له المجال نود أن نلقي الضوء على جوانب من حياة الشيخ العباد :

    الشيخ من مواليد شهر رمضان المبارك، عام (1353هـ)، بمدينة الزلفي.

    التحق الشيخ حفظه الله بمعهد الرياض العلمي عام (1372هـ)، ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض، ثم عين مدرساً في معهد بريدة العلمي في عام (1379هـ)، ثم عين مدرساً بمعهد الرياض العلمي في العام الذي يليه، سنة (1380هـ)، ثم عمل مدرساً بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام إنشائها سنة (1381هـ)، وكان -حفظه الله- أول من ألقى فيها درساً.

    وفي تاريخ (30/9/1390هـ) عين نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية، ثم عين رئيساً لمركز البحث العلمي في الجامعة الإسلامية، وهو الآن أستاذ مشارك في قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية.

    ومن مؤلفات الشيخ الكتب التالية:

    كتاب (اجتناء الثمر في مصطلح أهل الأثر).

    وله كتاب (عشرون حديثاً من صحيح البخاري، دراسة أسانيدها وشرح متونها).

    وله كتاب (عشرون حديثاً من صحيح مسلم، دراسة أسانيدها وشرح متونها).

    وله كذلك كتاب (من أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم).

    وله كتاب: (دراسة حديث: نضر الله امرأً سمع مقالتي رواية ودراية).

    وله كتاب: (قبس من هدي الإسلام).

    وله كتاب: (عالم الرسل)

    هذه بعض مؤلفات الشيخ حفظه الله، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع هذه الأمة بهؤلاء العلماء الأفاضل.

    1.   

    شكر وعرفان لجمعية إحياء التراث الإسلامي

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم

    أولاً: قبل أن نبدأ بالموضوع أود أن أشكر جمعية إحياء التراث الإسلامي على إتاحة هذا اللقاء، وعلى جهودها المشكورة المباركة في القيام بالدعوة، والعمل على نشرها على النهج السليم، المستمد من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل السلف الصالح، وأشكر أيضاً حكومة الكويت على دعمها لهذه الجمعية، وتشجيعها لها، وكذلك ما قامت به ممثلة بوزارة الأوقاف من نشر بعض كتب التراث، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد الجميع من التوفيق والهدى، وأن يوفق المسلمين جميعاً إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

    1.   

    إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام أعظم نعم الله على المسلمين

    موضوعنا هو حول أثر دراسة الحديث الشريف في ترك التعصب للمذاهب، والموضوع في الحقيقة أوسع من هذا؛ فالحديث سيكون حول واجب الأمة باتباع القرآن والحديث، وتوقير الأئمة، وترك التعصب لهم، هذا هو الموضوع الذي سيكون حوله الحديث، فأقول:

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وحجة على الثقلين: الجن والإنس، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين! رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

    أما بعد:

    فإن نعم الله سبحانه وتعالى على عباده المسلمين عظيمة، وكثيرة، لا يحصيها العادون، كما قال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ولكن أعظم وأجل هذه النعم هي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة، إذ لا تساويها ولا تدانيها نعمة، والله تعالى قد نوه بهذه النعمة العظيمة، وهذه المنة الجسيمة في كتابه العزيز، فقال سبحانه وتعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، وقال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، وقال سبحانه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] .

    هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة في إرسال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بهذه الرسالة الخالدة، إنما كانت أعم النعم وأجلها؛ لأن فيها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال الله عز وجل: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق:10-11]، فهذه أجل النعم وأعظمها.

    1.   

    عموم وشمول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

    والرسول صلوات الله وسلامه عليه لما أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين أرسله برسالة كاملة عامة شاملة، خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه الرسالة العظيمة جمع الله تعالى فيها ثلاث خصال هي:

    الكمال: فلا نقص فيها بوجه من الوجوه، وقد نوه الله بهذه النعمة بقوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فنوه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بالكمال الذي حصل في شريعة رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة.

    وأما عمومها وشمولها فقد جاء ذلك في آيات كثيرة، كما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:105].

    وأما خلودها وبقاؤها إلى نهاية الدنيا وشمولها لكل أحد وأنه لا يسع أحداً الخروج عنها، فقد بينه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار)، فهذا فيه أن هذه الشريعة عامة لكل أحد، وناسخة لجميع الشرائع، وأنه بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظفر أحد بالسلامة والنجاة والخلاص من النار إلا باتباع هذا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    1.   

    إبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة كما أمر

    وقد قام صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، والنصح للأمة، وبلغ البلاغ المبين، ونصح تمام النصح، فما ترك خيراً إلا ودل الأمة عليه ورغبها فيه، وما ترك شراً إلا وبينه لها وحذرها منه، فعليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا من كمال نصحه، ومن كمال شفقته، ومن كمال حرصه صلوات وسلامه وبركاته عليه على سعادة ونجاة أمته.

    ومن كمال نصحه عليه الصلاة والسلام -وقد بين كل ما يحتاج الناس إليه- أنه رغبهم في حفظ هذا الحق، وفي العمل لهذا الحق، وفي الأخذ بهذا الحق.

    أما بالنسبة لكتاب الله العزيز فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وهذا فيه حث على تعلم القرآن وتعليمه، ومعرفة ما فيه من الخير، وما فيه من الهدى، وأن الذين يشتغلون بتعلمه وتعليمه هم خير الناس.

    وأما بالنسبة للسنة المطهرة فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة، وهو يدل دلالة واضحة على أن المشتغل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا له صلوات الله وسلامه عليه هذه الدعوة العظيمة، وهي أن ينضره الله، وأن تكون له النضارة، وأن يكون على هذا النحو الذي دعا به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

    وهذا ترغيب منه صلوات الله وسلامه عليه في تلقي سنته، وفي حفظها، وفي التفقه فيها، وفي نقلها من سلف الأمة إلى من وراءهم، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    1.   

    حث النبي صلى الله عليه وسلم على التفقه في الدين

    والتفقه في دين الله عز وجل أيضاً أرشد إليه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وحث عليه في الحديث الصحيح المتفق على صحته، الذي رواه البخاري و مسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).

    والفقه في الدين إنما هو عن طريق الكتاب والسنة، والأخذ من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم، فقد بين وأرشد وأوضح، ونصح غاية النصح، وبين غاية البيان، ثم مع ذلك يوجه ويدعو لمن يقول بهذه المهمة العظيمة، فهذا مع بيانه وإرشاده ونصحه وتوجيهه حث وترغيب للعناية بكتاب الله عز وجل وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيهما، ومعرفة ما اشتملا عليه من الخير، وتعبد لله سبحانه وتعالى على نحو ما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    عناية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بالقرآن والسنة

    ولما أرسله الله سبحانه وتعالى بهذه الرسالة الكاملة الشاملة الخالدة الباقية أكرم الله سبحانه وتعالى جماعة من الخلق بصحبته، وبالجهاد معه، وبتلقي حديثه، وبالنظر إليه في هذه الحياة الدنيا، وبسماعه كلامه.

    فهذه خصائص وميزات خص الله تعالى بها خير هذه الأمة الذين هم الأسوة والقدوة بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وهم صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، الذين ما كان مثلهم فيما مضى، ولا يكون مثلهم فيما يأتي؛ لأنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين.

    وقد أكرمهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وجعلهم المختارين بأن يكونوا في زمانه، وأن يتشرفوا برؤيته في هذه الحياة الدنيا، وأن يسمعوا كلامه من فمه الشريف عليه الصلاة والسلام، فيعوا ويحفظوا؛ لينقلوه إلى من بعدهم.

    وقد قاموا بهذه المهمة خير قيام، ووفقهم الله سبحانه وتعالى لتحقيق ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناية بكتاب الله عز وجل وبسنة رسول الله، والتفقه في دين الله، واتباع ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام.

    فعنايتهم بالقرآن من أمثلتها أو من الأدلة عليها ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً).

    وهذه عناية بالقرآن تعلماً وتعليماً وعملاً، فقد كانوا إذا تعلموا عشر آيات من القرآن لم يتجاوزوهن حتى يتعلموا معانيهن والعمل بهن؛ حتى تعلموا العلم والعمل جميعاً.

    أما بالنسبة لسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فمعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه وتعالى وهو يلقي الأحاديث على صحابته في مناسبات مختلفة، فتارة يبدؤهم وتارة يسألونه فيجيبهم، وأحياناً يأتي جبريل على صورة رجل فيلقي أسئلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يسمعون، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) .

