إسلام ويب

نتائجللشيخ : إبراهيم الحارثي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قلة التوفيق.. فساد الرأي.. خفاء الحق.. فساد القلب.. خمول الذكر.. إضاعة الوقت.. محق البركة في الرزق والعمر.. حرمان العلم.. إهانة العدو.. ضيق الصدر.. طول الهم والغم.. ضيق العيش.. لباس الذل.. وغيرها كثير. حياة لا يعلمها إلا الله، نعيشها هذه الأيام، فيا ترى ما هو السبب؟

    1.   

    قل هو من عند أنفسكم

    اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، لك الحمد ربنا كما تحب وترضى، نحمدك ونشكرك، ونثني عليك الخير كله، أنت أهل التقوى وأنت أهل المغفرة.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بوصيته في قوله جل وعلا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

    أيها الإخوة المؤمنون: محمد بن سيرين تابعي جليل، من كبار التابعين، أصابته الديون، وتكاثر عليه الغرماء، فقال لأصحابه يوماً من الأيام: [والله إني لأعلم الذنب الذي بسببه سُلِبْتُ مالي، قالوا: وما هو؟ قال: قلتُ لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس!].

    أيها الإخوة: لا أخفيكم أنني نظرت إلى هذه القصة بنظرتين مختلفتين:

    نظرتُ إليها أولاً كالمتشكك في صحتها، وقلت: هل يُعْقَل أن يصل الأمر إلى هذه الدرجة، بحيث يستطيع هذا الرجل أن يميز الذنب الذي بسببه وقع في هذه المصيبة؟! هل قلَّتْ ذنوبه إلى الدرجة التي أصبح يعد فيها ذنوبه، ويعرف زمن وقوعها؟! تلك كانت هي النظرة الأولى.

    أما النظرة الثانية: فهي نظرة المصدِّق لهذه القصة، المؤمن بها، وبكل حرف من حروفها، وجزئية من جزئياتها.

    فالرجل من رجالات الصدر الأول، وهو واحد من الذين عظم الإيمان في قلوبهم، ورسخ اليقين في صدورهم، رجل من الرجال الذين غيروا وجه التاريخ، وصنعوا المعجزات، ووقعت لهم أمور خرقت العادات والمألوفات.

    إنه واحد من الذين تقللوا من الذنوب والمعاصي، فكيف لا يعرف ذنوبه؟!

    أيها الإخوة: لا أخفيكم مرة أخرى أنني رجحتُ النظرة الثانية، وأيقنت أن ما قاله ابن سيرين رحمه الله حق من الحق، وصدق من الصدق.

    يقول العلماء عن محمد بن سيرين وأمثاله: إنهم قوم قلّت ذنوبهم فأحصوها، وكثرت ذنوبنا فعجزنا عن حصرها. ولا حول ولا قوة إلا بالله! وصدقوا والله.

    انظروا -أيها الإخوة- إلى الحياة التي نعيشها، إننا نعيش في هذه الأيام حياة لا يعلمها إلا الله، يبدو فيها واضحاً قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، وإهانة العدو، وضيق الصدر، وطول الهم والغم، وضيق العيش، ولباس الذل، وكسف البال، ونفرة الخلق، ومنع إجابة الدعاء، والوحشة بين العبد وربه.

    روى الإمام البيهقي وابن ماجة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنتُ عاشر عشرة من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين! خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن:

    ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.

    ولا نقص قومٌ المكيال إلا ابتُلوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان.

    وما منع قومٌ زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا.

    ولا خَفَرَ قومٌ العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم.

    وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم).

    كل ذنب بمصيبة، وكل إعراض عن الله ببلاء، وكل فساد بعقوبة تظهر في المجتمع بأشكال وألوان وآثار مختلفة، يمكن أن نسميها: آثار الذنوب والمعاصي.. آثار الإعراض عن الله. إنها السلاسل التي تقيدنا.

    وانظروا -إن شئتم- إلى تنافر الناس وعداواتهم!

    انظروا إلى إهانة العدو لنا!

    انظروا إلى الذل الذي يلُفُّنا!

    انظروا إلى ضيق معايشنا!

    انظروا إلى ضيق صدورنا!

    انظروا إلى طول همومنا وغمومنا!

    انظروا إلى فساد زماننا!

    من أين جاءنا هذا؟!

    إنه من عند أنفسنا، يقول الله جل وعلا: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

    1.   

    من آثار الذنوب والمعاصي

    إن مظاهر الفساد التي ذكرتُها لستُ أنا الذي قلتُها، إن الذي قالها هو الإمام العلم ابن القيم رحمه الله، قالها قبل ثمانية قرون تقريباً، فكيف لو عاش في زماننا هذا؟! وماذا سيقول مع كثرة الذنوب وطغيانها؟! وليته رحمه الله قال ما قال وسكت، بل مضى يقول عن آثار الذنوب وبلاياها في حياة الناس:

    - لقد اقشعرت الأرض.

    - وأظلمت السماء.

    - وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة.

    - وذهبت البركات.

    - وقلت الخيرات.

    - وهزلت الوحوش.

    - وتكدرت الحياة من فسق الظلمة.

    - وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة.

    - وشكا الكرام الكاتبون والمعقباتُ إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح.

    وهذا -والله- منذرٌ بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومنذر بليل بلاء قد ادلهّم ظلامه، فاعدلوا عن هذا الطريق بتوبة نصوح.

    سبحان الله! لقد قال هذا الإمام كلاماً والله إنه ينطبق على زماننا هذا، وينذر -ولا حول ولا قوة إلا بالله- بعقاب لا مرد له من الله.

    1.   

    الغفلة.. خطرها على الفرد والمجتمع

    على الرغم من رؤيتنا للكوارث التي يرسلها الله عظة وعبرة إلا أن غفلة سادرة تغطي عقولنا؛ نسمع عن الزلازل والبراكين! نسمع عن الفيضانات! نسمع عن تلوث الجو وتلوث الماء، ونسمع عن الانفجارات الكونية، وعن التصادم في الأفلاك، وعن الأمراض المستحدثة، وعن الأدواء والحروب والدمار، نسمع عن أحداث تذهل العاقل، تأتي مصداقاً لقوله جل وعلا: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41].

    والخوف الكبير أن يتحول هذا العذاب العام إلى عقوبة خاصة، كما جاء في قول الله عز وجل: فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

    نعم. نسمع عن كل تلك الكوارث والمصائب والأحداث، إلا أن ذلك لا يحرك لنا ساكناً، ولم ينهض بنا إلى تدارك أوضاعنا، فما السبب؟! هل تعرفون السبب؟!

    إنه -ولا شك أيها الإخوة- إِلْفُ المعصية، والتعود عليها، والرضا بها، حتى أصبحت الذنوب في حياتنا نوعاً من الإدمان الذي لا يمكن الاستغناء عنه، إن هذا هو البلاء الذي كان يخافه سلفنا الصالح، حين كانوا يقولون: والله لا نبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما نخاف من إلف القلوب لها؛ فهل بعد هذا البيان بيان.

    إن مجتمع القرن العشرين اليوم يعمل الموبقات الكبار دون أن يهتز العقلاء فيهم للإصلاح أو التغيير، أو الأخذ على أيدي الفاسدين، لقد أصبَحت الذنوب العظيمة بسيطة أو صغيرة أو غير مهمة، أو لن تتكرر أو غير ذلك حتى ألِفْنا الباطل في نفوسنا وفي مجتمعنا، ولو نظر كل واحد منا إلى نفسه، وراجع يومه الذي مضى فقط لوجد أنه غارق إلى أذنيه في الذنوب، بين صغيرة وكبيرة، وبين موبقة وأخرى، ثم نقول بعد ذلك ونصرح، ونعلي من أصواتنا ونقول: نحن في خير ونعمة، ونحن أفضل من غيرنا.

    سبحان الله! من الذي أعطانا هذه الخيرية؟! ومن الذي أعطانا هذه الأفضلية؟! إذا كنا كذلك كما ندعي فلماذا هذه الأمراض والأسقام؟! لماذا هذه الهموم والغموم؟! لماذا فسد الأولاد؟! ولماذا ضاق العيش؟! ولماذا كثر الخوف؟! ولماذا انتشر القلق؟! ولماذا .. ولماذا .. ولماذا؟! أشياء كثيرة.

    لقد أصبحنا نرى الكبائر ولا نبالي، ولربما مارسناها نحن ولا نبالي، كم مرة عُدنا فيها إلى أنفسنا؟! كم من مرة أعلنا التوبة؟!

    بل -أيها الإخوة- أين المحاسبة للنفس يا عباد الله؟! قال عامر بن عبد الله : [رأيت نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَحِبْتُهُم، فحدثونا أن أكثر الناس إيماناً يوم القيامة أكثرهم محاسبة لنفسه].

    إن الذنوب التي نتلبس بها في كل يوم هي التي أقعدتنا عن القرب من الله، وأقعدتنا عن العودة إلى الله، يقول أسلافنا الكرام: إذا لم تقدر على قيام الليل، ولا صيام النهار فاعلم أنه قد كبلتك الذنوب. وكانوا يقولون: إن الرجل ليذنب فيُحرم به قيام الليل.

    1.   

    المؤمن الحق

    أيها الإخوة: إن الذنوب التي نفعلها هي التي أقامت الحواجز بيننا وبين ديننا العظيم، لقد أصبحت الآيات لا تؤثر فينا، لقد نسينا حقيقة الحياة التي نعيش فيها، نسينا دورنا في هذه الدنيا، لقد نسينا أو تناسينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة.

    هل تصدقون -أيها الإخوة- أن هذه الدنيا بكل ما فيها من زينة ومغريات.. بكل مناصبها.. بكل أموالها.. بكل ذهبها وفضتها ومجوهراتها.. بكل قصورها ودورها.. بكل شيء فيها.. بأناسها.. بحيواناتها.. بجبالها.. بأنهارها.. ببحارها.. بكل شيء فيها.. ببترولها.. بمعادنها.. بطاقاتها.. كلُّ شيء فيها لا يساوي عند الله جناح بعوضة.

    ولكم أن تضحكوا إذا علمتم أن الناس في هذه الدنيا يقتتلون على جناح واحد من بعوضة، فلماذا إذاً الاستهانة بالله؟!

    لماذا الانخراط في الذنوب كأننا لن نموت، وكأننا لن نتوسد التراب في القبور.. كأننا لن نبعث.. كأننا لن نحاسَب.. كأننا لن نمر على صراط إما إلى جنة وإما إلى نار؟! فلماذا الذنوب؟! لماذا يحسن الله إلينا في الليل والنهار ونحن نسيء إليه في الليل والنهار؟!

    انظروا -يا عباد الله- إلى عظمة من تعصون، ولا تنظروا إلى صغر المعاصي.

    فدعونا -أيها المسلمون الصادقون- نعود إلى الله، ونقبل إليه، إن لنا رباً لا يغلق الأبواب، ولا يرد أحداً دعاه، إن لنا رباً يبسط لنا يده ليتوب مسيء الليل ومسيء النهار، إن لنا رباً يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    أيها الإخوة: أنا لا أقول لكم: إننا يجب أن نتحول إلى ملائكة أطهار، لا نعصي ولا نذنب، إنما أقول كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) أو كما قال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده بين الفينة والفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خُلِق مُفَتَّناً توَّاباً نسيَّاً، إذا ذُكِّر ذَكَر) فكل واحد له ذنبه، وكل واحد له خطيئته؛ ولكن المؤمن الحق هو الذي يقع في الذنب غفلة ونسياناً لا متعمداً مصراً، يقع في الذنب نادراً لا دائماً، يقع فيه قليلاً لا كثيراً، يقع في الصغير لا في الكبير وهو مع ذلك يسرع إلى الله معترفاً بذنبه، خائفاً من عقوبته، يقع في الذنب فلا ينساه، بل يظل الشعور بالذنب يلدغ قلبه، ويكوي فؤاده، ويؤرق مضجعه، يتقلب على فراشه كما يتقلب على الجمر، يخشى أن ينزل عليه عقاب الله في أي لحظة من ليل أو نهار.

    إن المؤمن هو: الذي يصدُق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن).

    إن المؤمن الحق هو: الذي يقول الله فيه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

    قيل لـسعيد بن جبير : [من أعبد الناس؟ قال: أعبد الناس رجل اجترح ذنباً، فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه].

    إن المؤمن الفطن هو الذي يتذكر ربه حين يقع في الذنب، ويعود إليه سريعاً؛ لأنه يعلم أن الإغراق في المعاصي يجعل المعصية جزءاً لا يتجزأ من حياته، ويوقعه في حبائل الشيطان حتى تصبح الذنوب تجري في دمه لا يقدر على مفارقتها، ولربما فعلها وهو يبكي، يريد الخلاص فلا يستطيع، فقد أصبحت الذنوب شجرة كبيرة امتدت جذورها في أعماق قلبه، وعظُمت أغصانها في نفسه، وهو قد ضعُف إيمانه وفترت عزيمته وقل همه.

    لقد كانت تلك الذنوب بالأمس نبتة هشة كان يمكن أن يقتلعها بكل سهولة، وبقليل من الجهد، وكان في تلك الآونة يملك إيماناً أقوى، وعزماً أمضى؛ ولكنه فرَّط حتى أصبح الممكن مستحيلاً، إلا أن يشاء الله تعالى.

    إن المؤمن الحق هو الذي يسد مداخل الشيطان والهوى.

    إن البلاء والذنوب تبدأ باستسهال الحقير من الأمور، والصغير من الأشياء، لربما يبدأ الذنب بسيجارة، أو لربما يبدأ بنظرة، أو تبدأ الكوارث بجلسة لا يُذْكَر الله فيها، أو تبدأ الذنوب بكلمة تُلقى دون شعور، أو بسفرة قريبة أو بعيدة تبدأ باللذة والمتعة، وتنتهي بالعذاب والنقمة، إنها خطوات الشيطان، إنها مزلات الشيطان.

    إن المؤمن الحق -يا عباد الله- هو الذي إذا وقع في البلاء والذنوب استتر بستر الله، وبكى على خطيئته ولم يُعْلن بها أو يباهي بها، فذلك هو الضلال البعيد، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن بُلِي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل).

    إن المؤمن الحق -أيها الإخوة- هو الذي يتوب ويستغفر، ثم يستغفر، ثم يستغفر، إلى أن يلقى الله بالاستغفار، يقول عليه الصلاة والسلام: (طوبى لمن وَجَد في صحيفته استغفاراً كثيراً).

    إن الله -إيها الإخوة- يُعَلِّم نبيكم عليه الصلاة والسلام الاستغفار، ويقول له: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].

    ويقول له أيضاً: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:106].

    جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: [يا أبا سعيد! إني رجل تاجرتُ فخسرتُ، فقال له: الزم الاستغفار. وجاء آخر فقال: يا أبا سعيد! إني رجل عقيم لا يولد لي، فقال: الزم الاستغفار. وجاء ثالث وقال: يا أبا سعيد! أجدبتْ أرضنا وبلادنا، فقال: الزموا الاستغفار. فقالوا له: يا أبا سعيد! ذكروا أمراضاً شتى، وقلتَ لهم دواءً واحداً؟! قال: إن الله يقول: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]].

    فاستغفروا الله عباد الله، استغفروا الله من قلوبكم، وتضرعوا إليه تضرع الخائفين، واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم!

    1.   

    شتان بين من عاش في الطاعات والرضا وبين من عاش في المعاصي والسخط

    الحمد لله وكفى.

    والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى.

    أما بعد:

    أيها الإخوة: شتان بين رجل عاش حياته في الطاعات والرضا، ورجل عاش حياته في المعاصي والسخط، شتان بينهما عند الموت، على الرغم من أنهما في تلك اللحظات توجها إلى الله بالرجاء أن يغفر لهما ما سلف من أعمالهما، وأن يغفر لهما كل ما سلف، شتان بين الإمام الشافعي الإمام الجليل الكبير، وأبي نواس الشاعر الماجن!

    الشافعي رحمه الله لما حضرته الوفاة قال قصيدةً مؤثرة رائعة، يقول فيها:

    ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي     جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّما

    تعاظَمَني ذنبي فلما قرنتُه     بعفوك ربي كان عفوك أعظما

    فما زلتَ غفاراً عن الذنب لم تزل     تجود وتعفو مِنَّة وتكرما

    فلولاك لم يصمد لإبليس عابدٌ     فكيف وقد أغوى صفيَّك آدما؟!

    فلله در العارف الندب إنه     تفيض لفرط الوَجْد أجفانُه دما

    يقيمُ إذا ما الليل شد إزارهُ     على نفسه من شدة الخوف مأتما

    فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربهِ     وفيما سواه في الورى كان أعجما

    ويذكر أياماً مَضَت من شبابهِ     وما كان فيها بالجهالة أجرما

    فصار قرين الهم طول نهارهِ     أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما

    يقول: حبيبي أنت سؤلي وموئلي     كفى بك للراجين سُؤْلاً ومغنما

    ألستَ الذي غذيتني وهديتني     وما زلتَ منَّاناً علي ومُنعما

    عسى من له الإحسان يَغفر زلتي     ويستر أوزاري وما قد تقدما

    فهذا هو الرجل العظيم القوَّام الصوَّام، الإمام في التقوى، والإمام في الزهد، والإمام في الورع، والإمام في العلم، والإمام في الهدى، يخاطب الله بهذه الصيغة، وبهذه الصورة في لحظات الموت.

    أما أبو نواس ، ذلك الشاعر الذي عاش حياته كما يحلو له، وملأت سيرتُه كتبَ الأدب خلاعةً وفسقاً وفجوراً، حضرته الوفاة، فبحث عن الأصحاب والخلان والشهوات فلم يجدها، فأُغلقت عليه الأبواب، ولم يجد إلا باب الله، فطرقه وهو يقول:

    يا رب إن عَظُمَت ذنوبي كثرةً     فلقد علمتُ بأن عفوك أعظمُ

    إن كان لا يرجـوك إلا محسنٌ     فبمن يلوذُ ويستجير المجرمُ؟!

    ربي دعوتُ كما أمرتَ تضرعاً     فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمُ؟!

    أيها الإخوة: إن رحمة الله واسعة لا يحجبها أحد، ولا يضيقها شيء، فتوبوا إلى الله، واحذروا الذنوب.

    وصلوا وسلموا على رسولكم، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.

    اللهم عليك باليهود والنصارى والظالمين.

    اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك.

    اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.

    اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم وفقهم للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

    اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، واهده بهدايتك، يا رب العالمين!

    اللهم أصلح له البطانة، اللهم أصلح له البطانة، اللهم أصلح له البطانة.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها.

    اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

    عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755984767