إسلام ويب

من سورة البقرة [1]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ضرب الله عز وجل الأمثال في كتابه الكريم لينتفع بها المؤمنون، ولكي تكون حجة على الكافرين والمنافقين، ومما تتميز به أمثال القرآن: وجازة الألفاظ، ووضوح المعاني، وبلاغة التشبيه، والأمثال في القرآن على قسمين: إما ظاهرة يذكر فيها المثل صراحة، وإما كامنة يعرف المثل فيها من غاص في معاني القرآن

    1.   

    ضرب الأمثال في القرآن

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ [إبراهيم:45]، ويقول سبحانه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ويقول سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر:27]، ويقول سبحانه: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35].

    خصائص أمثال القرآن

    المثل يضربه الله عز وجل؛ ليقرب المعنى إلى الأفهام، وأمثال القرآن - كما قال أهل التفسير- تجمع خصالاً ثلاثة:

    أولها: وجازة الألفاظ، أي أن ألفاظها قليلة.

    وثانيها: وضوح المعاني.

    وثالثها: بلاغة التشبيه، أي أن المشبه والمشبه به في غاية من الوضوح والإتقان.

    وهذه الأمثال إنما يضربها الله عز وجل للمخلوقات، أما هو سبحانه، فكما قال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، لا تقل: الله عز وجل كمثل كذا، أو مثل الله عز وجل كمثل كذا، معاذ الله! فهو سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65].

    أنواع الأمثال في القرآن

    أمثال القرآن على نوعين:

    أمثال ظاهرة واضحة، وأمثال خفية كامنة.

    فالأمثال الظاهرة هي التي يذكر الله فيها المثل صراحةً، كقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ[إبراهيم:24] إلى أن قال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26]، هذه أمثلة ظاهرة.

    لكن هناك أمثال كامنة، يغوص فيها من فتح الله عليهم، كما قال سبحانه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]؛ ولذلك فقد أورد الإمام الماوردي رحمه الله جملة من هذه الأمثال الكامنة فيما رواه عن الحسين بن فضل لما قيل له: أنت تعرف أمثال القرآن، فهل تجد في القرآن خير الأمور أوساطها -وهذا مثل يتكلم به الناس يقولون: خير الأمور أوساطها أو وسطها- قال: نعم أجده في أربعة مواضع، في قول الله عز وجل: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ[البقرة:68]، وفي قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]، وفي قول الله عز وجل: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء:29]، وفي قوله سبحانه: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء:110]، هذه الآيات كلها تدل على هذا المعنى: أن خير الأمور أوساطها.

    قيل له: فهل تجد في القرآن: من جهل شيئاً عاداه؟ قال: نعم أجده في قول الله عز وجل: بَلَ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ[يونس:39]، وفي قوله سبحانه: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11].

    قيل له: هل تجد في القرآن: لا تلد الحية إلا حية؟ قال: نعم أجده في قوله سبحانه: وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27].

    قيل له: فهل تجد في القرآن: للحيطان آذان؟ قال: نعم أجده في قوله تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ[التوبة:47].

    قيل له: فهل تجد في القرآن: اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم أجده في قوله سبحانه: وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ[التوبة:74]، إلى آخر هذه الأمثلة الكامنة الموجودة في القرآن.

    1.   

    ضرب مثل لحال المنافقين وتخبطهم في الحياة

    إذا أردنا أن نتتبع أمثال القرآن مثلاً، مثلاً، فأول ما يقابلنا في سورة البقرة قول الله عز وجل: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ[البقرة:17]، هذا أول مثل في سورة البقرة، ضربه الله عز وجل للمنافقين؛ لأن السياق فيها هو في الحديث عن المنافقين، فالله عز وجل يشبه المنافق بأنه كإنسان أوقد ناراً في فلاة من الأرض، وقد ضربت الظلمة وغشيت المكان من كل ناحية، وهذه النار بينما هو ينتفع بضوئها ويستدفئ بحرارتها فجأة انطفأت، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.

    قال مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي وغيره من أهل التفسير: إن هذا مثل المنافق، نطق بلا إله إلا الله، فخالط المسلمين وناكحهم ووارثهم وشاركهم مجالسهم حتى إذا نزل به الموت بحث عن: لا إله إلا الله، فلم يجدها، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]، ثم وصفهم الله عز وجل بثلاث صفات كريهة: بأنهم صم، بكم، عمي.

    صم عن سماع الحق، بكم عن النطق به، عمي عن رؤية آثاره؛ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18].

    1.   

    مثال آخر لبيان حال المنافقين وتخبطهم في الحياة

    ضرب الله للمنافقين مثلاً ثانياً فقال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19]، (أو كصيب)، وهو القرآن، والله جل جلاله دائماً يشبه القرآن بالمطر أو بالغيث الذي يغيث الأرض فيحييها، وكذلك القرآن فإنه يغيث القلوب فيحييها؛ ولذلك فإن الله تعالى في سورة الحديد يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، ثم يقول: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17]، فكما يحيي الله الأرض بعد موتها بهذا الغيث النازل من السماء فإنه يحيي القلوب بعد موتها بأنوار الوحي؛ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70].

    فالقرآن كالصيب النازل من السماء، هو بالنسبة للمنافقين: ظلمات ورعد وبرق، ظلمات؛ لأنه والعياذ بالله لا يزيدهم إلا شبهات، فحين يسمعون مثلاً قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا[البقرة:26]، وحين يسمعون قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ[الحج:73]، يقولون: ما بال الوحي الذي ينزل على محمد يذكر البعوض والذباب؟! الله أكرم من هذا، الله أجل من أن يذكر البعوض والذباب.

    فالقرآن الذي هو نور وهدىً ورحمة، بالنسبة إليهم والعياذ بالله ظلمات.

    والرعد هنا مراد به ما فيه من الوعيد، وآيات الوعيد التي تزلزل القلوب هي بالنسبة للمنافقين كالرعد.

    والبرق نور يظهر ثم يختفي، وهكذا حال المنافق قلبه حائر متردد، تارةً يدخله بصيص النور وسرعان ما ينطفي؛ وقوله يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، أي: أنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن أعرضوا عنه، كما قال له عبد الله ابن سلول لما مر به ووقف يرتل القرآن عليه الصلاة والسلام، قال له: لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تغشنا به في مجالسنا، واجلس في مسجدك فمن أتاك فاقرأ عليه.

    أو كما يقول الآن بعض المنافقين من المعاصرين إذا قيل له: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، أو إذا قيل له مثلاً بأن القرآن ينظم شئون الأسرة وينظم شئون الدولة، وينظم شئون المال، وينظم شئون الثقافة، يقولون: أنتم تريدون أن تدخلوا القرآن في كل شيء، اجلسوا في مساجدكم واعكفوا على مصاحفكم ودعوا الناس وما يريدون، فهذا مثل ضربه الله عز وجل للمنافقين.

    1.   

    تشبيه الكافر الجاحد للرسالة براعي الغنم الذي ينادي عليها ولا تفهمه

    ثم ضرب الله مثلاً ثالثاً -والعياذ بالله- للكفار، وبه نختم، قال الله عز وجل: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171]، قال أهل التفسير: ضرب الله مثلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم مع الكافر، كالراعي مع الغنم، فالراعي يصيح على الغنم ويزجرها وينادي عليها، لكن الأغنام لا تفهم ما يقول ولا تعي، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171]، ثم كرر ربنا جل جلاله الأوصاف الذميمة: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ [البقرة:171]، هناك قال: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18]، وهنا قال: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ . يعني أن الله عز وجل يعزي نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: لا تأس على هؤلاء، لا تذهب نفسك عليهم حسرات، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، هؤلاء هم بمنزلة البهائم، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

    فالله جل جلاله يقول: هؤلاء لا يفهمون ولا يعقلون، فلا تتعب نفسك معهم؛ لأنهم لا يؤمنون

    أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756244742