    فالصحابة رضي الله تعالى عنهم تلقوا ذلك عن رسول الله لملازمتهم له، أو لوجودهم معه، أو لوجود من يأتي ويسأل عما حصل له، واختلفوا في ذلك قلة وكثرة، فمنهم من كان يتحمل الأحاديث الكثيرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم من كان قليل الحديث عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

    ومن أمثلة حرصهم على تلقي حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: أنهم كانوا يجمعون ويوفقون بين مصالحهم وبين الإتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقي السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا نتناوب على رعاية الإبل) بل لم يكن كل واحد يذهب لرعاية إبله، وإنما كانوا يجمعون إبلهم بعضها مع بعض، ثم يذهب بها واحد في يوم من الأيام والآخر يكون مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: تكون لكل واحد نوبة في رعاية الإبل، وإذا رعى الإبل وجاء فإنه يأتي ويحصل ما يمكنه من رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    يقول عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: (كنا نتناوب على رعاية الإبل، فلما كانت نوبتي عجلتها بعشي -يعني: رجع بها في الرواح وفي نهاية النهار مبكراً- فجئت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ حيث وجدته قائماً يحدث الناس، فسمعته يقول: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين مقبلاً فيهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة) ، قال عقبة: فقلت: (ما أجود هذا!)، تلفظ بهذه الكلمة والناس يسمعونها، تلفظ بها من شدة فرحه بهذا الخير الذي أدركه من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء متأخراً.

    قال عقبة : (فإذا أنا برجل يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر ، فقال: -أي: عمر -: إني رأيتك جئت آنفاً)، ثم بين له الشيء الذي فاته، فقال: قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).

    فهذا الحديث الشريف يوضح لنا أموراً:

    أولاً: تناوبهم في العمل؛ ليظفروا بلقي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وأخذ السنة عنه.

    ثانياً: فرحهم واغتباطهم بما يحصلونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان هذا الذي حصلوه قليلاً.

    ثالثاً: تعاونهم على الخير، وعلى إرشاد بعضهم بعضاً إلى ما فاته، كما حصل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع عقبة بن عامر ؛ حيث لفت نظره إلى ما قد فاته.

    فهذه النماذج تبين عنايتهم بكتاب الله عز وجل، وعنايتهم بسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    وكان من حفظ الله سبحانه وتعالى لهذه الشريعة، ولسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن هيأ لها هؤلاء الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وخصهم بهذه الفضيلة، وهذه الخصيصة التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الخصيصة التي ظفروا بها هي في طليعة الأسباب التي تفوقوا وتميزوا بها على غيرهم، لأنهم هم الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الهدى، وهم الذين أدوه إلى من بعدهم من التابعين، وهكذا جيلاً بعد جيل.

    فإذاً: كل من يقتدي بسنةٍ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن الله سبحانه وتعالى يعطي الصحابي الذي نقلها مثل أجور من استفاد وعمل بهذه السنة؛ لأن هذا الصحابي الذي جاء بهذه السنة هو الواسطة بيننا وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الذي جعله الله ينقل حكم هذه السنة عن الرسول إلى من بعده، فلهم مثل أجور من استفاد خيراً بسببهم.

    فأعمالنا الصالحة التي نعملها طبقاً لما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يعطي الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطانا؛ لأنه هو الذي دلنا على هذا الخير، ويعطي صحابة نبيه، وكل من تلقى عنهم، مثل أجر العامل الذي عمل بهذه السنة التي جاءت من طريق ذلك الصحابي ثم التابعي، وهكذا من بعدهم، فهو شرف عظيم، وفضل جزيل من الله عز وجل، يؤتيه من يشاء، والله سبحانه وتعالى ذو الفضل العظيم.

    ثم إن التابعين تلقوا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكانوا يرتحلون من بلد إلى بلد؛ ليظفروا بالحديث الواحد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الحديث حصل عليه أحدهم من طريق فيها نزول فإنه يذهب إلى ذلك الشخص الذي يكون عنده الحديث بعلو، ويأخذه منه مباشرة؛ لتقرب الوسائط وتقل بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فالتابعون تلقوا السنة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهكذا تابعو التابعين ومن بعدهم، واستمر الأمر على ذلك، وكانت السنة محفوظة في الصدور، والله سبحانه وتعالى أعطى الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن وفقه الله سبحانه وتعالى؛ أعطاهم من الحفظ ومن الفهم ما هو مذهل، والإنسان عندما يسمع بعض الوقائع التي حصلت لبعضهم من الحفظ يتعجب، ويرى أن هذا شيء لا يحصل إلا لمن وفقه الله عز وجل، فكان الحفظ موجوداً في الصدور.

