إسلام ويب

علو الهمة [7]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم ما ينبغي أن تصرف الهمم إليه تربية الأطفال تربية إسلامية، لاسيما في زماننا هذا الذي تتناوش فيه أبناؤَنا الفتنُ من كل حدب وصوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية السليمة اجترفتهم الأهواء الضالة، وصاروا وبالاً على الإسلام والمسلمين.

    1.   

    أطفال المسلمين وعلو الهمة

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    فندخل إلى فصل من أهم فصول هذا البحث الذي نحن بصدده، وهو المتعلق بأطفال المسلمين وعلو الهمم، فإننا حينما نقول: إن الأطفال هم المستقبل، فإن هذا الشعار حقيقة لا مجاز، واقع لا خيال، ومن ثم ينبغي أن يصرف الهم الأكبر إلى تهيئتهم؛ ليكونوا مؤتمنين على مستقبل أمة الإسلام، ولن يحصل هذا إلا إذا تخلينا عن نظرتنا إلى هؤلاء البراعم على أنهم لعبة ملهية نتسلى بها، وبالتالي ننسى ونغفل عن أن الاهتمام بالأطفال وتربيتهم تبدأ مبكراً جداً أكثر مما نتصور، يقول أستاذنا الدكتور محمد صباغ حفظه الله تعالى: سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: أن رجلاً جاء يسترشده لتربية بنت له ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار، وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته حق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه، بغض النظر إلى أننا نحتاج إلى تفصيل في هذا الأمر حتى لا يساء فهمه، ولكن سنولي الكلام في موضوع تربية الأطفال منذ الصغر إن شاء الله إلى مناسبة أخرى بعد أن نفرغ من هذا البحث.

    أهمية تربية الأولاد على علو الهمة

    ينبغي علينا أن نصرف قدراً عظيماً من الجهد إلى توجيه الآباء إلى الأساليب العلمية الصحيحة لتربية أولادهم في شتى مراحل نموهم، فالمؤلم والمؤسف أن أغلب الآباء لا يدركون أن تربية الأولاد علم وفن، وكثير من الناس لم يخطر بباله قط أن هذا علم وفن له أصوله وله قواعده، وأي خطأ فيه يكون ثمنه باهضاً.

    فعلى الموجهين وعلى الآباء والمدرسين أن ينتبهوا إلى خطورة هذا الأمر، كي يشب الأولاد أصحاء نفسياً، وإلا فما أفدح الخسائر التي تتكبدها الأمة إذا أهملت تربية أبنائها، ونحن اليوم في أتون الحرب العميقة العلمية المدروسة، فنرى الأساليب الحديثة تسخر كلها في طعن الأمة في أبنائها، وفي مستقبلها، لإخراج أجيال ملحدة، لا تعرف الله، ولا تحب الله، ولا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تذوب حباً للأجانب، وتعظيماً للكفار، وبغضاً للإسلام وجهلاً بأحكامه، وتاريخه، وتعاليمه، فالكفار يبدءون بتخريب القلاع الإسلامية منذ الوقت الباكر جداً؛ كي يختصروا الطريق، ولا شك أن أول قلعة يتحصن بها الطفل هي الأسرة باتفاق المربين، فالأسرة هي أقوى مؤسسة تربوية على الإطلاق، وهي أكبر مؤسسة تربوية، وفي مقدمة الأسرة يتصدر الوالدان، وبالذات الأب، يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر، وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق.

    وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الآباء.

    جهل الآباء يخرج أولاداً فاسدين، ومنحرفين، ويحرم الأمة من خيرهم. نحن المسلمين صلتنا بموضوع تربية الأولاد عريقة وعميقة، ليس علماً حديثاً أو ناشئاً، وإنما بدأ مع بداية الدعوة الإسلامية، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه آية تتلى في المحاريب إلى آخر الزمن، وهي متعلقة بالمحافظة على الأولاد، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] يقول أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه في تفسيرها: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم.

    وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) يعني: مما سيسأل عنه الإنسان يوم القيامة أهل بيته، ولده وزوجته وأهل بيته، ولا ترقى أي نظرية تربوية في العالم إلى هذا المستوى الراقي من أن الإعداد للجواب عن هذا السؤال بين يدي الله سبحانه وتعالى داخل من صلب عقيدتنا، ومن صلب الحقائق الغيبية التي نؤمن بها.

    وعن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة).

    وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

    وما أحسن ما قال بعضهم:

    وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

    وما دام الفتى بحجى ولكن يعمله التدين أقربوه

    يعني لا بد من توجيه ولا بد من تعويد وتربية على التدين، ورحم الله من قال:

    قد ينفع الأدب الأولاد في صغرٍ وليس ينفعهم من بعده أدب

    إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولن تلين إذا قومتها الخشب

    قال ابن خلدون : التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده.

    إذاً: الاهتمام بتربية الأولاد يبدأ مبكراً جداً، وهو أشد رسوخاً، ويعتبر الأساس لما بعده؛ لأنه يشكل شخصيته الباكرة التي ينتهي نموها في مرحلة معينة كما ينتهي نموه الجسدي، وعند دخول سن العشرينات مثلاً يكون قد اكتملت شخصيته، وفرغ من نموه النفسي.

    ويتأكد الاهتمام بهذه التربية في زماننا هذا الذي تتناوش فيه أطفالنا وأبناءنا الفتن من كل صوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم، من جلدتنا، ويتكلمون بألستنا، كل همهم أن يخرجوا من أصلابنا أجيالاً من الملاحدة الذين يرضون بالعلمانية رباً وديناً ومنهاج حياة، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية القوية اجترفتهم العلمانية الملحدة، وضمتهم إلى صفوفها ليحاربوا الله ورسوله والمؤمنين، فإن أكثر من يحارب الإسلام الآن ويطعن في قلبه هم هؤلاء المنافقون الذين يحملون أسماء المسلمين، ينادون أحمد ومحمد وعبد الله وما لهم من الإسلام إلا الأسماء، أما الحقيقة فهم ذئاب تحت هذه الأسماء التي يستترون تحتها، ويطعنون الإسلام ويحاربون المسلمين، ويريدون استئصال دين الله أشد مما يفعل اليهود والنصارى وسائر الكفرة الصريحون، ولا شك أن هذا واقع قد لمسناه في البلاد التي سبقت إلى اعتناق هذا المذهب اللاديني المخرب الذي هو العلمانية، يقول الشاعر:

    ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد

    الأبناء الآية يتعرضون للفتن من كل حدب، ومن كل صوب.. من مناهج التعليم.. من الإعلام من رفقة السوء.. مما يرون في الشوارع من الفساد الذي ذاع وشاع وطم وملأ السهل والوادي والجبل وما ترك شبراً من الأرض إلا واخترقته هذه الفتن، فإذا كنت صاحب غنم، وعلمت أن هذه الأرض كثيرة السباع، ثم نمت عنها، فسوف ينوب عنك في رعاية هذه الغنم الأسد، وإذا كانت الأسد أو السباع أو الذئاب ترعى الغنم فماذا تتوقعون؟ هل تبقي منها على شيء؟!

    إذا لم يكن الأب متيقظاً حذراً حارساً لأبنائه من هذه الفتن، دارساً القواعد العلمية والأساليب العلمية التربوية الصحيحة في التعامل مع هذه الفتن لانجاء وإنقاذ أبنائه؛ ضاع منه أولاده.

    اهتمام الإسلام بتربية الأولاد على علو الهمة

    اشتد حرص الإسلام على هذه المهمة الجسيمة، ونحن حينما نتكلم عن تعظيم الإسلام لهذا الموضوع فلن نأتي بكلام من خارجٍ، إنما من صلب القرآن والسنة، ومن صلب سيرة السلف، فنحن في الحقيقة -كما نكرر في كل مجال من مجالات تخلفنا- متخلفون عن الإسلام، لسنا متخلفين عن الغرب بحضارته المادية، بل نحن في الحقيقة متخلفون عن الإسلام، فالتخلف ليس عن الكفار في أمور الدنيا وزينتها، بل نحن متخلفون عن الإسلام، ونريد أن نرتقي إلى مستوى هذا الإسلام، في كل أحوالنا حتى في الآداب الشرعية، فما أكثر السلوكيات الخاطئة التي تصدر من بعض الناس، وبعضهم يكون ملتزماً بدينة لكنه لم يتفقه في دينه، سواء في آداب الاستئذان أو في حفظ الأمانات وغير ذلك.

    وهذا الخلل ليس مصدره الالتزام بالدين قطعاً، إنما مصدره التخلف عن الإسلام، والتخلي عن آدابه فهذه المعاني التي يطرب لها الغرب الآن فيما يزعمونه من بالحقوق والدعوة إلى التربية ومنهاج التربية الصحيحة في زعمهم، كانت هي بالنسبة للمسلمين حديث مكرر مر عليه قرون وقرون وقرون والأمة تتنادى بهذا الأمر، وتؤديه على أكمل وجه، إلى أن تخلينا عن الإسلام، فخرجت هذه الأجيال التي يخشى منها على الإسلام أكثر مما يخشى من اليهود والنصارى، هذا دكتور في الأزهر، ويؤلف طاعناً في القرآن، ويؤلف طاعناً في الأنبياء، وشاتماً للأنبياء، وطاعناً في شريعة الله سبحانه وتعالى! ويجد من إخوانه الملاحدة من يدافع عنه ويحميه، ويجعله أستاذاً ومفكراً، هذا المفكر يحمل أسماً من أسماء المسلمين، ونحن ما تعرفنا عليه إلا في صفحة الحوادث، وصفحة المجرمين، وفي القضايا والنيابة والقبض عليه وغير ذلك، ومع ذلك يجعل من الأدباء الذين يصنعهم أعداء الدين من أجل استئصال الدين.

    اشتد حرص السلف على مباشرة هذه المهمة الجسيمة، حتى أن الخليفة المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم: ما أشد ما مر بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا. أي: الحيلولة بيننا وبين تربية أولادنا أكبر مصيبة وقعت علينا ونحن في هذا الحبس.

    واشتد نكير السلف على من يصرف همه إلى الكبار فقط، ويهمل الصغار، وما ذاك إلا لأن الأمة محتاجة إليهم، وهم الأعمدة التي تبنى لتحمل ثقل البناء فيما بعد، رأى عمرو بن العاص حلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، فلما قضى طوافه جلس إليهم، فنحو الفتيان عن مجلسهم، وأبقوا الكهول والكبار في السن، فقال لهم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: لا تفعلوا، أوسعوا لهم، وأدنوهم، وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قوم فأصبحنا كبار آخرين. وقد علق الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى على هذه العبارة لـعمرو بن العاص رضي الله عنه قائلاً: وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت، فالذي ينبغي أن يعتنى بصغار الطلبة لاسيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعاً من مراعاتهم والاعتناء بهم، وكان الإمام الشاشي محمد بن الحسين الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى ينشد:

    تعلم يا فتى والعود رطب وطينك لين والطبع قابل

    الاهتمام الخاص بالأطفال الذين تظهر عليهم علامات علو الهمة

    ننتقل إلى نقطة أخرى هي في الحقيقة مهمة جداً، وذات صلة وثيقة بهذا الموضوع، ينبغي أن يصرف اهتمام خاص إلى طبقة خاصة من الأطفال؛ لأن بعض الأطفال تظهر عليهم علامات تبشر بأن هذا الطفل ما هو إلا شخصية فذة تعد بمستقبل مشرق، وتعد بأنه سوف يترك بصمة على صفحة الحياة.

    فهذا فن من الفنون التي أتقنها علماء المسلمين، وأولوها اهتماماً كثيراً؛ لأن الطفل الصغير ذا الهمة العالية لا يخفى منذ زمان الصبا، وربما أحياناً وهو في المهد تظهر عليه مخايل النجابة والتفوق والنبوغ، وعلو الهمة حتى من الطفولة، فتظهر منه علامات النجابة ومخايل العبقرية في الصغر، ولا يكاد يشك ذو فراسة إيمانية صادقة في صيرورة صاحبها إلى تسلم ذرى العلى والتربع على قمة المجد، والارتقاء إلى منصب الإمامة، وقد اهتم المسلمون بالاجتهاد في الاكتشاف المبكر للنابغين، ووضعوا لذلك معايير دقيقة، وأولوا الصغار الذين توسموا فيهم النجابة رعاية خاصة ترصداً لما تفرسوه فيهم من الصدارة، هذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى يتحدث عن هذه المعايير فيقول: الأمر الذي يمكن الوصول إليه بالاستقراء، أن الذين يصطفيهم الله سبحانه وتعالى لولايته ولمرتبة الولاية، لا يكونون أشخاصاً عاديين، وإنما ينتقي الله سبحانه وتعالى لولايته وفضله أشخاصاً بصفات معينة، يقول: تأملت الذين يختارهم الحق عز وجل لولايته والقرب منه، وقد سمعنا أوصافهم، ومن نظنه منهم مما رأيناه، فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليماً من آفة في بدنه، ثم يكون كاملاً في باطنه، سخياً جواداً عاقلاً، غير خب ولا خادع، ولا حقود ولا حسود، ولا فيه عيب من عيوب الباطن، فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ، ينبو عن الرذائل، ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهبلاً على أغصان الشباب، فهو حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراعٍ للأوقات، ساعٍ في طلب الفضائل، خائف من النقائص، ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه؛ لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطأ إن هم، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه. انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله تعالى.

    وعن محمد بن الضحاك أن عبد الملك بن مروان قال لـابن رأس جالوت : ما عندكم من الفراسة في الصبيان؟ يسأل عن المعايير التي تقيسون بها أو تتوقعون بها المستقبل الباهر لبعض هؤلاء الصبيان، ما عندكم من الفراسة في الصبيان؟ قال: ما عندنا فيهم شيء؛ لأنهم يخلقون خلقاً بعد خلق، غير أنا نرمقهم، فإن سمعنا منهم من يقول في لعبه: من يكون معي؟ أي: من يلعب معي، رأيناه ذا همة وحنو سبق فيه، وإن سمعناه يقول: مع من أكون ؟ كرهناها منه.

    إذا سمعوا الولد الصغير يقول: من يكون معي؟ يعرفون أن هذا الولد عالي الهمة، وأنه بطبيعته شخصية قيادية، يصلح للإمامة، لأنه يقول: من يكون معي؟ فيرى الآخرين يكونون تبعاً له بدون تكلف، وهذا دليل على أنه أوتي خصلة الشخصية القيادية، لكن إذا رأوا الولد يقول: مع من أكون؟ فمعناه أنه ذيل، وأنه يتبع غيره، فهذه أحد المعايير التي وضعت منذ المئات من السنين.

    قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأفعال

    كان أول ما علم من ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر رجل عليهم وهم يلعبون، فصاح الرجل عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى، يعني: أبى أن يوليه دبره، لكن تراجع إلى الخلف، كما يفعل المجاهد والمقاتل الشجاع الذي لا يعطي عدوه دبره أبداً، في حين أن زملاءه كلهم فروا، ثم قال: يا صبيان! اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه! يعني: عينوني أميراً عليكم، وهيا بنا نهاجم هذا الرجل، ونطرده عن طريقنا. ومر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان، ففر الصبيان ووقف هو، فقال له عمر : (ما لك لم تفر مع أصحابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك). فمثل هذه الشخصية تستحق أن نصفها بأنها شخصية واعدة، تعد بخير كبير في المستقبل، وهي أحق بقول القائل: رُفعت إليك وما ثُغرْ تَ عيون مستمع وناظر ورأوا عليك ومنك في المـ ـهد النهى ذات البصائر وقوله: (ما ثُغرْتَ): يقال: ثغر الغلام إذا سقطت أسنانه الروابع اللبنية، وكأنه يقول: رفعت إليك العيون وتطلعت إليك وأنت صغير. ونظر الحطيئة إلى ابن عباس وهو يتكلم في مجلس عمر فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم في قوله؟! فقال ابن مسعود : (لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل). يعني: أن هذا الرجل دهش لما رأى ابن عباس يتكلم في مجلس أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ببلاغة وفصاحة وعلم، فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم -أي: ارتفع عنهم- في قوله؟! فقال ابن مسعود : لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل. يعني: لو كان في السن مثلنا ما بلغ أحد منا عشر علمه. ورأى بكير بن الأخنس المهلب -وهو الأمير البطل قائد الكتائب- وهو غلام فقال: خذوني به إن لم يسود سوراتهم ويبرع حتى لا يكون له مثلُ أنه يتنبأ أن هذا سوف يسود أشراف قومه وهو طفل صغير. وقال حمزة بن بيض لـمخلد بن يزيد بن المهلب : بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمّك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا لِدَاتك: جمع لِدى، يعني: مَن وُلد معك، ويوافقك في السن. ونظر رجل إلى أبي درة في مجلس المأمون فقال: إن همته ترمي به وراء سنه. وقال يحيى بن أيوب العباد : حدثنا أبو المثنى قال: سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري ، قد جاء الثوري . فخرجت أنظر من هذا الثوري الذي يعظمونه هذا التعظيم، فإذا هو غلام قد نقل وجهه، أي: بدأ ينبت شعر وجهه. قال الذهبي في الإمام الثوري رحمه الله تعالى: كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب رحمه الله تعالى. وقال ابن مهدي : رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً فقال: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]. وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذكياً سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين ألف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة. وقال محمد بن حاتم : كنت أختلف أنا والبخاري وهو غلام إلى الكتاب، فيسمع ولا يكتب، وبقي على ذلك أياماً، فكنا نقول له: ما لك لا تكتب مثلنا؟! فلما بلغ ما كبتناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها له، فقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نصلح كتبنا من حفظه! فالله سبحانه وتعالى لا يعطي منصب الإمامة في الدين لأي إنسان، بل لا بد أن يكون متأهلاً ذا جدارة واستحقاق. وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتم ، قال: سمعت الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى يحكي عن طفولته يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمروٍ وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أسلم عليهم. أي: لأنه صبي صغير يجلس مجالس العلماء الكبار والمحدثين، فكان يستحي أن يسلم عليهم، فدخل مرة فقال له مؤدب من أهل مرو: كم كتبت اليوم ؟ قال: فقلت: اثنين، وأردت بذلك حديثين، وليس رقم اثنين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوماً. فهذا الشيخ تفرس في الإمام البخاري النجابة منذ صغره. وقال بكير بن منيف : سمعت البخاري يقول: كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص أسمع كتاب الجامع لـسفيان الثوري من كتاب والدي، فمر أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر فراجعته، يعني: أنه رد على الشيخ خطأً من نسخته المكتوبة التي يقرأ منها من حفظه وهو طفل صغير، فصحح له الأولى والثانية والثالثة، فسكت ثم قال: من هذا؟ قالوا: ابن إسماعيل ، فقال: هو كما قال، واحفظوا أن هذا يصير يوماً رجلاً. وهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، الرجولة منصب شريف، ولذلك لا تقال إلا في عظائم الأمور، كقوله عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]. وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام -يعني: يسكتهم ونحو ذلك- فلما جمعت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى عظم فآخذه، فأكتب في العظام، فإذا امتلأ طرحته في جرة، فاجتمع عندي حُبان. والحب هو: وعاء الماء، وهو مثل الزير أو الجرة، أي: امتلأت الجرة من العظام التي كان يكتب عليها. وقال الربيع : سمعت الشافعي يقول: كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية، فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل لي أن آخذ منك شيئاً. وقد كان طفلاً يتيماً بجانب هذه النجابة التي ظهرت عليه منذ صغره. قال الشافعي : ثم لما خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف والدفوف -جمع رق وهو: جلد رقيق يكتب فيه- وكرب النخل -وهو السعف العريض- وأكتاف الجمال، وأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين وأستوهب منها الظهور -أي: ظهور الأوراق المكتوبة؛ لأن ظهرها يكون فارغاً- فأكتب فيها، حتى كان لأمي حُبان مملأتها أكتافاً. وحفظ الإمام أحمد بن حنبل القرآن في صباه، وتعلم القراءة والكتابة ثم اتجه إلى الديوان، يمرن على التحرير. يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن نفسه: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة. وكانت نشأة الإمام أحمد فيها آثار النبوغ والرشد، حتى قال بعض الآباء: أنا أنفق على ولدي، وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته. وكان عم الإمام أحمد يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة، وفي مرة أرسلها مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك، ورمى بها في الماء، تأثماً من الوشاية، والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر لمسلم. أي: ولفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثير من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل : إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه. وقال الحافظ ابن قدامة رحمه الله: بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له: أحمد بن تيمية ، سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كُتّابه -يعني: أنه يمر إلى الكُتّاب من هذه الطريق- وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكُتّاب، فلما مر قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الأحاديث ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأها، فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه، ثم قال: أسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتقاها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله. فكان كما قال رحمه الله تعالى.

    قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأقوال

    تقدمت قصص عن النجباء من الأطفال وأن سيماهم في وجوههم، وأيضاً سيماهم في كلامهم، فقد ينطق الله سبحانه وتعالى الغلام الحدث بما يعجز عنه فطاحل الأدباء، فيصير ذلك علامة كاشفة لما أوضع الله بين جنبيه من الحكمة، وما متعه به من الذكاء، روي عن معمر في تفسير قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] أن الصبيان قالوا: ليحيى عليه السلام: اذهب بنا نلعب فقال: ما للعب خلقت.

    قال الشيخ: يتيم بن يوسف المراقشي يحكي عن أحوال الإمام شيخ الإسلام الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى - وهي المدينة التي ولد فيها، ولذلك ينسب إليها فيقال: النواوي أو النووي - رأيت الشيخ والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا ينشغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرأه القرآن أوصيه به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام. وترجمة الإمام النووي من أروع التراجم، وفيها من العبر شيء عظيم، كان الإمام النووي رحمه الله تعالى غلاماً صغيراً جداً فاستيقظ في الليلة السابعة والعشرين من رمضان في وسط الليل، وجعل ينادي من في البيت ويقول: ما هذا النور الذي أراه قد ملأ الدار، ففطن أبوه لمقام ولده، فأولاه اهتماماً وعناية خاصة، حتى صار هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى.

    إياس بن معاوية قاضي البصرة كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل، تقدم إياس وهو صبي إلى قاضي دمشق، ومعه شيخ في خصومة بينه وبين الشيخ، فقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس : أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك.

    وهو ما خالف الأدب؛ لأنه بدأ الكلام بالتلطف وقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، وهذه ظلامة، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس : أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك، فقال: اسكت، فقال: إن سكت فمن يقوم بحجتي؟! فقال: تكلم فو الله! ما تتكلم بخير، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فنطق بخير الكلام وأفضل الكلام: لا إله إلا الله، فأراد أن يغلب القاضي لما قال له: تكلم فو الله ما تتكلم بخير، فبين له أنه قادر أن يتكلم بالخير، فرفع صاحب الخبر هذا الخبر إلى الخليفة، فعزل القاضي وولى إياس بن معاوية مكانه.

    وأدخل على الرشيد صبي له أربع سنين، فقال له: تمن. يعني: ما تحب أن أهب لك، فأجاب الصبي الصغير فقال: حسن رأيك. والآن لو تقول لولد: ما تحب أن أهب لك؟ سيقول: الشوكولاتة، واللعب، والكرة.

    وحكى ابن الجوزي أن المعتصم ركب إلى خاقان يعوده، والفتح صبي يومئذٍ، فقال له الخليفة المعتصم : أيما أحسن دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟ فماذا أجاب الصبي الصغير الفتح بن خاقان ؟ قال: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن، فأراه فصاً في يده فقال له: هل رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص؟ قال: نعم، اليد الذي هو فيها! فانظر إلى اللباقة وحسن الجواب.

    أعلم صبياً صغيراً جداً كانت تقول له أمه: قل لي خبراً يسرني، فقالت له مرة: قل لي خبراً يحزنني؟ فقال لها: لن تستطيعي أن تصبري، فقالت: قل؟ قال: سأقول لك خبراً يحزنك جداً، وبعد إلحاح شديد، وهو يشفق عليها، قال لها: مات النبي عليه الصلاة والسلام. صبي صغير وينتقي هذا الجواب، عرف أن أحب شخص ينبغي أن يكون إلى كل مسلم هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأكبر مصيبة وقعت بالأمة المحمدية هي موت النبي عليه السلام؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ليعزي المسلمين في مصائبهم: المصيبة بي). فأكبر عزاء لمن يفقد أي شخص أن يتذكر موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    مر الحارث المحاسبي وهو صغير بصبيان يلعبون على باب رجل تمار، -يعني يبيع التمر- فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب الدار ومعه تمرات، فقال للحارث : كل هذه التمرات، فقال الحارث : ما خبرك فيها؟ -يعني: من أين أتيت بها؟- قال: إني بعت الساعة تمراً من رجل، فسقطت منه هذه التمرات، فكل أنت هذه التمرات التي سقطت من هذا الرجل، فقال الحارث المحاسبي وهو طفل صغير للتاجر التمار: أتعرفه ؟ قال: نعم، فالتفت الحارث إلى الصبيان الذين يلعبون وقال: أهذا الشيخ مسلم؟! قالوا: نعم، فمر وتركه. يعني: مضى الحارث وتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه وقال له: قل لي ما في نفسك؟ فقال: يا شيخ! إن كنت مسلماً فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته كما تطلب الماء إذا كنت عطشاناً شديد العطش، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين من سحت وأنت مسلم ؟ فقال الشيخ: والله! لا اتجرت للدنيا أبداً.

    وقال عبد الرحمن بن محمد صاحب كتاب صفات الأولياء: حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري بإسناده أن فتحاً الموصلي رحمه الله تعالى قال: خرجت أريد الحج، فلما توسطت البادية إذا غلام صغير لم تجر عليه الأحكام، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى بيت ربي، قلت: إنك صغير لم تجر عليه الأحكام، فقال: لقد رأيت أصغر مني مات -يعني فهو يبادر إلى الحج حتى لو لم يكن مكلفاً، فإنه يخشى أن يموت- فقلت: إن خطوّك قصير، قال: علي الخطو وعليه التبليغ إن شاء، ألم تسمع قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]؟! قلت: لم أر معك زاداً؟ قال: زادي في قلبي اليقين، حيث ما كنت أيقنت أن الله يرزقني، قلت: إنما أردت أنك تتزود الخبز والماء، قال: ما اسمك؟ قال: قلت: فتح ، قال: يا فتح ! أسألك؟ قلت: سل؟ قال: أرأيت لو أن أخاً لك من أهل الدنيا دعاك إلى منزله، فما كنت تستحي أن تحمل معك طعاماً لتأكله في منزله؟ قلت: بلى، قال: فإن مولاي دعاني إلى بيته، فهو يطعمني ويسقيني، قال فتح : فجعلت أعجب من أمره وبيانه، وزهده مع صغر سنه.

    وروى أيضاً صاحب قصص الأولياء ومراتب الأصفياء بإسناده قال: ذكر سهل التستري الله وهو ابن ثلاث سنين، كان يذكر الله سبحانه وتعالى وعمره ثلاث سنوات، وصام وهو ابن خمس سنين حتى مات، وساح في طلب العلم وهو ابن تسع سنين، وكانت تلقى مشكلات المسائل على العلماء ثم لا يوجد جوابها إلا عنده وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وحينئذٍ ظهرت عليه الكرامات، وكان يفتي في مسائل الزهد والورع، ومقامات الإرادات وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولما بلغ ثلاث عشرة سنة عرضت له مسألة، فلم يجد في تستر من يجبيه عنها، فقال لأهله: جهزوني إلى البصرة، فلم يجد بالبصرة من يستفتيه، فذكر له حمزة بن عبد الله بعبدان فقصدها، فوجد عنده ما يريد وصحبه.

    وقال أيضاً: بلغني أن أبا الحسين أحمد بن محمد المدعو بـالنوري لما قرأ القرآن الكريم ألزمه أبوه أن يدخل معه في حانوته، فكان إذا أصبح أخذ أورقاً ودواة -أي: حبر وقلم- وذهب يسأل عما جهل من كتاب الله تعالى، ويكتب ما يقال له، ثم يأتي أباه، وإذا بعثه في حاجة أخذ ألواحه ودواة، فيسأل من مر به من أهل العلم، فإذا غاب يزجره أبوه لغيبته، ويتهدده، وربما ضربه على ذلك أحياناً، وذكر الغزالي فقال له أبوه: ليت شعري -يعني: ليتني أعلم- يا بني ما تريد بعلمك هذا؟ قال: أريد أن أعرف الله تعالى وأتعرف إليه، قال: كيف تعرفه؟ قال: أعرفه بتفهم أمره ونهيه، قال: وكيف تتعرف إليه ؟ قال: أتعرف إليه بالعمل بما علمني، قال أبوه: يا بني! لا أعرض لك في أمرك هذا ما بقيت.

    وقال علي بن الجعد : أخبرني أبو يوسف قال: توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة ، فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعتني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي، قالت لـأبي حنيفة : ما لهذا الصبي مفسد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة : مري يا رعناء! هو ذاك يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت، وذهب عقلك.

    قال أبو يوسف : ثم لزمت أبا حنيفة ، وكان يتعاهدني بماله، فما ترك لي خلة -يعني: حاجة- فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس هارون الرشيد ، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون الرشيد فالوذج، فقال لي هارون : يا يعقوب ! كل منه، فليس يعمل لنا مثله كل يوم، فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين! فقال: هذا فالوذج بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مما ضحكت؟ قلت: خيراً أبقى الله أمير المؤمنين! قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك! وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا، وترحم على أبي حنيفة ، وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه رحمه الله تعالى.

    وقال صاحب: أنباء النجباء لأبنائه أيضاً: بلغني أن أبا سليمان داود بن نصير الطائي رحمه الله لما بلغ من العمر خمس سنين أسلمه أبوه إلى المؤدب ليعلمه القرآن، وكان لقناً -يعني كان سريع الحفظ- فلما تعلم سورة: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] وحفظها، رأته أمه يوم جمعة مقبلاً على حائط -يعني: وجهه إلى الحائط- وهو يفكر ويشير بيده، فخافت عليه وقالت: الولد أصابه جنون، وقالت: قم يا داود ! فاخرج والعب مع الصبيان، فلم يجبها، وظل واقفاً يتفكر ويشير بيده ووجهه إلى الحائط، فضمته إلى صدرها ودعت بالويل، فقال: ما لكِ يا أماه؟! فقالت: أبك بأس؟! قال: لا، قالت: أين ذهنك؟ كلمتك فلم تسمع! قال: مع عباد الله، قالت: أين هم؟ قال: في الجنة، قالت: ما يصنعون؟ قال: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان:13] * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [الإنسان:14] ومر في السورة وهو شاخص ببصره كأنه ينظر إليهم، حتى بلغ قوله تعالى: وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:22]، ثم قال: يا أماه! ما كان سعيهم؟ -يريد أن يعرف معنى سعيهم- فلم تدر ما تجيبه به، فقامت وأرسلت إلى والده، فجاء فأخبرته الخبر، فقال له: يا داود ! وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا أنهم قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان داود بعد ذلك لا يدع أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، يريد أن ينال الجنة بهذا السعي؛ لأنه عرف أن هذا هو الطريق إلى السعي المشكور، لا كطفلة لأحد الأخوة تريد الوصول إلى الجنة بلا تعب، فكانت تبكي من كثرة ما تسمع عن الجنة وثمرها، وتقول لأبيها: أريد أن أذهب إلى الجنة، لماذا لا تدخلوني الجنة؟! وتبكي بكاءً شديد؛ لأنها تريد أن تأكل من موز الجنة، ومن تفاحها، وبرتقالها … إلى آخره.

    فهذا الطفل فهم أنه لا يكون دخولها إلا بتعب، قال الله: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:22]، فسأل ما هذا السعي؟ فلما علم أنه كلمة الشهادة ظل يرددها ليأخذ بالسبب للوصول إلى الجنة.

    وحكى الشيخ ابن ظفر المكي أن أبا يزيد قيفور بن عيسى البسطامي رحمه الله لما تحفظ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2] قال لأبيه: يا أبتي! من الذي يقول الله تعالى له هذا؟ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2] قال: يا بني! ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبتي! ما لك لا تصنع كما صنع صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا بني! إن قيام الليل خصص به صلى الله عليه وسلم بافتراضه دون أمته، فسكت عنه، فمر في حفظ السورة فلما تحفظ قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20] قال: يا أبتي! إني أسمع أن طائفة كانوا يقومون الليل، فمن هذه الطائفة؟ قال: يا بني! أولئك الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال: يا أبتي! فأي خير في ترك ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: صدقت يا بني. فكان أبوه بعد ذلك يقوم من الليل ويصلي، فاستيقظ أبو يزيد ليلة فإذا أبوه يصلي، فقال: يا أبتي! علمني كيف أتطهر وأصلي معك، فقال أبوه: يا بني! ارقد فإنك صغير بعد؟ قال: يا أبتي! إذا كان يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6] أقول لربي: إني قلت لأبي: كيف أتطهر لأصلي معك، فأبى وقال لي: أرقد فإنك صغير بعد، أتحب هذا؟! فقال له أبوه: لا والله -يا بني- ما أحب هذا. وعلمه فكان يصلي معه.

    قصص عن بعض الأطفال من علو الهمة في الأفعال

    كان أول ما علم من ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر رجل عليهم وهم يلعبون، فصاح الرجل عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى، يعني: أبى أن يوليه دبره، لكن تراجع إلى الخلف، كما يفعل المجاهد والمقاتل الشجاع الذي لا يعطي عدوه دبره أبداً، في حين زملائه كلهم فروا، ثم قال: يا صبيان! اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه! يعني: عينوني أميراً عليكم، وهيا بنا نهاجم هذا الرجل، ونطرده عن طريقنا.

    ومر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان، ففر الصبيان ووقف، فقال له عمر : ما لك لم تفر مع أصحابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك. فمثل هذه الشخصية تستحق أن نصفها شخصية واعدة، تعد بخير كبير في المستقبل، وهي أحق بقول القائل:

    رفعت إليك وما صغرت عيون مستمع وناظر

    ورأوا عليك ومنك في المـ ـهد النهى ذات البصائر

    ما صغرت: يقال: صغر الغلام إذا سقطت أسنانه الروابع اللبنية، فيقول: رفعت إليك العيون وتطلعت إليك، وأنت صغير. رفعت إليك وما صغرت يعني: قبل أن تصغر أيضاً، عيون مستمع وناظر.

    ونظر الحطيئة إلى ابن عباس وهو يتكلم في مجلس عمر فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم في قوله؟! فقال ابن مسعود : لو بلغ أسناننا ما عاشره منا رجل.

    يعني هذا الرجل دهش لما رأى ابن عباس يتكلم في مجلس أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ببلاغة وفصاحة وعلم، فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم -أي: ارتفع عنهم- في قوله؟! فقال ابن مسعود : لو بلغ أسنانا ما عشره منا رجل. يعني: لو كان في السن مثلنا، ما بلغ أحد منا عشر علمه. ورأى بكير بن الأخنس المهلب - وهو الأمير البطل قائد الكتائب أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة - وهو غلام فقال: خذوني به إن لم يسود ثوراتهم ويضرع حتى لا يكون له مثله.

    خذوني به أي: يتنبأ أن هذا سوف يسود أشراف قومه وهو طفل صغير.

    وقال حمزة النظير لـمخلد بن يزيد بن المهلب :

    بلغت لعشر مضت من سنيك كما يبلغ السيد الأشيب

    فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعب

    لداتك: جمع لدة، يعني: من ولد معك، ويوافقك في السن.

    ونظر رجل إلى أبي درة في مجلس المأمون فقال: إن همته ترمي به وراء سنه.

    وقال يحيى بن أيوب العباد : حدثنا أبو المثنى قال: سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري ، قد جاء الثوري . فخرجت أنظر من هذا الثوري الذي يعظمونه هذا التعظيم، فإذا هو غلام قد دقل وجهه، أي: بدأ ينبت شعر وجهه. قال الذهبي في الإمام الثوري رحمه الله تعالى: كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب رحمه الله تعالى.

    وقال ابن مهدي : رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً فقال: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]. وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذكياً سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين ألف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة.

    وقال محمد بن حاتم : كنت أختلف أنا والبخاري وهو غلام إلى الكتاب، فيسمع ولا يكتب، وبقي على ذلك أياماً، فكنا نقول له: مالك لا تكتب مثلنا؟! فلما بلغ ما كبتناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها له، فقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نصلح كتبنا من حفظه!

    فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يعطي منصب الإمامة في الدين لأي إنسان، لا بد أن يكون متأهلاً ذا جدارة واستحقاق.

    وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتم ، قال: سمعت أبا عبد الله الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى يحكي عن طفولته يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمروٍ وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أسلم عليهم؛ لأنه صبي صغير يجلس مجالس العلماء الكبار والمحدثين، فكان يستحي أن يسلم عليهم، فدخل مرة فقال له مؤدب من أهل مرو: كم كتبت اليوم ؟ قال: فقلت: اثنين، وأردت بذلك حديثين، وليس رقم اثنين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوماً. فهذا الشيخ تفرس في الإمام البخاري من صغره.

    وقال بكير بن منيف : سمعت البخاري يقول: كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص أسمع كتاب الجامع لـسفيان الثوري من كتاب والدي، فمر أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر فراجعته، يعني رد على الشيخ خطأً من نسخته المكتوبة التي يقرأ منها من حفظه وهو طفل صغير، فصحح له الأولى والثانية والثالثة، فسكت ثم قال: من هذا؟ قالوا: ابن إسماعيل ، فقال: هو كما قال، واحفظوا أن هذا يصير يوماً رجلاً.

    وهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، الرجولة منصب شريف، ولذلك ما تقال إلا في عظائم الأمور، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23].

    وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، يعني: يسكتهم ونحو هذا، فلما جمعت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى عظم فآخذه، فأكتب في العظام، فإذا امتلأ طرحته في جرة، فاجتمع عندي: حُبان، والحب هو وعاء الماء، مثل الزير والجرة، أي: امتلأت الجرة من العظام التي كان يكتب عليها.

    وقال الربيع : سمعت الشافعي يقول: كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية، فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل لي أن آخذ منك شيئاً. وقد كان طفلاً يتيماً بجانب هذه النجابة التي ظهرت عليه منذ صغره.

    قال الشافعي : ثم لما خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف والرقوق -جمع رق وهو جلد رقيق يكتب فيه- وقرض النخل -وهو السعف العريض- وأكتاف الجمال، وأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين وأستوهب منها الظهور -أي: ظهور الأوراق المكتوبة؛ لأن ظهرها يكون فارغاً- فأكتب فيها، حتى كان لأمي حُبان فأملأتها أكتافاً.

    وحفظ الإمام أحمد بن حنبل القرآن في صباه، وتعلم القراءة والكتابة ثم اتجه إلى الديوان، يمرن على التحرير. ويقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن نفسه: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة. وكانت نشأة الإمام أحمد فيها آثار النبوغ والرشد، حتى قال بعض الآباء: أنا أنفق على ولدي، وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته.

    وكان عم الإمام أحمد يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة، وفي مرة أرسلها مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك، ورمى بها في الماء، تأثماً من الوشاية، والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر لمسلم. أي: ولفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثير من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل : إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه رحمه الله تعالى.

    وقال الحافظ ابن قدامة رحمه الله: بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له: أحمد بن تيمية ، سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كُتّابه -يعني: أنه يمر إلى الكُتّاب من هذه الطريق- وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكُتّاب، فلما مر قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الأحاديث ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأها، فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه، ثم قال: أسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتقاها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله. فكان كما قال رحمه الله تعالى.

    1.   

    أهمية التشجيع لرفع همة الأطفال

    من الأمور المهمة جداً في هذا المضمار أمر تشجيع الأطفال على الخير، وعلى علو الهمة، والتشجيع في الإسلام ليس أمراً قليل القدر، فقد رفع الإسلام التشجيع إلى حد أن جعله فريضة على غير القادر على إقامة فروض الكفايات، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلب العلم، طلب الولاية والإمامة، فالفقهاء يقولون في مثل هذه الفروض الكفائية: إنها واجبة على الكفاية، فإن قام بها البعض سقط الوجوب عن الآخرين، وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعاً، يعني القادر وغير القادر، القادر لأنه قصر في فعل ما هو قادر عليه، وغير القادر يأثم لأنه لم يشجع القادر، فواجب غير القادر أن يحمل القادر على ذلك العمل ويشجعه، ويحثه ويؤزه أزاً، فإن لم يقم به أحد أثموا جميعاً، القادر لأنه قصر، وغير القادر لأنه قصر فيما يستطيعه، وهو التفتيش عن القادر، وحمله على العمل، وحثه وتشجعيه وإعانته على القيام به، بل إجباره على ذلك.

    وقد تسابق المسلمون في شتى العصور على تشجيع الموهبين وكبيري الهمة بكافة صور التشجيع، فكانوا ينفقون الأموال الجزيلة لنفقة النابغين من طلاب العلم، الذي حبسوا أنفسهم على طلبه؛ ليغنوهم عن سؤال الناس أو الاشتغال عن العلم بطلب المعاش، هذا الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي ، قال فيه الصفدي : لم أره قط إلا يسمع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم وينوه بقدرهم.

    وكان المعلمون في الكتاتيب وفي المساجد وفي الأزهر إذا لمسوا في طفل النجابة وسرعة التعلم، احتضنوه، وساعدوه على طلب العلم، وزودوه المال من مالهم الخاص أو من الأوقاف، وكان في طليعة المشجعين لطلبة العلم الخلفاء والأمراء، روى البخاري في صحيحه: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام حدث مع أشياخ بدر، قال ابن عباس : فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر : إنه من حيث علمتم، يعني: تعلمون أن هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آل البيت، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، وانظر إلى ذكاء ابن عباس ، يراقب ويحلل ويختزن المواقف في ذهنه، فدعاه يوماً ففهم وتفرس أنه دعاه حتى يختبره أمامهم، ويظهر فضله في العلم عليهم، فيقول ابن عباس في الرواية: فما رئيت أنه دعاني يومئذٍ إلا ليريهم علمي، قال عمر : ما تقولون في قول الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس ؟! فقلت: لا، قال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له -يعني: هذه الآية فيها نعي رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى نفسه- قال: (إذا جاء نصر الله والفتح) وذلك علامة أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] يعني: تهيأ للقاء ربك، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول، هكذا كان أمير المؤمنين يقوي ثقته بنفسه.

    أخطاؤنا التربوية كثيرة جداً؛ لأننا للأسف لا نعرف أن هذا علم له قواعد، وقليل من يهتم بهذه الأمور، فنقع في بعض الأخطاء التي لها تأثير خطير على نفسية الطفل وقدراته فيما بعد، مثل تحطيم الثقة في نفسه، فالطفل في الرابعة أو في الخامسة أو قبل ذلك يبدأ يحاول أن يستقل، وكما ينمو في بدنه شخصيته تنمو، وتمر بمراحل، فيبدأ يحاول أن يستقل، ويثبت في نفسه أنه قادر على أن يفعل أشياء بنفسه، فيحاول مثلاً أن يأكل بالملعقة، فالأم تضربه وتمنعه أن يأكل بالملعقة؛ لأنه يقذر ثيابه وكذا وكذا، وهذا خطأ كبير، أو يريد أن يلبس النعل وفيه الرباط فيتأخر كثيراً، فالأم تقول: نحن مستعجلون تعال وتربطه له، وهذا خطأ، اتركه يمارس هذه الوظائف، لأنه الآن يمر بمرحلة جديدة، لأنه يثبت ذاته، ويريد أن يمارس الأشياء بنفسه، فيترك يعمل حتى لو كان فيه خطأ.

    لو أن الطفل كتب أو رسم شيئاً لا ينبغي للوالد أن ينهره أو يمزق له الورقة أو يخذله ولا يشجعه، وهذا بلا شك له أثر سيء جداً في نفسية الطفل فيفقد الثقة بنفسه، والمفروض أن تشجعه وتكلفه أولاً بمهام بسيطة جداً يستطيع أن يقومها، ثم تترقى به إلى أعظم منها وهكذا.

    لا نريد أن نفصل في هذا، لكن باختصار شديد أمر التشجيع وأمر المكافئة أمر مهم، وتكون فوراً عقب العمل الحسن، لا تؤجل إلى يوم غد أو حتى يأتي والدك يعطيك كذا، بل عقب الفعل الحسن الذي فعله الولد يكافأ في الحال؛ لأن هذا مما يشجعه ويدفعه إلى الترقي، كما كان أمير المؤمنين يقوي ثقة ابن عباس في نفسه، ويغذي همته، والسلف كانوا يحرصون جداً على هذه المعاني، كانوا أساتذة في هذه الأمور التي يتغنى بها الكفار الآن، ويدعون أنهم سابقون فيها، والمعلم الأول في ذلك هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما ندري أي كرامة تكون عند هذا الصبي أو هذا الشاب الذي يضربه أبوه أو أمه بالنعل، إذا كانت تهدر كرامته بهذه الطريقة أينتظر من مثل هذا لما يكبر أن يكون له كرامة أو يثأر لها أو يغار عليها؟! هذا تحطيم لنفسيته، وتربيته على الهوان والتذلل، وأنه إنسان حقير، بعض الآباء حينما يعاقب الولد أو يشتد عليه بالإنكار يستعمل عبارات كلها تحقير للذات، وهذا يطفئ همته، ويجعل نفسه منحطة وسافلة.

    نعم له أن يشتد عليه، لكن بعبارات مهذبة، أما أن يقول له: أنت حقير، أنت كذا، من العبارات التي فيها تحقير للذات، فلا شك أن هذا يؤثر في نفسيته تأثيراً سيئاً جداً، فيحتقر ذاته، وكلما يكلف بشيء يقول: لا أستطيع، لا أقدر، لا أقوى على هذا؛ لأنه ليس عنده ثقة بنفسه، وينتابه الشعور بالدونية وبالنقص، بعضهم يقول لوالده: أنت غير نافع، أنت غير صالح، أنت لا أمل فيك، كل هذه العبارات تشوه نفسيته تماماً، وكما أنك لو قطعت يده أو قطعت أنفه تشوه جسمه فهذه تشوه نفسيته، ويكون الطفل مشوهاً نفسياً، ويشعر بالنقص، ويعاني في المستقبل عناء شديداً.

    1.   

    من الأخطاء في تربية الأبناء

    وأخطاؤنا التربوية كثيرة جداً؛ لأننا للأسف لا نعرف أن هذا علم له قواعد، وقليل من يهتم بهذه الأمور، فنقع في بعض الأخطاء التي لها تأثير خطير على نفسية الطفل وقدراته فيما بعد، مثل تحطيم الثقة في نفسه، فالطفل في الرابعة أو في الخامسة أو قبل ذلك يبدأ يحاول أن يستقل، وكما ينمو في بدنه فإن شخصيته تنمو، وتمر بمراحل، فيبدأ يحاول أن يستقل، ويثبت في نفسه أنه قادر على أن يفعل أشياء بنفسه، فيحاول -مثلاً- أن يأكل بالملعقة، فالأم تضربه وتمنعه أن يأكل بالملعقة؛ لأنه يلطخ ثيابه وكذا وكذا، وهذا خطأ كبير، أو يريد أن يلبس النعل وفيه الرباط فيتأخر كثيراً، فالأم تقول: نحن مستعجلون تعال فيربطه له هي، وهذا خطأ، بل عليها أن تتركه يمارس هذه الوظائف، ولأنه الآن يمر بمرحلة جديدة، لأنه يثبت ذاته، ويريد أن يمارس الأشياء بنفسه، فيترك ليعمل حتى ولو كان في عمله خطأ. ولو أن الطفل كتب أو رسم شيئاً لا ينبغي فللوالد أن ينهره أو يمزق عليه الورقة أو يخذله ولا يشجعه، وهذا بلا شك له أثر سيء جداً في نفسية الطفل فيفقد الثقة بنفسه، والمفروض أن تشجعه وتكلفه أولاً بمهام بسيطة جداً يستطيع أن يقومها، ثم تترقى به إلى أعظم منها وهكذا. لا نريد أن نفصل في هذا، لكن باختصار شديد أمر التشجيع وأمر المكافئة أمر مهم، وتكون فوراً عقب العمل الحسن، لا تؤجل إلى يوم غد ولا يقال للولد: انتظر حتى يأتي والدك يعطيك كذا، بل عقب الفعل الحسن الذي فعله الولد يكافأ في الحال؛ لأن هذا مما يشجعه ويدفعه إلى الترقي، كما كان أمير المؤمنين يقوي ثقة ابن عباس في نفسه، ويغذي همته، والسلف كانوا يحرصون جداً على هذه المعاني، كانوا أساتذة في هذه الأمور التي يتغنى بها الكفار الآن، ويدّعون أنهم سابقون فيها، والمعلم الأول في ذلك هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما ندري أي كرامة تكون عند هذا الصبي أو هذا الشاب الذي يضربه أبوه أو أمه بالنعل، فإذا كانت تهدر كرامته بهذه الطريقة أينتظر من مثل هذا عندما يكبر أن يكون له كرامة أو يثأر لها أو يغار عليها؟! بل هذا تحطيم لنفسيته، وتربيته على الهوان والتذلل، وأنه إنسان حقير، فبعض الآباء حينما يعاقب الولد أو يشتد عليه بالإنكار يستعمل عبارات كلها تحقير للذات، وهذا يطفئ همته، ويجعل نفسه منحطة وسافلة. نعم له أن يشتد عليه، لكن بعبارات مهذبة، أما أن يقول له: أنت حقير، أنت كذا، من العبارات التي فيها تحقير للذات، فلا شك أن هذا يؤثر في نفسيته تأثيراً سيئاً جداً، فيحتقر ذاته، وكلما يكلف بشيء يقول: لا أستطيع، لا أقدر، لا أقوى على هذا؛ لأنه ليس عنده ثقة بنفسه، وينتابه الشعور بالدونية وبالنقص، بل بعضهم يقول لولده: أنت غير نافع، أنت غير صالح، أنت لا أمل فيك، وكل هذه العبارات تشوه نفسيته تماماً، وكما أنك لو قطعت يده أو قطعت أنفه تشوه جسمه فهذه تشوه نفسيته، ويكون الطفل مشوهاً نفسياً، ويشعر بالنقص، ويعاني في المستقبل عناءً شديداً.

    من أخبار السلف في التشجيع

    روى البخاري في صحيحه أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن، فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس وهو صغير السن، فانظر إلى ابن عباس الذي ربي على الثقة بالنفس، قال ابن عباس لما وجد الكبار كلهم لا يستطيعون أن يتكلموا: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! انظر إلى التلطف والأدب والذكاء الشديد في العبارة، لم يقل: أنا أعلم ما لا تعلمون، فقال عمر : يا ابن أخي! قل ولا تحقر نفسك. فأجابه ابن عباس : هذه هي التربية الصحيحة أن يربيه على الاعتزاز بالذات، وعلى قوة الشخصية، والثقة بالنفس.

    على هذه الثقة سار ابن عباس منذ طفولته، غير مبالٍ بتثبيط من هو أقصر منه همة، انظر إلى ابن عباس ، وانظر إلى خطورة الصحبة، الإنسان إذا صاحب من هو أقل منه همة لا بد أن يتضرر به ويحطمه إلا أن يفارقه، يقول ابن عباس : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار -ومن أدبه أنه لم يسمه-: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، يعني: ربما يموتون، ربما يرتحلون ويخرجون إلى الجهاد، تعال نتزاحم على الصحابة، ونتردد على الصحابة لنأخذ من علمهم، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟! يعني: هل الأمة تنتظرك يا ابن عباس حتى تتعلم العلم، والصحابة موجودون. قال: فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل - يعني: ينام وقت القيلولة قبل صلاة الظهر- فأتوسد ردائي على بابه. انظر إلى الأدب مع شيخه، عرف أن هذا وقت قيلولة، إذاً لا يزعجه ويطرق الباب، فيفرش الرداء وينام على باب البيت إلى أن يخرج إلى الصلاة، قال: فأتوسد ردائي على بابه، وتسف الريح علي من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟! هلا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فيسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.

    يقول الشاعر:

    فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حاد الشوق فاطو المراحل

    ولا تنتظر بالسيل رفقة قاعد ودعه فإن العزم يكفيك حاملا

    كان ابن شهاب رحمه الله تعالى يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة سنكم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغ حدة عقولهم. وكان هارون الرشيد رحمه الله يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء، حتى قال ابن المبارك : فما رأيت عالماً ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات في أيامٍ بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة.

    بلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، من هؤلاء الأمراء المعز بن بادية أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته، وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعول على آرائه، ومنحه أعظم الرواتب.

    كذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ، الذي أنشأ بيت الطلبة، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه أن بعض حاشيته أنكروا عليه أنه يعظم هؤلاء الطلبة النابغين، وينشغل بهم عنهم، خاطب هؤلاء الحاشية فقال لهم: يا معشر الموحدين! أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجؤهم، إلي فزعهم، وإلي ينسبون.

    وبلغت عناية المنصور بالطبيب أبي بكر بن زهر حداً عجيباً، فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مدداً طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعراً في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر أرسل المهندسين إلى أشبيليا، وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في مراكش، ففعلوا ما أمرهم، ونقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآه ابن زهر اندهش، وحصل عنده من السرور ما لا مزيد عليه، فقد صمم له بيتاً بنفس تصميم البيت والحارة التي يسكن فيها، وأحضر له أولاده وفاجأه بهذه الكرامة.

    وفي القرن السادس عشر قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع القرى والأمصار، وتوفير الرعاية لهم التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضارياً وعسكرياً حتى صارت تهدد بغزو أوروبا.

    التشجيع عند الغربيين

    التشجيع موجود الآن في الغرب، ويوجد الآن بصورة محدودة في بلادنا، لكن مما ينبغي أن نعرفه أن الغرب والشرق تقدموا تقدماً كبيراً جداً في العلوم التجريبية، ومع ذلك فإن معرفتهم بأهمية الاهتمام بالنابغين وكبار الهمة من الصغار أمر حديث جداً بالنسبة إليهم، بينما معروف من بداية الإسلام الاهتمام بالنوابغ وبكبار الهمة، وإعدادهم ليحملوا الراية في المستقبل، فرعاية النابغين أهملت في أوروبا وأمريكا حتى بداية القرن العشرين، وقبل ذلك ما كانوا يعرفون شيئاً عن هذا؛ لأن هؤلاء الكفرة الغربيين حتى بداية القرن العشرين كانوا يعتبرون أن العباقرة والنابغين والمتفوقين عندهم نوع من الجنون، وكان هناك رجل يدعى لانبروجو مؤلف كتاب (مان أفتيا) يعني: الرجل العبقري، وله كتاب آخر لرجل اسمه نوبست يعني جنون العبقرية، يعتبر أن العباقرة مجانين، فكانوا ينظرون إلى العباقرة والأذكياء والمتفوقين أنهم مرضى ومجانين، نشر الكتابان في لندن ونيويورك في أواخر القرن التاسع عشر، وأثبت فيهما العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون، وقدم البراهين على أن النابغين مجانين.

    ثم بدأت فكرة الغربيين عن النابغين تتحسن بعد أن نشر كرمن كتابه: (الطفل النابغة يرشد)، سنة 1949م فصاروا يتراجعون عن فكرة أن المتفوقين أو العباقرة مجانين، قدم في هذا الكتاب البراهين على أن الأطفال الأذكياء أصحاء نفسياً وجسمياً واجتماعياً، فبدأ يتكون رأي عام يتعاطف مع النابغين، وحتى منتصف القرن العشرين كان الأمريكيون يعتبرون رعاية النابغين ترفاً تربوياً، ولم يبذلوا جهوداً جادة في الكشف عنهم إلا بعد أن طلق الروس أول مركبة فضاء سنة 1957م، حينئذٍ أفاق الأمريكان، وشعروا بالخطر من توفق الروس عليهم، فاتجهوا إلى رعاية النابغين، واعتبروها مسألة حياة أو موت، وجندوا علماء التربية وعلم النفس والاجتماع، وعقدوا المؤتمرات والندوات لتخصيص وتنظيم ورعاية فئات النابغين، وتشجيعهم على إظهار نبوغها في جميع المجالات حتى نهضوا بأمتهم، وأنشأت كل ولاية العديد من المعاهد والفصول المتوسطة في رعاية النابغين في جميع المجالات حتى بلغ عددها سبعمائة معهد، تشرف عليها حوالى ثلاثمائة جامعة في أمريكا، كما أسهمت المؤسسات التجارية والصناعية والعلمية في تمويل برامج الكشف عن النابغين ورعايتهم.

    الشاهد من هذا أننا متخلفون عن الإسلام، انظروا كيف اهتم الإسلام بهذا الأمر من عهد الصحابة إلى عصور الازدهار الأخيرة، وكيف كانوا يجلون النابغين والعباقرة وكبيري الهمة، ويعطونهم عناية ورعاية خاصة.

    قصص تبين أثر التشجيع في شحذ الهمم

    فيما يتعلق بالتشجيع وأهميته في دفع النابغين إلى الأمام يحكي الأستاذ علي الطنطاوي حفظه الله قائلاً: قرأت مرة أن مجلة انجليزية سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الأداء، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن وبعد تلك الشهرة والمكانة تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير.

    والتثبيط وكسر الهمم، واحتقار النفس، له أثر سيء جداً في خلق المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها، وإبداعهم، وضرب الطنطاوي مثالاً لذلك بالشيخ محمد أمين بن عابدين العلامة الحنفي الجليل صاحب أشهر وأعظم كتاب في الفقه الحنفي المعروف بحاشية ابن عابدين ، قال الشيخ الطنطاوي : كان في الشام هؤلاء المثبطون من أبناء عائلات معينة احتكرت الوظائف العلمية وكانت كلما أحست برجل خارج هذه العائلات عليه آثار النباهة والحرص على التعلم يذهبون إلى هذا الشخص ويحاولون تثبيطه حتى لا ينافسهم في هذه الوظائف التي احتكروها سنين طويلة، فرأى المثبطون من محمد أمين بن عابدين الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد والعقل الراجح، فخافوا منه فذهبوا يكلمون أباه -وكان أبوه تاجراً- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به عن طريق العلم، وجعلوا يكلمونه ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فسكت الوالد فكان منه هذا الولد المبارك ابن عابدين صاحب الحاشية وهي أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي.

    بل أرادوا أن يصرفوا أستاذنا العلامة السلفي الكبير محمد بن كرد علي عن العلم، فبعثوا إلى والده بالشقيقين من آل كذا ...، وهما قد ماتا فلست أسميهما على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالباً، فما زالا بأبيه ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة، ويلحان عليه ويلازمانه حتى ضجر فتركهما فكان منه ولده الأستاذ كرد بن علي أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ومدير معارف سوريا الأسبق، ومن مصنفاته خطب الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإمارة الإسلامية، والإسلام والحضارة الغربية، والمقتبس، ومن مصنفاته: المجمع العلمي العربي بدمشق، ومن مصنفاته: الشعراء والكتاب من الشباب.

    خطورة التثبيط

    ذكر الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله مثالاً على خطورة التثبيط في إطفاء شعلة الهمة في قلب طالب العلم النابه فيقول: إن الأمة حرمت كثيراً من الناس العباقرة بسبب التثبيط، وتثبيطهم يكون بسبب والد جاهل أو أم جاهلة، أو بأسباب كثيرة، وكان ينبغي لهم عدم الالتفات إلى المثبطين، ورعايتهم رعاية خاصة، يقول: هو ذا العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله مات وما له مصنف رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه، وسبب ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنبه، وقال له شيخه: أيها المغرور! أبلغ من قدرك أن تصنف؟! وأنت .. وأنت ..، وظل يثبطه، ثم أخذ الشيخ الرسالة فسجر بها المدفأة، فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها بسبب التثبيط.

    قال: وأول من سن سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله تعالى، الفيلسوف المؤرخ الجبل، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية. وهو من نوادر الشخصيات في الزمن المتأخر، ومن أشهر تلامذته: الأستاذ محمد كرد علي بك ، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب . الشيخ محب الدين الخطيب خال الشيخ علي الطنطاوي ، الشيخ علي الطنطاوي هو سوري لكن أبوه من طنطا هنا في مصر.

    ومما كتب الشيخ طاهر الجزائري في ذم التثبيط: وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل، وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم، ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولن يرى أحد من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فالذي ينبغي للجرائد الكبيرة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها؛ ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها، ليخلصوا من ضررهم.

    وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، ولا يثني أحداً عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له: إن هذا غير ممكن، فتفل عزيمته، وتكسر همته، لكن أقرئه، وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته.

    عالي الهمة يجعل التثبيط له تحدياً

    قال الطنطاوي : إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة، حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها، ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء، وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والشجيع من حرفة الحياكة إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس حتى القبة، نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك خياط عامياً، ولكنه كان محباً للعلم، محباً للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس، ولا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه، ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، فاشترى الكتب، وصار يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها، وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحول العلماء، وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي، وانصرفوا عن المفتي الرسمي العمادي إلى هذا الحائك الذي كان أعلم أهل بلده، فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في القيمرية، وهو على أتان له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخاً للمفتي، فرد عليه السلام وقال له ساخراً: إلى أين يا شيخ؟ أذاهبٌ أنت إلى إسطنبول لتأتي بولاية الإفتاء؟! -يعني: يريد أن يعيره بأنه ليس هو المفتي، وأخوه هو المفتي، وإنما هو متطفل على مقام الإفتاء-وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: إن شاء الله.

    وهنا وقفة، ربما كانت السخرية أحياناً سبباً عظيماً من أسباب التحدي، أنا أعرف مدرساً للغة الفرنسية كان يثبط طالباً دائماً، ويقول له: أنت غير نافع، وغير فالح ... إلى آخر هذه العبارات المشهورة من المدرسين المقصرين في هذا الجانب، يفعلون هذه الأفاعيل، ولا يفطنون إلى خطر عواقبه، فهذا الطالب عزم على أن يتقن اللغة الفرنسية أشد الإتقان، وبالفعل تفوق وأتى بدرجات عالية، ودخل كلية الآداب، وتخصص في اللغة الفرنسية، وصار مدرساً للغة الفرنسية بعد أن كان ضعيفاً جداً فيها.

    الشاهد أن السخرية والتثبيط إذا أخذ بنوع من التحدي قد تصعد به الهمة، وممكن أن هذا الكلام يثبط، وذلك حسب نفسية الطفل، وحسب البيئة التي حوله، وحسب التشجيع، فيمكن أن يتحول الأمر من سخرية إلى تحدي، حتى يثبت لنفسه ولهذا الشخص الذي يحتقره أنه جدير بالاحترام، وجدير بألا يكون كما يصفه.

    نعود إلى القصة الأولى: لما سخر منه العماديون، وقال له أخو المفتي: إلى أين يا شيخ! أذاهب أنت لتأتي بوالية الإفتاء؟! وضحك وضحك من حوله، الشيخ لم يزد على أن قال: إن شاء الله، فماذا فعل؟ استمر في طريقه وهو راكب الأتان، حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله وأعطاهم نفقته وسافر متجهاً إلى إسطنبول، وما زال يفارق بلداً ويستقبل بلداً حتى دخل القسطنطينية، فنزل في خان قريب من دار المشيخة العثمانية، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب أو يكتب في صحيفة، فيعرف من زيه أنه عربي، ويحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنوا الجناية الكبرى بالحركة الكمالية، فكانوا يعظمون العربي؛ لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً، واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم، فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقالوا له يوماً رجل منهم: إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماؤها، ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون ما عندهم جواب على السؤال، فهل لك أن تراها؛ لعل الله يفتح عليك بالجواب؟ قال: نعم، قال: سر معي إلى المشيخة، قال: باسم الله، ودخلوا على ناموس المشيخة -يعني السكرتير- فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة، فالسكرتير أو الناموس رفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء؛ لأن هيئة الشيخ وملابسه لم تكن على هيئة مرضية، كان رجلاً لا يهتم بالمظهر، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، فألقاها إليه -يعني: رمى له المسألة وانصرف إلى عمله- فأخرج الشيخ نظارته، فوضعها على عينه فقرأ المسألة، ثم أخرج من منطقته -أي: الحزام- دواة، هذه الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة، والدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل، حتى سود عشر صفحات، وما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام العثماني وقرأها كاد يقضي دهشة وسروراً من هذا العلم الذي وجده في هذه الأوراق، فقال للناموس: ويحك! من كتب هذا الجواب؟! قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت، قال: علي به، فجاء فجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يخور بين يديه، إلى غير ذلك من هذه المراسيم ..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755994392