وبعد:
فيقول الله سبحانه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
[المدثر:11-15].
قوله تعالى: (ذرني) أي: اتركني، ومن خلقته وحيداً، في قوله تعالى: (وحيداً) معنيان للعلماء:
المعنى الأول: ذرني ومن خلقته فرداً وحيداً في بطن أمه.
والمعنى الثاني: ذرني ومن خلقت وحيداً يوم القيامة، يوم يأتي لا ناصر له ينصره مني، ولا مغيث يغيثه مني. أي: اتركني مع هذا الرجل، يوم يأتي لا ناصر ينصره ولا شفيع يشفع فيه، ويأتي وحيداً يوم القيامة.
(ومن) بمعنى: الذي، أي: ذرني والذي خلقت وحيداً. ومن المعني بقوله تعالى: (ومن خلقت وحيداً)؟
أكثر المفسرين أنه الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد ، وكل ما جاء بعد هذه الآية صفة له.
ومن العلماء من قال: هي عامة في كل كافر.
قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا
[المدثر:11]، هذا المراد منه التهديد، كما قال تعالى:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ
[القلم:44]، وكما قال تعالى:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا
[المزمل:11] ، فكل هذه المراد منها التهديد.
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا
[المدثر:12]، (ممدوداً) أي: كثيراً واسعاً، ومنه قوله تعالى:
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا
[مريم:75]، فالمراد بالمد هنا: الزيادة، أي: من كان في الضلالة فزاده الله ضلالاً إلى ضلاله.
قال تعالى: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا
[المدثر:12] أي: كثيراً واسعاً،
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا
[المدثر:14] أي: مهدت له في هذه الحياة تمهيداً،
وَبَنِينَ شُهُودًا
[المدثر:13]، والبنين الشهود: الشهود بمعنى: الحضور، ويراد بالشهود في بعض الأحيان: الشهود على الجرائم وعلى الأحداث، لكن المراد بالشهود هنا الحضور، وهذا المعنى قد تقدم عند قوله تعالى:
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
[البروج:3]، هل شاهد ومشهود معناها: راءٍ ومرئي أو معناها: حاضر ومحضور؟ تقدم التفصيل في ذلك.
قال تعالى: وَبَنِينَ شُهُودًا
[المدثر:13]، فمن نعم الله عليه أن الله سبحانه وتعالى رزقه بأولاد ذكور، وجعلهم شهوداً بجواره، ليسوا في حاجة إلى السفر بعيداً عنه؛ لأن كل ما يحتاجه هو وأولاده متوافر عنده.
فمن نعم الله على هذا الرجل: أن الله رزقه بأموال كثيرة جعلت أولاده لا يحتاجون إلى سفر، فالسفر قال عنه عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله).
فهذا الرجل امتن الله عليه بأولاد ذكور ليسوا في حاجة إلى سفر، لا للتجارات ولا للسعي على المعاش ولا لغير ذلك، فهم موجودون حوله يأكلون ويشربون ويتزوجون وينعمون، وليسوا في حاجة إلى الأسفار، فعينه تقر برؤية أبنائه بجواره.
فأفادت الآية الكريمة أن الذين يسافرون يتركون أثراً على قلوب آبائهم وعلى قلوب أمهاتهم، فمن نعم الله على هذا الرجل أنه لم يجعله في حاجة إلى أن يبتعد عنه أولاده.
وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا
[المدثر:13-14] أي: وسعت له توسعة،
ثُمَّ
[المدثر:15] بعد هذه النعم
يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا
[المدثر:15-16] أي: لن نزيده،
إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا
[المدثر:16-17]، الإرهاق: التعب، (سأرهقه): سأحل به التعب، تعب الصعود، وقد تقدم في تفسير سورة الجن، أن الله قال:
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا
[الجن:17]، وهنا قال تعالى: (سأرهقه صعوداً)، فمن العلماء من قال: إن الصعود: جبل في جهنم يعذب الشخص بصعوده عليه والنزول منه، فدلت هذه الآية على أن الصعود نفسه نوع من أنواع العذاب، وهذا ملاحظ كما قال تعالى:
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
[الأنعام:125]، وأنت إذا صعدت إلى الطابق الخامس أو الطابق السادس تكون متعباً ومرهقاً، وكلما ارتفعت في الطوبق ازددت إرهاقاً، وأنت مستعد أن تمشي خمسة كيلو مترات ولا تصعد إلى الطابق العشرين مثلاً، فالصعود في نفسه نوع من أنواع التعذيب.
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
[المدثر:19-20] أي: ثم لعن مرة ثانية لهذا التقدير الخاطئ.
ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ
[المدثر:21-22] أي: كلح بوجهه
وَبَسَرَ
[المدثر:22]: ظهر الضيق على وجهه وجبينه،
فَقَالَ
[المدثر:24]: اختار هذه المقولة،
إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ
[المدثر:24]، اختار من اختياراته وأقواله الباطلة هذا القول:
إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ
[المدثر:24] أي: يؤثر عن الأوائل، أي: سحر مأثور ومأخوذ عن المتقدمين،
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ
[المدثر:25]، أي: ما هذا إلا قول البشر، قال تعالى:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
[المدثر:26]، وسقر: النار، ومن العلماء من قال: إنها بعض دركات النار.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
[المدثر:27]، لتعظيم وتهويل شأنها، وتفخيم أمرها، وبيان شدة هولها.
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ
[المدثر:28]، لا تترك أحداً.
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
[المدثر:28-30] المراد بهم: الخزنة، أي: خزنتها وحراسها تسعة عشر ملكاً.
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ
[المدثر:31] أي: عددهم،
إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
[المدثر:31]، فوقف الكفار يتساءلون فيما بينهم: لماذا هذا العدد بالذات تسعة عشر؟ لماذا هم تسعة عشر؟ هذا عدد غريب ليس كالواحد وليس كالثلاثة وليس كالاثنين وليس كالسبعة وليس كالعشرة، ليس كهذه الأعداد الشهيرة المتداولة بين الناس، حتى من نواحي الحساب لا يقبل القسمة إلا على نفسه، تسعة عشر رقم غريب على العرب، فقالوا: لماذا هذا العدد الغريب؟
ومن العلماء من نقل عن بعض كفار قريش أنه قال: تسعة عشر عدد يسير، فنحن قادرون على قتلهم وتحطيمهم واحتلال الجنة بالقوة! فكل مائة منا يوكل إليهم أمر ملكٍ من الملائكة يقتلونه ونحتل الجنة بالقوة! فجعل العدد فتنة للكفار، قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ
[المدثر:31] أي: عددهم
إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
[المدثر:31] وكما أسلفنا أن الآية كانت تنزل من كتاب الله يفتن بها أهل الكفر والنفاق، ويزداد أهل الإيمان إيماناً بهذه الآية، كما قال تعالى في شجرة الزقوم:
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
[الصافات:64] فقالوا: كيف تخرج الشجرة في وسط النار؟ النار تأكل الأشجار، فهذا وجه افتتان الكفار بالشجرة، أما أهل الإيمان فأجابوا: ( إن الله على كل شيء قدير ).
كذلك في الإسراء: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ
[الإسراء:60] فتن بها الناس، فتنوا بإسراء ومعراج الرسول عليه الصلاة والسلام، أما أهل الإيمان فيقولون: ( إن الله على كل شيء قدير ).
قال الله سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
[المدثر:31] اختباراً وابتلاءً، والفتنة أيضاً تطلق على الصرف والتحويل، فتنته أي: صرفته عن الشيء، وفتنته أي: ابتليته بالنار، ومن المعنى الأول قول الشاعر:
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم
وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتــاب المتيم
قال الله سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
[المدثر:31] أي: اختباراً وابتلاء، وأيضاً صرفاً للكفار عن الإيمان كما قال تعالى:
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ
[الصافات:161-162] أي: بصارفين
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ
[الصافات:163].
قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
[المدثر:31]، ليستيقن أي: ليزدادوا يقيناً، وكيف يستيقن الذين أوتوا الكتاب إذا سمعوا أن خزنة النار تسعة عشر؟ يستيقنون ويعلمون أن هذا القرآن حق من عند الله؛ لأن في كتبهم ما يفيد أن الخزنة تسعة عشر، إذا كان الكتابي اليهودي أو النصراني يقرأ في التوراة وفي الإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر، ويرى أن هذا القرآن الكريم أتى يؤكد هذا، ويفيد أن خزنة النار تسعة عشر ازداد يقينهم أن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، فهذا هو المراد بقوله تعالى:
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
[المدثر:31] أي: ليزدادوا يقيناً إذا علموا أن هذا القرآن
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
[الأنعام:92] أي: مصدق للكتب التي أتت من قبله.
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا
[المدثر:31] وأهل الإيمان أيضاً إذا علموا أن الذي جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام يوافق الذي جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل من قبله، ازداد إيمانهم وتصديقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية أفادت معنىً ألا وهو أن طمأنينة القلب وزيادة الإيمان تحدث بتواتر الأدلة، وقد بوب لهذا بعض العلماء في باب طمأنينة القلب بتواتر الأدلة، واستدلوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم:
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى
[البقرة:260] أي: قد آمنت،
وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
[البقرة:260]، فلا يطعن فيمن طلب مثل هذا الطلب، أي: رجل مؤمن يطلب مثلاً رفع شبهة عن شيء، أو الاستفسار عن شيء كي يزداد إيمانه؛ لا يطعن -أصلاً- في إيمانه، فإبراهيم قال:
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى
[البقرة:260] قال الله له:
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
[البقرة:260] الآيات، ولا يقولن قائل: إن هذا خاص بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو شرع لمن قبلنا وليس شرعاً لنا؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذا قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ)) قال ذلك ضمن حديث وفيه: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي)، ومطلع الحديث: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي)).
وقوله تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا
[المدثر:31] فيه دليل لعقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزداد، وخالف في ذلك بعض أهل البدع، وقالوا: إن الإيمان لا يزداد، والآية نص صريح في زيادة الإيمان:
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا
[المدثر:31]، وقال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ
[محمد:17]، وقال الله سبحانه وتعالى:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
[آل عمران:173]، أي: سماعهم هذا القول زادهم
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
[آل عمران:173]، ففي الآيات بيان لزيادة الإيمان، وكذلك نقصان الإيمان من عقيدة أهل السنة لحديث: (أخرجوا من النار من قال: "لا إله إلا الله" وفي قبله من الخير ما يزن ذرة)، (ومن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعف الإيمان)، وهذا مرئي مشاهد، قد يقوى إيمانك الآن فتقدم على فعل خير كثير، وقد يقل إيمانك غداً فتتراجع عن خير كثير.
قال تعالى: وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ
[المدثر:31] أي: لا يتطرق إليهم شك في صدق هذا الرسول، ( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ
[المدثر:31] هذا تفريق بين الذي في قلبه مرض وبين الكافر، فالذي في قلبه مرض: هو رجل شهد أن "لا إله الله وأن محمد رسول الله" بقلبه وبلسانه، أما قلبه فما زال مريضاً ومرتاباً، وكم من قائل: "لا إله إلا الله محمداً رسول الله" وفي قلبه مرض.
ومن ثم قال رب العزة سبحانه: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا
[الأحزاب:32]، بعضهم في قلبه مرض من ناحية النساء مثلاً، إذا كلم امرأة أي كلمة، وأجابته بأي إجابة فيها نوع من الرفق؛ فيحملها محملاً سيئاً، فيقول في نفسه: ما كلمتني بهذه الطريقة إلا لأنها تحبني وتطمع في، ويجد إليه الشيطان سبيلاً من هذا الطريق.
فهناك قوم شهدوا أن لا إله إلا الله بألسنتهم ومع ذلك في قلوبهم مرض، وذكرهم الله في آية أخرى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا
[الأحزاب:60].
وقال تعالى: ( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
[المدثر:31] اللام هنا: هل هي لام العاقبة؟ أي: تكون عاقبة الأمر وعاقبة نزول هذه الآيات أن يقول الذين في قلوبهم مرض: كذا وكذا، كما في قوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا
[القصص:8] هم في الحقيقة ما التقطوه -أبداً- كي يكون لهم عدواً وحزناً، إنما التقطوه فكانت عاقبة التقاطه أنه كان لهم عدواً وحزناً، فتسمى اللام التي في قوله: (فالتقطه آل فرعون ليكون) لام العاقبة أي: كان عاقبة الأمر أن كان لهم عدواً وحزناً.
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا
[المدثر:31] ما هذا المثل الذي يريده الله بهذا العدد؟ هم في شك وارتياب من هذا العدد وهذا المثل، أما أهل الإيمان فيعلمون كما أسلفنا (أن الله على كل شيء قدير) وأن الملك الواحد قادر -بإذن الله- على أن يدمر الأرض ومن عليها.
قال تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
[المدثر:31] فيه أن الإضلال أيضاً من الله، وخالفت طائفة من أهل البدع في هذا، وقالوا: ليس الإضلال من الله سبحانه، ولكن تضافرت الأدلة على إثبات أن الإضلال أيضاً من الله، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
[الأنعام:125]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يهد الله فهو المهتدي)، وقال تعالى:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا
[الكهف:17]،
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[الأعراف:186]، (أعوذ بك أن تضلني)، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
قال الله سبحانه وتعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
[المدثر:31]، فمرد الأمر إلى الله سبحانه فلا تسأل: لماذا أضل الله فلاناً؟ ولماذا هدى الله فلاناً؟
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
[المدثر:31]، والهداية أيضاً لله وبأمر الله، والمراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، أما هداية الدلالة، فكما قال الله سبحانه:
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
[الرعد:7] وكما قال أبو بكر عن رسول الله: (هذا هاد يهديني السبيل)، إلى غير ذلك.
قال الله سبحانه: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ
[المدثر:31] أي: وما يعلم عدد جنود ربك، أو ما يعلم صفة جنود ربك
إِلَّا هُوَ
[المدثر:31]، فلله جند لا يعلم صفتهم إلا هو، ولا يعلم عددهم إلا هو، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم أو شبر إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد)، وأخبر عليه الصلاة والسلام: (أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون).
وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
[المدثر:31]، أي هذه السورة ما هي إلا موعظة للبشر، أو هذه الأعداد وهذه الأمثال ليست إلا موعظة للبشر، فقوله تعالى:
وَمَا هِيَ
[المدثر:31] يرجع إلى ماذا؟ هل يرجع إلى الفتنة المذكورة أو يرجع إلى السورة كما قال الله في سورة هود:
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
[هود:120]؟! فقوله: (وجاءك في هذه الحق) أي: جاءك في هذه السورة؛ لأن الآية مطلعها:
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ
[هود:120] أي: في هذه السورة
الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
[هود:120].
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ
[المدثر:35] جمهور من العلماء قالوا: (إنها) أي: النار، (لإحدى الكبر) أي: الدواهي الكبيرة،
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ
[المدثر:36]، ومنهم من قال: إن تكذيبات المشركين بالبعث إحدى الكبائر العظيمة التي توردهم النار.
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
[المدثر:37] يتقدم: بالطاعة إلى الله، ويتأخر: بالمعصية.
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ
[المدثر:38-39] لكن أصحاب اليمن
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ
[المدثر:40-41].
لكن هل قوله تعالى: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ
[المدثر:39] يفيد أن أصحاب اليمين لا يرتهنون بأعمالهم؟
للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: من العلماء من يحمل محامل ويؤول تأويلات ويقدر تقديرات فيقول: (إلا أصحاب اليمين) فإنا قد غفرنا لهم ما ارتكبوه من سيئات، وعفونا لهم ما اقترفوه من آثام، فهم إذاً في جنات يتساءلون بعد أن كفرنا عنهم السيئات.
القول الثاني: هي محمولة على أهل الشرك، أما أهل الإيمان فلم يقترفوا شركاً، فما ارتهنوا إذاً بشرك اقترفوه، والله أعلم.
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ
[المدثر:39] وهم أهل الجنة الذين أوتوا كتبهم باليمين
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ
[الحاقة:19].
فِي جَنَّاتٍ
[المدثر:40] أي: آل بهم المقام إلى جنات، فمقامهم ومستقرهم في جنات،
يَتَسَاءَلُونَ
[المدثر:40]، أي: فيما بينهم، أو يسألون أهل الإجرام:
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ
[المدثر:42] أي: ما هو السبب الذي أوردكم هذا المورد وأنزلكم سقر؟
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ
[المدثر:43-46] فسبب دخولهم سقر أربعة أشياء ذكروها:
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ
[المدثر:43-47] أي: حتى متنا على هذه الحال، فاليقين هو: الموت لقوله تعالى:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
[الحجر:99]، اليقين هنا هو: الموت، وإن كان له معان أخر، ومن هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم لامرأة قالت في شأن عثمان بن مظعون قولاً حسناً، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه)، لما قالت: رحمت الله عليك! ظني أن الله سبحانه وتعالى قد رحمك، أو كما قالت، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه) فقولهم:
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ
[المدثر:47] يعني: حتى متنا على هذه الحال من ترك الصلاة ومنع المساكين، ومن الخوض مع الخائضين، ومن التكذيب بيوم الدين.
البعض يوردها في أدلة تكفير تارك الصلاة، وهي ليست صريحة في ليست صريحة في كفر تارك الصلاة؛ لأن دخول الناس سقر بأربعة أشياء، فهل الواو تقتضي التشريك؟ هذا الأظهر لقولهم: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ
[المدثر:46] فهذا كفر اتفاقاً، فالذي يكذب بيوم الدين كافر اتفاقاً، لكن مثلاً الخوض مع الخائضين لا يُكفر فعله جملة؛ لأنه بحسب الخوض، فإن كان الخوض مع الخائضين في الشرك يكفر، أما إذا كان الخوض مع الخائضين فيما دون الشرك فلا يكفر فاعله، كذلك عدم إطعام المسكين في قولهم:
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ
[المدثر:44]، هل عدم إطعام المسكين كفيل بالحكم على الشخص بالكفر بمفرده؟ لا، ليس كفيلاً بالحكم على الشخص بالكفر بمفرده، وقد قدمنا شيئاً في هذا مفاده أن دلالة الاقتران لا تفيد التساوي في الأحكام، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الزكاة ويؤتوا الصلاة .. الحديث) فترك الشهادتين كفر بالاتفاق، ترك الصلاة كفر على خلاف إلا إذا كان جاحداً لها، وترك الزكاة الجمهور على أنه لا يكفر تارك الزكاة إذا لم يكن جاحداً لها، فاقترنت هذه الأشياء في سياق واحد، وكل له حكم مستقل، فكما أسلفنا أن دلالة الاقتران لا تفيد التساوي في الأحكام في كل الأوقات، فشهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، تركها له حكم، وترك الصلاة له حكم، وترك الزكاة له حكم، فعلى ذلك يخدش في قول من قال: إن الخمر ليست نجسة نجاسة عينيه لاقترانها بالأنصاب والأزلام في قوله تعالى:
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
[المائدة:90] فرجس معناها: نجس، قال بعضهم: لما اقترنت الخمر بالأنصاب والأزلام، والأنصاب ليست نجسة، فإذا لمستها لا تؤمر بغسل يديك، فلما اقترنت بها أصبحت النجاسة نجاسة معنوية، كذا قال، لكن هذا الاستدلال استدلال ضعيف؛ لأن الخمر مائع من المائعات ينتقل، أما الأنصاب جامد لا ينتقل، فلا يقاس المائع على الجامد، والله أعلم.
قال سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
[المدثر:38-43]، تارك الصلاة مجرم من المجرمين.
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ
[المدثر:44-47] أي: الموت.
قال سبحانه: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ
[المدثر:48-49] أي: عن هذه المواعظ معرضين منصرفين،
كَأَنَّهُمْ
[المدثر:50]، يصفهم الله،
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ
[المدثر:50]، فكأن هؤلاء الكفار حمير نفروا وفروا،
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ
[المدثر:51] القسورة: الأسد، فيصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الكفار في فرارهم من رسول الله بالحمير التي فرت لما رأت الأسد، فالحمير إذا رأت أسداً تفر وتمعن في الفرار، وكذلك هؤلاء الكفار إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فروا وتولوا عن سماعه غاية التولي، وأعرضوا عن سماعه غاية الإعراض،
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ
[المدثر:50] فالله سبحانه وتعالى شبه الكفار هنا بالحمير، وفي موطن آخر شبه بعضهم بالكلب، قال تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
[الأعراف:175] إلى قوله:
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
[الأعراف:176].
وشبهوا بالحمير كذلك في آية أخرى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا
[الجمعة:5].
وشبهوا بالأنعام: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
[الفرقان:44].
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ
[المدثر:52-53] كلا أي: لن يؤتى أحد منهم هذه الصحف المنشرة
بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
[المدثر:53-55] فمن شاء اتعظ ومن شاء لم يتعظ.
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ
[المدثر:54-56] أي: وما يتعظون وما يعتبرون،
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
[المدثر:56]، يعني: اتعاظهم واعتبارهم بإرادة الله،
هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى
[المدثر:56] أي: أهل لأن يتقى، وأهل لأن يخاف، وأهل لأن يخشى،
هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
[المدثر:56] أي: أهل لمغفرة الذنوب، فالآية مع أنها أفادت تجريم هؤلاء الكفار، لكن أيضاً فتحت باب التوبة لمن أراد أن يتوب ويرجع إلى الله، قال تعالى:
هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
[المدثر:56] أي: استغفروه فهو سبحانه سيغفر لكم، فانظر إلى السورة، ذكرت طائفة من المجرمين والذم الوارد في حقهم، والعقاب الوارد في حقهم، ثم فتحت لهم باب التوبة لقوله:
هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
[المدثر:56]، كما ختمت السورة التي قبلها سورة المزمل بقوله تعالى:
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[البقرة:199]، وهذا مطرد في كتاب الله، تأتي التهديدات ويأتي الوعيد لمقترفي الكبائر ومرتكبي الذنوب، ثم يفتح لهم باب التوبة، وقدمنا لذلك جملة من النصوص كقوله تعالى:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ
[مريم:59-60].
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ
[الفرقان:68-70].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
[البروج:10].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[الحجرات:4-5] أي: أبواب التوبة مفتوحة.
وقال لقطاع الطرق: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ
[المائدة:33] إلى قوله:
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[المائدة:34]، إلى غير ذلك من الآيات.
فختمت السورة بختام طيب مرغب للتائبين في التوبة، وكاسر للمقنطين الذين يقنطون الناس من رحمة الله، هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى
[المدثر:56] أي: أهل لأن يتقى، أهل لأن يخشى، وهو أيضاً أهل للمغفرة، فمن استغفر ربه غفر له، كما قال الله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
[النساء:110].
وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الاستعاذة ليست على الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آيات من القرآن ولم يقدم بين يدي قراءتها استعاذة، فكان يخطب مثلاً ويقول: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102])، ولم يرد أنه استعاذ بالله بين يدي الآية، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين مقبلين في ثوبين أحمرين يتعثران، قال: (صدق الله إذ يقول:
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التغابن:15] )، ولم يقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه الأفعال صارفة لقوله:
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
[النحل:98] من الوجوب إلى الاستحباب.
الجواب: البسملة ليست آية من سوءة براءة على رأي جماهير المفسرين، وعلل بعضهم ذلك بأنها كانت هي والأنفال سورة واحدة، فلذلك عثمان رضي الله عنه فكر كيف يصنع؟ هل يجعلها سورة واحدة أم يفصلها؟ والرسول أرسل أبا بكر يؤذن في الناس ببراءة، والشاهد: أنه أستقر رأيه على أن تثبت بلا بسملة، فيكون هذا الإثبات بلا بسملة قد جمع به بين القولين إلى حد قريب، ومنهم من قال: إنها لم تذكر فيها البسملة لكونها تسمى الفاضحة، وجاءت الآيات على هذا المنوال كلها تفضح أهل النفاق، والله أعلم.
السؤال: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ... الحديث)، هل هذا الحكم يدخل فيه الأقوام الذين ماتوا على الكفر، ولكن لم يخسف الله بهم مثل الفراعنة؟
الجواب: فيها قولان لأهل العلم، قيل: لا ندخل على المعذبين إلا إذا كنا باكين، لعموم وقوله: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين)، فلما أشار إلى المعذبين دخل فيه كل معذب، وقول آخر: إنه خاص بقوم ثمود، لقوله: (هؤلاء)، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الجواب: ورد في بعض الطرق أن مسجد الرسول كان فيه قبور وخرب، نبشت وسويت، فعلى هذا يجوز، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الجواب: إذا كان الأمر قد انتهى، فـ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
[البقرة:286]، وليصم عشرة أيام حيث كان، وأمره إلى الله؛ لقول الله عز وجل:
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
[البقرة:196]، وهذا في المتمتع، والقارن يلحق به، والله أعلم.
الجواب: إذا كنت ستأخذ مالاً من أجل خروجك من الشقة فلا، إلا إذا كنت دفعت الإيجار مقدماً، وتريد الخروج قبل انتهاء المدة، فيخصم منك مبلغاً نظير المدة التي قضيتها، وتسترجع الباقي، أما أن تأخذ شيئاً من المال مقابل خروجك من الشقة فلا، إلا شيئاً تكون قد دفعته مستقلاً عن الإيجار، والله أعلم.
الجواب: لا تطاع، وهي آثمة ومزورة وآكلة ما ليس لها، أما المعاش فيأخذه الولد، أما هذه الحيلة التي تريدها هذه المرأة فلا يجوز لها ذلك، ثم إن زوجها مطالب بالإنفاق عليها كما هو معلوم.
الجواب: لا يثبت، لا يثبت في فضل سورة يس أي حديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا أي موطن تقال فيه سورة يس، إنما شأنها شأن سائر سور القرآن.
الجواب: النظر في المسألة من جهة: هل هي تسافر إلى الكلية بلا محرم أو لا تسافر؟ فإن كانت لا تسافر فالأمر قريب في هذه المسألة؛ لأنها كلية ليس فيها اختلاط من ناحية، وعلومها إلى حد ما لا بأس بها، وإن كانت ليست على الدرجة العليا من العلوم، لكن علومها لا بأس بها.
الجواب: مرتكب كبيرة عند جمهور أهل العلم، وعليه أن يستغفر الله سبحانه وتعالى، ويعمل عملاً صالحاً يوازي هذا الأمر، كأن يتصدق بمبلغ طيب أو يصلي صلاة كثيرة، أو يصوم صياماً كثيراً، أو يعتمر؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.
الجواب: الجمع بين أكثر من نية في الصلاة الواحدة يختلف من صلاة إلى صلاة، فيجوز الجمع بين نية صلاة الاستخارة مع تحية المسجد، أو صلاة الاستخارة مع ركعتي الظهر، أو مع ركعتي الفجر النافلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، ويجوز كذلك تحية المسجد مع سنة الوضوء، لكن مثلاً: فاتتك سنة الفجر وفاتتك سنة الظهر، لا يجوز أبداً أن تجمع بين سنة الظهر وسنة الفجر ركعتين، فهناك مواطن يجوز فيها الجمع ويسوغ، ومواطن لا يجوز فيها الجمع بين النيات ولا يسوغ.
الجواب:لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء.
الجواب: لعلماء الحديث فيه قولان من ناحية التصحيح، والحديث وإن كان عندي ضعيف في الإسناد، لكن معناه له شواهد ثابتة صحيحة، بل آيات يقول الله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
[التوبة:105]، وحديث: (من غشنا فليس منا)، إلى غير ذلك.
الجواب: الحديث في الصحيحين، من حديث المغيرة بن شعبة، كتب به إلى معاوية: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
الجواب: المراد بكثرة السؤال: الأسئلة التي تحمل التنطع، وإذا أراد السائل المزيد، فهناك بحث واسع في "فتح الباري" في كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" في الجزء الثالث عشر من الفتح فليرجع إليه.
الجواب: بالنسبة للاسترتشات أغلب النساء تستعملها في التبرج، فنادراً تأخذ امرأة استرتش لتلبسه في البيت أمام الزوج، فإذا كان ذلك كذلك فليترك هذه المهنة، ولا يساعد على الإثم والعدوان، وكم الفرق بين من يبيع هذه الأشياء وبين من يبيع الخمارات، فالثاني فنفسه مطمئنة، ولا يساوره أي قلق أو شك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (الإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فكيف وهذا الإثم ظاهر عياناً لكل الناس؟!
إلى هنا وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر