وبعد:
فيقول الله سبحانه في كتابه الكريم: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
[الممتحنة:4-5].
الآية التي بين يدينا تفيد أن التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما هو في شيء مخصوص: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
[الممتحنة:4] ما هو الشيء المخصوص؟
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
[الممتحنة:4] أي: في تبرئه من المشركين ومن الآلهة التي يعبدها المشركون، لكن هناك آيات أخر تعمم التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، كقول الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر إبراهيم:
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا
[الأنعام:83-84] إلى آخر الآيات، ثم قال الله سبحانه عقبها:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ
[الأنعام:90] أي: تأسى واتبع.
وكذلك يقول الله سبحانه: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ
[لقمان:15] أي: اسلك طريق من رجع إليَّ، وممن أناب إلى الله بالإجماع إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
فأمرنا أن نتأسى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أمراً عاماً، ولذلك لما أثار العلماء مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم أن شرعنا فيه أحكام ملزمة لنا وشرع من قبلنا فيه أحكام ملزمة لهم؟
فمن العلماء من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخه، يعني: أي شيء كان في شريعة إبراهيم أو في شريعة موسى أو في شريعة عيسى أو في أي شريعة سبقت، هو شرع لنا، إلا إذا جاء في شرعنا حكم آخر ينسخ الحكم الموجود في الشرائع السابقة، فنصير مع الحكم الجديد لكون شريعة محمد عليه الصلاة والسلام مهيمنة على كل الشرائع، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
[المائدة:48]، فالهيمنة دائماً لكتاب الله الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يأتِ في شرعنا شيء ينسخ ما جاء في شرعة من قبلنا فلنأخذ به.
ومن العلماء من منع ذلك وقال: إن الله قال: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
[المائدة:48].
وقال آخرون: إن شرعة إبراهيم خاصة تلزم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل ذكره: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
[البقرة:130].
لأهل العلم فيها قولان مشهوران:
أحدهما: أن المراد بقوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ
[الممتحنة:4]، الأنبياء الذين جاءوا من بعده وهم من ذريته.
القول الآخر: أنهم قوم آمنوا مع إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورجح الأولون قولهم بأن الذين آمنوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام قلة لا تكاد تذكر، بل لم يذكر أي شخص آمن لإبراهيم عليه السلام إلا لوط وسارة، وسائر أبنائه الذين هم من ذريته كإسحاق وإسماعيل عليهما السلام، أما لوط فلقول الله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ
[العنكبوت:26]، وأما زوجته سارة فإنها لما أوشكت أن تدخل على الجبار، قال لها: (إنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فإن سألني عنكِ فسأقول: إنكِ أختي، فأنت أختي في الإسلام، فليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك)، فهذا الحديث حمل فريقاً من المفسرين على أن يفسروا:
وَالَّذِينَ مَعَهُ
[الممتحنة:4]، أنهم الأنبياء الذين اتبعوه على ملته وشريعته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن هناك قوم آمنوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما ألقي في النار خرج منها وما معه أحد من الذين آمنوا به، وقال حينئذٍ:
إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي
[العنكبوت:26]،
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
[الصافات:99]، فهو ترك البلاد وغادرها، وكان هو وزوجته فقط عليه السلام.
أما بالنسبة للمسلم؛ فلأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل خالداً إلى بعض البلاد في بعض الغزوات، فخرج أهلها يقولون: صبأنا صبأنا، إذ لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وقد عنوا بقولهم: صبأنا أي: دخلنا في الإسلام، أسلمنا! أسلمنا! فطفق خالد يقتل فيهم، ويأسر، فبلغت هذه الفعلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمد يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع
إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
[الممتحنة:4] فإذا آمنتم بالله وحده، وأقررتم بشرعته، ووحدتموه، فقد زالت العداوة والبغضاء التي بيننا، أما إذا بقيتم على كفركم فها نحن نعلن البراءة منكم ومن آلهتكم التي تعبد، فهي قوة في الصدع بالحق، وقوة في اتخاذ طريق الحق المستقيم، ليس فيها ضعف وليس فيها هوان، إنما هو خط واحد واضح، أنا مؤمن بالله كافر بالطواغيت، وكافر بكل ما يعبد من دون الله:
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ
[هود:112]،
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
[الأنعام:106]،
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
[الزخرف:43]،
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
[الأعراف:3] فهو خط واحد واضح في التبرؤ من الشرك، والتمسك بالإيمان:
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
[البقرة:256].
فجدير بكل مؤمن وكل مسلم أن يتخذ هذا الخط، موالاة الله وموالاة رسل الله، واعتناق شرع الله والرضا بقضاء الله وبشرعه وبسنة نبيه، ورفض كل شيء مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله، وإعلان هذا بوضوح بلا غموض، فهو خط واضح صريح سلكه الأنبياء من قبلنا عليهم الصلاة والسلام، فلا يليق بنصراني أن يعلق صليباً في عنقه مظهراً نصرانيته وأنت كمسلم تستحي أن تظهر نفسك متمسكاً بالإسلام، ومتمسكاً برسول الإسلام محمد عليه أفضل صلاة وأتم سلام، فتأسوا بإبراهيم في هذه الأفعال.
إذاً: إذا جاء شيخ وفعل فعلة مخالفة للكتاب والسنة فمن باب أولى ألا يتبع أبداً، والكتاب والسنة هما الحكم على كل شخص، وليس الشخص هو الحكم على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، أصحاب نبينا محمد عليهم رضوان الله فعلوا واجتهدوا، فعلوا جملة أفعال واجتهدوا جملة من الاجتهادات، ولكن صدرت من بعضهم فتاوى جانبت الصواب، فلا يتبع أحدهم على هذه الفتيا.
فمثلاً: صدر عن ابن عمر القول بإباحة إتيان المرأة في دبرها! وهذا خطأ، ولا يتبع عليه ابن عمر رضي الله عنهما، وسائر أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام خالفوه في ذلك، وجماهير أهل العلم على خلافه في هذه المسألة؛ لأن حديث: (لعن الله من أتى امرأة في دبرها) بمجموع طرقه يصح، والحرث ما هو إلا موطن الزرع، فلا يتبع في مثل هذه الزلة مع فضله وورعه وعلمه وكثرة اتباعه للسنة، لكن هذا لا يمنع أن تزل قدمه في بعض المسائل.
وابن عباس ورد عنه الأمر بجواز نكاح المتعة، وخالفه في ذلك سائر الصحابة حتى قال له علي : (إنك رجل تائه)، فلا يتبع في هذه الحيثية.
وأبو طلحة كان يرى أن البرد لا يفطر الصائم أي: الثلج النازل من السماء، لكن لا يتبع على هذه الفتيا، كان يقول: إنه ليس بطعام ولا بشراب، وهكذا كل من فعل فعلة وإن كان صالحاً من أفضل الصلحاء، لكن فعلته تخالف هدياً عاماً في الكتاب أو في السنة لا يتبع في هذه الجزئية، وليس هذا بخادش في عموم فتياه، فكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه.
فربنا سبحانه وتعالى نهانا أن نتأسى ونقتدي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله لأبيه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
[الممتحنة:4]، فمن مات أبوه على الشرك لا يحل له أن يستغفر لأبيه المشرك، والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فبكى وأبكى من حوله) عليه الصلاة والسلام، ودليل آخر: قول الله سبحانه:
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
[التوبة:113].
وإذا احتج أحد باستغفار إبراهيم لأبيه حين قال: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
[الممتحنة:4]، وقال:
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ
[الشعراء:86]، فيرد عليه بقوله:
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
[التوبة:114].
فليس في الدين مجاملات حتى مع أقرب الأقربين، حتى مع الآباء والأبناء، نوح لما سأل ربه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ
[هود:45] عوتب أشد عتاب بقوله تعالى:
يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
[هود:46] فتاب نوح وأقلع:
رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
[هود:47]، فمع أقرب الأقربين لا مجاملة في أصل المعتقد بحال من الأحوال.
قال الله سبحانه: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
[الممتحنة:4]، هذا القول:
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
[الممتحنة:4] قول من؟
من أهل العلم من يقول: إنه قول إبراهيم والذين معه.
ومنهم من يقول: إنه أمر للمؤمنين، أي: فقولوا: أيها المؤمنون! رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
[الممتحنة:4]، أي: اعتمدنا في أمورنا عليك،
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا
[الممتحنة:4]، أي: رجعنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
[الممتحنة:4]، أي: يوم القيامة.
أشهر الأقوال في تفسير هذه الآية: لا تنصرهم -يا ربنا- علينا، فيغتروا بهذا النصر ويظنون أنهم على الحق، لا تنصرهم علينا فإنك إذا نصرتهم علينا قالوا: لو كان هذا نبياً حقاً ما هزم، وما قتل وما قتل أصحابه، فيفتنون بذلك ويثبتون على كفرهم، فهو -إذاً- دعاء مضمن لجزئيتين:
أولهما: ألا نكون فتنة للكفار فيستمروا على كفرهم.
الثاني: ألا نهزم من هؤلاء الكفار.
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
[الممتحنة:5]، ويلتحق بها أيضاً سوء التصرفات التي تزل فيها بعض أقدام أهل الإيمان، فأنت -يا مؤمن- في ظاهرك مؤمن ملتزم، وإذا زلت قدمك في مسألة ونظر إليك أهل الفسق وقدمك قد زلت ارتدوا على أدبارهم، يعني: إذا رآك أهل الكفر -وأنت مسلم في ظاهرك- تعبث بالفتيات، أو ترتكب المحرمات، أو تشرب الخمور أمام الناس انتكسوا وفتنوا بفعلك، وتركوا الطريق الذي أنت عليه لهذه الأفعال الشاذة الصادرة منك، فهذا أحد الأوجه أيضاً في تفسير قوله سبحانه:
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا
[الممتحنة:5]، أي: واغفر لنا يا ربنا!
فهذه دعوات يستحب لك أن تدعو بها، فعلى قول بعض المفسرين كما سمعتم أن: رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
[الممتحنة:4] هو أمر من الله لنا نحن المؤمنين أن نقول هذه الكلمة، قولوا أنتم يا أتباع إبراهيم:
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
[الممتحنة:4-5] أي: يا ربنا! فهو أمر لنا أن نقولها على أحد الأوجه في التفسير.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
[الممتحنة:6]، من تولى فكما قال الرسول فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فالشاهد: وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
[الممتحنة:6]، عنه وعن عبادته،
الْحَمِيدُ
[الممتحنة:6]، الحميد لأفعال عباده الذين آمنوا به وصدقوه وارتضوا شرعه ومنهجه، فإنك إذا صليت حمد الله لك صلاتك، وإذا تبرأت من عدو الله حمد الله لك تبرؤك، إذا سعيت بين الصفا والمروة فإن الله شاكر لفعلك عليم به، إذا حججت فإن الله عليم بك وحامد لفعلك، فلذلك هو الحميد يحمد أفعال عباده المؤمنين التي فعلوها، وغني عن أهل الشرك والكفر، حميد يحمد للمؤمنين أفعالهم:
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
[الممتحنة:6].
فكل هذه التساؤلات تثار في أذهان العقلاء، وتثار في أذهان من أراد الله لهم الهداية، فيفكروا، فقد يرجح رجل منهم وجهتكم التي أنتم عليها، فيأتي إلى طريقكم: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[الممتحنة:7]، على ذلك، فالذي يقذف العداوات هو الله، والذي يقذف المحبات في القلوب هو الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الذي حسنه بعضهم وإن كان في التحسين نظر لكن المعنى له وجاهته: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)، يعني: لك أن تعادي، لكن لا تبالغ في العداوات كل المبالغة بل اترك شيئاً لعله يرجع منه، وكذلك في أبواب المحبات، والناظر في السير سواءً في أبواب المحبات أو العداوات أو الحروب أو القتال يرى العجب من هذا!
ذكرنا في الدرس السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علياً والمقداد والزبير إلى روضة خاخ، حتى يأتونه برسالة حاطب التي أرسلها مع امرأة إلى المشركين، فانطلقوا جميعاً: علي والزبير والمقداد تعادي بهم خيولهم، حتى ينفذوا أمر رسول الله، وأتوا برسالة من المرأة إلى رسول الله، فانظر إلى اتحاد الزبير مع علي في هذا الموقف.
وأيضاً لما قتل حمزة في أحد، ومثل به أيما تمثيل، حزنت أخته صفية بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنها، وهي عمة علي بن أبي طالب ، وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما.
فالشاهد: من الذي أخبر صفية بما حل بـحمزة ، وقد جاءت تسأل عن حمزة وتبحث في القتلى عن حمزة ، فإذا رأته بهذه الصورة ربما انزعجت؟ فقال علي : أخبر أمك يا زبير! وقال الزبير : بل أخبر عمتك أنت يا علي! الشاهد: أنهما متحدان في الموقف، وكلٌ منهم يقول: إني أخاف على عقلها.
وأيضاً لما ترك عمر الأمر شورى في ستة وهم: علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ، تنازل الزبير بالخلافة لـعلي ، ومع ذلك يشاء الله سبحانه أن يقتتلان فيما بعد، وأحد جنود علي يقتل الزبير! فهذه أمور يدبرها ربنا.
كذلك في باب العداوات وكيف تقلب، هذا سهيل بن عمرو أتى إلى صلح الحديبية ممثلاً عن المشركين، والرسول يقول لـعلي : (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، فوقف سهيل معترضاً على هذه اللفظة وقال: لا تكتب: (الرحمن الرحيم)، اكتب: باسمك اللهم، ثم يكتب علي : (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فيقول: لا تكتب: رسول الله، لا نصدق لك برسالة!)، وعمر ينظر إلى هذا الرجل الذي صدرت منه هذه المقولات ويريد أن يقطع لسانه، ويعرض عمر لـأبي جندل كي يقتل أباه، ويقول: لو كان أبي لفعلت به، يهيج أبا جندل كي يقوم ويقتل أباه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات والآثار وينظر في أسانيدها أن الرسول قال لـعمر : (لعل الله أن يسمعك منه مقالة تقر بها عينك)، ويشاء الله أن يكون هذا، فبعد ذلك أسلم سهيل، ولما مات النبي عليه الصلاة والسلام، أراد أهل مكة أن يرتدوا، فقام سهيل فيهم خطيباً وثبتهم. فربنا سبحانه قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً
[الممتحنة:7].
وكذلك ورد في بعض الآثار أن أول من حارب المرتدين هو أبو سفيان بن حرب لما كان راجعاً من بعض الأسفار، وعلم أن قوماً قد ارتدوا بعد وفاة رسول الله فحاربهم كما ذكر ذلك صديق حسن خان في فتح البيان وغيره.
أحدهما: راغبة عن الشرك، أي: تطمع في الإسلام.
والآخر: راغبة في الدخول في الإسلام، وكلا القولين محتمل، لكن قوله: (وهي مشركة) يفيد أنها ما زالت على شركها، فقال لها الرسول: (صلي أمكِ).
ففي الحقيقة أن لهذا جملة من الأحكام: فتجوز عيادة اليهود أو النصارى إذا مرضوا، وكذلك تجوز عيادة المشركين إذا مرضوا، فإن غلاماً يهودياً كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ، وقال له: (أسلم، فنظر الولد إلى أبيه فقال: أطع أبا القاسم! فأسلم، ثم مات فقال الرسول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
فتجوز عيادة مرضاهم، ويجوز الإصلاح بينهم إذا تخاصموا، مثلاً: لك جار نصراني حدثت خصومة بينه وبين زوجته، هل يجوز لك أن تتدخل لكي تصلح بين النصراني وبين زوجته؟
التحرير يفيد الجواز؛ لأن الآيات الآمرة بالإصلاح آيات عامة: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
[النساء:114] فهو عام
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
[النساء:114]..
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
[النساء:114]، وأيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة)، وأطلق النص ولم يقيد، كذلك قول الله سبحانه:
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
[الأعراف:181] فهو أمر بالعدل عام، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة الذين يعدلون في حكمهم)، وهو عام، وكذلك قوله تعالى:
فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ
[المائدة:42]، وقيل: إن الإعراض عنهم منسوخ، لقوله تعالى:
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
[المائدة:49]، فيجوز التدخل للإصلاح بينهم.
ويجوز الإهداء لهم وقبول الهدية منهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وهو نص عام لعموم الجيران، وكذلك العموم في قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ
[النساء:36]، فهي نصوص عامة.
وفعل عبد الله بن عمر الخاص لما ذبح ذبيحة وقال لأبنائه: أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات.
وعموم قوله الله سبحانه وتعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
[البقرة:83]، يفيد أننا نتخاطب معهم بأدب وبإحسان أيضاً، لكن لا يُبدءوا بالسلام كما جاء بذلك النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بعض الأحكام المتعلقة بهم.
أما قبوله هداياهم، فقد قبل النبي مارية من المقوقس ملك مصر، كما أهدى إليه بغلة فقبلها منه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فالإهداء لهم، والإصلاح فيما بينهم إذا تخاصموا، والصلح أحياناً معهم؛ كله جائز، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم)، وكل هذه المسائل مبنية على مسألة المفاسد والمصالح العامة، لكن أنت كفرد عليك أن تفرق بين الكتابي المحارب لك، وبين الكتابي المسالم الذي لا يحارب: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
[الممتحنة:8]، وهنا تقييد:
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
[الممتحنة:8]، فإن قاتلوك في الدنيا، مثل: تخاصم رجل من المسلمين ورجل من النصارى في ثمن ثلاجة مثلاً؛ فهذه المسألة لا تنسحب عليها الموالاة والمعاداة الكلية.
إنما: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
[الممتحنة:8]، أي: عن برهم:
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
[الممتحنة:8]، (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا)، والمقسطون غير القاسطين، فالقاسطون هم الظالمون:
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا
[الجن:15]، فالإقساط في الحكم بين المسلمين والكفار مطلوب شرعاً، وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن ابن رواحة أرسل إلى اليهود يحكم في قضية بينهم وبين رسول الله، فقال لهم: (والله يا معشر يهود لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إليَّ، والله يعلم أنكم أبغض خلق الله إليَّ، ولكن لا يمنعني حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي لكم أن أقول فيكم بالحق الذي أراده الله، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض يا ابن رواحة! ).
قال الله سبحانه: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
[الممتحنة:9] أي: عاونوا
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ
[التحريم:4] أي: تعاونا عليه
وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا
[الإسراء:88] أي: معاوناً،
وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
[الممتحنة:9] أي: الذي يتولى الحربي من الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
[الممتحنة:9].
من العلماء من قال: تقسم المرأة المهاجرة بالله أنه ما أخرجها من بيتها بغض زوج ولا حب رجل آخر ولا كره ديار وحب ديار أخرى، ولكن الذي أخرجها هو حبها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء في هذه المسائل، فتقسم بالله على هذه الأشياء.
ومن الممكن أن تمتحنهن، ولكنك قد تخطئ في التصحيح، فقال الله: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ
[الممتحنة:10]، فأنت تحكم بالظاهر فقط، أنت عليك أن تحكم بالظاهر الذي صدر لك، (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)، فالاحتراز يفيد أن الشخص الذي يمتحن قد يخطئ في النتيجة التي يصل إليها حتى وإن كان من الصالحين، فالرسول يقول: (إنكم تختصمون لديَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من النار، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها).
فكان من شروط الصلح كما في البخاري أن سهيل بن عمرو قال للرسول عليه الصلاة والسلام: لا يأتيك رجل منا أو أحد منا -أي: من المشركين- مسلماً إلا رددته إلينا، ولا يأتينا منكم -أيها المسلمون- رجل مشرك ارتد فلن نرده إليكم، أي: إذا جاءنا منكم شخص قد ارتد لن نرده، أما أنتم إذا أتاكم منا شخص أسلم فلابد أن تردوه، فوقع الرسول على هذه الاتفاقية، وعمر ممتلئ غماً كما قال عن نفسه، كيف هذا الظلم في الظاهر؟ لكن الرسول أقر.
فبعد أن وقع الرسول على هذه المعاهدة وهذا الصلح، والحبر ما قد جف كما قال فريق من العلماء، جاءت امرأة يقال لها: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت عاتقاً أي: لم تتزوج، فألقت بنفسها عند المسلمين تشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فجاء في إثرها أخواها الوليد وعمارة يطالبان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الآثار التي فيها كلام من حيث الإسناد قالت: (يا رسول الله! إني امرأة لا أتحمل ما يتحمله الرجال، لعلي أفتن وهم يضربونني ويؤذونني، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ
[الممتحنة:10]، فمنع النبي هذه المرأة أن ترد إلى المشركين، قالوا: كيف وقد اتفقنا معك؟ لكن الآية منعت).
وقال كثير من أهل العلم: إن هذا مثال للقرآن الذي نسخ السنة، فهذا المثال الوحيد للقرآن الذي نسخ السنة، فكانت السنة تقتضي أن كل من هاجر من المشركين إلى رسول الله يرد، فجاءت هذه الآية تمنع النساء من أن يرجعن إلى أهل الكفر.
قال الله سبحانه: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا
[الممتحنة:10]، يعني: الكافر الذي دفع مهراً لهذه المرأة يعطى المهر الذي دفعه لها، فقوله:
وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا
[الممتحنة:10]، أي: من المهور
وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
[الممتحنة:10] أيها المسلمون
أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
[الممتحنة:10]، يعني: لكم -أيها المسلمون- أن تتزوجوهن إذا آتيتموهن أجورهن، ففيه أيضاً دليل على وجوب الصداق.
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ
[الممتحنة:10] أنتم أيضاً إذا كانت تحت رجل منكم امرأة كافرة فليطلقها وليطردها:
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ
[الممتحنة:10]، فطلق عمر يومها امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان وكان آنذاك كافراً، وتزوج الأخرى صفوان بن أمية،
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ
[الممتحنة:10] أي: عصمة المرأة الكافرة، اتركوها تذهب.
وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا
[الممتحنة:10]، يعني: المهور التي دفعتموها، لكم أن تطالبوا الكفار بها، والكفار كذلك لهم أن يطالبوكم بالمهور التي أعطوها لنسائهم، هذا معنى قوله:
وَاسْأَلُوا
[الممتحنة:10]، أي: طالبوا
مَا أَنفَقْتُمْ
[الممتحنة:10]، أي: ما أعطيتم من مهور وصداق لأزواجكم اللواتي طلقتموهن
وَلْيَسْأَلُوا
[الممتحنة:10]، أي: الكفار أيضاً لهم أن يطالبوكم بمهور النساء اللواتي تزوجوهن وفارقوهن
ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
[الممتحنة:10]، هذا الحكم حكم الله
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[الممتحنة:10].
فبايع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء على هذه الأمور المذكورة في كتاب الله: يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ
[الممتحنة:12]، الشرك بالله معروف، والسرقة معروفة
وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
[الممتحنة:12]، وهذا الذي قد يكون غامضاً بعض الشيء.
فمن العلماء من فسر البهتان الذي تأتيه المرأة من بين يديها ومن بين رجلها: الولد الذي تنسبه إلى زوجها وهو ليس له بابن، يعني: امرأة تزني، ثم تقول لزوجها: هذا ولدك، هذا بهتان تأتي به من بين رجليها، أو تلتقط ولداً بيديها من الطريق وتقول لزوجها: هذا ولدك.
إذاً: البهتان المفترى بين الأرجل هو الذي ارتكبت فيه المرأة جريمة الزنا، وأتت بولد من الزنا فتلحقه بالزوج، والبهتان المأتي من بين الأيدي هو الملتقط الذي تلحقه الزوجة بزوجها، فكانت المرأة تلتقط ولداً من الطريق إذا خشيت مثلاً أن يطلقها الزوج لعدم الإنجاب وتقول له إذا سافر ورجع: هذا ولدك.
ومن العلماء من قال: البهتان المأتي من بين الأيدي والأرجل هو السحر.
ومنهم من قال: إنه النميمة، لكن على الأول جمهور المفسرين.
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
[الممتحنة:12]، نص عام في جواز أخذ البيعة من النساء، على عدم العصيان في أي معروف يأمر به الشخص.
وهناك أمور أُخر لم تذكر في كتاب الله وذكرت في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالت أم عطية : (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وفت منا امرأة إلا خمس نسوة فقط)، وفي هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يمد يده لبيعتهن، ولم يصافح أحداً منهن عليه الصلاة والسلام، وقال: (إني لا أصافح النساء)، وفي الحديث الآخر أنها قالت: (يا رسول الله! إن فلانة أسعدتني..) أي: أريد أن أذهب فأنوح معها أيضاً، يعني: واحدة كانت تنوح معي عند وفاة زوجي أو عند وفاة ابني فأريد أن أذهب فأقضي لها أو أفعل لها، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليها، فقالت: أم عطية : (أخذ علينا رسول الله عند البيعة ألا ننوح، فما وفت منا إلا خمس نسوة)، فتخيل من المبايع؟!
الرسول يبايع النساء، ومع ذلك كلهن نقضن البيعة ولا وفى منهن بالبيعة للرسول إلا خمس نسوة فقط، فهذا يدل على قلة التزام النساء بالعهود والمواثيق.
أيضاً تقدم أن الرسول أسر إلى عائشة وحفصة وقال: (لا تخبري بهذا السر أحداً)، فهي توافق وتقول: لن أخبر أحداً، فإذا هي تخبر بالسر الذي كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم!
فالشاهد: أن تعرف كيف تتعامل مع النساء في هذه الأمور، فالتثريب والتعيير يكون عليهن أقل.
وأوردوا قصة هند في هذا الباب في بيعتها للرسول عليه الصلاة والسلام عندما أخذ عليها البيعة وقال: وَلا يَزْنِينَ
[الممتحنة:12]، فقالت: وهل تزني الحرة يا رسول الله؟! ثم قال:
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ
[الممتحنة:12] قالت: قد ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً، تعني: قتلى بدر وما بعدها من المشركين، وفي هذا السند نوع من الضعف، لا نسترسل في إيراده من أجل هذا.
قال الله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[الممتحنة:12].
ومنهم من قال: إن قوله: يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ
[الممتحنة:13] وصف للكفار الذين هم أصحاب القبور، فالكفار الذين هم في القبور يئسوا من الرحمة، ويئسوا من النجاة من النار:
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ
[الممتحنة:13].
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.
الجواب: لا، ما وجد أي شيء يدل على أن الزبير كان يبغض عليـاً أو أن عليـاً كان يبغض الزبير أثناء القتال، إنما خرج الزبير رضي الله عنه في بداية أمره للإصلاح مع طلحة، ولكن ذلك كان شاهدي في إيراد القتال الذي دار بين الأحبة، والله أعلم.
الجواب: في تصحيحه بعض النزاع.
الجواب: نعم يجوز، وحديث: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه نظر من الناحية الإسنادية، وإن حسنه بعض العلماء، لكن على فرض تحسينه فالرسول صلى الله عليه وسلم أطعم ثمامة إذ كان أسيراً، ودعته امرأة يهودية إلى شاة مسمومة فأكل منها الرسول عليه الصلاة والسلام، أما مشاركتهم في الأعياد فلا تجوز، فالرسول لم يشارك اليهود ولا النصارى في أعيادهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر