إسلام ويب

سكب العبراتللشيخ : إبراهيم بو بشيت

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الموت ونزعته، والقبر ووحشته، أذان من الله تعالى بانتهاء ساعات الاختبار، وابتداء ساعات الجزاء، وعليها يسعد الفائز، ويندم الخاسر. وكم من أناس كتبت لهم الخاتمة الحسنة جزاءً لأعمالهم الصالحة، وكم من أناس كتبت لهم الخاتمة السيئة جزاءً لأعمالهم السيئة. وكم من ضحية للموت مرت أمام أعيننا تذكر الغافل بأن يغتنم الفرصة قبل سكب العبرات.

    1.   

    التفكر في عظمة الله

    الحمد لله الذي هدم بالموت مَشِيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، فجعلهم أغراضاً لسهام الأقدار، ووَكَل بهم أمراضاً تزعجهم عن القرار، ولم يخص بها الفقراء دون أهل اليسار، بل هي آيات الله عَدْلٌ بالبادين والحُضَّار، أحمده على نعمه، وأعوذ به من العتو والإصرار.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً منجية من النار، مُبَوِّئةً مَن شَهِد بها دار القرار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله ربه بأيْمَنِ شِعار، وأنورِ منار، وأظهرِ إعلام، حتى دعا بين الشعاب فأعلن الشعار: (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) اللهم فصلِّ عليه وعلى آله الكرام، وصحابته الأطهار، ومن تبعهم بإحسان، وسلِّم تسليماً كثيراً.

    سبحان من أتته السماء والأرض طائعة! ودانت لعظمته الجبال خاشعة! وتحركت الأرض واهتزت ورَبَت لأمره دانية! .. سبحانه! كم أضحك مِن سِن! وأبكى مِن عين! وقطع الألسنة الفصيحة بسيف الموت! وبتر الرءوس العنيدة بصارم الفناء فأخذها بغتة! سبحانه مَن دل على نفسه بنفسه! ذِكْره شريان نابت في الأرواح! وعبادته عظَمة! وطاعته لذة! سبحانه أطعم وسقى! وأهدى وأسدى! وكفى وآوى! وخلق فسوى! وقدر فهدى! وأَمَاتَ وَأَحْيَا وخَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى.

    إلهي مَن استراح بغير ذكرك أو     رجا أحداً سواك فذاك ظلٌ زائلُ

    إلهي! يا من يلجأ ببابه اللاجئون! ويطلبه الطالبون! ويا مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ! اعصمنا من الفتن، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

    أيها الأحبة في الله! يا من تاقت لكم النفوس! حتى سُرَّت لما رأتكم، وابتهجت الأرواح بمُجالستكم! أحييكم بقلبي ولساني:

    أهلاً وسهلاً والسلام عليكمُ     وتحيةً منا تُزَفُّ إليكمُ

    أحبابنا ما أجمل الدنيا بكمْ     لا تقبح الدنيا وفيها أنتمُ

    ففي عشية هذه الليلة المباركة نعايش معكم -أحبتي في الله- محاضرةً بعنوان: (سكب العبرات عند نزول هاذم اللذات).

    فأوصيكم -أحبتي ونفسي- في هذا اللقاء بتقوى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي وصَّانا في كتابه فقال لنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] .

    أيها الإخوة والأخوات! عندما سمعتُ بوفاة أحد الأخيار اتصلتُ على مَن شاهد القصة وعاش وقائعها بنفسه، فقلت له: أخي! أخبرني عن وفاة فلان رحمه الله تعالى، خصوصاً أن قصته مباركة.

    فقال: أخي! كنا نصلي صلاة العصر، وانصرف الناس ولم يبقَ في المسجد إلا القليل، بقيت أنا وصاحبنا فلان ومؤذن المسجد ونزر يسير من الإخوة، وفي لحظة من اللحظات كان أخي كعادته جالساً يذكر الله تعالى بعد الصلاة، وفجأةً سقط على ظهره، وكنت بعيداً عنه قليلاً، فظننته يريد أن يرتاح، وإذا بي أفاجأ ببعض الحركات، ففزعت إليه، وإذا بي أرى حالاً عجيبة وكأنها سكرات الموت؛ ولكن لأول مرة في حياتي أرى إنساناً بهذه الصورة، فبدأت أردد عليه، قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله؛ ولكن سبحان الله! لقد خرجت روحه وهو على تلك الحال يعقد التسبيح لله سبحانه وتعالى، فذهبنا به إلى المستشفى أنا وصاحبي وجلسنا حتى قبيل المغرب، والأطباء وكل من رأى حاله يقول: لم أرَ إنساناً توفي بهذه الحال وبهذا النور وبهذا الخير: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

    1.   

    الخوف من الموت وعدم الغفلة عنه

    سبحان الله! إن في تقلب الليالي والأيام عظة لمن اتعظ، وذكرى لمن تذكر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37] نعم. لمن كان له قلب: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37] فكم فارق الإنسانُ منا حبيباً من أحبابه! وصاحباً من أصحابه! وخليلاً من خلانه! تأمل! إن في خطف الأبصار، وانقطاع الأنفاس، واضمحلال الأعمار، وذبول الأوراق، وحدوث الخسوف والكسوف، وتعاقب الحر والبرد لذكرى لمن أراد الانتهاء والازدجار، والإنابة والرجوع، فجِسْمٌ بلا قلب لا يعمل ولا ينجح، وبلا رَبِّه لا يفلح.

    إنها روح تخرج فلا تدري إلى أي المصير تصير! هاأنت ترى تَخَطُّفَ الموتِ للصغير والكبير، والمريض والصحيح!

    فيا سبحان الله! يا سبحان الله! كيف أنِسَ بالدنيا واغتر بها مَن الموتُ أقرب إليه مِن شراك نعله؟!

    وكيف يغفل عن الموت وهو يعلم أنه ملاقيه؟!

    قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8] لقد ألهت الدنيا الفانيةُ الإنسان، فقلَّ ذكرُ الموت عنده، وكثر ذكرُ الدينار والدرهم، فمجالسنا في أي شيء تُقْضَى إلا مَا شاء الله؟! تُقْضَى في العقارات، والسيارات، والمباريات، والسفريات، والبيع والشراء، وتناول اللحوم الميتة بالغيبة والنميمة والبهتان! عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقال رجل من الأنصار: مَن أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أكثرهم للموت ذكراً، وأشدهم استعداداً له، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة) رواه ابن ماجة ، وحسنه الألباني .