    1.   

    تدوين السنة

    وقد كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة من يكتب، كـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم بعد ذلك بدأ تدوين السنة وكتابتها، وقد بدأ تدوينها في القرن الثاني على طرق مختلفة، ثم اتسع التدوين في القرن الثالث، وكان على وجه أتم، وعلى وجه أكمل؛ ولذلك سمي ذلك العصر بالعصر الذهبي لتدوين السنة.

    والقرن الثالث هو العصر الذي دون فيه الصحيحان، والسنن الأربعة، وكثير من الكتب دونت في ذلك الوقت، ثم حصل التدوين بعد ذلك.

    وكان من التدوين ما هو متجه إلى تدوين الحديث دون تعرض لمسائل الفقه أو الاستدلال بالأحاديث على مسائل الفقه، كما حصل بالنسبة للكتب المؤلفة على المسانيد، كالتي ألفت على مسانيد الصحابة، فالمؤلف يذكر الصحابي، ثم يذكر ما له من الأحاديث من غير أن يلاحظ فيها أبوابها ودلالتها، وإنما يذكر أحاديث كل صحابي على حدة، فيأتي إلى أبي بكر فيورد ما له من الأحاديث، ثم يأتي إلى عمر فيورد ما له من الأحاديث، وهكذا، فهذا تدوين للسنة من غير تعرض لمسائل الفقه.

    وهناك تدوين على النحو الآخر، وهو الذي جمع بين الرواية والدراية، أي: بين الفقه والحديث، مثل صحيح البخاري، فإن البخاري جمع فيه بين الفقه والحديث، فهو كتاب رواية ودراية.

    وهذا الفقه يتمثل في تراجم الأبواب التي يعقدها، ثم يورد الأحاديث مستدلاً بها على ما ترجم به، وأحياناً تكون دلالة الترجمة على الحديث ودلالة الحديث على الترجمة خفية ودقيقة، لا يدركها كل واحد، وهذا دليل على دقة البخاري في فهمه، وجودة فقهه رحمه الله، وقد قال بعض العلماء: فقه البخاري في تراجم صحيحه، ولهذا ألفت مؤلفات خاصة في تراجم الصحيح، فهو يذكر الترجمة وكيف يطابق الحديث الترجمة.

    بل إن هذه الغاية -التي هي العناية بالفقه- هي التي جعلت البخاري يفرق الأحاديث على الكتب والأبواب في أماكن مختلفة، أي: من أجل الاستدلال على ما يريده؛ ولكنه إذا أورد الحديث مكرراً لا يورده بنفس الإسناد أو بنفس المتن، بل يكون هناك شيء من الفرق، فيورده -مثلاً- في موضع عن شيخ، ثم يورده في موضع آخر عن شيخ آخر، فتجد أنه عندما يذكر الحديث في أماكن متعددة يأتي بفوائد جديدة غير الفوائد التي كانت موجودة في الموضع الأول، فيكون قد جمع بين تعداد الطرق وتنوعها وتكررها، وبين دلالتها على مسائل الفقه المختلفة.

    وهذا المقصد الذي قصده جعل البخاري أحياناً يورد الحديث في مكان خفي، وما كلٌ يتفطن أن الحديث موجود في صحيح البخاري، بل إن بعض العلماء ينفي أن يكون الحديث في البخاري، فيقول: هذا الحديث ليس في البخاري، والسبب في هذا أنه يبحث عنه في مكان يظن أنه مظنته، والبخاري يكون قد أورده في مكان آخر من أجل الاستدلال على مسألة دقيقة، فلا يتفطن له، وهذا ما حصل للحاكم في المستدرك، فإنه أحياناً يقول: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه، والواقع أنه قد خرجه، وهو موجود في الصحيح، ولكن السبب أن الحاكم أحياناً يبحث عنه في مظانه فلا يجده، ويكون البخاري قد ذكره في مكان آخر.

    وأنا أضرب مثلاً من الأمثلة التي تدل على دقة فهم البخاري رحمه الله: فإنه في كتاب الإجارة أورد باباً، ثم أورد تحته قطعة من حديث طويل موجود في مواضع متعددة من الصحيح، والباب الذي أورده في كتاب الإجارة هو قوله: (باب: إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد شهر أو سنة جاز، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل)، فهذا عنوان الترجمة، ومعنى هذا أن العقد إذا أبرم -مثلاً- في شهر شوال على أن التنفيذ يبدأ في محرم فإنه جائز، يعني: أن الإنسان إذا عقد هل يلزمه أن يبدأ العمل بعد العقد مباشرة أم لا؟ هذه المسألة خلافية بين العلماء، وهي موجودة في كتب الفقه، فمنهم من يقول: إنه لا يجوز، ومنهم من يقول: إنه يجوز؛ ولكن البخاري عقد هذه الترجمة وأورد تحتها قطعة من حديث الهجرة الطويل، الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ معه رجلاً من بني الديل، وهو حديث عائشة قالت: (واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه الغار بعد ثلاث) .

    يعني: أن هذا العمل الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه يدل على هذه المسألة من مسائل كتاب الإجارة.

    إذاً: كتاب البخاري هو كتاب حديث وكتاب فقه، وكتاب رواية وكتاب دراية.

    وكذلك كتاب الموطأ؛ فإنه جمع بين الفقه والحديث، وهكذا الكتب الأربعة التي هي: سنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وسنن الترمذي ، وسنن ابن ماجة ، فهذه الكتب الأربعة مبنية على هذا المنوال الذي هو الترجمة لموضوع من الموضوعات، ثم إيراد الأحاديث أو الحديث تحت الترجمة؛ ليبين فيه أن هذا الموضوع دل عليه هذا الحديث.

    بل إن بعضهم -مثل النسائي- أكثر من التراجم في كتابه مع قلة الأحاديث فيه؛ لأن سنن النسائي أقل كتب السنن حديثاً، ولكنه مملوء بالأبواب، ومملوء بمسائل الفقه المختلفة، وأذكر مثالاً من الأمثلة التي تدل على دقة فهمه في الاستنباط: قال في أول كتاب الطهارة: (باب استياك الصائم في العشي) يعني أن الصائم يجوز له أن يستاك في العشي، فهذا الباب أتى به في كتاب الطهارة، وأورد تحت هذا الباب حديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وأخذ من هذا الحديث أن الاستياك للصائم بعد الزوال لا بأس به، وأنه جائز، وهذا الحديث يدل عليه؛ لأن قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) يدخل فيه صلاة العصر؛ ومعلوم أن صلاة العصر في العشي، وهي داخلة ضمن الصلوات، فعلى هذا يجوز أن يستاك الإنسان عند صلاة العصر، ويستاك في العشي، ولا محذور في ذلك.

    وهناك جماعة قالوا: إنه لا ينبغي له أن يستاك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، لكن الحديث الذي بوب عليه النسائي يدل على جوازه، وأنه لا مانع منه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وهذا من دقة الفهم ودقة الاستنباط عند النسائي رحمه الله تعالى.

    إذاً: المحدثون رحمهم الله عندما دونوا الكتب منهم من جمع بين الفقه والحديث، فكتبهم كتب رواية ودراية، أي: كتب حديث وكتب فقه.

    1.   

    كيفية أخذ العلم في القرن الأول

    والذي كان عليه العمل في القرن الأول هو أنهم كانوا يأخذون الحديث ويعملون به، وإذا نزلت بالناس نازلة يحتاجون إلى معرفة حكمها، فمن كان عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره، ومن لم يكن عنده شيء سأل الناس حتى يجد الدليل على ذلك إن وجد.

    وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما جاءته جدة تسأله الميراث من حفيدها، قال أبو بكر رضي الله عنه: (ليس لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حتى أسأل الناس)، فسأل، فجاءه اثنان من الصحابة وأخبراه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقضى بالسدس.

