إسلام ويب

تفسير آية الكرسيللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ ففيها من المعاني ومن صفات الله وأسمائه وتنزيهه ما لا يحيط به إنسان، ولا يسطره بنان. ومن تأمل هذه الآية وتدبرها ظهر له من هذه المعاني ما يُعرّفه بقدر هذه الآية، وفضلها وعلوّ منزلتها، فحريّ بكل مسلم أن يحفظها، وأن يعي تفسيرها؛ ليكون له عند الله الثواب العظيم، والأجر الجزيل.

    1.   

    فضل آية الكرسي

    آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فإن لآية الكرسي مكانة عظمى، ومنزلة رفيعة؛ لأنها اشتملت على أشرف المذكورات، وعلى أفضل المعلومات، كما أنها تتضمن توحيد الله جل جلاله، وتعظيمه وتمجيده، وذكر صفاته، ولا مذكور ولا معلوم أعظم من رب العالمين تبارك وتعالى.

    يقول الرازي رحمه الله: واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم، فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف، كان الذكر والعلم أشرف، وأشرف المذكورات وأشرف المعلومات هو الله سبحانه وتعالى، وكل كلام اشتمل على نعوت جلالة وصفات كبريائه، فإن ذلك الكلام يكون النهاية في الجلال والشرف.

    وآية الكرسي هي بهذه المثابة، وقد بلغت في الشرف أقصى الغايات وأبلغ النهايات.

    والرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي أنزل عليه القرآن الكريم قد بين فضل هذه الآية ومكانتها في عدة من أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم.

    ونحن نحاول أن نفرد هذه الآية بالتدبر والتأمل من خلال بحث مختصر للدكتور فضل إلهي حفظه الله تعالى بعنوان: (فضل آية الكرسي وتفسيرها).

    يذكر المؤلف أولاً: أن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم، فقد روى الإمام مسلم ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر ! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] فضرب في صدري وقال: والله! ليهنك العلم أبا المنذر)، معناها: ليكن العلم هنيئاً لك، رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى.

    فخير الكلام كلام الرحمن جل جلالة، وخير ما نزل من كلام الله عز وجل: القرآن الكريم، وخير وأعظم آية في القرآن الكريم: آية الكرسي، فما أعظم شأنها، وأجلّ منزلتها، وأعلى مكانتها!

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الحديث، وعلى وصفه هذه الآية بأنها أعظم آية في كتاب الله: وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي، وإنما ذكر الله في أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة.

    وهو هنا يشير إلى أن أوائل سورة الحديد وأواخر سورة الحشر تضمنتا من أسماء الله عز وجل وصفاته الكثير، لكن هذا أتى مفرقاً في عدة آيات، وإنما كلامنا هنا عن أفضل آية في القرآن.

    آية الكرسي تتضمن اسم الله الأعظم

    كذلك من فضائل هذه الآية المباركة: أن فيها اسم الله الأعظم، فلله تبارك وتعالى أسماء، وهي الأسماء الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، ومن تلك الأسماء المباركة: اسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم أن اسمه الأعظم جل جلاله في آيات من القرآن الكريم، ومن تلك الآيات التي ذكر فيها ذلك: آية الكرسي.

    فقد روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في هاتين الآيتين: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم [آل عمران:1] * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] إن فيهما اسم الله الأعظم).

    يستفاد من هذا الحديث أن اسم الله الأعظم هو: الله لا إله إلا هو الحي القيوم؛ لأن هذا هو القاسم المشترك بين هذين الموضعين في آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وفي صدر آل عمران: الم [آل عمران:1] * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2].

    وروى الحاكم عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اسم الله الأعظم لفي ثلاث سور في القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه) فالتمستها فوجدت في سورة البقرة قول الله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ آية الكرسي، وفي سورة آل عمران: الم [آل عمران:1] * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] وفي سورة طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111].

    فمن رغب في الدعاء باسم الله الأعظم ليستجاب له، فليدعُ بما جاء في آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، فهذا من توفيق الله سبحانه وتعالى للعبد أن يدعو الله عز وجل باسمه الأعظم؛ لأن الإنسان إذا دعا بالاسم الأعظم وتوسل به، فإنه إذا سأل الله أعطاه، وإذا دعاه أجاب.

    والاسم الأعظم لله سبحانه يحتاج إلى بحث مستقل، وهناك خلاف كبير بين العلماء في: ما هو اسم الله الأعظم؟ والروايات فيها كثير، وتستحق بالفعل أن تفرد ببحث مستقل إن شاء الله تعالى إن يسر الله فيما بعد، لكن هذه إحدى الروايات التي تؤيدها بعض الأدلة في أن اسم الله الأعظم هو: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .

    مثلاً: يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن اسم الله الأعظم هو: الحي، فقد قال: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها؛ ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا هو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفى بالحي؛ لأنه لو لم يكن إلا اسمه الحي لاستلزمت حياته سائر الصفات.

    فرأي ابن تيمية : أن (الحي) هو اسم الله الأعظم.

    أما ابن القيم فهو يرى أن اسم الله الأعظم هو: الحي القيوم، فقد قال: كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، هو اسم (الحي القيوم).

    من الروايات التي وردت في اسم الله الأعظم: دعاء ذي النون: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

    ومنها: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد...) إلى آخر الدعاء، وموضعه بعد التشهد وقبل التسليم.

    وهكذا هناك عدة روايات في الاسم الأعظم، وتفصيل هذا في موضع آخر.

    آية الكرسي من أعظم ما يحصن العبد من الشيطان الرجيم

    ومن فضائل هذه الآية الكريمة: أنها تحرز الإنسان وتحفظه من الشيطان الرجيم.

    فالشيطان يسعى إلى الإضرار بالعباد، والله عز وجل -وهو الرءوف بالعباد- شرع لهم أموراً تقيهم من شر الشيطان وتبعده عنهم.

    فمن تلك الأمور التي يتقى بها شر الشيطان: قراءة آية الكرسي، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قراءة آية الكرسي تبعد الشيطان عن قارئها وتحفظه من شره.

    من ذلك ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: لأذهبن بك وأشكوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال: رفعه إلى الحاكم، يعني: أحضره للشكوى، (قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة)، يحتمل هنا أنه يعني: عليّ نفقة عيال، أو أن (علي عيال) بمعنى: لي عيال، قال: (فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يا أبا هريرة ! ما فعل أسيرك البارحة؟) يعني: بادره النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عن شيء لم يخبره به أبو هريرة ، وإنما ذلك وحي من الله.

    قال: (قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود)، أي: أنه كان كاذباً في هذا الكلام، وسيعود مرة ثانية إلى هذا الفعل، قال: (فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته -أي: راقبته- فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني؛ فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ! ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح).

    قوله: (فإنك لن يزال عليك من الله حافظ) يعني: حافظ من عند الله، أو من جهة أمر الله تبارك وتعالى، وقوله: (ولا يقربنك شيطان حتى تصبح) هذا ضمان للحفظ من الشيطان.

    قال أبو هريرة: (فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح).

    وكان الصحابة رضي عنهم أحرص ما يكونون على الخير، فلم يكن أبو هريرة ليفوّت مثل هذه الفرصة التي أغراه فيها هذا الجني بأن يعلمه كلمات ينفعه الله بها.

    وكانوا أحرص شيء على الخير، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة ؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان).

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث: ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها.

    أي: إذا قرأتها في وضع من الأوضاع الشيطانية بصدق فإنها تبطل هذه الأحوال الشيطانية، مثل من يدخل النار بأحوال شيطانية، وبعض الناس الذين يزعمون أنهم يلقون أنفسهم في النار، ويكون في الأمر نوع من الأحوال الشيطانية، فإذا كان هناك شخص موجود وقرأ آية الكرسي فإن هذا يبطل، أو يحضر سماع المكاء والتصدية، فتتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاماً لا يُعلم، وكذلك في مثل هذا الموضع إذا قرأ الإنسان آية الكرسي فإنه يبطل الأحوال الشيطانية، ولذلك فإن القوم الذي ينشغلون بهذه الأحوال الشيطانية، يخافون جداً من أن يوجد أحد الحضور يذكر الله أو يقرأ آية الكرسي، ولا شك أن في هذا الحديث فضل عظيم لآية الكرسي.

    ومن ذلك ما رواه الإمامان أحمد والترمذي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كانت له سهوة فيها تمر)، والسهوة: هي الطاق في الحائط، يوضع فيها الشيء، وقيل: المخدع بين البيتين، وقيل: شيء يشبه الرف، وقيل: بيت صغير كالخزانة الصغيرة، وكل هؤلاء يُطلق عليه: سهوة، ولفظ الحديث يحتملها كلها، وإن كان بعض الطرق ترجح أن المراد بالسهوة هنا: التعريف الأول، وهو الطاق في الحائط يوضع فيها الشيء.

    عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كانت له سهوة فيها تمر، فكان تجيء الغول فتأخذ منه)، والغول: مفرد الغيلان، وهي جنس من جن الشياطين، (فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب، إذا رأيتها فقل: باسم الله، أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأخذها، فَحَلَفَتْ ألا تعود، فأرسلتها، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ قلت: حلفت ألا تعود، قال: كذبت، وهي معاودة للكذب، فأخذتها مرة أخرى، فحلفت ألا تعود، فأرسلتها، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ قلت: حلفت ألا تعود، فقال: كذبت وهي معاودة للكذب، فأخذتها، فقلت: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى النبي صلى عليه وسلم، فقالت: إني ذاكرة لك شيئاً: آية الكرسي، اقرأها في بيتك، فلا يقربك شيطان ولا غيره) أي: لا يقربك شيء يضرك، سواء كان شيطاناً أو غيره، (فجئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ فأخبرته بما قالت، قال: صدقت وهي كذوب)، قال الترمذي : حديث حسن غريب، وأقرّه الحافظ المنذري ، وصححه الألباني رحمه الله تعالى.

    وروى النسائي وابن حبان والطبراني والحاكم والبغوي عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أنه كان له جرين تمر)، وجرين التمر: هو موضع يجفف فيه التمر، (فكان يجده ينقص، فحرسه ليلة، فإذا هو بمثل الغلام المحتلم، فسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال: أجني أم أنسي؟ فقال: بل جني، فقال: أرني يدك، فأراه، فإذا يد كلب وشعر كلب، فقال: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد عَلِمَتْ الجن أنه ليس فيهم رجل أشدّ مني، قال: ما جاء بك؟ قال: أنبئنا أنك تحب الصدقة، فجئنا نُصيب من طعامك، قال: ما يجيرنا منكم؟ قال: تقرأ آية الكرسي من سورة البقرة: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ؟ -يعني: أتحفظها؟- قال: نعم، قال: إذا قرأتها غدوة أُجِرْتَ منّا حتى تمسي، وإذا قرأتها حين تمسي أُجِرْتَ منّا حتى تصبح).

    (غدوة) يعني: في الغدو، وهو الصباح.

    قال أُبي : (فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق الخبيث)، فالشاهد: أن هذا من فضائل آية الكرسي.

    وهذا الحديث قال فيه الحاكم : صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي، وقد ترجم الإمام ابن حبان هذا الحديث بقوله: ذكر الاحتراز من الشياطين -نعوذ بالله منهم- بقراءة آية الكرسي.

    إذاً: من وظائف آية الكرسي أنها تقال في أذكار الصباح والمساء، وعندما يأوي المسلم إلى فراشه لينام، وقرأ آية الكرسي، فإنه يصير معه حافظ من الله تعالى، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.

    وأيضاً: قراءة آية الكرسي في البيت تبعد الشيطان وغيره مما يضر الناس عن ذلك البيت.

    وكذلك قراءة آية الكرسي غُدوة -أي: في الصباح- تجير قارئها من الجن حتى المساء، وقراءتها مساء تجير قارئها منهم حتى الصباح.

    من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى

    كذلك مما ثبت من فضل آية الكرسي: أن من قرأها بعد الصلاة المكتوبة فهو في ذمة الله تعالى إلى الصلاة الأخرى.

    فقد روى الإمام الطبراني عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله تعالى إلى الصلاة الأخرى)، وهذا حديث حسن.

    فما أعظم هذه الذمة! وما أوثقها وأقواها؛ فإنها ذمة الله سبحانه وتعالى القادر المقتدر، رب الخلق، ومالك الكون، ومدبر الأمر كله، إنها ذمة الله الذي لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، إنها ذمة الله الذي لا غالب لمن نصره، ولا ناصر لمن خذله، فعلى الراغبين في أن يدخلوا في ذمة الله أن يحرصوا على مداومة قراءة آية الكرسي بعد صلاة الفجر.

    قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة من أسباب دخول الجنة

    ومن فضائل ووظائف آية الكرسي أيضاًًًُ: ما بشّر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: أن من قرأها بعد الصلاة المكتوبة، لا يحول بينه وبين دخول الجنة إلا الموت.

    فقد روى الإمام النسائي وابن حبان والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت).

    وهذا الحديث قال عنه الحافظ المنذري : رواه النسائي والطبراني بأسانيد آحادها صحيح، وقال شيخنا أبو الحسن : هو على شرط البخاري وابن حبان في كتاب الصلاة وصححه، وأيضاً صححه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

    قال الطيبي في شرح قوله: (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت): أي: أن الموت يكون هو الحاجز بينه وبين دخول الجنة، فإذا انقضى هذا الحاجز -الموت- حصل دخول الجنة، (لم يمنعه)، وهذا يدل على أن من أراد أيضاً أن يختم له بخير فليحرص على آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة، كما في فضيلة سيد الاستغفار: (أن من قرأه حين يصبح، ثم مات من يومه دخل الجنة، ومن قرأه حين يمسي، ثم مات من ليلته دخل الجنة).

    وقراءة آية الكرسي أحد أسباب دخول الجنة، واستحقاق الجنة أن يكون قد قرأ آية الكرسي في هذين الوقتين، أو يكون قرأ آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة.

    قال المُلاّ علي القاري : ويمكن أن يقال بالمقصود: أنه لا يمنع من دخول الجنة شيء من الأشياء ألبتة؛ لأن الموت في الحقيقة ليس مانعاً من دخول الجنة، بل قد يكون موجباً لدخولها، ويكون الوسيلة لدخول الجنة، فيكون تفسير هذا الحديث على مثل قول القائل:

    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلولٌ من قراع الكتائبِ

    فهل الناس الذين يصفهم الشاعر يُذمّون بهذا الكلام؟! الجواب: لا، بل هذا من المدح؛ لأن مما يدل على الشجاعة أن السيوف تكون فيها الخدوش نتيجة لكثرة القتال بها، فهذا فيه وصف لهم بالشجاعة.

    وأحياناً قد يمدح الإنسان من يحبه ويؤكد مدحه بما يشبه الذنب، فمثلاً تقول: فلان ليس فيه عيب إلا أنه يموت، وهل كون الإنسان يموت هذا عيب؟! فيكون المقصود في هذا البيت: أنه لا عيب فيهم.

    فإذاً: هذا يشبه تفسير آخر الحديث: (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت)، يعني: لم يمنعه من دخول الجنة شيء ألبتة.

    ومن ذلك قوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، فقوله: (وما نقموا منهم) يعني: ما كرهوا وما عابوا عليهم إلا الإيمان، مع أن هذا مما لا يُكره ولا يُعاب.

    ولا شك أن هذا من الفضل العظيم لهذه الآية العظيمة -وهي آية الكرسي- وفعله يسير جداً، وفي نفس الوقت جزاؤه عظيم للغاية، فهل يخطر على قلب بشر جزاء أجلّ وأفضل من هذا الجزاء، وهو أنه إذا قرأ آية الكرسي استحقّ الجنة! ويبقى فقط أن يموت حتى يدخل الجنة! فهذا هو الفوز العظيم كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

    1.   

    تفسير قوله تعالى : (الله لا إله إلا هو)

    (الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء

    إن آية الكرسي مشتملة على عشر جمل مستقلة، نذكرها بالترتيب: الجملة الأولى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والكلام فيها على قسمين: أولاً: بيان أن (الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فقوله: (الله لا إله إلا هو) هذا هو شعار الإسلام، وهذه كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله تبارك وتعالى. يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: وأما تأويل قوله: (لا إله إلا الله) فإن معناه: النهي أن يُعبد شيء غير الله الحي القيوم، الذي صفته ما وصف به نفسه تباك وتعالى في هذه الآية: (الله لا إله إلا هو)، فبدأ بلفظ الجلالة، ثم ذكر أهمّ شيء على الإطلاق في دعوة الإسلام، وهو هذا الشعار -شعار التوحيد-: (لا إله إلا هو). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إخبارٌ بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلق. وقال البيضاوي : والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير. وقال القاضي أبو السعود : أي: هو المستحق للعبودية لا غير. وقال السعدي : فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، فألوهية غيره وعبودية غيره باطلة. إذاً: معنى هذه الجملة: أن الله جل جلاله هو المتفرد في استحقاق العبودية، فلا يعبد أحد سواه كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادات. فلا قيام ولا ركوع ولا سجود ولا ذبح ولا نذر إلا له وحده تعالى. ولا يُدعى في السراء والضراء واليسر والعسر والفرح والغمّ إلا الله سبحانه وتعالى. ولا يُستمدّ ولا يُستنصر ولا يُستغاث إلا به. ولا طواف إلا ببيته العتيق. ولا حلف إلا به، ولا حكم إلا له. ولا ندّ ولا نظير ولا شريك له في أي نوع من أنواع العبادات. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هذه كلمة النجاة، وهي مكونة من شقين: الأول: شق فيه النفي، وهو: (لا إله) يعني: نفي استحقاق العبودية والألوهية عن غير الله. الثاني: الإثبات، وهو: (إلا الله)، وهو إثبات استحقاق الألوهية لله الأحد جل جلاله. وقد أتى ذكر شهادة التوحيد بمعناها في بعض المواضع، مثل قول الله تبارك وتعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهي كلمة الشهادة، فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت) يعني: يحقق النفي، فيؤمن بأنه لا يوجد أحد ولا شيء غير الله يستحق أن يُعبد. وقوله: (ويؤمن بالله)، يعني: لا يصحّ إيمانك بالله حتى تبطل استحقاق العبودية لغير الله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]. وكذلك في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً [الزخرف:26-28] وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، لكنه هنا ذكرها بالمعنى: (إنني براء مما تعبدون) أي: أكفر بكل ما تعبدون من دون الله، (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)، وهذا هو نفس معنى: لا إله إلا الله. وهذا هو ما بدأت به آية الكرسي، وهو مفتاح وأساس دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فما بعث الله نبياً إلا أوحى إليه أنه لا إله إلا هو، كما قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] فهذه الكلمة مفتاح دعوة جميع الأنبياء والرسل، ولذلك كانت هذه الشهادة قاسماً مشتركاً بين جميع الأنبياء على الإطلاق، ولجميع الرسالات: لا إله إلا الله، ينضّم إليها شق آخر في الشهادة بإثبات النبوة والرسالة وهي: فلان رسول الله، ويختلف هذا من أمه إلى أمه، فمثلاً في عهد نوح كانت كلمة النجاة: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله، وفي عهد عيسى عليه السلام: لا إله إلا الله عيسى رسول الله، ثم جاءت الرسالة الخاتمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا ينجو الإنسان إلا إذا حقق هذين النوعين من التوحيد: توحيد المعبود -وهو: الله- وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله؛ لأن معنى أنك تشهد أن لا إله إلا الله: أنك تثبت أنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إلى الله، وأن من عبد أو وجه العبادة لغير الله فقد أشرك بالله واتخذ معبوده إلهاً من دون الله. فخلاصة الكلام: أن الشقّ الأول من كلمة التوحيد يدلنا على توحيد العبادة، فإذا قال قائل: يا رب آمنت أنه لا إله إلا أنت، وأنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إليك، إذاً: كيف يتعرف هذا على كيفية العبادة؟ وعن أي طريق يعرف ما يرضي ربه ليفعله؟ وما يسخطه ليتجنبه؟ وكيف يصلي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يزكي؟ وكيف يحج؟ وكيف يقوم بسائر العبادات؟ وقد أتى بيان هذا كله في الشق الثاني، وهو توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فلا يعبد الله بالأهواء، ولا بمقتضيات العقول فحسب، وإنما يعبده بالوحي الذي يوحيه الله للرسول الذي أرسله كي يعلمك كيف تحقق التوحيد. فإذاً: لابد من توحيدين: توحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله، إذ لا يمكن أن يقبل الله من العبد عبادة إلا إذا كانت موافقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال القاضي ابن عطية في تفسيره: لما أخبرهم تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم، أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولاً إلا أوحى إليه أن الله فرد صمد، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات، وإنما اختلفت في الأحكام، ولذلك نقول: إن لفظة التوحيد (لا إله إلا الله) قاسم مشترك بين جميع الأنبياء، وكل الأنبياء دعوا إليها، واختلفوا في الأحكام، والشريعة تختلف، لذلك فمن الممكن أن نقول: الرسالات السماوية، ولا ينبغي أن نقول: الديانات السماوية؛ فهذا كذب وضلال مبين، إذ لا يوجد شيء اسمه: (الديانات السماوية) بصيغة الجمع؛ لأن السماء لم ينزل منها إلا دين واحد، وكل الأنبياء دعوا إلى الإسلام، لكن التحريف هو الذي فعل ذلك، فادعاء أن الأديان المحرّفة الموجودة حالياً كلها سماوية هذا من الضلال المبين؛ لأن السماء لم ينزل منها غير دين واحد فقط، وهو دين الإسلام، فآدم كان مسلماً .. نوح كان مسلماً .. موسى دعا إلى الإسلام .. عيسى دعا إلى الإسلام .. هود دعا إلى الإسلام .. صالح دعا إلى الإسلام ... وهكذا جميع الأنبياء دعوا إلى الإسلام، فلذلك إذا قرأت قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فإياك أن تظن أن الإسلام هو الرسالة الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا، بل معنى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] أي: منذ أن خلق الله الدنيا والناس كلهم مطالبون بالإسلام، والأدلة في القرآن على ذلك أكثر من أن تُحصر، ووصف الأنبياء بالإسلام شائع جداً في القرآن الكريم. فجميع الأنبياء متّحدون في العقيدة، وقد يختلفون في الشرائع، فمن الممكن أن نقول: شرائع سماوية، أو رسالات سماوية؛ لأنها رسالات متعددة، لكن لا نقول أبداً: الأديان السماوية كما سبق. والحق لابد أن يكون واحداً، فكيف يقال عن النصرانية المحرّفة أنها دين سماوي في سياق المدح؟! وفيها: لا إله إلا الله، ليس عيسى رسول الله، حيث يزعمون أن عيسى هو الله!! أو أن الآلهة ثلاثة!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وفي اليهودية نجد إلحاداً في أسماء الله وصفاته، فكيف يكون هذا أيضاً دين سماوي؟! الدين السماوي هو دين موسى وعيسى وآدم ومحمد ونوح وجميع الأنبياء، فهؤلاء كلهم دعوا إلى: لا إله إلا الله، واختلفوا في الشرائع لاختلاف الأمم والظروف، إلى أن جاءت الشريعة الخاتمة التي يصلح بها كل زمان وكل مكان. إذاً: لا تختلف النبوات على الإطلاق في الدعوة إلى: لا إله إلا الله، وإنما يختلفون في الأحكام، مثل: أحكام الزواج.. أحكام الطلاق.. أحكام العبادات، ... إلخ. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة على أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود؛ لأن الدليل إما معقول وإما منقول: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ [الملك:10]. وقال قتادة : لم يُرسَل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد، روحه التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) العلات: الضرائر، أي: مثل الشخص الذي يتزوج عدة نساء ويأتي بأولاد، فهؤلاء الأولاد يكون أشقاء من جهة الأب، فالدين واحد وهو التوحيد، وكلهم متفقون على هذا الأصل. قوله: (وأمهاتنا شتى)، أي: الشرائع تختلف، ولذلك جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ الشرائع التي قبلها، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيرها: (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ )) أي: بعثناهم بأن اعبدوا الله ووحدوه، (واجتنبوا الطاغوت) أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل ما دعا إلى الضلال. وقال ابن كثير : (ولقد بعثنا في كل أمة) أي: في كل قرن وطائفة (رسولاً) وكلّهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه. إذا استعرضنا بعض آيات القرآن الكريم نجد أن هذه الحقيقة هي أجلى حقائق القر

    شواهد اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى هذا الأساس: ( الله لا إله إلا هو )

    إذا كان الأمر كذلك فلا غرو أن نرى سيد الأنبياء وخاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم قد اهتمّ بالتوحيد، وأعطاه الأولوية المطلقة، يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) )[محمد:19] وهذا هو الأصل الذي أمر أن يعلنه للناس كافة، يقول عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [الأعراف:158].

    فهذا الأصل لم ينشغل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً قبل تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، بل وبعد ذلك في حال الأمن وفي حال الحرب .. في الحضر والسفر .. في المسجد والسوق، فدعا إليه أقاربه وعامة الناس، ومن أحبوه ومن أبغضوه من جميع أصناف الناس، وسواء المشركين أو المنافقين، أو اليهود والنصارى، كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه بكل وسيلة من المشافهة والمكاتبة، ومنهم من أرسل إليهم رسلاً، فالسيرة الدعوية في المرحلة المكّية والمدنية مليئة بالشواهد الدالّة على ذلك.

    روى الإمام أحمد عن رجل من بني مالك بن كنانة، وهذا الرجل من الصحابة، وإذا لم نعرف اسم الصحابي الذي روى الحديث، كأن يقول الراوي: عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا يؤثر في صحة الحديث على الإطلاق؛ لأن الصحابة جميعهم عدول، رضي الله عنهم.

    فقد روى الإمام أحمد بسنده عن رجل من بني مالك بن كنانة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخلّلها) يتخللها: يمشي خلال تجمّعات الناس في سوق ذي المجاز، (يقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: لا يُغوينّكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

    وروى الإمام الحاكم عن ربيعة بن عباد الدؤلي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. ووراءه رجل يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم. فسألتُ عن هذا الرجل، فقيل: أبو لهب)، ففي الحديث الأول كان أبو جهل هو الذي يحثي عليه التراب، أما في هذه المرّة فكان أبو لهب .

    وروى البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة

    ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب : يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ! أترغب عن ملّة عبد المطلب ؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال: أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول: لا إله إلا الله).

    وروى البخاري عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال يا معاذ ! هل تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألاّ يعذب من لا يشرك به شيئاً).

    وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع) يعني: في غزوة ذات الرقاع، (فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه) أي: أن هذا المشرك أخذ السيف، (فقال له) يعني: قال المشرك للرسول عليه الصلاة والسلام: (أتخافني؟ فقال له: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله)، وفي رواية للإسماعيلي : (فسقط السيف من يده) أي: سقط السيف من يد هذا المشرك، (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ).

    فتأمل كيف أن الرجل لم يُجب على السؤال، أما النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: من يمنعك مني؟ قال: الله. أما المشرك فلا مولى له، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]، وذلك الذي يرجّح كفّة أهل الإسلام في صراعهم مع أهل الباطل، وهو أن الله معهم، كما قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]، فمن كان الله معه فلن يغلبه أحد.

    فإذاً: إلى من يلجأ الكفار والظالمون والذين يعيثون في الأرض فساداً؟! لو سُئلوا فلن يجدوا جواباً، أما المؤمن فيعرف جيداً من الذي يلجأ إليه.

    وتكملة الحديث: (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك على ألاّ أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فأتى أصحابه -أي: الرجل- فقال: جئتكم من عند خير الناس).

    كذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيصر ملك الروم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك، فقد جاء في نصّ كتابه الكريم إلى هرقل، كما جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من محمد عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين؟ -وهُمْ: الأكارين أو الفالحين جمع أريس- يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]).

    وهذه الآية يستدل بها بعض السّاسة كما فعل السادات في بعض المناسبات أو المؤتمرات المتعلقة بالتنفيذية، فكان يتلو الآية في سياق أننا شيء واحد، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] بحيث يوهم أننا كلنّا شيء واحد، وكلنّا ندعو إلى عبادة الله، ولكن كل واحد على طريقته، فهذا يقول: إن الله هو المسيح! واليهود يقولون على الله الكذب، وينسبون إليه من الصفات ما يتنزه الله عنه! والمسلمون كذلك يدعون إلى عبادة الله، وهذا كلام باطل، فإن معنى (كلمةٍ سواء) هي: دين الإسلام فقط لا غير، فقوله: يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64] يعني: ادخلوا في دين الله، (( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )) فإذا أكملت الآية: (( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )).

    كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن أن يكون أول ما يدعو الناس إليه هو: توحيد الله تبارك وتعالى.

    فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحّدوا الله تعالى).

    إذاً: التوحيد له الأولية المطلقة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا عرفوا ذلك، فأخبِرْهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ...) إلى آخر الحديث.

    وفي رواية: (فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

    إذاً: أول ما بُدئت به آية الكرسي هو أفضل الكلام على الإطلاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).

    فأفضل الذكر على الإطلاق -أي: بعد القرآن الكريم- هو أن تقول: لا إله إلا الله، فالله عز وجل هو المتفرد بالإلوهية والعبودية لجميع الخلائق دون سواه، وهذا هو الأمر المهمّ الذي ابتعث الله له جميع الأنبياء المرسلين بمن فيهم خاتمهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

    (الله لا إله إلا هو) هي أساس دعوة جميع الأنبياء

    إن آية الكرسي مشتملة على عشر جمل مستقلة، نذكرها بالترتيب:

    الجملة الأولى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والكلام فيها على قسمين:

    أولاً: بيان أن (الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    فقوله: (الله لا إله إلا هو) هذا هو شعار الإسلام، وهذه كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله تبارك وتعالى.

    يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: وأما تأويل قوله: (لا إله إلا الله) فإن معناه: النهي أن يُعبد شيء غير الله.

    الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تباك وتعالى في هذه الآية: (الله لا إله إلا هو)، فبدأ بلفظ الجلالة، ثم ذكر أهمّ شيء على الإطلاق في دعوة الإسلام، وهو هذا الشعار -شعار التوحيد-: (لا إله إلا هو).

    قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إخبارٌ بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلق.

    وقال البيضاوي : والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير.

    وقال القاضي أبو السعود : أي: هو المستحق للعبودية لا غير.

    وقال السعدي : فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الإلوهية، وأنه لا يستحق الإلوهية والعبودية إلا هو، فألوهية غيره وعبودية غيره باطلة.

    إذاً: معنى هذه الجملة: أن الله جل جلاله هو المتفرد في استحقاق العبودية، فلا يعبد أحد سواه كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادات.

    فلا قيام ولا ركوع ولا سجود ولا ذبح ولا نذر إلا له وحده تعالى.

    ولا يُدعى في السراء والضراء واليسر والعسر والفرح والغمّ إلا الله سبحانه وتعالى.

    ولا يُستمدّ ولا يُستنصر ولا يُستغاث إلا به.

    ولا طواف إلا ببيته العتيق.

    ولا حلف إلا به، ولا حكم إلا له.

    ولا ندّ ولا نظير ولا شريك له في أي نوع من أنواع العبادات: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .

    فهذه كلمة النجاة، وهي مكونة من شقين:

    الأول: شق فيه النفي، وهو: (لا إله) يعني: نفي استحقاق العبودية والإلوهية عن غير الله.

    الثاني: الإثبات، وهو: (إلا الله)، وهو إثبات استحقاق الألوهية لله الأحد جل جلاله.

    وقد أتى ذكر شهادة التوحيد بمعناها في بعض المواضع، مثل قول الله تبارك وتعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهي كلمة الشهادة، فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت) يعني: يحقق النفي، فيؤمن بأنه لا يوجد أحد ولا شيء غير الله يستحق أن يُعبد.

    وقوله: (ويؤمن بالله)، يعني: لا يصحّ إيمانك بالله حتى تبطل استحقاق العبودية لغير الله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256].

    وكذلك في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26] * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27] * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً [الزخرف:28] وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، لكنه هنا ذكرها بالمعنى: (إنني براء مما تعبدون) أي: أكفر بكل ما تعبدون من دون الله، (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)، وهذا هو نفس معنى: لا إله إلا الله.

    وهذا هو ما بدأت به آية الكرسي، وهو مفتاح وأساس دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فما بعث الله نبياً إلا أوحى إليه أنه لا إله إلا هو، كما قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] فهذه الكلمة مفتاح دعوة جميع الأنبياء والرسل، ولذلك كانت هذه الشهادة قاسماً مشتركاً بين جميع الأنبياء على الإطلاق، ولجميع الرسالات: لا إله إلا الله، ينضّم إليها شق آخر في الشهادة بإثبات النبوة والرسالة وهي: فلان رسول الله، ويختلف هذا من أمه إلى أمه، فمثلاً في عهد نوح كانت كلمة النجاة: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله، وفي عهد عيسى عليه السلام: لا إله إلا الله عيسى رسول الله، ثم جاءت الرسالة الخاتمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: لا ينجو الإنسان إلا إذا حقق هذين النوعين من التوحيد: توحيد المعبود -وهو: الله- وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله؛ لأن معنى أنك تشهد أن لا إله إلا الله: أنك تثبت أنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إلى الله، وأن من عبد أو وجه العبادة لغير الله فقد أشرك بالله واتخذ معبوده إلهاً من دون الله.

    فخلاصة الكلام: أن الشقّ الأول من كلمة التوحيد يدلنا على توحيد العبادة، فإذا قال قائل: يا رب آمنت أنه لا إله إلا أنت، وأنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إليك، إذاً: كيف يتعرف هذا على كيفية العبادة؟ وعن أي طريق يعرف ما يرضي ربه ليفعله؟ وما يسخطه ليتجنبه؟ وكيف يصلي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يزكي؟ وكيف يحج؟ وكيف يقوم بسائر العبادات؟

    وقد أتى بيان هذا كله في الشق الثاني، وهو توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فلا يعبد الله بالأهواء، ولا بمقتضيات العقول فحسب، وإنما يعبده بالوحي الذي يوحيه الله للرسول الذي أرسله كي يعلمك كيف تحقق التوحيد.

    فإذاً: لابد من توحيدين: توحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله، إذ لا يمكن أن يقبل الله من العبد عبادة إلا إذا كانت موافقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    قال القاضي ابن عطية في تفسيره: لما أخبرهم تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم، أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولاً إلا أوحى إليه أن الله فرد صمد، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات، وإنما اختلفت في الأحكام، ولذلك نقول: إن لفظة التوحيد (لا إله إلا الله) قاسم مشترك بين جميع الأنبياء، وكل الأنبياء دعوا إليها، واختلفوا في الأحكام، والشريعة تختلف، لذلك ممكن أن نقول: الرسالات السماوية، لكن لا نقول أبداً: الديانات السماوية؛ فهذا كذب وضلال مبين، إذ لا يوجد شيء اسمه: (الديانات السماوية) بصيغة الجمع؛ لأن السماء لم ينزل منها إلا دين واحد، وكل الأنبياء دعوا إلى الإسلام، لكن التحريف هو الذي فعل ذلك، فادعاء أن الأديان المحرّفة الموجودة حالياً كلها سماوية هذا من الضلال المبين؛ لأن السماء لم ينزل منها غير دين واحد فقط، وهو دين الإسلام، فآدم كان مسلماً .. نوح كان مسلماً .. موسى دعا إلى الإسلام .. عيسى دعا إلى الإسلام .. هود دعا إلى الإسلام .. صالح دعا إلى الإسلام ... وهكذا جميع الأنبياء دعوا إلى الإسلام، فلذلك إذا قرأت قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فإياك أن تظن أن الإسلام هو الرسالة الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا، بل معنى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] أي: منذ أن خلق الله الدنيا والناس كلهم مطالبون بالإسلام، والأدلة في القرآن على ذلك أكثر من أن تُحصر، ووصف الأنبياء بالإسلام شائع جداً في القرآن الكريم.

    فجميع الأنبياء متّحدون في العقيدة، وقد يختلفون في الشرائع، فمن الممكن أن نقول: شرائع سماوية، أو رسالات سماوية؛ لأنها رسالات متعددة، لكن لا نقول أبداً: الأديان السماوية كما سبق.

    والحق لابد أن يكون واحداً، فكيف يقال عن النصرانية المحرّفة دين سماوي في سياق المدح؟! وفيها: لا إله إلا الله، ليس عيسى رسول الله، حيث يزعمون أن عيسى هو الله!! أو أن الآلهة ثلاثة!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

    وفي اليهودية نجد إلحاداً في أسماء الله وصفاته، فكيف يكون هذا أيضاً دين سماوي؟! الدين السماوي هو دين موسى وعيسى وآدم ومحمد ونوح وجميع الأنبياء، فهؤلاء كلهم دعوا إلى: لا إله إلا الله، واختلفوا في الشرائع لاختلاف الأمم والظروف، إلى أن جاءت الشريعة الخاتمة التي يصلح بها كل زمان وكل مكان.

    إذاً: لا تختلف النبوات على الإطلاق في الدعوة إلى: لا إله إلا الله، وإنما يختلفون في الأحكام، مثل: أحكام الزواج.. أحكام الطلاق.. أحكام العبادات، ... إلى آخره.

    قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أي: قلنا للجميع لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة على أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود؛ لأن الدليل إما معقول وإما منقول: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ [الملك:10].

    وقال قتادة : لم يُرسَل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد، روحه التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى} العلات: الضرائر، أي: مثل الشخص الذي يتزوج عدة نساء ويأتي بأولاد، فهؤلاء الأولاد يكون أشقاء من جهة الأب، فالدين واحد وهو التوحيد، وكلهم متفقون على هذا الأصل.

    قوله: { وأمهاتنا شتى }، أي: الشرائع تختلف، ولذلك جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ الشرائع التي قبلها، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

    وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيرها: (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ )) أي: بعثناهم بأن اعبدوا الله ووحدوه: (واجتنبوا الطاغوت) أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل ما دعا إلى الضلال.

    وقال ابن كثير : وبعث في كل أمة أي: في كل قرن وطائفة رسولاً، وكلّهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه.

    إذا استعرضنا بعض آيات القرآن الكريم نجد هذه الحقيقة هي أجلى حقائق القرآن على الإطلاق، وهي: الدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى، وأنّ لا إله إلا الله كانت مفتاح دعوة جميع الأنبياء والرسل، فما أتى نبيّ إلا وهو يدعو أول ما يدعو إلى توحيد الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59].

    وقد قال هود عليه السلام: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف:65].

    وقال صالح عليه السلام: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:61].

    وجميع الأنبياء قالوا: (اعبدوا الله)، يعني: وحده (ما لكم من إلهٍ غيره).

    كذلك كانت كلمة التوحيد وصيّة إبراهيم عليه السلام لبنيه، وكذلك وصية يعقوب: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].

    وإلى هذا الأساس دعا شعيب عليه السلام: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:84].

    وبهذا أمر الله أهل الكتاب وكلّفهم: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

    قوله: (مخلصين له الدين) يعني: مخلصين من الشرك، (حنفاء) يعني: منحنفين من الشرك إلى التوحيد، والحنيف المائل عن الشرك وعن الأديان الأخرى إلى دين الإسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى : (الحي القيوم)

    بيان معنى ( الحي ) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى

    الجملة الثانية من آية الكرسي: الْحَيُّ الْقَيُّومُ . بدأ الشيخ فضل إلهي بتعريف معنى (الحي). يقول: المراد به -والله تعالى أعلم- الذي له الحياة الذاتية التي لم تأتِ من مصدر آخر، الكاملة الدائمة التي ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد. وحينما تصف الله سبحانه وتعالى بأنه الحي فإن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسمّيات، فقد يُطلق لفظ من الألفاظ على الله وعلى غير الله، لكنّ هذا التماثل في الاسم لا يقتضي تماثل المسمّيات، فمثلاً: يوصف الله بأنه عالم، ويوصف بعض البشر بأنه أيضاً عالم، أو كريم، أو حليم، وكذلك (حي) أيضاً من أوصاف بعض المخلوقات، لكن حينما نقول: إن الله عز وجل من أسمائه الحسنى (الحي) فيجب أن ندرك الفرق بين حياتنا وبين حياة الله تبارك وتعالى، فحياتنا قبلها عدم وبعدها موت، ونحن لم نحي أنفسنا، وإنما الذي أحيانا هو الله تبارك وتعالى. فمعنى وصف الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف: (الحي) يعني: أنه له الحياة الذاتية التي لم تستمد من مصدر آخر، فهو دائماً عز وجل حي منذ الأزل وإلى الأبد، لم ينفصل عنه هذا الوصف أبداً تبارك وتعالى، فحياة الله حياة كاملة دائمة، ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد. وقال قتادة في تفسير الحي: يعني: الحي الذي لا يموت. وقال الإمام السدي : المراد بالحي: الباقي. وقال الطبري : أما قوله: (( الْحَيُّ )) فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحدّ، ولا آخر له بأمد -أي: غاية ينتهي إليها- إذ كل ما سواه فإنه وإن كان حيّاً فلحياته أول محدود وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها. وقال البغوي : (الحي): الباقي الدائم على الأبد. وقال ابن كثير : أي: الحي في نفسه، الذي لا يموت أبداً. وقال أبو السعود : الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء. ومن الآيات التي جاء فيها اسم (الحي) لله تبارك وتعالى: قوله عز وجل في أول سورة آل عمران: (( الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ))، وقال عز وجل: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، وقال عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58]،وقال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65]. وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن اسم (الحي) يستلزم جميع صفات الكمال لله تبارك تعالى، ولذلك كان يرى أن (الحي) هو اسم الله الأعظم، يقول: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )) فهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتُفي بالحي. وقال السعدي : وأنه الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة، من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في تفسير (الحي القيوم): هذان اسمان من أسمائه تعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، فكمال الأوصاف في الحي، وكمال الأفعال في القيوم؛ لأن معنى الحي: ذو الحياة الكاملة، ويدل على ذلك (أل) التي تفيد الاستغراق، وكمال الحياة من حيث الوجود والعدم، ومن حيث الكمال والنقص. أيضاً: إثبات هذا الاسم (الحي) بهذا المعنى الذي ذكرناه يستلزم أن كل ما سوى الله تبارك وتعالى ميت، فإن الحياة الأزلية الأبدية الدائمة ليست إلا الله الأحد تبارك وتعالى، وكل من سواه كائناً من كان فإنه هالك وميت، يقول عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، وقال عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، وقال عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]، وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. فلو كان لأحد من الخلق الخلود والبقاء لكان أولاهم بذلك سيد الأولين والآخرين خليل رب العالمين: رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يبق عليه الصلاة والسلام، وإنما مات كما يموت البشر، فهذه الحقيقة كانت مؤكدة حتى قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35]، وقال عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] وقال جل وعلا: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، ثم قال: واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي رحمهم الله تعالى. وليس الحديث على ظاهره؛ لأن الإنسان لا يعيش كما يشاء هو، لكن هذا لبيان هذه الحقيقة، كما قال موسى عليه السلام لما أُمر أن يضع يده على متن ثور وله بكل شعره وقعت عليها يده سنة، فيمتد عمره بذلك، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فالشاهد قوله: (يا محمد! عِشْ ما شئت)، أي: افترض أنك تعيش ما شئت، فلا بد في النهاية من الموت، فإنك ميت. ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ذكر اسم الحي مباشرة بعد قوله: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ))، وفي ذلك استدلال على إثبات تفرده بالألوهية، فكأن الحي دليل لإثبات قوله: (الله لا إله إلا هو)، فالدليل على أنه لا إله إلا هو: أنه الحي، فهذا استدلال على إثبات تفرده بالألوهية وإبطال عبودية كل من سواه؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حي بهذه الحياة إلا الله الأحد، فلا يستحق العبادة إلا هو. يقول ابن عاشور : والمقصود: إثبات الحياة، وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية؛ لانتفاء الحياة عنهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]. وقد يقول قائل: إن هذه الأصنام كانت جمادات، ولكن من عبد إنساناً أو كائناً حياً فإنه يعبد حياً، نقول: لا، يوجد وصف الحياة المستقلة الذاتية التي لم تأتِ بمصدر آخر سوى الله سبحانه وتعالى، فليس هناك حي بهذا المعنى إلا الله، وبالتالي فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن حياة كل ما سوى الله إنما هي من عند الله، فهو الذي يحيي ويميت، وغيره لا يحيي ولا يميت. وقد نبّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى التلازم بين الحياة الدائمة واستحقاق العبودية، فانتبهوا لهذا المعنى، وهو معنى كلمة (الحي)، وأنها أتت مباشرة بعد قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255]، وأبو بكر الصديق نبّه إلى الربط بين الحياة وبين استحقاق الألوهية والعبودية. وهذا كان في الخطبة التي ألقاها أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كانت الصدمة عليهم أشد ما تكون، ونحن نعرف ماذا فعل عمر في تلك الحادثة الجليلة، والتي هي أعظم قاصمة وقعت في تاريخ الإسلام كله، وهي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، والصحابة كانوا قد صُدموا أشد الصدمة، وثبت أبو بكر رضي الله عنه، وهذه من فضائله التي تبين فعلاً استحقاقه لأنْ يكون الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمصيبة رغم عظمها إلا أن أبا بكر أراد أن يلفتهم إلى أن لا غرابة في أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحالة في ذلك، بدليلٍ لطيف جداً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً يُعبد، وإنما هو بشر من البشر، وأن الذي نعبده نحن المسلمين وحده هو الله عز وجل، فهو حي لا يموت. فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلم الناس، حتى وصل الأمر إلى أن عمر قال: كذب من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قُبض، بل ذهب إلى لقاء ربه كما حصل لموسى. ورفع السيف وقال: من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات لأقطعن عنقه بهذا السيف -وهذا من شدة الصدمة- فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه بكل ثقة، فقال له: اجلس يا عمر ، فأبى عمر رضي الله عنه أن يجلس من شدة الانفعال، فأقبل الناس عليه وتركوا عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً صلى الله ع

    بيان معنى ( القيوم ) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى

    قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (الحي) كمال الأوصاف، و(القيوم) تعبير عن كمال الأفعال، أما وزن (القيوم) فهو: (فيعول) مأخوذ من القيام، ومعنى ذلك: أنه جل جلاله قائم بأمر الخلق برزقه ورعايته وحفظه، وما من شيء إلا وإقامته بأمره وتدبيره سبحانه وتعالى.

    قال القرطبي : وأما قوله: (القيوم) فإنه (الفيعول) من القيام، وأصله: القيووم، بواوين.

    وقال أبو حيان : القيوم على وزن (فيعول) أصله: قيووم، اجتمعت الياء والواو واستبقت أحداهما بالسكون، فقُلبتْ الواو ياءً وأُدغمت فيها الياء.

    أما معناه: فقال قتادة : القيوم: القائم بتدبير خلقه.

    وقال الربيع : القيوم: قيّم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.

    وقال الطبري : القيوم: القائم برزق خلقه وحفظه.

    وقال ابن كثير : القيوم: القيّم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره.

    وقد وردت نصوص أخرى من القرآن الكريم تدل على أن قيام الموجودات وبقاءها وحفظها بأمر الله تعالى، ولا قوام لها بدونه.

    من ذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك:19] صافات: باسطات أجنحتهن، (ويقبضن) يعني: قابضات، (ما يمسكهن): يعني: عن الوقوع سواء في حالة البسط أو القبض، (إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير): فمن الذي يمسك الطير في السماء؟ ما هو إلا الله سبحانه وتعالى.

    وقال جل وعلا: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38] * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] (العرجون): العذق الذي عليه الشماريخ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس:40] يعني: فتجتمع معه في الليل، وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [يس:40] فلا يأتي قبل انقضائه، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40] (يسبحون): يجرون، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41] المشحون: المملوء، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:42] * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ [يس:43] أي: لا مغيث لهم، وَلا هُمْ يُنقَذُونَ [يس:43] يعني: ولا هم ينجون من الغرق، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [يس:44].

    فمن يأمر الشمس بالجري لمستقرٍ لها؟ ومن يقدر منازل القمر؟ ومن يمنع الشمس عن الاجتماع مع القمر؟ ومن يحجز الليل عن المجيء قبل انقضاء النهار؟ ومن يوقف النهار من الطلوع قبل انصرام الليل؟ ومن يحفظ ركاب السفن وسط موجات البحر التي هي كالجبال؟

    الجواب: إنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم.

    يقول تبارك وتعالى مبيّناً قيام السموات والأرض بأمره: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25] (أن تقوم) أي: أن تدوما قائمتين، ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم:25].

    وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41] يعني: أن الله يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع، وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] يعني: ما يمسكهما أحد سوى الله تبارك وتعالى، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر:41] وهذه الآية فيها ترغيب عظيم جداً، فهو الحافظ القيوم لأمرهما، الحكمة في أنه ختم الآية بقوله: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر:41]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو يؤاخذ الناس بما كسبوا لدمر هذا الكون، ولأزال السموات والأرض، لكنه حليم، يحلم عنهم، ويرجئهم إلى أن يتوبوا، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر:41].

    فهذا الترغيب في المبادرة إلى الله، وألا ينخدع الإنسان بإمهال الله إياه، ولا يغتر بصفة الحلم، بل عليه أن يبادر إلى التوبة، فإنه إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، (إنه كان حليماً) يعطيك الفرصة، ويمهلك كي تستعتب وتتوب، (غفوراً)، إذا رجعت إليه فإنه يغفر لك.

    وكما بين العلماء أن لاسم (الحي) منزلة عظيمة، فكذلك بيّنوا عظم شأن اسم (القيوم).

    يقول القاضي علي بن علي الحنفي شارح الطحاوية رحمه الله: فعلى هذين الاثنين: (الحي القيوم) مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيهما، فكل الأسماء الحسنى تدور حول (الحي القيوم).

    ثم قال رحمه الله تعالى: وأما (القيوم) فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتمّ انتظام.

    فالله سبحانه هو الغني الحليم، يقوم بنفسه ولا يحتاج إلى غيره، أما غير الله فلابد من أن يقيمه الله؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فيجب أن نرى أفعال الله، وتدبير الله، وقيامنا بالله في كل شيء، في كل نبضة قلب .. في كل نفس تأخذه .. في كل رزق يفتح عليك به .. في طلوع الشمس .. في غروبها .. في كل شيء، فما من شيء إلا وهو بقدرة الله وبإقامة الله إياه، فلو لم يُقمْك الله لما قدرت على شيء، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه القيّومية هي سبب كل ما نرى في الوجود من تدبير، ومن إقامتنا.

    قال السعدي رحمه الله: كما أن (القيوم) تدخل فيه جميع صفات الأفعال؛ لأنه القيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها، وأمدّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها.

    وذكر اسم (القيوم) لله عز وجل بعد (الله لا إله إلا هو) فيه ما يدل على تفرده تعالى بالإلوهية والعبودية؛ لأنه هو المتفرد لقيام أمر الخلق، من رزقهم وحفظهم ورعايتهم من غير نّدٍ ولا شريك، فما دام لم يقم الخلق، ولم يدبر أمرهم، ولم يرزقهم، ولم يُحيهم، ولم يعافهم، ولم يفعل بهم كل هذا إلا الله عز وجل وحده، فينبغي ألا نوجّه العبادة إلا إلى الله عز وجل، لأنه هو المستحق وحده لجميع أنواع العبادات، دون أن يشرك معه فيها أحد.

    هذا ما تيسر من استعراض هذا التفسير لجزء من آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).

    أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.

    سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    بيان معنى الحي وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى

    الجملة الثانية: الْحَيُّ الْقَيُّومُ .

    بدأ الشيخ فضل إلهي بتعريف معنى (الحي).

    يقول: المراد به والله تعالى أعلم: الذي له الحياة الذاتية التي لم تأتِ من مصدر آخر، الكاملة الدائمة التي ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد.

    وحينما تصف الله سبحانه وتعالى بأنه الحي فإن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسمّيات، فقد يُطلق لفظ من الألفاظ على الله وعلى غير الله، لكنّ هذا التماثل في الاسم لا يقتضي تماثل المسمّيات، فمثلاً: يوصف الله بأنه عالم، ويوصف بعض البشر بأنه أيضاً عالم، أو كريم، أو حليم، وكذلك (حي) أيضاً من أوصاف بعض المخلوقات، لكن حينما نقول: إن الله عز وجل من أسمائه الحسنى (الحي) فيجب أن ندرك الفرق بين حياتنا وبين حياة الله تبارك وتعالى، فحياتنا قبلها عدم وبعدها موت، ونحن لم نحي أنفسنا، وإنما الذي أحيانا هو الله تبارك وتعالى.

    فمعنى وصف الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف: (الحي) يعني: أنه له الحياة الذاتية التي لم تستمد من مصدر آخر، فهو دائماً عز وجل حي منذ الأزل وإلى الأبد، لم ينفصل عنه هذا الوصف أبداً تبارك وتعالى، فحياة الله حياة كاملة دائمة، ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد.

    وقال قتادة في تفسير الحي: يعني: الحي الذي لا يموت.

    وقال الإمام السدي : المراد بالحي: الباقي.

    وقال الطبري : أما قوله: (( الْحَيُّ )) فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحدّ، ولا آخر له بأمد -أي: غاية ينتهي إليها- إذ كل ما سواه فإنه وإن كان حيّاً فلحياته أول محدود وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها.

    وقال البغوي : (الحي): الباقي الدائم على الأبد.

    وقال ابن كثير : أي: الحي في نفسه، الذي لا يموت أبداً.

    وقال أبو السعود : الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء.

    ومن الآيات التي جاء فيها اسم (الحي) لله تبارك وتعالى: قوله عز وجل في أول سورة آل عمران: (( الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ))، وقال عز وجل: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، وقال عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58]،وقال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65].

    وكما ذكرنا: يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن اسم (الحي) يستلزم جميع صفات الكمال لله تبارك تعالى، ولذلك كان يرى شيخ الإسلام أن الحي هو اسم الله الأعظم، يقول: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كان أعظم آية في القرآن: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )) فهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتُفي بالحي.

    وقال السعدي : وأنه الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة، من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية.

    وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في تفسير (الحي القيوم): هذان اسمان من أسمائه تعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، فكمال الأوصاف في الحي، وكمال الأفعال في القيوم؛ لأن معنى الحي: ذو الحياة الكاملة، ويدل على ذلك (أل) الحي تفيد الاستغراق، وكمال الحياة من حيث الوجود والعدم، ومن حيث الكمال والنقص، أيضاً: إثبات هذا الوصف بهذا المعنى أو هذا الاسم (الحي) بهذا المعنى الذي ذكرناه يستلزم أن كل ما سوى الله تبارك وتعالى فإنه ميت، فإن الحياة الأزلية الأبدية الدائمة ليست إلا الله الأحد تبارك وتعالى، وكل من سواه كائناً من كان فإنه هالك وميت، يقول عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، وقال عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، وقال عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]، وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27].

    فلو كان لأحد من الخلق الخلود والبقاء لكان أولاهم بذلك سيد الأولين والآخرين خليل رب العالمين: رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يبق عليه الصلاة والسلام، وإنما مات كما يموت البشر، فهذه الحقيقة كانت مؤكدة حتى قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]* كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقال عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] وقال جل وعلا: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

    وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: {جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، ثم قال: يا محمد! شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس} رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى.

    وليس الحديث على ظاهره؛ لأن الإنسان لا يعيش كما يشاء هو، لكن هذا لبيان هذه الحقيقة، كما قال موسى عليه السلام لما أُمر أن يضع يده على متن ثور وله بكل شعره وقعت عليها يده سنة، فيمتد عمره بذلك، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن.

    فالشاهد قوله: {يا محمد! عِشْ ما شئت}، أي: افترض أنك تعيش ما شئت، فلا بد في النهاية من الموت فإنك ميت.

    ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ذكر اسم الحي مباشرة بعد قوله: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ))، وفي ذلك استدلال على إثبات تفرده بالألوهية، يعني: كأن الحي دليل لإثبات ما سبقه من الكلام: (الله لا إله إلا هو)، والدليل على أنه لا إله إلا هو: أنه الحي، فهذا استدلال على إثبات تفرده بالإلوهية وإبطال عبودية كل من سواه؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حي بهذه الحياة إلا الله الأحد، فلا يستحق العبادة إلا هو.

    يقول ابن عاشور : والمقصود: إثبات الحياة، وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية؛ لانتفاء الحياة عنهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42].

    قد يقول قائل: إن هذه الأصنام كانت جمادات، ولكن من عبد إنساناً أو كائناً حياً فإنه يعبد حياً، نقول: لا، يوجد وصف الحياة المستقلة الذاتية التي لم تأتِ بمصدر آخر سوى الله سبحانه وتعالى، فليس هناك حي بهذا المعنى إلا الله، وبالتالي لا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن حياة كل ما سوى الله إنما هي من عند الله، فهو الذي يحيي ويميت، وغيره لا يحيي ولا يميت.

    وقد نبّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى التلازم بين الحياة الدائمة واستحقاق العبودية، فانتبهوا لهذا المعنى وهو معنى كلمة (الحي)، وأنها أتت مباشرة بعد: الله لا إله إلا هو، وأبو بكر الصديق التفت ونبّه إلى الربط بين الحياة وبين استحقاق الإلوهية والعبودية.

    وهذا كان في الخطبة التي ألقاها أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كانت الصدمة عليهم أشد ما تكون، ونحن نعرف ماذا فعل عمر في تلك الحادثة الجليلة، والتي هي أعظم قاصمة وقعت في تاريخ الإسلام كله، وهي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، والصحابة كانوا قد صُدموا أشد الصدمة، وثبت أبو بكر رضي الله عنه، وهذه من فضائله التي تبين فعلاً استحقاقه لأنْ يكون الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمصيبة رغم عظمها إلا أن أبا بكر أراد أن يلفتهم إلى أن لا غرابة في أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحالة في ذلك، بدليلٍ لطيف جداً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً يُعبد، وإنما هو بشر من البشر، وأن الذي نعبده نحن المسلمين وحده هو الله عز وجل، فهو حي لا يموت.

    فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلم الناس، حتى وصل الأمر إلى أن عمر قال: كذب من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قُبض، بل ذهب إلى لقاء ربه كما حصل لموسى. ورفع السيف وقال: من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات لأقطعن عنقه بهذا السيف -وهذا من شدة الصدمة- فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه بكل ثقة، فقال له: اجلس يا عمر ، فأبى عمر رضي الله عنه أن يجلس من شدة الانفعال، فأقبل الناس عليه وتركوا عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

    قال: والله لكأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.

    وقال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر رضي الله عنه تلاها فعقرتُ -يعني: هلكتُ، وفي بعض الروايات: أعقبت. يعني دُهشت وتحيرت- فعقرت حتى ما تُقلّني رجلاي. يعني: ما تحملني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض -أي: سقط على الأرض- حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.

    إذاً: الحياة الذاتية الدائمة الكاملة التي ليس لها انقطاع، لا لها قبل ولا لها بعد، هي صفة تختص بالله الخالق جل جلاله، ولا يتصف بها أحد سواه كائناً من كان، وإن تفرده عز وجل بهذه الحياة هو أحد الدلائل على تفرده بالإلوهية والعبودية دون سواه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755905940