    قال عمر بن عبد العزيز : [ألا ترون أنكم تجهزون في كل يوم غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل، تضعونه في صدعٍ من الأرض، قد توسد التراب، وخلَّف الأحباب، وقطَّع الأسباب، فيا ويح ابن آدم! إن أمامه ثلاثة أشياء: موت كريه المذاق، ونار أليمة العذاب، وجنة عظيمة الثواب] .

    ألست ترى فيما مضى لك عبره     فمه لا تكن يا قلب أعمى يلددُ

    فكن خائفاً للموت والبعث بعده     ولا تك ممن غرَّه اليوم أو غدُ

    قال ابن بشار: قررنا مع إبراهيم بن أدهم في مقبرة، فتقدم إلى قبر ووضع يده عليه، ثم قال: رحمك الله يا فلان، ثم تقدم إلى آخر فقال مثل ذلك، حتى فعل بذلك في سبعة من القبور، ثم قام قائماً بين تلك القبور فنادى: يا فلان! يا فلان! بأعلى صوته، لقد مُتم وخلفتمونا، ونحن بكم سريعاً لاحقون، ثم بكى وغَرِق في فكره، ورجع بعد ساعة فأقبل إلينا بوجهه ودموعه تنحدر كاللؤلؤ الرطب، وقال: إخوتي! عليكم بالمبادرة والجد والاجتهاد، سارعوا وسابقوا، فإن نعلاً فقدت أختها سريعة اللحاق بها.

    1.   

    الواعظ الصامت

    فسبحان الله مَن كتب الموت على خلقه؛ ليتفرد بالبقاء!

    سبحان مَن كتب الموت على خلقه ولو كانوا في القصور المشيدة! والدور المزخرفة! وقال وقوله الحق: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] !

    سبحان مَن كتب الموت على خلقه ليقطع عن أهل الشهوات اللذات، ويعاجل بأهل الطاعات إلى الجنات! ولتفزع القلوب إلى ربها، وتتذكر خالقها، فتتوب، وترجع، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]!

    نعم والله، أما آن لك ولقلبك أن يخشع؟!

    أما آن لروحٍ أن تخشع وتشتاق إلى الله؟!

    أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] .

    سبحان مَن كتب الموت على خلقه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]!

    جاء عند الترمذي عن شداد بن أوس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) فمن منا إذا لبس البياض تذكر الكفن! وإذا لبس ثياب الإحرام تذكر يوم الحشر والنشور! وإذا أراد النوم قال: لعلي لا أجلس بعد هذه الجلسة أبداً! وإذا رأى ظلمة الغرفة تذكر القبرَ وظلمتَه؟!

    قال القرطبي قال: كان بعض الصالحين ينادي بليلٍ على سور المدينة : الرحيل .. الرحيل .. فلما توفي فَقَد صوتَه أميرُ المؤمنين، فسأل عنه، فقيل: إنه قد مات، فقال:

    ما زال يلهج بالرحيل وذكرِه     حتى أناخَ ببابِه الجمَّالُ

    فأصابه متيقظاً متشمراً     ذا أُهْبَةٍ لَمْ تُلْهِهِ الآمالُ

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا مِن ذكر هاذم اللذات، أكثروا من ذكر هاذم اللذات) رواه الترمذي و ابن ماجة و الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم .

    كان يزيد الرقاشي رحمه الله تعالى يقول لنفسه: ويحك يا يزيد ! مَن ذا يصلي عنك بعد الموت؟!

    من ذا يصوم عنك بعد الموت؟!

    من ذا يترضَّى عنك بعد الموت؟!

    ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟!

    مَن الموت طالبُه، والقبر بيتُه، والتراب فراشُه، والدود أنيسُه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟! ثم يبكي حتى يسقط مغشياً عليه.

    أيها الفضلاء! إن الموت آتٍ قريب، لا يحجبه حجاب، ولا يمنعه طبيب، ولا يحول دونه ستار، فعجباً لمن زخرف دار الفناء ونسي دار البقاء، وهو لا يعلم متى ينزل عليه هاذم اللذات! إنه الأجل المحتوم الذي إذا جاء لا يقدم ولا يؤخر:

    فيا نفس توبي فإن الموت قد حانا     واعصي الهوى فإن الهوى لا زال فتانا

    في كل يوم لنا ميت نشيعه     نحيي بمصرعه آثار موتانا

    يا نفس ما لي وللأموال أجمعها     خلفي وأخرج من دنياي عريانا

    1.   

    الإكثار من ذكر هاذم اللذات

    فالموت يأتي للإنسان في كل مكان، قال الله عز وجل: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] وكم من الناس ذهب لبلادٍ غير بلاده وأرضٍِ غير أرضه؛ ذهب ماشياً وجاء محمولاً! ذهب ليتعالج عند الطبيب فلم ينفعه الطبيب! وقد جاء في الآثار الصحيحة: (إذا أراد الله قبض عبد بأرضٍ جعل له إليها حاجة) وصدق الله إذ قال: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل.

    عن عبد الله بن العيزار قال: لابن آدم بيتان:

    - بيت على ظهر الأرض.

    - وبيت في بطن الأرض.

    فعمد للذي على ظهر الأرض فزخرفه وزينه، وجعل فيه أبواباً للشمال وللجنوب، وصنع فيه ما يصلح لشتائه وصيفه، ثم عمد للذي في بطن الأرض فأخربه، فأتى عليه آتٍ فقال: أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته كم تقيم فيه؟ نعم يا أخي! نعم يا أمة الله! كم سنقيم في بيوتنا؟!

    فقال: لا أدري.

    قال: فالذي قد أخربته كم تقيم فيه؟

    قال: فيه مقامي.

    قال: تقر بهذا على نفسك وأنت رجل يعقل؟!

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استكثروا ذكر هاذم اللذات؛ فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وَسَّعه، ولا ذكره أحد في سَعةٍ إلا ضيَّقها عليه) رواه الترمذي وهو حسن، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] فيجيء الجواب من علام الغيوب: (كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:99-104] .

    الموت وسكراته

    أيها الأحبة في الله! إن للموت لسكرات وأنَّات وحسرات، فهنيئاً لمن ظفر بحسن الختام! فلقد اشتد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول أمنا عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة أو إناء فيها ماء، فجعل صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- يدخل يده المباركة في ذلك الإناء ويمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات! إن للموت لسكرات! ثم نصب صلى الله عليه وسلم يده وجعل يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، حتى مات عليه الصلاة والسلام) رواه البخاري رحمه الله.

    إنها لحظة ويقال: فلان فلان! فما الجواب؟ فلان مات: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:19-20] فمهما سارت بالإنسان الركبان، ومرت عليه الليالي والأيام، فإن الموت أمامه؛ ولكن حب الدنيا وكراهية الموت هو الذي شغلنا، عن جابر بن زيد رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعواد، فغرس إلى جنبه واحداً، ثم مشى قليلاً فغرس آخر، ثم مشى قليلاً فغرس آخر، ثم قال عليه الصلاة والسلام: هل تدرون ما هذا؟ فقال: هذا مثل ابنِ آدم وأجلِه وأملِه، فنفسه تتوق إلى أمله، ويخترمه أجله دون أمله) أخرجه وكيع في كتاب الزهد وقال محققه: إسناده صحيح لكنه مرسل، وأخرجه ابن المبارك وابن أبي الدنيا وهو عند البخاري بمعناه.

    فيا مَن تمر عليه سَنَة بعد سَنَة وهو مشتغل في نوم الغفلة والسِّنَة! ويأتيه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا! يا مَن يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور، ويسمع الآيات والسور ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور! ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور؟!

    فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وصدق الله: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] .

    فالموت يقطع اللذات، ويورِّث التبعات، قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [الشعراء:205]. كم تريد يا أخي؟!

    ستين أم سبعين أم مائة عام؟!

    كم تريدين يا أمة الله أن تعمري من الأعوام؟!

    لنسأل أنفسنا إخوتاه: كم نريد؟!

    أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:105-207] تلا أحد السلف هذه الآية وبكى وقال: إذا جاء الموت لم يغنِ عن المرء ما كان فيه من اللذة والنعيم.

    دخل رجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: [أوصني؟ فقال له: أوصيك بثلاث: أن تحفظ آلاء الله عليك في كل حال كنت، وأن تذكر اطِّلاع الله عليك في كل حال كنت، وأن تذكر الموت ودخول القبر على أي حال كنت] نعم أخي! والله لأنْ تُخَوَّف وتُذَكَّر حتى تفوز بالجنة خير من أساليب العلمانيين الذين يقولون: إلى متى وأنتم تدغدغون المشاعر؟! نعم. إلى متى؟! إلى أن نضع أول قدم في الجنة بإذن الله.

    الموت يسكب العبرات! فما تنفع الشفاعات ولا الوساطات! إذا نزل الموت هاذم اللذات! فكم من مفتضحٍ ومستور! ومعذب ومرحوم! ومن هالك وناجٍ!

    فيا ليت شعري ما حالي وحالك أخي في تلك اللحظات! عندما توضع الصحائف فيعرف كل واحد منا مقعده من الجنة أو من النار!

    ويا خيبة الخاسر! عندما تعظم عليه السيئات: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49] نعم. أيَّ صغيرة وكبيرة.

    أين تلك السهرات على المحرمات؟!

    وتلك اللحظات التي سُمِع فيها المجون، ورُئِي فيها الحرام؟!

    ولكن صدق الله: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] .

    عند نزول السكرات تبيضُّ وجوه أهل الإيمان، وتسودُّ وجوه أهل العصيان، فكيف إذا وقفوا بين يدي الله جل جلاله؟! قال الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107] .

    اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!

    اللهم يَمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وبيِّض وجوهنا.

    1.   

    إنما الأعمال بالخواتيم

    يا حسرة من نزل به ملك الموت وهو على العصيان والمجاهرة والمحاربة للرحمن!

    أخبرني أحد الإخوة العاملين في أمن الطرق قال:

    وقع حادث على إحدى الطرق السريعة -وسمَّاه لي- وكان ذلك في نهار رمضان الساعة الواحدة والنصف ظهراً، فذهبنا إلى مكان الحادث، وفوجئنا بسيارة صغيرة قد ارتطمت بشاحنة كبيرة، قال: وإذا بي أرى شابين كل منهما قد فاضت روحه إلى الله تعالى؛ ولكن يا للمصيبة العظمى! سيجارة الدخان في يديهما لم تنطفئ بعد، والأكل بينهما، ربما كانا مسافرَين؛ ولكن قد ماتا وصوت الغناء يخرج من السيارة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! هنا تُسكب العبرات.

    أيها الأحبة في الله! وهؤلاء نخبة طيبة مباركة من الشباب الصالحين من هذه المملكة نحسبهم كذلك والله حسيبهم، مضوا غادين بالسيارة إلى إحدى المناطق القريبة من بلدتهم، وهم على ضفاف الربع الخالي لينشروا الخير ويقوموا بالدعوة إلى الله تعالى، وفي أثناء الطريق أخذ هذا يراجع القرآن، والآخر يشتغل بالذكر، والثالث -وهو أخونا المكلف بإعداد خطبة الجمعة- يقلب صفحات الأوراق يتأمل ويمحص فيها؛ ليستعد ويتهيأ للخطابة، وفي لحظة مفاجئة انفجر إطار السيارة مما حاد بها عن جانب الطريق فتقلبت عدة تقلبات، فبين مَن مات في تلك اللحظات! ومَن ظل بعض الساعات! ومَن سلمه الله من الهلكات! والناس ينتظرون الخطيب للجمعة، وما علموا أنهم بدلاً من أن يصلي بهم صلوا عليه، فهنيئاً واللهِ لهم، فهم بين ذاكر وتالٍ، ماتوا وهم في طريق دعوة إلى الله تعالى، بل وأهل بلدتهم يذكرونهم ويذكرون نشاطهم، فأخونا الخطيب لا تزال حلقات القرآن تتذكر جهوده، ومشاريع الخير تبكي الدموع على فَقْده، ودُور الأيتام تشهد له جهوده، وطلاب مدرسته يتذكرون توجيهه. نقلت ذلك مجلة الأسرة في عددها (99).

    فيا سعادة من جاءته المنية وهو يطيع الله تعالى!

    ويا خيبة من جاءته المنية وهو على عصيان الله تعالى عاكف!

    أليس الله تعالى يقول: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] ؟!

    1.   

    السلف الصالح وحالهم مع اللحظات الأخيرة

    لقد اطمأنت هِمَم القوم عند هجوم السكرات بكثرة الأعمال الصالحات، تأمل -يا أخي!- هذه الحادثة رعاك الله.

    هذا أبو بكر بن عياش لما حضرته الوفاة كانت أخته تبكي عند رأسه، فقال لها: لا تبكي، انظري إلى تلك الخزانة -أي: إلى تلك الزاوية من الغرفة- لقد ختم أخوكِ القرآن في تلك الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة الله أكبر!

    أيها الإخوة والأخوات! إنها ساعة قدوم الموت وسكراته، فيا لها من مصيبة عظيمة حينما تتغرغر الروح، وتيبس اليدان، وتشخص العينان، حينها تتميز النفس المطمئنة بطاعة الله من النفس الخبيثة التي طالما حاربت الله بالمعاصي، قال الله تعالى: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:26-40] .

    فعجباً لهم وهم في حال نزول السكرات يسترجعون التاريخ لا ليفتخروا؛ ولكن ليحاسبوا أنفسهم! تأمل معي: عن ابن شماسة المهري قال: (حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً -هل بكى على الدينار والدرهم؟! هل بكى على فراق الوظيفة؟! بكى على ماذا يا ترى؟!- وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: يا أبتاه! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟! -أي: بشرك بالجنة- قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -تأملوا قول عمرو بن العاص - قال: إني كنت على أطباقٍ ثلاث: لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك لأبايعك، فبسط يمينه صلى الله عليه وسلم، قال: فقبضتُ يدي، قال: ما لك يا عمرو ؟ قلت: كنت أردت أن أشترط يا رسول الله! قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط يا رسول الله! أن يُغْفَر لي، قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟! وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلتَ أن أصفه، ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة، ثم يقول عمرو : ثم وُلِّينا أشياء -أي: مناصب هذا عمرو يحاسب نفسه- ما أدري ما حالي فيها! فإذا أنا مت فلا تصحَبْني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا عليَّ التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تُنْحرُ الجَزور ويُقْسَّمُ لحمُها؛ حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) .

    1.   

    حال المسلم عند سكرات الموت وبعده

    أيها المسلم الغالي! عند نزول السكرات يعرَّق جبينك، ويتتابع أنينك، وترتفع جفونك، ويتلجلج ويتحير لسانك، ويبكي أولادك وإخوانك، فيقال لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، وهذه أمك، وهذا أبوك، وبصرك شاخصٌ، وعينك غرقى من الدموع، ولا تقدر على الكلام، فلا إله إلا الله!

    اللهم هون علينا سكرات الموت.

    فتصوَّر يا أخي! نفسك وأنت ملقىً على الأرض التي خُلِقْت منها جثةً تتصاعد روحُك إلى السماء، والناس من حولك يبكون؛ ولكن دون جدوى؛ فقضاء الله وقدره لا بد أن ينزل بك؛ لأن الموت أعظم المصائب: فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْت [المائدة:106] ثم خُتِم على لسانك فلا ينطق، وحَلَّ بك القضاء، وانتُزِعت نفسُك من الأعضاء، وعُرِج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك أولادك وإخوانك، وأُحضرت أكفانك، وجيء بالنعش، وجاء المغسِّل فجردك من الثياب وغسلك، وجيء بالكفن فكفنوك وحنطوك، وانقطع عُوَّادك، واستراح حُسَّادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيتَ مرتهناً بأعمالك، فيا لها من رحلةٍ! ويا له من قدوم!

    1.   

    اغتنم خمساً قبل خمس

    اعلموا -إخوتي!- أنكم في فرص عظيمة ما دمتم على ظهر هذه الأرض، فلا تضيعوها، إذا نزل هاذم اللذات قطع كل شيء، وإن كانت أعمالاً صالحات، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) رواه الحاكم في المستدرك ، واللفظ له، وقال: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي .

    (شبابك قبل هرمك) أخي الشاب! استغل الفرص قبل فواتها. (وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) بل كلها تحتاج إلى وقفات، فالحياة لا تستقر على قرار، ولا تدوم على حال، فكم من مصبح ولعلَّه لا يمسي!

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) .

    وكان ابن عمر يقول: [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] رواه البخاري .

    قال ابن حجر رحمه الله: وفي ذلك إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا، وأخذ البُلْغة منها والكفاف.

    وقال النووي رحمه الله: معنى الحديث: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدِّث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق بها الغريب في غير وطنه.

    أيها الإخوة والأخوات! علامَ لعِبَت الدنيا بعقول الكثير منا فصار الباني يبني وكأنه يصير إلى قرار، والمشتري يشتري وكأنه ليس إلى زوال، وما علِمْنا أن هذه الدنيا الفانية لا تساوي شيئاً أمام الآخرة الباقية؟!

    فعن سهل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) .

    إن طول الأمل هو الداء الدفين الذي جعل النفوس تغفل عن الموت، والاستعدادِ له، نتخاصم ونتشاحن ونتنازع ونتضارب، من أجل ماذا؟ من أجل الدنيا؟! من أجل حطامها؟! من أجل أرض سوف نفارقها؟! وزوجة سوف نتركها؟! ووظيفة سوف نذهب عنها؟! فعلى ماذا يا ترى نتخاصم؟!

    قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: [ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤملُ الدنيا والموت يطلبه، وغافلٌ وليس يُغْفل عنه، وضاحكٌ ملء فيه ولا يدري أساخطٌ ربُّ العالمين عليه أم راضٍ] .

    يقول علي رضي الله عنه: [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة] ذكره البخاري في باب: طول الأمل.

    يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب؛ لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكر الموت والقبر والثواب وأهوال يوم القيامة.

    فيا أبناء العشرين! كم مات من أقرانكم وتخلفتم؟!

    يا أبناء الثلاثين! أصبتم بالشباب على قربٍ من العهد فما تأسفتم!

    يا أبناء الأربعين! ذهب الصبا وأنتم على اللهو قد عكفتم!

    يا أبناء الخمسين! ناصفتم المائة وما أنصفتم!

    يا أبناء الستين! أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم!

    أتلهون وتلعبون؟! لقد أسرفتم!

    إنا لنفرح بالأيام نقطعها     وكل يومٍ مضى يدني من الأجلِ

    فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً     فإنما الربح والخسران في العملِ

    1.   

    الحذر من طول الأمل والاستعداد للرحيل

    الموت آتٍ قريب، فلماذا لا نتذكر فندَّكر، ونتأمل فنتَّعظ؟!

    أخي! أنت مسافر فأهِّل الزاد بالأعمال الصالحات، وزينها بالتقوى والنوايا الصادقات، واستعد للوقوف بين يدي رب الأرض والسماوات.

    فاستعد لقرارك، قبل رحيلك من دارك، فإنك لا تدري إلى أي المصير تصير.

    هل تعلم يقيناً يا أخي! أنك تغادر هذا المكان! يا سامعاً حديثي! وأنتِ يا أمة الله؟!

    وهل تعلم يقيناً أنك تضمن حياتك؟!

    فالموت يأتي ليس للمريض والمنكوب والمصاب فقط، بل حتى للإنسان وهو في غمار الحب وأعظمِ لحظات السرور.

    - هذه فتاة تعايش ألَّذ الساعات في حياتها، وأجمل الدقائق مع مشاعرها، خُطِبت فأخذت تستعد في ليلة زفافها، اشترت الحوائج والمستلزمات، هيأت نفسها كذلك، وما بقي على ليلة زفافها إلا بضع ليال.

    ولكن ما علمت أنها سوف تترك هذا كله، فألَمَّ بها الموت وآلامُه وسكراتُه دون مقدمات وعلامات، وخلال يومٍ واحد أو ما يقاربه، ظلت في المستشفى وانتقلت إلى الله سبحانه وتعالى، جبر الله كسر زوجها وأسرتها. حدثني بذلك أخوها من الرضاع.

    - ولا أنسى ذلكم الأب الذي فرح بزفاف ولده، خصوصاً وهو يعايش أحلى الأيام، وهو يستقبل المهنئين والمباركين في أيام الزواج الأولى من زواج ولده، حتى انتقل ولده إلى الله تعالى، جاءه الموت فقطع الفرح واللذات، وانقلب المهنئون إلى معزين، فبدل أن يقولوا: بارك الله لهما، وبارك عليهما، وجمع الله بينهما في خير، أخذوا يرددون: أعظم الله أجركم، وأحسن الله عزاءكم، وغفر الله لميتكم، (لله ما أخذ، وله ما أبقى، إنا لله وإنا إليه راجعون!).

    تأمل واتعظ يا عبد الله! قبل أن تسكب العبرات عند نزول هاذم اللذات! فالاستعداد .. الاستعداد لما هو آتٍ قريب.

    - هذا شاب في ليلة خطوبته، وأجمل ساعات حياته، وألذ الدقائق التي تعيشها مشاعره، هجمت عليه سكرات الموت فقطعت منه اللذات وهو في أفضل اللحظات، بل مات في أحضان والدته وهو يرافقها ذاهبَين إلى عقد النكاح. وهذه القصة حصلت عندنا في هذه المنطقة، وقد نقلتها أيضاً جريدة الجزيرة .

    - يقول أحد الأطباء: جاءني رجل في مستشفى الصحة النفسية غريبٌ في طباعه، يريد حبوباً مهدئة دون كشف أو فتح ملف وغيره، حالته الصحية مضطربة، حاولت الجلوس معه، وأخذ الرجل يمتنع، ولما ذهب أعطيناه حبوباً مهدئة لعدم استطاعتنا إمساكه.

    ثم جاءني بعد فترة بعدما انتهت الحبوب المهدئة، فحاولت أن أناقشه وأسامره، فقلت له: أخبرنا بقصتك يا أخي! إن كان عليك أموال فالدولة مستعدة أن تسدد عنك، وإن كنت قد قتلت نفساً فنحن مستعدون أن نذهب إلى أهل الميت ونتفاهم معهم على الدية، ثم بدأ يخبرني بأمور انفجر الرجل بعدها باكياً، وجلس يبكي بكاءً عجيباً.

    يقول الطبيب: عندها سألته عن سبب حالته، وما الذي قد ألَمَّ به، قال لي: أنا الآن لي ستة أشهر لا أجد طعم الحياة، ولا أدري كيف أعيش.

    قلت له: لماذا؟

    قال: توفيت زوجتي ليلة زواجي، وأنا أنظر إليها أمامي، فأُصِبت بصدمة لم أستطع على إِثْرها السكون والجلوس في منطقتي، حتى جلست أنتقل من منطقة إلى منطقة إلى أن وصلت إلى هنا..!

    - يقول أحد الإخوة: هذه إحدى قريباتي جاء بها زوجها عند أهلها لأنها قرب ولادة، ووفقها الله ووضعت، وزوجها يعمل خارج المنطقة، وعندما أخبر بولادة زوجته جاء قادماً، وفي أثناء الطريق وهو يحادث زوجته عبر سماعة الهاتف انقطع صوت الاتصال، فجلست الزوجة تنادي وتقول: فلان! فلان! فلان! فلم تجد جواباً، وبعد عدة ساعات وصل الخبر للزوجة وهي على سرير المستشفى: أن زوجها قد توفي إثر حادث قد ألَمَّ به في الطريق.

    لا إله إلا الله! هنا تسكب العبرات عند نزول هاذم اللذات وقاطع الأمنيات.

    - يقول لي شاب: كانت جدتي جالسةً بيننا في جو الأسرة المفعم بالحب، وهي بكامل صحتها ولله الحمد والمنة، فقالت: أريد أخذ العلاج. فلما ذهبت إلى غرفتها تأخرت، فلما ذهبَت إليها أمي رأتها وهي في لحظات سكرات الموت، حتى خرجت روحها عند باب المستشفى.

    فإلى متى يصر الكثير منا على الصغائر؟!

    أما نعلم -أيها الإخوة!- أن الصغيرة مع الصغيرة تصبح كبيرة؟! عن ابن مسعود رضي الله عنه كما عند البخاري و مسلم قال: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه وقال به هكذا] .

    فما أجمل التوبة والإنابة إلى الله! ما أجمل التوبة قبل هجوم المنون والموت! قال الله تعالى: وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:18] فالتوبة هي منبر الأمان، وساحل الاطمئنان، فالتائب خاف الله ووجل منه، وتذكر الموت واتعظ به.

    فتذكر أيها الإنسان! الغافل عن الآخرة المنكَّب على الدنيا وزينتها! تفكر في الموت وسكرته! وصعوبة كأسه ومرارته! فيا للموت من وعد ما أصدقه! ومن حاكم ما أعدله! كفى بالموت مقرِّحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهاذماً للذات، وقاطعاً للأمنيات!

    فهل فكرت -يا بن آدم- في يوم مصرعك وانتقالك من موضعك، وإذا نُقِلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق؟!

    ويا جامع المال! والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مالك إلا الأكفان!

    يا باني الدُّور! والله مآلها للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب!

    فأين المال الذي جمعته؟! هل أنقذك من الأهوال؟!

    كتب رجل إلى أخ له يقول: إن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنقص في كل يوم منه نصيب، وللبلاء في جسمه دبيب، فبادر قبل أن تنادَى بالرحيل. والسلام!

    وحكي أن الرشيد لما اشتد به مرضه أحضر طبيباً طوسياً فارسياً، وأمر أن يُعرِض عليه ماءه -أي: بوله- مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء، فجعل يستعرض القوارير، حتى قارورة الرشيد فقال: قولوا لصاحب هذا الماء أن يوصي، فإنه قد انحلت قواه، وتداعت بنيته، عند ذلك يئس الرشيد من نفسه، وأنشد يقول:

    إن الطبيب بطبه ودوائه     لا يستطيع دفاع نحبٍ قد أتى

    ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان أبرأ مثلَه فيما مضى!

    مات المداوي والمداوَى والذي     جلب الدوا أو باعه ومن اشترى

    عند ذلك جاء الخبر إلى الرشيد أن الناس أرجفوا بموته، فاستعدى حماراً وأمر أن يُحمل عليه، فاسترخت فخذاه، فقال: أنزلوني، صدق المرجفون. ودعا بأكفان، فتخير منها ما أعجبه، وأمر فشُقَّ له قبر أمام فراشه، ثم اطلع فيه فقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] فمات من ليلته.

    إنه الموت الذي إذا هجم لا يستطيع أحد صده ورده.

    1.   

    تذكر العبد لمداهمة الموت له

    فيا أخي الحبيب! ما ظنك بنازل ينزل بك فيُذْهِب رونقك وجمالك!

    يا شاباً اغترَّ بجماله! ويا امرأة اغترت بجمالها وشكلها! إن الموت إذا نزل غيَّر منظرك ورؤياك، ومحا صورتك وجمالك، ومنع من اتصالك واجتماعك، وردك بعد النعمة والنضرة، والسطوة والقدرة، والنخوة والعزة إلى حالةٍ يبادر فيها أحب الناس إليك وأرحمهم بك وألطفهم عليك، فيقذفونك في حفرة من الأرض قريبةٌ أنحاؤها، مظلمةٌ أرجاؤها، مُحْكِمٌ عليك حجرُها، وشديدةٌ وطأة ترابُها!

    تذكر أخي إذا رأيت القبر أنه مكانك، والنعش محمولاً على الأكتاف أنك أنت المحمول، فلا إله إلا الله! ما أعظمها من لحظات! وكم فيها من سكبٍ للعبرات!

    1.   

    نداء لمن ضيّع الواجبات ووقع في المحرَّمات

    فيا ترى هل مَن ضيع الصلوات، وهجر النوافل والمستحبات، وهو بين النوم ساعة والدنيا والنفس الأمارة بالسوء والهوى ساعة يعتبر مستعداً للموت؟!

    هل قاطع الأرحام، ومَن ضيع الحقوق، ووقع في العقوق، مستعدٌ للموت؟!

    هل مَن يصر على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء على المسلمين مستعدٌ للموت؟!

    هل مَن سلط لسانه للسب والشتم واللعن والقذف، حتى أصبحت الغيبة أنيسه، والنميمة حبيبه، مستعدٌ للموت وسكراته؟!

    هل مَن وضع الحرام في بيته -يا صاحب الدش- هل من وضع الدش في بيته لأسرته وهيأه للرذيلة والعار؛ لكي يراه أبناؤه فيتعلمون الخنا والعياذ بالله، هل هو مستعد للموت؟!

    هل مَن يسافر من أجل أن يبيع دينه وشرفه ليشرب كأس خمر، ويفعل فاحشة والعياذ بالله مستعدٌ للموت وسكراته؟!

    هل المرأة التي تبرجت وتكشفت وأظهرت ما أمرها الله بإخفائه مستعدةٌ للموت وسكراته؟!

    هل مَن يشرب المسكرات، ويتعاطى المخدرات، ويتناول المفتِّرات كالتدخين والقات، مستعد للموت وسكراته؟!

    فكم من إنسان مات بحبة (هيروين)، وإبرة (كوكايين)، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    هذا رجل ظل في النوم ساعات طويلة، فما كان من أسرته إلا أن فتحت باب الغرفة عليه، فلما فتحوا الباب إذا بهم يرون منظراً مفزعاً حزيناً، رأوا ذلك الشاب وإبرة (الهيروين) معلقة بيده والعياذ بالله.

    فآهٍ آهٍ! ثم آه! فمن جعل الموت أنيس وحدته، ودليل جلوته، وجعل الله رقيبه، كيف يقدم على عصيان الله تعالى؟!

    فآهٍ لقلبٍ قسا ونسي الموت والبِلى، ونسي القبر وظلمته، والصراط وزلته!

    1.   

    البدار إلى التوبة قبل الرحيل

    أما آن لتارك الصلاة أن يتوب؟! والله ثم والله إنا لنعرف أناساً ماتوا والعياذ بالله ولم يركعوا لله ركعة.

    أما آن لسامع الغناء أن يتوب ويئوب؟! كيف بك يا من تسمع الغناء إذا نزل بك ملك الموت وأنت على تلك الحال؟!

    كيف بك إذا نزل ملك الموت وأنت ترقص؟!

    كيف بكِ أمة الله! إذا نزل ملك الموت وأنتِ على حالة لا ترضي الله؟!

    أما آن لعاق الوالدين أن يعود فيضحكهما كما أبكاهما؟!

    كم مِن الناس مَن مات والداه وهما غضبانَين عليه؟ والعياذ بالله! وكم مِن الناس مَن مات ووالداه ليسا براضيين عنه والعياذ بالله.

    أما آن لقاطع الرحم أن يصلها؟! ووالله يا إخواني لقد قال لي شاب: لقد توفي عمي وهو قاطع لوالدي اثنتي عشرة سنة.

    وآخر يقول لي: عمي فلان قاطعٌ لوالديه خمسةً وعشرين عاماً، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

    وأعجب من ذلك مَن قطع رحم الدين! فكيف بأناس متشاجرِين، وجيران متدابرِين؟!

    وكيف بك أخي! إذا نزل بك ملك الموت وأنت قاطعٌ لأخيك المسلم؟! كيف بك إذا فارقتَ الدنيا وأنت قاطعٌ لذاك، وقاطع لذاك؟!

    أما آن للمتبرجة والسافرة أن تخلع لباس الشيطان، وترتدي لباس الرحمن، وتزيل الشكوك والحيَل؟!

    أمة الله! أما آن لكِ أن تتوبي وتئوبي؟!

    يقول أحد الفضلاء: أخبرتني زوجتي أن فتاة في الكلية جلست ذات مرة تسخر بالحجاب وتسخر بالدين، قالت: وبعد خمس دقائق أو عشر إذا بنا نسمع صياحاً عند باب الكلية، فذهبنا سريعاً، ولما وصلنا عند باب الكلية إذا بتلك الفتاة التي تستنكر الحجاب وتسخر بالدين في سكرات الموت الأخيرة، حتى ماتت -والعياذ بالله- فكانت قصتها معتَبراً.

    أما آن لمن ضيع أبناءه وأهمل أسرته أن يصلح ما انثلم، ويرقع ما انفتق؟!

    أما آن لمن ضيع الأمانة وخان العهود، وعصى الربَّ الودود أن يرد الحقوق ويصلح ما أفسد من نقض العهود؟!

    أما آن لمن أكل الربا وتعامل مع البنوك الربوية أن يُخرج أمواله منها قبل أن يموت ويخرج من الدنيا وأمواله تكون شاهدة عليه أمام الجبار جل جلاله بأنه قد مات وهو محارب لله تعالى؟!

    أما آن لكل من أودع أمواله ولو ريالاً واحداً في بنك ربوي أن يخرجها قبل ألا يستيقظ غداً من منامه ويموت والعياذ بالله وهو معلن الربا فتشهد عليه الآلاف والملايين أمام الجبار جل جلاله بأنه أعلن المحاربة لعلام الغيوب؟!

    أما آن للراشي والمرتشي.. وآن لمن اغتصب الأراضي.. وآن لمن سفك الدماء أن يتوبوا ويئوبوا إلى الله قبل أن تُسْكَب العبرات؟!

    كم من الناس لما نزل بهم ملك الموت بدءوا يقولون: لفلان كذا، ولفلان كذا، وفلان أخذ مني، وفلان فعلت معه كذا! ولكن ما الحيلة فيمن مات ولم يرد الحقوق للآخرين؟!

    فيا شاباً أعرض عن الله! لماذا تجعل حياتك رخيصة يشتريها كل تائهٍ بأبخس الأثمان؟!

    عجباً لك أيها الشاب! من أجل لاعب! ومن أجل ممثل! ومن أجل مغنٍ تبيع حياتك والعياذ بالله! فتقلدهم في أشكالهم وهيئاتهم!

    عجباً لك أيها الشاب! تبيع أثمن شيء عندك، ويستعمل روحَك كلُّ ضائع فيعمِّرها بكل دنسٍ وعارٍ وفحشٍ ودمار!

    أيها الشاب! إن روحك ثمينة، بل وأغلى من كل شيء، وجوارحك غنيمة فلا تسخرها لكل معصية.

    1.   

    نداء إلى أهل المعاصي والذنوب

    أيها الأحبة في الله! نداءٌ لمن وَخَطَه الشيب؛ إذْ لا يزال بعض الناس ممن وَخَطَهم الشيب، وبعضهم ممن أصبح يتكئ على العصا اتكاءً لا يزال بلسانٍ سليط، وقلبٍ مشحوط، ولا يزال يُطارَد في المحاكم وفي كل مكان، فيظلم هذا، ويبخس هذا!

    ولقد رأيت والله بعيني أناساً في السجون قد وَخَطَهم الشيب، ودقهم العظم، لا يزالون يصرون على شرب الخمور والعياذ بالله، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

    يقول لي شاب: والدي قد رق عظمه وما زال يتعامل بالربا والعياذ بالله!

    وجلست مع أناس وزُرْتهم في محلاتهم فوجدتهم لا يزالون يبيعون المحرمات والعياذ بالله!

    يا صاحب البقالة! و(السوبر ماركت) والتموينات! اتقِ الله!

    يا من تبيع الدخان والمجلات الخليعة! كيف بك إذا نزلت بك سكرات الموت وأنت تبيع المحرمات والعياذ بالله؟!

    أيها الأحبة في الله! نداءٌ لكل صاحب منصب يظلم الناس ويبخسهم حقهم!

    نداءٌ للذين يظلمون العمال ويبخسونهم حقوقهم ويؤخرون رواتبهم!

    نداءٌ لهم جميعاً: أنقذوا أنفسكم قبل نزول السكرات! فمناصبكم سوف تذهبون عنها! ووظائفكم سوف تزولون عنها! وسطوتكم سوف تذهب.

    1.   

    فوائد ذكر الموت

    أيها الأحبة! إن لذكر الموت والإكثار منه فوائد عديدة:

    - فإنه يرد الإنسان عن الولوج في طرق المعاصي.

    - ويلين القلب القاسي.

    - ويذهب الفرح بالدنيا؛ إذْ أن الفرح مطلوب وكلنا نفرح؛ ولكن عجباً لمن يفرح دائماً!

    - ويزهد في الدنيا.

    - ويهون المصائب.

    - ويجعل الإنسان ينفق؛ لأنه يعلم أن هذا المال مال الله، ويعلم يقيناً أنه زائل من هذه الدنيا فتجده ينفق ويتصدق.

    إن ذاكر الموت يكرم بعدة أشياء:

    قال الدقاق : من أكثر ذكر الموت أُكرِم بثلاثة أشياء:

    - تعجيل التوبة.

    - وقناعة القلب.

    - ونشاط العبادة.

    ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:

    - تسويف التوبة.

    - وترك الرضا بالكفاءة.

    - والتكاسل بالعبادة.

    نعم إخوتي. إن لذكر الموت فوائد عديدة.

    1.   

    قصص للعبرة والعظة

    فيا من ضيعت الصلوات، وخصوصاً صلاة الفجر! كيف بك يا رعاك الله! إذا نزلت بك سكرات الموت وأنت على تلك الحال؟!

    تأمل معي إلى هذه القصة، وصاحبها شاب من الطيبين الصالحين عندنا في المنطقة: كانت زوجته تعمل خارج المنطقة، فذهب بها ذات مرة بعد دوام يوم الأربعاء، ثم أتى بها من خارج المنطقة إلى البيت، وبات معها ليلة الخميس، وفي صباح الخميس ذهب فصلى الفجر مع الجماعة، فلما جاء بعد الفجر استراح قليلاً، فجاءته زوجته الساعة التاسعة لتوقظه وتحركه؛ ولكن سبحان الله! لا حِراك.

    لا إله إلا الله! ذهب فجاء بزوجته من مكان عملها في منطقة بعيدة لكي يفارقها على سريره الذي بدأ وعاش معها!

    إن ذكر الموت يقطع النفس عن لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، فلا تحاسد ولا تباغض ما دمت تعلم أن الموت قريب، وقد يأتيك في كل لحظة من اللحظات.

    وقبل فترة عندنا في المنطقة: مسئول في إحدى الدوائر الحكومية وفي وقت الدوام الساعة الواحدة تقريباً -إن لم أنسَ- سقط رأسُه على مكتبه، فكانت هذه آخر حياته! فلا إله إلا الله!

    إن ذكر الموت يبعد عن الجفون النوم، فيجعلها قوَّامة، ويجعل النفوس في النهار صوامة، ويبعث على الجد والاجتهاد في العبادة؛ لأن المنافسة الحقيقية هي في أعمال الآخرة لا في أعمال الدنيا.

    قال لي شاب جزاه الله خيراً عندما رأيتُ حالته قد تغيرت وتبدلت بعد إحدى الدروس التي حضرها: ذقت سكرات الموت.

    فقلت له: أين؟ لأني لم أكن أعلم بحاله.

    فقال: وقع لي حادث، فتقلبت بي السيارة عدة تقلبات، فنجاني الله -ولله الحمد والمنة- وقد كنت لا أصلي، ولا أحب الصلاة، والآن صار ذلك الموقف درساً لي في حياتي، لا أترك الصلاة بعد ذلك. الله أكبر!

    إذاً: ما أجمل الأعمال قبل أن تسكب العبرات! فالعظة .. العظة .. أحبتي في الله! تأملوا جميعاً تلك الأحوال.

    وهذه قصة مبكية ودامية، اسمعيها يا أمة الله! لعلها تكون لكِ عبرة، وتكون للشباب اللاهثين حول المعاكسات والسفريات وفعل المحرمات عبرة أيضاً: هذه امرأة كانت تراود شاباً في بيتها وكان يراودها، وكان يأتيها في ساعة غياب الأسرة، حتى ذات مرة من المرات وفي غياب أسرتها ووالدها في العمل قدر الله سبحانه وتعالى أن جاء الوالد في غير الوقت المفروض، وإذا بذلك الشاب يأتيه خاطف الأرواح ويقبض روحه والعياذ بالله وهو يفعل الفاحشة، فمات على تلك الحال عياذاً بالله، فلم تستطع تلك المرأة حيال ذلك الموقف أن تفعل شيئاً، فانبهرت وانصدمت واضطربت عواتقها واختلت مشاعرها، فلما دخل الأب إلى البيت إذا به يفاجأ بجثة رجل ميت ملقاة في بيته والعياذ بالله، فانفجع الأب من ذلك الموقف، فأصيب بمرض خطير حُمِل على إثره إلى المستشفى، والبنت حُمِلت إلى دور رعاية الفتيات. فإنا لله وإنا إليه راجعون!

    اللهم إنا نسألك يا رب الأرباب! أن تجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله.

    اللهم اغفر لنا الزلات والخطيئات، وتب علينا، يا رب العالمين!

    اللهم اجعلنا يا أرحم الراحمين! ممن قبلت لهم الأعمال الصالحات، ووفقتهم للجنة دار الأبرار المقربين.

    اللهم احشرنا في زمرة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً.

    اللهم إذا أردت قبض أرواحنا فاقبضها وهي راكعة أو ساجدة، يا رب العالمين!

    اللهم اختم لنا حياتنا بـ(لا إله إلا الله).

    اللهم تب علينا يا رب العالمين!

    اللهم ثبتنا عند السؤال.

    اللهم إنا نسألك يا رب العالمين وأنت أحق مَن سئل! أن تجعلنا في ختام هذا المجلس ممن يقال لهم: قوموا مغفوراً لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات.

    اللهم اغفر لنا ذنباً قد فعلناه.

    اللهم تب على التائبين، وامحُ زلات الزالِّين يا رب العالمين!

    أيها الأحبة في الله! لا أملك في ختام هذا اللقاء إلا أن أسأل الله جل جلاله أن يحشرني وإياكم في زمرة الأبرار المتقين.

    أسأل الله أن يجعلنا وإياكم إخواناً على سرر متقابلين.

    أيها الأحبة! ما أصبتُ من خير في هذه المحاضرة فهي والله من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وما أخطأتُ فيها وزللتُ وقصرتُ، وخانتني العبارة، وقلَّتْ مني الكلمة، فذلك والله مني ومن تقصيري، وأعوذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.

    اللهم اجعل هذا الكلام شاهداً لنا يوم القيامة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755963318