عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري و مسلم .
وفي رواية لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
هذا حديث عظيم من جوامع الكلم التي أوتيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد مر عند الكلام على الحديث الأول، وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) أن هناك أحاديث قيل فيها إنه يدور عليها العلم، وهي من جوامع الكلم، وهذه الأحاديث قيل: هي حديثان، وقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: أكثر، ولكن حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) يأتيان فيها، فالذي قال: إن الدين يرجع إلى حديثين ذكرهما، ومن قال: هي ثلاثة، ذكرهما، ومن قال: أربعة، ذكرهما، فهذان حديثان تكرر كلام العلماء في بيان أهميتهما، وأنهما من الأصول التي يبنى عليها هذا الدين.
وحديث عائشة هذا أصل في وزن الأعمال الظاهرة، وأن المعتبر منها ما كان وفقاً لما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا كان على خلاف ما جاء به بأن كان مبنياً على بدع، وأمور محدثه، فإنه لا يعتبر، ولا يعول عليه، ولا يلتفت إليه، ويكون باطلاً حيث كان مبنياً على بدعة، وليس مبنياً على سنة.
وحديث: (إنما الأعمال بالنيات) أصل في وزن الأعمال الباطنة.
إذاً: الحديث الأول في الأمور الباطنة، وهذا الحديث في الأمور الظاهرة.
قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني: من أتى بشيء لم يكن مما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومما جاءت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من محدثات الأمور؛ فإنه مردود على صاحبه، ولا عبرة به ولا قيمة له.
أحدهما: أن يكون خالصاً لله.
الثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشرط الثاني هو مقتضى هذا الحديث، فكل عمل من الأعمال لابد فيه من إخلاص العمل لله، وأن يكون مطابقاً لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا توافر هذان الشرطان فإن العمل يكون مقبولاً، وإذا اختل أحدهما فإن العمل لا عبرة به، ولا قيمة له.
فإذا كان العمل خالصاً لله، ولكنه مبني على بدعة، ولم يكن مبنياً على سنة فهو مردود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وإذا كان العمل مبنياً على سنة، ولكن أشرك مع الله غيره فيه، فإنه يكون مردوداً على صاحبه، وقد قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] وقال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
إذاً: لا بد من هذين الشرطين، وهما مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله، فإن الإخلاص لله هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، فالعبادة يجب أن تكون خالصة لله، وإذا أشرك مع الله غيره فيها فإنه لا عبرة بها، ولا قيمة لها، وترد على صاحبها، فلا بد أن يكون العمل خالصاً لله حتى يكون معتبراً، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام: ألا يعبد الله إلا طبقاً لما جاء به عليه الصلاة والسلام، فلا يعبد بالبدع والمحدثات والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي هي مخالفة لما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع السنن، وحذر من البدع، كما في حديث العرباض بن سارية وهو الحديث الثامن والعشرون من الأربعين النووية، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
الصفة الأولى: أنها عامة للثقلين:
فلا يسع أحداً من الجن والإنس الخروج عنها، من حين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به، إلا كان من أصحاب النار)، فإن اليهود والنصارى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أمة الدعوة، والدعوة موجهة للجن والإنس جميعاً، وكل إنسي وجني من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هو من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، أعني من أمة الدعوة، فالدعوة موجهة للجميع، وكل يدعى إلى الدخول في هذا الدين.
الصفة الثانية: أنها خالدة وباقية ومستمرة.
فالشرائع السابقة كان لها أمد تنتهي إليه، وأما شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنها باقية ومستمرة؛ ولهذا كانت معجزته باقية ومستمرة، وهي القرآن الذي عجز الفصحاء والبلغاء عن أن يأتوا بشيء من مثله، فشريعته مستمرة، ومعجزته مستمرة، والتحدي مستمر وموجود، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثل القرآن، بخلاف الرسل السابقين فإن رسالاتهم لها أمد ولها وقت ثم تنسخ، ومعجزاتهم وقتية لا يشاهدها إلا من كان في زمانهم، وأما معجزة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام -وهي القرآن- فإنها باقية ومستمرة؛ لأن شريعته باقية ومستمرة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
الصفة الثالثة: الكمال.
فهي كاملة لا نقص فيها، ولا تحتاج إلى إضافات تلحق بها وتضم إليها، ولا تحتاج إلى ترقيع وإلى ترميم، بل هي في غاية الكمال والتمام، لا نقص فيها حتى يضاف إليها شيء، فالبدع التي تضاف إليها مردودة على صاحبها.
ومعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بلغ هذه البدعة التي قالوا إنها تضاف إلى الشريعة، فالبدع ليست من سنته وليست من هديه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بين للناس كل ما يحتاجون إليه، فلا تحتاج الشريعة إلى أمور تضاف إليها وتلحق بها، بل هي كاملة.
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ترك أمراً يقرب إلى الله إلا ودل الأمة عليه، وما ترك أمراً يباعد من الله إلا وحذر منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ ولهذا قال الإمام مالك بعد ذلك: فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً.
فالشيء الذي لم يكن ديناً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يكون بعدهم ديناً، وهذا يبين لنا أن هذه الفرق التي حدثت بعده صلى الله عليه وسلم، وصار لها عقائد خاصة، ليست من دين الإسلام، بل دين الإسلام الحق هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
يقول الإمام مالك رحمه الله: مالم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً، يعني: مالم يكن ديناً في زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يكون بعد ذلك ديناً؛ لأن الدين هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعقائد التي أحدثت ونبتت وولدت بعد زمنه صلى الله عليه وسلم باطلة، فمنها ما كان في آخر عهد الصحابة، ومنها ما كان بعد ذلك، ولا شك أنها باطلة، و لا يمكن أن يعقل ولا أن يقبل أن يكون هناك حق حجب عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وادخر لأناس يجيئون بعدهم، بل هذه العقائد المحدثة داخلة تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) يعني: اختلافاً كثيراً في الأهواء والبدع، وقد أرشدنا عليه الصلاة والسلام عند هذا الاختلاف والتفرق إلى المنهج القويم والصراط المستقيم في قوله: (فعليكم بسنتي) يعني أن طريق السلامة، وطريق النجاة أمام هذا الاختلاف كائن في سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي.
ويكفي في معرفة بطلان العقائد المحدثة أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما كانوا يعتقدونها ولا كانوا يعرفونها، ولا يعقل أن يكون حق قد حجب عن الصحابة وخفي عليهم، وادخر لأناس يجيئون بعدهم، بل هذه المحدثات التي حصلت لهؤلاء الذين من بعدهم شر، وقد حمى الله أصحاب رسوله من الوقوع في ذلك الشر، ووفقهم لسلوك الصراط المستقيم الذي جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا يقول الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
فالطريق إلى الله عز وجل واحد، وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمناهج والطرق الأخرى مجانبة ومخالفة لهذا الطريق، وهي باطلة ومردودة على أصحابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي معنا: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
وبيان ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فصل ولا قال: من كان قصده حسناً فحكمه كذا، ومن ليس قصده حسناً فحكمه كذا، بل عمم وأطلق فقال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وكثير من الناس يقدمون على البدع وقصدهم حسن، ولكن حيل بينهم وبين التوفيق وصرفوا عنه، إذ ليس كل من يكون قصده حسناً يكون عمله مقبولاً، بل لا بد من توافر شرط القبول بأن يكون العمل على وفق السنة، وقد جاء في السنة ما يدل على ذلك:
وذلك أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح أضحيته قبل صلاة العيد، وكان يريد من وراء ذبحها في هذا الوقت أن تطبخ، ويكون اللحم عند الفراغ من صلاة العيد جاهزاً، فتكون أضحيته أول ما يأكله الناس وهم بحاجة إلى الطعام واللحم، فقصده طيب؛ لأنه يريد أن يكون أسبق من غيره في تقديم الطعام للمحتاجين، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال له: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية؛ لأنها لم تقع على وفق السنة، والعمل لا بد في اعتباره أن يكون على وفق السنة، فإذا ذبحت قبل صلاة العيد فمعناه أنها ذبحت في غير وقت الذبح، فلا تكون أضحية، بل تكون شاة لحم، أي من جنس الذبائح التي يذبحها الناس ليأكلوا اللحم، ولا يعتبر ذبحها أضحية وقربة وطاعة؛ لأن الذبح إنما يبدأ بعد صلاة العيد، ولا يكون قبل صلاة العيد؛ ولهذا روي أن صلاة العيد في الأضحى تعجل بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت الذبح، وصلاة عيد الفطر تؤخر شيئاً بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت إخراج زكاة الفطر؛ لأن أفضل وقت لإخراج زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة، فإذا أخرت الصلاة شيئاً يسيراً بعد دخول وقتها اتسع للناس وقت إيتاء زكاة الفطر.
وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح هذا الحديث عن بعض أهل العلم أنه قال: وفي هذا دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا كان موافقاً للشرع، ولا يكفي حسن قصد الفاعل. يعني: إذا كان قصد صاحبه حسناً لا يكفي لقبوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهذا الصحابي: (شاتك شاة لحم)، ولم يعتبر حسن قصده.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناساً متحلقون في المسجد، وبأيديهم حصى، وفي كل حلقة شخص يقول لهم: كبروا مائة، هللوا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة، فإذا قال: كبروا مائة، صاروا يعدون بالحصى: الله أكبر، الله أكبر، مائة، ثم يقول: هللوا مائة، فيقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ويعدون بالحصى مائة، ثم يقول: سبحوا، فيقولون: سبحان الله، سبحان الله، ويعدون بالحصى مائة، وهكذا. فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن رضي الله عنه وقال: ما هذا يا هؤلاء؟! عدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة!
يعني: إما أنكم أحسن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندكم طريقة أحسن من طريقة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، ففهموا أن الطريقة الأولى لا سبيل لهم إليها، ولا يمكن أن يكونوا أحسن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت الثانية، وهي أنهم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا: سبحان الله! يا أبا عبد الرحمن ! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه، كم من مريد للخير لم يصبه، كم من مريد للخير لم يصبه.
قال الإمام مالك : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ومعلوم أن أولها -وهم الصحابة- إنما صلحوا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، والعمل وفقاً لسنته، مع حذرهم من البدع، ولا يمكن لغيرهم أن يصلح إلا بسلوك هذا المسلك الذي سلكوه، والمنهج القويم الذي طرقوه.
والرواية الثانية أعم من الأولى وأشمل؛ لأن الأولى مختصة بالإحداث، وأما الثانية فهي تتعلق بالعمل، وهي أعم من أن يكون الإنسان محدثاً للعمل أو متابعاً لغيره فيه ومسبوقاً إليه، فقوله (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني سواء كان هو الذي أحدثه، أو أنه مسبوق إلى إحداثه ولكنه تابع من أحدثه قبله.
ومما يوضح هذا قصة العسيف الذي جاء أبوه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ومعه خصمه الذي هو زوج المرأة، وقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: كان أجيراً عنده- فزنى بامرأته، وهذا يبين أن الشر يحصل بسبب المخالطة والاحتكاك من بعض الناس لبعض، فإن هذا العامل لاتصاله بالمرأة جرى الكلام معها، ووقع الشيطان بينهما حتى زنى بها، فقوله: (إن ابني كان عسيفاً) يعني أنه ما تسلق الجدران، وليس غريباً على البيت، وإنما زنى بها بسبب هذا الاختلاط وهذا الاحتكاك.
قال: وإنني أخبرت أن على ابني الرجم. يعني: أخبره بعض من لا علم عنده بأن ابنك سيقتل وسيرجم، قال: فذهبت إليه واصطلحت معه على مائة شاة ووليدة، يعني: أعطيه هذا حتى يسامح ابني، ولا يحصل الرجم، ولما جاء هذان الاثنان قال الزوج: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأقضين بينكما بكتاب الله)، فقال والد العسيف: (يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي) يعني: ائذن لي في الحديث، وهذا فيه أدب، وحسن مخاطبة، ثم قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا، وإنني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديته بمائة شاة ووليدة، وإنني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني الجلد وتغريب سنة، وأن على زوجة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الوليدة والغنم رد عليك)، وهذا هو محل الشاهد، يعني مما يطابق الحديث الذي معنا أن العقود إذا كانت مبنية على أمر محرم وعلى مخالفة الشرع فإنها تنقض وترد، ولا تعتبر، وأن الصلح إذا كان مبنياً على أمر مبتدع محرم فإنه لا يجوز الوفاء به، بل يتعين إبطاله وإلغاؤه، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل هذا الصلح الذي جرى بينهما وقال: (الوليدة والغنم رد عليك) أي: مردودة عليك، وهذا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فإن هذا عمل من الأعمال المخالفة لما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم، وذلك الحكم أو ذلك الاتفاق يكون باطلاً ويكون لاغياً ولا عبرة به ولا قيمة له.
قوله: (الوليدة والغنم رد عليك) دليل على أن العقود إذا أبرمت وكانت مخالفة للسنة فإنها تلغى وتبطل، ويرجع إلى اتباع السنة، وإلى اتباع ما جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، أي: أنه لا يحصل الإنسان ثمرات العقد إذا كان مبنياً على باطل، بل يلغى ذلك العقد، ويرجع الأمر إلى الحكم الذي جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن على ابنه جلد مائة وتغريب عام، وأن امرأة هذا عليها الرجم ثم قال: (واغد يا
ومحل الشاهد منه: أن الصلح الذي وقع بين والد العسيف وبين زوج المرأة لاغ وباطل، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الشرعي وهو الرجم على المحصنة، والجلد مائة جلدة، والتغريب لمدة سنة على من كان بكراً ولم يكن محصناً.
ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يدل بمنطوقه على أن كل ما أحدث مما هو خلاف الشرع فإنه مردود على صاحبه، ويدل بمفهومه على أن كل ما وقع مطابق للشرع فإنه معتبر يتعين العمل به.
ووصفه لها بأنها أم المؤمنين هذا الوصف ثابت لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى ذكر ذلك في كتابه فقال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، وهن رضي الله عنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، ويكن معه في الجنة رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن.
ويطلق عليهن أمهات المؤمنين؛ لأنهن يحرمن على كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة رضي الله عنهن وأرضاهن.
الحديث الخامس عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري و مسلم ، وفي رواية لـمسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
1- هذا الحديث أصل في وزن الأعمال الظاهرة، وأنه لا يعتد بها إلا إذا كانت موافقة للشرع، كما أن حديث (إنما الأعمال بالنيات) أصل في الأعمال الباطنة، وأن كل عمل يتقرب فيه إلى الله لا بد أن يكون خالصاً لله، وأن يكون معتبراً بنيته.
2- إذا فعلت العبادات كالوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة، وغير ذلك على خلاف الشرع فإنها تكون مردودة على صاحبها غير معتبرة، وأن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه ولا يملك، ويدل لذلك قصة العسيف الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: (الوليدة والغنم رد عليك).
3- ويدل الحديث على أن من ابتدع بدعة ليس لها أصل في الشرع فهي مردودة، وصاحبها مستحق للوعيد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: (من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة أجمعين).
ولا يقال عمله مردود فقط، بل هو مع ذلك آثم؛ لأنه أحدث في دين الله ما ليس منه.
4- الرواية الثانية التي عند مسلم أعم من الرواية التي في الصحيحين، لأنها تشمل من عمل البدعة سواء كان هو المحدث لها أو كان مسبوقاً إلى إحداثها وتابعاً لمن أحدثها.
5- معنى قوله في الحديث (رد) أي: مردود عليه، وهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول مثل: خلق بمعنى مخلوق، ونسخ بمعنى منسوخ، والمعنى: أنه مردود باطل غير معتد به.
6- لا يدخل تحت الحديث ما كان من المصالح في حفظ الدين، أو موصلاً إلى فهمه ومعرفته، كجمع القرآن في المصاحف، وتدوين علوم اللغة والنحو، وغير ذلك.
فمثلاً: جمع القرآن في مصحف واحد عمله عثمان ، بعد زمنه صلى الله عليه وسلم ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم، ولكنه من الأمور التي لا بد منها؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] وهذا من حفظ القرآن، فلا يقال إنه من البدع غير الجائزة، حيث لم يكن موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه احتيج إليه حتى لا يضيع القرآن، وحتى لا يذهب بذهاب حملته؛ ولهذا اعتبر جمع عثمان هذا من مناقبه وفضائله رضي الله عنه، لأنه حفظ على هذه الأمة القرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بجمعه في هذا المصحف، وفي ذلك تنفيذ وتطبيق وتحقيق لقوله الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] وبعض الناس يأتي بالبدعة ثم يستدل عليها بجمع القرآن!
والجواب: أن هذا إضافة في الدين مما ليس منه، فهو بدعة، وأما جمع القرآن فهو تنفيذ لما جاء في القرآن من حفظ الكتاب.
وكذلك تدوين العلوم التي فيها إعانة وتسهيل للوصول إلى معرفة الكتاب والسنة مثل علم اللغة وعلم النحو لا يقال: هذه من محدثات الأمور، بل هذه من الأمور التي توصل إلى غايات، وفيها تسهيل الوصول إلى معرفة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الكتاب والسنة جاءا بلغة العرب، ففي جمع اللغة وتدوينها تسهيل لمعرفتها، وكذلك علم النحو يدون حتى يعرف نظم الكلام ومعناه، فالمرفوع يرفع، والمكسور يكسر، والمفتوح يفتح، وهذا لا يعرف إلا عن طريق علم النحو.
قبل تدوين علم النحو كان الناس على السليقة يتكلمون على ما جبلوا عليه، لكن بعد ذلك حصل تغير الألسنة، وصار الناس بحاجة إلى أن يدون علم النحو، فلا يقال إن هذا من البدع التي لا تجوز، أو لا يقال إن البدع التي تحدث في الدين هي من جنس إحداث علم النحو وإحداث علم اللغة وما إلى ذلك، فإن هذا شيء وهذا شيء، فلا يقاس هذا على هذا، ولا يمنع هذا من أجل هذا.
7- الحديث يدل بإطلاقه على رد كل عمل مخالف للشرع ولو كان قصد صاحبه حسناً، ويدل له قصة الصحابي الذي ذبح أضحيته قبل صلاة العيد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم).
وكذلك أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي أشرت إليه، فإنه واضح أن المعتبر هو ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن العمل إذا وقع على خلاف الشرع فإنه لا يسوغ.
8- هذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمعنى: أن من كان عمله جارياً تحت أحكام الشرع موافقاً لها فهو مقبول، ومن كان خارجاً عن ذلك فهو مردود.
1- تحريم الابتداع في الدين.
2- أن العمل المبني على بدعة مردود على صاحبه.
3- أن النهي يقتضي الفساد، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإحداث مردود، ومعنى ذلك أنه إذا وجد شيء مبني على ذلك فإن العقد يكون فاسداً إذا كان من قبيل العقود، وإن كان من قبيل الأعمال كالغسل من الجنابة، والصلاة وغير ذلك فإنه يكون فاسداً، ويكون لاغياً وباطلاً.
4- أن العمل الصالح إذا أتي به على غير الوجه المشروع كالتنفل في وقت النهي بغير سبب، وصيام يوم العيد ونحو ذلك فإنه باطل لا يعتد به.
فهناك أعمال هي في أصلها مشروعة مثل صلاة النافلة، لكن كون الإنسان يأتي به في وقت النهي وهو ليس من ذوات الأسباب، فهذا التنفل يعتبر مردوداً؛ لأنه مخالف لما جاءت به السنة، لأن السنة جاءت بالنهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس.
ومن جنس ذلك: قصة ابن مسعود المتقدمة، فإن كون كل رجل يذكر الله عز وجل مشروع، لكن كونه يؤتى به على هذه الطريقة الجماعية وبعد الحصى، وكون واحد منهم يقول: سبحوا مائة. فيعدون سبحان الله، سبحان الله... فهذه الهيئة وهذه الكيفية مبتدعة.
أما كون الإنسان يسبح ويكثر من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، ويكون لسانه رطباً من ذكر الله عز وجل؛ فهذا مشروع، ولكن إذا أتى به على وجه مخالف للشرع صار العمل بدعة، وإن كان في أصله جائزاً.
5- أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: (ليس عليه أمرنا)، فإذا حكم الحاكم بشيء، والمحكوم له يعلم بأنه ليس محقاً في الشيء الذي حكم له به، بأن يكون مبنياً مثلاً على شهادة الزور، لم يجز له أن يأخذه، ولا أن يقول: ما دام قد حكم الحاكم فهذا المال يكون حلالاً لي، فنقول: ليس حلالاً لك، بل هو حرام وإن حكم به الحاكم، لأن الحاكم لا يعلم الغيب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار فليأخذها أو ليدعها) ومعنى ذلك أن حكم الحاكم لا يحل ما كان حراماً، وإذا حكم بشيء على وجه يعلم المحكوم له بأنه مبطل، وأنه ليس محقاً في ذلك، فإن ذلك الحكم لا يغير شيئاً، ولا يفيد الإنسان، وليس عذراً للإنسان في أكل الحرام.
6- أن الصلح الفاسد باطل، والمأخوذ عليه مسترد. ويوضح ذلك قصة العسيف التي ذكرناها.
فقال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) خرجه مسلم .
وهذه المسألة اجتهادية، وقد تكون المصلحة في جمع الثلث في بيت من البيوت الثلاثة، وقد تكون في غير ذلك، وذلك بأن يفرق على البيوت الثلاثة، فهذا يرجع فيه إلى القاضي وإلى الحاكم، فإذا رأى المصلحة في الجمع فإنه يجمعها بحيث إن الثلث يكون في بيت، والورثة يكون لهم بيتان يشتركون فيهما، أو يتصرفون فيهما بالبيع واقتسام الثمن، وذلك إذا كان البيت لا يقبل القسمة فيما بينهم بسبب ضيقه، وليس كل بيت يمكن أن يقسم بينهم للسكن، ويمكن أن يكون بعضهم محتاجاً إلى السكنى وبعضهم غير محتاج، لكنه يحتاج إلى أن يأخذ الإيجار، فهذا يرجع فيه إلى القاضي.
الجواب: البدعة الحقيقية مستقلة، وليست مرتبطة بشيء، ولا مضافة إلى شيء.
وأما البدعة الإضافية فهي مضافة إلى شيء مشروع، وليست مستقلة كالبدعة الحقيقية.
وكذلك البدعة تنقسم إلى مفسقة وإلى مكفرة، هناك بدعة تصل إلى حد الكفر، فيكون هذا المبتدع كافراً فلا يصلى وراءه، وإذا كانت البدعة مفسقة، فإن صاحبها لا يكون كافراً، بل هو مسلم عنده فسق، وهذا إذا صلى إماماً صحت صلاته، وصحت إمامته، لكن لا ينبغي أن يكون إماماً، وإنما يولى الإمامة من يكون سليماً من البدع، لكن لو حصل أن فاسقاً تقدم وصلى، أو كان مبتدعاً بدعة مفسقة وليست مكفرة؛ فالصلاة وراءه صحيحة، ولا يقال باطلة؛ لأنه تصح صلاته، ومن صحت صلاته صحت إمامته، وأما الذي بدعته مكفرة فصلاته غير صحيحة، وصلاة من وراءه لا تكون صحيحة.
الجواب: أضرار البدع على الأفراد والجماعات كثيرة؛ لأن فيها خروجاً عن الكتاب والسنة، واتهاماً للشريعة بالقصور، واتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بعدم التبليغ كما قال مالك : من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة. يعني: أنه ما بلغ شيئاً يحتاج الناس إليه، بل الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم إلا وقد أكمل الله تعالى له الدين، وأتم به النعمة، وأتم عليه النعمة، وبلغ الناس كل ما يحتاجون إليه.
وصف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشريعة بتمامها وكمالها فقال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وأعطانا منه علماً.
وقال أحد أهل الكتاب لبعض الصحابة: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: نعم، أمرنا إذا ذهبنا لقضاء الحاجة ألا نستنجي برجيع ولا عظم، وأن نستنجي بثلاثة أحجار.
فإذا كانت شريعة الله عز وجل أتت على كل شيء حتى آداب قضاء الحاجة، ولم تترك ما يحتاج الناس إليه، فكيف تترك الناس في باب الأصول وفي باب العقيدة بغير إيضاح وبيان؟! لا شك أن الشريعة في غاية الكمال وفي غاية التمام.
أيضاً: من آثار البدع أن الناس يتعبدون الله بشيء لا يحصلون من ورائه ثمرة؛ لأن العمل يكون مردوداً لاغياً، فعمله يعتبر تضييعاً للوقت في غير فائدة بل في مضرة، كما عرفنا أن الإنسان الذي يأتي بالبدعة لا يكون الأمر مقصوراً على أنه قد ألغي عمله وبطل عمله؛ بل حصل إثماً بالإضافة إلى كونه لم يحصل فائدة، فكل هذه من الآثار التي تترتب على البدع.
أيضاً: من الآثار هجران السنن، والغفلة عنها؛ لأن من الناس من يحرص على البدع ويتهاون بالسنن.
الجواب: التعامل مع المبتدع أن يجانب ويحذر، ولا يصار إلى مخالطته إلا لضرورة ولحاجة تلجئ إلى ذلك، فلا يتهاون بشأنه بحيث يكون التعامل معه كما يتعامل مع الناس الذين فيهم سلامة؛ بل المطلوب هو البعد عنه والحذر منه، ولكن إذا حصل أمر يقتضي الاتصال به فإنه يتصل به، ولكن مع الاتصال ينبغي أن يحرص على البيان والتوضيح، ويحرص على دعوته إلى السنة، ويبين أن البدع المحدثة لا تعود على أصحابها بالخير، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين ظفروا بسلوك الصراط المستقيم، وأن من يسلك غير مسالكهم يكون منحرفاً عن الجادة، ولا يمكن أن يحجب عن الصحابة حق ويدخر لمن بعدهم، ويبين أن العقائد الباطلة حدثت بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيبين له مثل هذا البيان لعل الله تعالى أن يهديه.
وأما إذا كان من أهل السنة، وحصلت منه أمور أخطأ فيها، فإنه لا تنفض اليد منه، ولا يحمل عليه، ولا يشن عليه، وإنما ينصح، ويحرص على هدايته ورجوعه إلى الصواب، ويبين له الحق إذا كان الحق واضحاً جلياً، ويجب عليه حينئذٍ أن يرجع، وإما إذا كان الذي اعترض عليه فيه محل نظر ومحل إشكال فينبغي أن يرجع إلى جهة علمية تفصل بين المتنازعين في ذلك.
الجواب: من ابتدع بدعة وتاب منها، فالتوبة تجب ما قبلها ومن تاب تاب الله عليه.
ثم إن الإنسان إذا أضاف إلى آخر بدعة سواء كان بدعة مسلماً بها أو غير مسلم بها، فإذا رد عليه وبين فقد أدى ما عليه، ولا يجوز أن يشغل الوقت كله بمتابعته، وبامتحان الناس به، وأن من لم يبدعه يعتبر مبتدعاً، ثم يتهاجر الناس، وتعم الفتنة كل مكان بسبب هذا الامتحان في موقف الإنسان من فلان الفلاني الذي اعترض عليه فلان الفلاني بكذا وكذا، فمثل هذا لا يجوز، وليست هذه طريقة السلف، والله عز وجل يقول: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22]، والإنسان ليس عليه إلا البلاغ، ولا ينبغي أن يشغل وقته في متابعة من يرد عليه، ثم يذهب الوقت كله في ردود واعتراضات وسباب، ثم ينقسم الناس إلى مجموعتين، مجموعة تؤيد هذا، والمجموعة الأخرى تؤيد هذا، ومن لا يبدع هذا يهجر، فتنتقل هذه العدوى إلى مختلف الأماكن وإلى مختلف البلاد.
ومثل هذا العمل كله من الجهل، ومن المعلوم أن أهل السنة ليس هذا عملهم، ومن أقرب من أدركناه وشاهدناه من أهل السنة الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليهما، فإن شأنهم أنهم يبينون الحق، ويشتغلون بالعلم، ولا يكون شغلهم الشاغل متابعة الشخص الذي ردوا عليه.
الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رد على مبتدع كان يقرر مذهب الأشاعرة، وكان من جملة كلامه: فلان هداه الله، ثم اشتغل بالعلم وإفادة الناس، وما كان شغله الشاغل أنه يتابع هذا الشخص الذي رد عليه.
ثم الأدهى والأمر من ذلك أن يأتي بعض الناس يؤيدون هذا، وبعض الناس يؤيدون هذا، ثم إذا لم يكن للإنسان موقف من هذا الشخص فإنه يبدع ويهجر! ولا شك أن هذا من عمل الشيطان، وهذا الأمر من الفتن الذي شغلت أهل السنة بعضهم ببعض، وشغلتهم عن الاشتغال بغيرهم ممن ينبغي أن يشتغل ببيان بدعهم والتحذير منهم ومن طرقهم ومناهجهم التي هي مخالفة للحق والهدى.
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام جميل في مجموع الفتاوى يتعلق بـ يزيد بن معاوية قال فيه: إن جماعة يمدحون يزيد بن معاوية ، وجماعة يذمونه، والصواب الذي عليه الأئمة أنه لا يخص بمحبة، ولا يلعن، وإن كان ظالماً فاسقاً، وقد يكون له أعمال يغفر الله له بسببها، وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له)، وأول جيش غزاها كان أميره يزيد بن معاوية ، وكان معه أبو أيوب الأنصاري . ثم قال: والصواب أنه لا يجوز أن يمتحن الناس به؛ فإن هذا من أعمال أهل البدع.
الجواب: البدع هي أمور محدثة في الدين، وأما المصالح المرسلة فهي وسائل تؤدي إلى حفظ شيء من الدين أو إلى معرفة شيء من الدين كجمع القرآن وغيره من العلوم.
ومثال البدعة أن يسبح بالطريقة الجماعية التي أنكرها ابن مسعود ، فمثل هذه الأعمال من الأمور المبتدعة، وكذلك كون الإنسان يصلي صلاة معينة على وجه معين في وقت معين، فهذه بدعة في الدين، وإضافة إلى الدين.
وأما المصالح المرسلة مثل جمع القرآن فهذا من أجل مناقب عثمان رضي الله عنه، وهو تنفيذ لقول الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فهو لم يخرج عن السنة، بل فيه حفظ للكتاب الذي هو وحي الله عز وجل إلى رسوله.
وكذلك الأمور التي توصل إلى فوائد وإلى مصالح مثل جمع الدواوين، فإن عمر رضي الله عنه كتب أسماء الجند في دواوين، وكتب أعطياتهم، حتى يتميز منهم الذين يغزون، والذين يحتاج إليهم في الغزو، فمثل هذا لا بأس به؛ لأن هذا يؤدي إلى معرفة الناس، ومن يحتاج إليهم عند الغزو، ومعرفة من يعطى ومن لا يعطى، ومن وصلت إليهم أعطياتهم ومن لم تصل، وبيان أن هذا له كذا، وهذا له كذا، وهذا التدوين وكتابة أسماء الجند لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولكنه فعله عمر رضي الله عنه، ونحن مأمورون باتباع سنته حيث قال عليه الصلاة والسلام (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ).
وكذلك تدوين علم النحو وعلم اللغة هو وسيلة إلى فهم القرآن وإلى فهم السنة، فليس إحداثاً في دين الله، وليس إحداث عبادة لله عز وجل لم يأذن بها الله، وإنما هو إحداث شيء فيه خدمة للدين، وهو مهم، وفيه تسهيل فهم الكتاب والسنة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر