إسلام ويب

الحياءللشيخ : إبراهيم الحارثي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ومن لم يرزقه بالفطرة طولب به بالقصد والاكتساب والتعلم، فهو خلق الأنبياء والرسل، وصفة من صفات الله عز وجل، وشعبة من شعب الإيمان، ولولا الحياء لانتشرت البذاءة والفحشاء.

    1.   

    خلق الحياء من منظور شرعي

    الحمد لله ينير البصائر، ويوقظ الضمائر، لا إله إلا هو الولي القاهر، أحمده سبحانه فهو للذنوب ساتر، وأشكره فهو للحسنات شاكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، هدى إلى الحق وأوضح المحجة، وأنقذ من الضلالة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فاتقوا الله يا عباد الله! فالتقوى تصلح الحال والمآل: وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].

    الحياء خلق الأنبياء عليهم السلام

    أيها الإخوة المؤمنون! رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالرسالة، ودعا إلى الله فارتقى المنابر، وخطب الناس، واستقبل الوفود، وجيَّش الجيوش، وخاض الحروب، وبقي ثلاثة وعشرين عاماً منتصباً للناس، يقصدونه أفواجاً من كل مكان، فيسمع منهم ويُسمعهم، ويقبل منهم ويرد، دونما وجلٍ أو خوفٍ أو اضطرابٍ أو خجل، ومع ذلك فقد ثبت في البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه).

    والحقيقة أيها الإخوة! أن الإنسان ليتأمل هذا الحديث فيعجب ويبلغ به العجب مداه، أيبلغ الحياء برسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدرجة، حتى يكون أشد حياءً من العذراء في خدرها .. من الفتاة البكر في داخل بيتها؟!

    فأين المسلمون اليوم من هذا الخلق؟!

    وإنه لمن مظاهر التوازن، وعلامات التكامل أن تجد المؤمن القوي الحازم الدءوب حيياً، خجولاً، أديباً، وقوراً، فالحياء خلقٌ يبعث على ترك القبيح، ومن لم يرزقه بالفطرة طولب به بالقصد والاكتساب والتعلم، فهو خلق لديننا المميز، جاء في الحديث الحسن: (إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء).

    وهو من سنن المرسلين، فقد جاء الخبر عن آدم عليه السلام أنه لما فر هارباً من الجنة بعد خطيئته، قال الله تعالى: (أفراراً مني يا آدم؟ قال: لا يا رب! بل حياء منك) وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وورد في مسند الإمام أحمد : (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حيياً كريماً يستحي).

    وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحياء، ورغب فيه فقال: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار) كما جعله عليه الصلاة والسلام من شعب الإيمان فقال: (والحياء شعبة من الإيمان) وقال أيضاً: (الحياء لا يأتي إلا بخير) ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من الأنصار يعِظ أخاه في الحياء، أي: ينكر عليه حياءه، قال عليه الصلاة والسلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان) بل جاء عن أهل الجاهلية وهم على جاهليتهم أنهم كانوا يتحرجون عن بعض القبائح بدافع من الحياء، ومن ذلك ما جرى مع أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه عند هرقل، لما سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه] يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم.

    الحياء صفة من صفات الله سبحانه وتعالى

    وأكمل من ذلك كله -أيها الأخ المؤمن- أن تعلم أن الحياء خلق من أخلاق الله عز وجل، فقد ورد في الحديث الصحيح: (أن الله عز وجل حليم حييٌ ستيرٌ يحب الحياء والستر) وجاء في الحديث الآخر: (إن الله حييٌ كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين) وجاء أيضاً: (أن الله يستحي أن يعذب ذا الشيبة يشيبها في الإسلام).

    قال يحيى بن معاذ رحمه الله: من استحيا من الله مطيعاً استحيا الله منه وهو مذنب . يعني: أن من كان مستحياً من الله في وقت طاعته، إذا واقع الذنب استحى الله عز وجل أن ينظر إليه؛ لكرامته عليه، فهل بعد هذا أيها المؤمنون نختار الحياء، أم نختار البذاء؟!

    هل نتحلى بالإيمان، أم نتحلى بالجفاء؟!

    هل نؤثر أخلاق أهل الجنة، أم نؤثر أخلاق أهل النار؟!

    1.   

    أنواع الحياء

    أيها الإخوة المؤمنون! أولاً: إن أعظم أنواع الحياء: هو أن يستحيي المرء من الله جل وعلا، ويتجنب معاصيه، فقد ورد في الحديث المرفوع: (استحيوا من الله حق الحياء، فقيل: كيف نستحي من الله عز وجل حق الحياء؟ قال: أن تحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).

    إن المؤمن الحيي هو الذي يعلم يقيناً بأن الله يراه في كل أحواله، فيستحيي من ربه، وقد ورد في التستر عند الاغتسال في الخلوة قوله صلى الله عليه وسلم: (الله أحق أن يستحيا منه من الناس) والذي يستحيي من ربه إن كشف عورته في خلوته، حريٌ أن يمنعه ذلك الحياء من الإقدام على المعاصي.

    وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (استحيي من الله كما تستحيي من رجل من صالح عشيرتك) يعني: من ذوي الهيئة من قومك.

    وكم نفتقد -أيها الإخوة- في زماننا هذا مثل هذا الحياء، فقد أصبح الناس إلا ما رحم الله لا يستحيون، ولو استحوا لاستحوا من ذوي الهيئات أكثر من استحيائهم من الله جل وعلا، ودليل ذلك ما نراه من تظاهرٍ بالكلام والعبارات بسلوك الخلق القويم أمام الناس، فإذا ما خلا المتحدث بنفسه لم يجعل لله حرمة ولا حقاً، وجعله أهون الناظرين إليه.

    ثانياً: من أنواع الحياء: الحياء من الناس، فيكف المرء عنهم أذاه، وفحشه، وهو من كمال المروءة وعظيم الخلق.

    وإني ليثنيني عن الجهل والخنـا     وعن شتم ذي القربى خلائق أربع

    حياءٌ وإسلامٌ وتقوى وطاعـةٌ     لربي ومثلي من يضر وينفع

    والحياء في التعامل مع الناس خلق أصيل، وذوق رفيع، ينم عن شخصية صاحبه المهذبة الوقورة، قال الشاعر:

    لا تسأل المرء عن خلائقه     في وجهه شاهد من الخبر

    إذا رأيت الرجل -أيها الأخ المسلم- يحتقن وجهه، وتحمر وجنتاه، وتتساقط حبات العرق من جبينه، فاعلم أنك أمام رجل حيي مهذب وقور.

    قال بشير بن كعب رحمه الله : مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقاراً، وإن من الحياء سكينة.

    ثالثاً: من أنواع الحياء: حياء الإنسان من نفسه، وهو حياء الشرف والعزة، وحياء النفوس الشريفة الرفيعة، حين لا ترضى لنفسها بالنقص، أو حين يصدر منها ما هو دون قدرها فتستنكره وتأباه.

    وهذا الحياء يكون بالعفة وصيانة الخلوات، قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك.

    وقال آخرون: من عمل عملاً في السر، يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر.

    وروي أن رجلاً كان يألف قوماً، ويجلس معهم، ثم امتنع عليهم، فلما دعوه وأقبلوا إليه قال: يا قوم! لقد دخلت في الأربعين وإني لأستحيي من سني، فسري كإعلاني، وتلك خليقتي، وظلمة ليلي مثل ظلمة نهاري.

    1.   

    الجرأة في الحق لا تنافي الحياء

    أيها الإخوة! أمر مهم يحسن التنبيه إليه: ليس من الحياء أبداً أن يترك المرء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أن يضعف عن الجرأة في الحق، أو أن يترك السؤال عن أمور دينه، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: وأما ما يقع سبباً لترك أمرٍ شرعي فهو مذموم، وليس بالحياء الشرعي، وإنما هو ضعف ومهانة.

    وقال مجاهد : [لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا متكبر].

    وقالت عائشة رضي الله عنها : [نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين].

    وكانت أم سليم رضي الله عنها تسأل في مسائل دقيقة من أحكام النساء، وتستفتح سؤالها بقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق).

    فاتقوا الله عباد الله! واعرفوا أخلاق دينكم، واستحيوا فإن الحياء من الإيمان.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    أمور تنافي الحياء

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

    وبعد:

    أيها الإخوة! يقول الشاعر العربي:

    ولقد أصرف الفؤاد عـن الـ     شيء حياء وحبه في السواد

    أمسك النفس بالعفاف وأمسي     ذاكراً في غدٍ حديث الأعادي

    وقال آخر:

    وربَّ قبيحة ما حال بيني     وبين ركوبها إلا الحياء

    إذا رزق الفتى وجهاً وقاحـاً     تقلب في الأمور كما يشاء

    إي والله أيها الإخوة! إذا رزق الفتى بالوجه الوقح الصلف تقلب في الأمور كما يشاء، وقد ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له.

    وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: [إذا أراد الله بعبدٍ هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً] وكم في زماننا من أناس خلعوا جلباب الحياء، ورموه خلف ظهورهم؛ فأصبحوا والله مقيتين ممقتين، يكرههم الناس في الدنيا، ويكرههم الملائكة في السماء.

    فإذا رأيت يا أخي! من يسمع النداء والإقامة ويرى الناس يدخلون إلى المسجد زرافات ووحداناً، وهو جالس على الرصيف، أو يتسكع في طرقات الأسواق، فاعلم أنه قد فقد الحياء.

    وإذا رأيت الرجل يضاحك أصحابه وخلاّنه بالخنا والفحش والبذاء؛ فاعلم أنه قد فقد الحياء.

    وإذا رأيت الرجل يستخف دمه وعقله، فيحدث الناس بما يدور بينه وبين زوجته؛ فاعلم أنه رجل قد فقد الحياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن شر الناس عند الله منزلة من يفضي إلى زوجته وتفضي إليه ثم يصبح ليهتك سرها).

    وإذا رأيت يا أخي! المنافقين والمتملقين الذين يجعلون الحق باطلاً والباطل حقاً، فاعلم أنهم قد فقدوا الحياء.

    وإذا رأيت الرجل يتصدر المجالس فيكذب، ويلغط، ويستأثر بالحديث، ويسب ويشتم؛ فاعلم أنه قد فقد الحياء.

    وإذا رأيت من لا يقدر الكبير، ولا يُجِلُّ أصحاب الهيئات وذوي الدين؛ فاعلم أنه رجل قد فقد الحياء.

    وإذا رأيت الرجل يترك لأولاده الفرصة الكاملة ليرتعوا في الأماكن العامة كالمستشفيات، أو في الأماكن المقدسة كالمساجد؛ فاعلم أنه بارد لا حياء عنده.

    وإذا رأيت الرجل يترك زوجته تخرج هنا وهناك مع السائق الأجنبي دون حاجة أو ضرورة، وقد يكون السائق كافراً لا دين له؛ فاعلم أنه قد فقد الحياء والغيرة.

    وإذا رأيت المرأة تكشف وجهها، وتظهر حسنها، وتتجول في الأسواق، فاعلم أنها قد فقدت الحياء.

    وإذا رأيت المرأة -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تضاحك سائقها، وتضرب على كتفه برقة، ويبادلها ضحكة بضحكة؛ فاعلم أنه لا حياء لها.

    وإذا رأيت أصحاب النظارات السوداء التي توضع على العين في أي وقت ودون حاجة، ودون ضرورة، أو رأيت أصحاب الفنائل المزركشة، والبناطيل الضيقة، والشعور المسدولة المبعثرة، إذا رأيتهم يمشون في الشارع وهم يتمايلون، وفي أفواههم السجائر أو اللبان، ويشهرون بالغادين والرائحين، ويتضاحكون منهم؛ فاعلم أنهم قد فقدوا الحياء، والله على ذلك شهيد.

    وإذا رأيت الرجال والنساء على شاطئ البحر عراة يجلس بعضهم إلى بعض؛ فاعلم أنهم قد فقدوا الحياء.

    وإذا رأيت المرأة وفي يدها السيجارة أو الشيشة تفعل ذلك أمام الناس، أو بين النساء؛ فاعلم أنها قد فقدت الحياء.

    وإذا رأيت ثم رأيت أشياء وفجوراً ومسخاً كثيراً، فاعلم أن أولئك قد فقدوا الحياء.

    ومن أعظم أنواع الوقاحة ودركات الانحطاط ما يسمونه بالفن، حُيث يتحفون هذا الفن في كل يوم بمسلسل، أو بفيلم كلها غرام وحب وآهات وتغزل وفحش وخنا ورقص وتمايل وطرب، يخجل الرجل الكبير أن ينظر إليها، فما بالكم بالنساء والفتيات والصغار، إذا رأيت ذلك وسموه بالفن؛ فاعلم أن أصحابه لا حياء لهم، ولم يستحيوا من الله ولا من الخلق.

    أيها الإخوة! أود أن أقول في النهاية: لو أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث فينا اليوم ورأى ما نرى، وسمع ما نسمع، بالله عليكم ماذا سيقول يا عباد الله! عن هذه الأمة التي تنسب إليه؟!

    إنه سيقول: (ليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي).

    عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على دربه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم عليك باليهود والنصارى ومن شايعهم على باطلهم يا رب العالمين، اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك باليهود ومن عاونهم يا قوي يا عزيز، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.

    اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، واهده بهدايتك يا رب العالمين، اللهم أصلح له البطانة.

    اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

    عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756294124