    وكان الواحد منهم عندما يسأل عن مسألة من المسائل ولا يجد فيها حديثاً يفتي السائل ويقول: أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، ثم يفتيه بما ظهر له، وإذا أفتى ثم تبين له بعد ذلك الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك فتواه، ورجع إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    فكان المعول عليه هو الدليل من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي كان عليه الناس في القرن الأول، فمن كان عنده علم عن الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل به، والذي لا يكون عنده علم يسأل من عنده علم، فإذا وجده أخذ به، وإن لم يجده اجتهد وأفتى، ولهذا نقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في مسائل الفقه المختلفة الأقوال المتعددة، فكثيراً من المسائل يذكر فيها رأي أبي بكر و عمر و عثمان و علي و معاذ و عبد الله بن مسعود ، وفلان وفلان وفلان..، وهكذا تذكر أقوالهم وآراؤهم في المسألة.

    هكذا كان شأنهم، وقد مضى على ذلك القرن الأول، ثم مضى التابعون على هذا المنوال، حيث كان الواحد منهم يرتحل من مكان إلى مكان؛ ليحصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعمل به، وكان بعضهم يسأل بعضاً عما يحصله من الأحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

    ومن الأمثلة: أن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ولما قال: أنا انقدح في ذهنه أنه قد يظن أنه رآه لأنه كان قائماً يصلي، فخشي أن يظن أنه مشتغل بالعبادة، وهو ليس متلبساً بهذه العبادة، فبادر ونفى عن نفسه أن يظن أنه عمل شيئاً وهو ما عمله؛ لأنهم كانوا لا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فقال: أما إني لم أكن في صلاة؛ ولكني لدغت، يعني: أن السبب الذي كنت مستيقظاً لأجله ورأيت الكوكب الذي انقض البارحة: أني كنت لديغاً.

    فقال له: فماذا صنعت؟ قال: قلت: ارتقيت، يعني: بحثت عن أحد لينفث عليَّ رقية، فقال: ما حملك على هذا ؟ يعني: ما هو الدليل على أنك ارتقيت؟ فأجابه بالحديث الذي بلغه في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا رقية إلا من عين أو حمة).

    فماذا قال له سعيد بن جبير ؟ قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع. يعني: من انتهى إلى ما بلغه عن الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أحسن، ثم أرشده إلى شيء أولى وأكمل وأفضل، فقال: ولكن حدثنا ابن عباس .. وذكر حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وذكر من صفاتهم: (أنهم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون).

    فكان بعضهم يسأل بعضاً عن العمل الذي عمل، وما الذي حمله على أن يعمل به؟ فيبين الدليل الذي بلغه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    فـسعيد بن جبير كان يرى أن الأولى خلاف هذا الشيء، وهو الأخذ بما هو الأكمل والأولى، وهو أن يكون الإنسان على طريقة السبعين ألفاً، ولذا قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع. وهذه كلمة من أجمل الكلام وأحسنه، وهي أن الإنسان إذا عمل بالدليل الذي بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محسن، وهو مأجور، وهو على خير.

    1.   

    ذكر المشهورين في الفقه والفتوى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم

    وكان في الصحابة من هو مشهور بالفقه وبالفتوى، وكان في التابعين فقهاء المدينة السبعة المشهورون الذين كانوا في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الذي يليه، وهكذا كان بعدهم أمم كثيرة، وكلهم كان عندهم العناية بالفقه، وكان عندهم الجمع بين الفقه والحديث، وهذا بخلاف ما كان عليه القرن الأول، وهو أنهم كانوا يعملون بما جاءهم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    والإمام أبو حنيفة رحمه الله ولد سنة ثمانين من الهجرة، والإمام مالك ولد بعد التسعين، وتوفي الإمام أبو حنيفة رحمه الله سنة مائة وخمسين، وتوفي الإمام مالك سنة مائة وتسعة وستين.

    والشافعي ولد في السنة التي مات فيها أبو حنيفة ، وتوفي سنة مائتين وأربع، والإمام أحمد توفي سنة مائتين وواحد وأربعين، وكانوا كغيرهم من علماء السلف، فكل واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم كان يحرص على حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويبحث عن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان بعضهم يتلقى عن بعض، يعني: هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين هم: مالك و الشافعي و أحمد كل متأخر منهم روى عن الذي قبله، وكل واحد منهم شيخ للذي بعده؛ فالإمام الشافعي روى عن الإمام مالك ، والإمام أحمد روى عن الإمام الشافعي ، وكان الشافعي رحمه الله مع أنه شيخ الإمام أحمد يقول له: إذا صح عندكم الحديث يا أبا عبد الله ! فأعلمونا به حتى نعمل به. روى ذلك الطبراني عن عبد الله بن الإمام أحمد عن الإمام أحمد : أن الشافعي رحمه الله كان يقول هذا الكلام.

    وذلك لأنه ليس هناك أحد يحيط بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأتون في مناسبات مختلفة، وقد يأتي الشخص في مناسبة من المناسبات وليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم أحد غيره، أو يكون عنده النفر القليل، ثم الصحابة تفرقوا في الآفاق، وذهبوا يميناً وشمالاً، وكلٌ كان من عنده علم من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فلا أحد يستوعب كل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لم يفته حديث واحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ادعى هذا أحد من الأئمة، ولا يجوز أن يدعى له.

    وقد روى الإمام أحمد في المسند حديثاً عن الإمام الشافعي، والإمام الشافعي رواه عن الإمام مالك ، وهو حديث: (نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة)، فهذا الحديث في سنده ثلاثة من الأئمة أصحاب المذاهب المعروفة، وقد أورده الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] وقال: هذا حديث عزيز؛ في إسناده ثلاثة من الأئمة أصحاب المذاهب المشهورة المتبعة.

    إذاً: عرفنا أن القرن الأول مضى على هذا المنوال، وهو البحث عن الدليل والعمل به، ومن لم يكن عنده علم استفتى من عنده علم، ثم يعمل بما بلغه، وعلى هذا المنوال كان التابعون وأتباعهم ومنهم الأئمة الأربعة، وغيرهم ممن قبلهم وفي زمانهم ومن هو بعدهم، فنجد في كتب الفقه وفي كتب الحديث وفي كتب التفسير النقول الكثيرة عن الفقهاء الكثيرين في مختلف القرون وفي مختلف الأعصار، من زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

    1.   

    تحريم التقليد ووجوب اتباع الدليل

    والأئمة الأربعة حصل لهم تلاميذ، عنوا بجمع أقوالهم، ولكنهم ما قلدوهم، وما التزموا بما جاء عنهم في كل شيء، بل كانوا يدونون أقوالهم، ويوافقون منها على ما يرونه موافقاً للدليل، ويخالفونهم فيما يرونه على خلاف الحديث الذي ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

    ومعلوم أن أبا يوسف ومحمداً خالفا أبا حنيفة في كثير من المسائل، ومعلوم أن كثيراً من أصحاب الشافعي هم على خلاف قوله، وكذلك أصحاب الإمام مالك كثير منهم كان على خلاف قوله، وكذلك الإمام أحمد كثير منهم على خلاف قوله؛ لأن المعول عليه إنما هو الدليل، ولكن دونوا هذا التدليل لمسائل الفقه؛ ليعرف ما عندهم من الفقه، ويرجع إليه، وليستفاد منه فيما إذا كان ليس هناك دليل على خلافه، أما إذا كان الدليل موجوداً على خلاف قول الإمام، فإنهم يعملون بما جاء به الدليل؛ لأن هذا هو الواجب؛ فإن الواجب على الأمة هو اتباع الدليل من الكتاب والسنة.

    إذاً: الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أتباعهم دونوا فقههم، ولكن تلاميذهم ومن كان في عصرهم ومن بعد عصرهم بقليل ما كانوا يقلدونهم، والتقليد إنما جاء بعدهم، أعني: أن التقليد الأعمى الذي هو التزام المذهب بحيث لا يخرج عنه، ولو كان الدليل على خلافه، هذا ما وجد إلا في القرن الرابع، كما قال ذلك العلماء، ومنهم ابن عبد البر رحمه الله.

    فإذاً: الأئمة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم كغيرهم من أئمة المسلمين، بذلوا جهدهم في تحصيل الحق والهدى، واجتهدوا، وكل واحد من المجتهدين -الأئمة الأربعة وغيرهم- ليس معصوماً من الخطأ، وليس هناك أحد معصوم بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فالمعصوم هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما من بعده من الصحابة ومن بعدهم فلا عصمة لأحد بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانوا يبحثون عن الدليل؛ لأن فيه العصمة، وكانوا إذا قالوا بالرأي ووجد الدليل على خلافه تركوا الرأي وذهبوا إلى الدليل؛ لأن هذا مقتضى التكليف، وهذا مقتضى التشريع؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليتبع، وليسار على نهجه.

    وقد جاء الأمر بذلك في آيات كثيرة: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ويقول سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ويقول سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فلا خيار مع حكم الله ورسوله عليه السلام، ويقول الله سبحانه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، ويقول سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، ويقول سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] يقول الإمام أحمد : أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ؛ فيهلك.

    لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد، بل يجب أن يتبع، وهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن شهادة أن محمداً رسول الله ليست كلاماً يقال على الألسنة فقط، بل لها مدلول لابد من وجوده لتحقيق هذه الشهادة، وقد لخص هذا المدلول أحد علماء المسلمين فقال: طاعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع .

    فيصدق العبد بكل خبر يخبر به عليه الصلاة والسلام، سواء كان ماضياً أو مستقبلاً أو موجوداً لا نشاهده ولا نعاينه، فكل ما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من خبر فالواجب علينا التصديق، وهذا معنى شهادتنا بأن محمداً رسول الله، فإذا أمر فيجب السمع والطاعة، وإذا نهى فيجب السمع والطاعة، ولا يجوز لنا أن نتعبد الله بعبادات محدثة ما شرعها رسول الله، بل لابد من طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وهذا هو معنى أشهد أن محمداً رسول الله.

    والإنسان في قبره لا يسأل إلا عن ربه، وعن رسوله عليه الصلاة والسلام.

    فإذاً: طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة ومتعينة، ولا خيار فيها، والواجب إنما هو الاستسلام والانقياد، وهذا هو معنى كون الإنسان مسلماً؛ لأن المسلم هو المستسلم المنقاد لله، طبقاً لما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: عرفنا أن الحق إنما هو العمل بما كان عليه القرن الأول، فالذي كان عليه القرن الأول هو الذي كان عليه الناس في القرن الثاني، وهو الذي كان عليه الناس في القرن الثالث، وهو الذي يجب أن يكون الناس عليه إلى يوم الدين؛ لأن القرن الأول هم خير القرون، وقد كان طريقهم في العمل، وطريقهم في التلقي هو البحث عن الدليل.

    إذاً: هذا الذي كان في القرن الأول هو الواجب أن يكون في كل زمان ومكان.

    1.   

    وجوب احترام العلماء وتقديرهم

    وأما ما هو الموقف من المذاهب الأربعة وغير الأربعة من الأشياء التي دونت، كفقه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفقه عثمان ، وفقه علي ، وغيرهم من الصحابة الذين دون فقههم، وكذلك فقه إبراهيم النخعي ، وفقه سعيد بن المسيب ، وفقه سعيد بن جبير ، وفقه النخعي ، وفقه فلان وفلان، ما هو الواجب تجاههم؟

    فالجواب: الذي علينا بالنسبة للأئمة الأربعة وبالنسبة لغير الأئمة الأربعة أننا نجلهم، ونحترمهم، ونقدرهم، ونعرف أنهم من خيار علماء المسلمين، وأن كل واحد منهم اجتهد وبذل وسعه في البحث عن الحق، وأن كل واحد منهم لا يعدم أجراً أو أجرين؛ فإن وفق للصواب فهو صاحب أجرين: أجر لاجتهاده، وأجر لإصابته، وإن لم يوفق للصواب في مسألة معينة فإنه مأجور على اجتهاده، وخطؤه مغفور، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) .

    إذاً: الأئمة الأربعة هم كغيرهم من الأئمة، أي أنهم أئمة مجتهدون بذلوا وسعهم في الأخذ بالدليل والعناية بالدليل، وأن كل واحد منهم لا يعدم أجراً أو أجرين، وهذا هو الذي يجب اعتقاده في حق أئمة المسلمين، ولا يجوز الغلو ولا الجفاء؛ فالحق وسط بين الإفراط والتفريط، ولا يجوز لأحد أن يقول: أنا ألتزم مذهب هذا الإمام، وأتابعه في كل مسألة من المسائل، ولا أخرج عنه، سواء كان هناك دليل عن الرسول أو لا؛ لأني ليس عندي القدرة على معرفة الحق، فأنا أتعبد الله وفقاً لمذهب معين، فهذا غلو، وهذا يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ويخالف ما جاء عن الأئمة أنفسهم والله أعلم.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718728

    عدد مرات الحفظ

    766015877