قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قيام الساعة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان أن عبد الله بن عمر قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد) قال ابن عمر : فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون عن هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض) يريد أن ينخرم ذلك القرن ].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة وهي: [ باب قيام الساعة، وهي نهاية الدنيا التي يحصل فيها النفخ في الصور؛ النفخة الأولى فيموت من كان حياً، فيستوي في الموت من كان مات في أول الزمان، ومن مات في نهاية الزمان، ويكون الإنس والجن قد انتهوا وماتوا، ثم يحصل البعث في النفخة الثانية، ويبعث الأموات الأولون والآخرون .. من مات في أول الدنيا، ومن مات في نهاية الدنيا، ومن مات قبل قيام الساعة فقد قامت قيامته وساعته، وانتهى من هذه الحياة الدنيا، ودخل في الحياة الآخرة أو الدار الآخرة، وقبل قيام الناس من قبورهم، الناس في حياة برزخية ولكنها تعتبر تابعة للدار الآخرة؛ لأن أحكامها من جنس أحكام الآخرة وليس من جنس أحكام الدنيا؛ لأن ما قبل الموت دار عمل، وما بعد الموت دار جزاء، سواء كان في القبر أو بعد الحشر وبعد البعث والنشور، ومن كان موفقاً فهو منعم في قبره ومن كان بخلاف ذلك فإنه معذب في قبره، والحد الفاصل هو الموت، وكل من مات قامت قيامته، والساعة متى تقوم لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل في الحديث المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (.. قال: أخبرني عن الساعة؟! قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل..)، يعني: علم جبريل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سواء، فكلهم لا يعلمون متى تقوم، الله تعالى هو الذي يعلم متى تقوم، فلا يُعلم متى تقوم في أي سنة وفي أي يوم من أي شهر، ولكن بلا شك هي لا تقوم يوم السبت ولا الأحد ولا الإثنين ولا الثلاثاء ولا الأربعاء ولا الخميس، وإنما تقوم يوم الجمعة بالتحديد، لأنه ثبت بذلك الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن أي جمعة من أي شهر من أي سنة لا يعلم بذلك إلا الله سبحانه وتعالى، والنبي عليه الصلاة والسلام كان عندما يسأل إما أن يجيب بالجواب الذي أجاب به جبريل: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وإما أن يشير إلى شيء من أماراتها وعلاماتها، وإما أن يصرف نظر السائل إلى ما هو أهم من ذلك، فقد ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالساً في حلقة يحدث أصحابه، فجاء رجل ووقف على تلك الحلقة وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، واشتغل مع الناس الذين كان يحدثهم، ولما فرغ من تحديثه لهم قال: (أين السائل عن الساعة؟! فقام الرجل وقال: أنا يا رسول الله! فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وما إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
فأرشد إلى شيء من علاماتها وأماراتها، ولما سأله رجل فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ لفت نظره إلى الأمر المهم، وهو الاستعداد لما بعد قيام الساعة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (وماذا أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب)، وعند ذلك قال أنس بن مالك وهو راوي الحديث: فما فرحنا بشيء فرحنا بهذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرء مع من أحب)، ثم قال أنس: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر ، وأرجو من الله أن يلحقني بهم لحبي إياهم وإن لم أعمل مثل أعمالهم، فعندما سأله أرشده إلى ما هو أهم، والساعة آتية وكل آت قريب، وليس المهم أن يعرف متى تقوم الساعة، ولكن المهم أن يعرف الإنسان ماذا قدم لنفسه إذا قامت الساعة، فهذا هو الأمر المهم؛ لأنه يحصل بذلك الثواب، وقد جاء عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كما جاء في صحيح البخاري ، قال: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
كل يوم يمضي من عمر الإنسان يقربه من النهاية، ويقربه من الأجل، ويقربه من الموت، وبعد الموت لا يجد الإنسان إلا ما قدم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
الحاصل أن الساعة تقوم على شرار الناس، وينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حياً، ثم ينفخ النفخة الثانية فيبعث الجميع؛ الذين كانوا ماتوا في أول الدنيا، والذين ماتوا عند النفخة في الصور، ويتساوى الجميع، ومن مات قبل ذلك فقد قامت قيامته وساعته، وعندما تقوم الساعة تقوم على الذين كانوا أحياء فيموتون، وأما من مات فإنه قد انتهى، فيستوي الجميع في الموت، ثم ينفخ في الصور النفخة الثانية فيبعث الأولون والآخرون من قبورهم، وأول من ينشق عنه القبر نبينا محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، كما جاء في صحيح مسلم ، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس العشاء الآخرة، فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد).
قوله: [ (فإن على رأس مائة سنة منها) ] أي: إذا مضى مائة سنة من هذه الليلة لا يبقى على ظهر الأرض أحد ممن كان حياً.
قوله: [ (لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد) ].
يعني: من كان في تلك الليلة موجوداً، لن تمر مائة سنة إلا وقد انتهى، فعند ذلك وهل الناس فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن من ظن أن الساعة تقوم وأن الدنيا تنتهي، وقد بين ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد انخرام ذلك القرن، وليس المقصود من ذلك انتهاء الدنيا، وأن الساعة تقوم والدنيا تنتهي، وإنما المقصود من ذلك أن من كان موجوداً يموت، وهذا يدل على قصر أعمار هذه الأمة؛ فكل من كان على ظهر الأرض في تلك الليلة -وكانت قبل وفاته بقليل- التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا مضى عليهم مائة سنة لا بد وأن ينتهوا، وأما الذين يولدون بعد ذلك اليوم فلا يدخلون في الحديث، لأنه قال: ممن كان في تلك الليلة، ومن يولد بعدها قد ينتهي قبل مائة سنة، وقد يعمر فيتجاوز تلك المائة التي بدايتها تلك الليلة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الكلام، وأبو داود أورده هنا لأنه له تعلق بقيام الساعة، وهو على حسب ما ظنه من ظن أن الساعة تقوم بعد نهاية مائة سنة، والذي فهمه ابن عمر وغيره أن المقصود بذلك انخرام العصر، ولكنها في الحقيقة كل من مات فقد قامت قيامته وساعته.
قوله: [ أن عبد الله بن عمر قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد).
قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون عن هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض )، يريد أن ينخرم ذلك القرن ].
وهذا تفسير ابن عمر رضي الله عنه، وأن المقصود بذلك انخرام ذلك القرن، وليس المقصود من ذلك نهاية الدنيا، ويستثنى من ذلك عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فإنه حي ولكنه في السماء، ويستثنى من ذلك الدجال فإنه في جزيرة من الجزر كما مر في حديث الجساسة، وهو حديث ثابت في صحيح مسلم وغيره، وهو في تلك الجزيرة موثق بالحديد، فإذا أذن الله له بالخروج فإنه يخرج، فمسيح الهداية في السماء وسينزل في آخر الزمان، ومسيح الضلالة في الأرض، وستكون نهاية مسيح الضلالة على يدي مسيح الهداية عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
فاللفظ ذكر ممن هو على ظهر الأرض، ومعلوم أن الجن يكونون على ظهر الأرض، فيبدو والله أعلم أن الجن والإنس يكونون كذلك.
لكن فيما يتعلق بالجن فإن الشيطان الذي هو إبليس ما زال معمراً يغوي الناس، وبقاؤه مستمر، وقد آلى على نفسه أن يغوي الناس، لكن فيما يتعلق بالإنس والجن يبدو والله تعالى أعلم أن قوله: (من هو على ظهر الأرض) يشمل الإنس والجن، لأنهم جميعاً مسكنهم الأرض.
قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة.
[ حدثنا عبد الرزاق ].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا معمر ].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ قال: أخبرني سالم بن عبد الله ].
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ورضي الله عن عبد الله بن عمر ، وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وأبو بكر بن سليمان ].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[ أن عبد الله بن عمر قال ].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن سهل حدثنا حجاج بن إبراهيم حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم) ].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم)، ونصف اليوم هو خمسمائة سنة، قال تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، فنصفها خمسمائة سنة، فمن العلماء من قال: إن المقصود من ذلك أنه يؤخرها إلى خمسمائة سنة، ولذلك أورده أبو داود هذا الحديث في باب قيام الساعة، ومعناه: أن الساعة قد تقوم بعد خمسمائة سنة، ومن العلماء من قال: إن معناه يتعلق بالفقراء الذين لن يحاسبوا ويدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام والتي هي نصف يوم، فهو لن يعجز الله.
قوله: [ (لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم) ].
المقصود بذلك: أن يؤخر الأغنياء عن دخول الجنة، وأن يمهلهم للحساب، ويدل عليه ما جاء في الحديث الذي فيه أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، فهو يبين معنى هذا الحديث، وأنه ليس المقصود بأن الدنيا تنتهي بعد خمسمائة سنة، لأنه مضى على هذا الحديث ألف وأربعمائة وزيادة، يعني: خمسمائة وخمسمائة والخمسمائة الثالثة هي الآن في خمسها الأخير، فإذاً: الذي يبدو أنه كما قال بعض أهل العلم: إن المقصود من ذلك تأخير الأغنياء في الحساب، فيتأخرون عن الفقراء الذين لا حساب عليهم، ويسبقونهم في دخول الجنة بهذه المدة التي هي خمسمائة سنة أو نصف يوم.
قوله: [ حدثنا موسى بن سهل ].
موسى بن سهل ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ حدثنا حجاج بن إبراهيم ].
حجاج بن إبراهيم ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[ حدثنا ابن وهب ].
هو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثني معاوية بن صالح ].
هو معاوية بن صالح بن حدير ، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن عبد الرحمن بن جبير ].
عبد الرحمن بن جبير بن نفير، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن أبيه ].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن أبي ثعلبة الخشني ].
هو أبو ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة حدثني صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لـ
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص ، وهو بمعنى ذلك الحديث المتقدم، وقد قال فيه: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم).
يعني: الأغنياء منهم يؤخرهم في الحساب نصف يوم، وهو خمسمائة سنة، أي: أن الأغنياء يتأخر دخولهم عن الفقراء بنصف يوم؛ لأن هؤلاء الفقراء يدخلون قبلهم لأنه لا حساب عليهم، وأما الأغنياء فإنهم يحاسبون على أموالهم ما دخل وما خرج منها.
قوله: [ حدثنا عمرو بن عثمان ].
هو عمرو بن عثمان الحمصي ، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ حدثنا أبو المغيرة ]
هو عبد القدوس بن حجاج ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثني صفوان ].
هو صفوان بن عمرو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن شريح بن عبيد ].
شريح بن عبيد ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن سعد بن أبي وقاص ].
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الصحابي الجليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
السؤال: هل هذه الأوصاف التي في حديث أيام الصبر تنطبق الآن علينا، فندع العوام وننظر لأنفسنا؟!
الجواب: لا، ليس للإنسان أن يدع الأمر والنهي؛ لأن الأمر والنهي يفيد وإن كثرت الفتن، وإن كانت هذه الصفات موجودة في كثير من الناس، لكن الحديث كما عرفنا ضعيف.
السؤال: كيف يكون للصابر أجر خمسين منهم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
الجواب: لأن العمل الذي يحصلونه بسبب صبرهم أجره عظيم، ولكنه بمجموعه وبكل ما حصل فيه لا يمكن أن يساوي أجر الصحبة، ويماثله؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كل فرد منهم أفضل من كل فرد يجيء من بعدهم، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، ولا يعرف خلافه إلا عن أبي عمر بن عبد البر، فإنه قال: يجوز أن يجيء أحد بعد الصحابة أفضل من بعض الصحابة، ولكن هذا خلاف ما عليه العلماء قاطبة، من أن فضل الصحبة لا يعادله شيء، والقليل الذي يحصل من الصحابة لأنه في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي الدفاع عنه، وفي الذب عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه خير من الكثير من غيرهم.
وقوله في الحديث (أجر خمسين منكم) قال في فتح الودود: هذا في الأعمال التي يشق فعلها في تلك الأيام، لا مطلقاً.
ومعناه: أنه ليس كل عمل يعملونه أنه ينطبق عليه هذا، وإنما هو في الأمور التي يشق فعلها، والتي يكون فيها وصفه أنه كالقابض على الجمر.
قال في عون المعبود: وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : ليس هذا على إطلاقه، بل هو مبني على قاعدتين إحداهما: أن الأعمال تشرف بثمراتها، والثاني: أن الغريب في آخر الإسلام كالغريب في أوله وبالعكس، لقوله عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء من أمتي)، يريد المنفردين عن أهل زمانهم، إذا تقرر ذلك فنقول: الإنفاق في أول الإسلام أفضل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـخالد بن الوليد رضي الله عنه: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أي: مد الحنطة، والسبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين؛ لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل، ولأن بذل النفس مع النصرة ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فجعله أفضل الجهاد ليأسه من حياته، وأما النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين، وإظهار شعائر الإسلام فإن ذلك شاق على المتأخرين؛ لعدم المعين، وكثرة المنكر فيهم، كالمنكر على السلطان الجائر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر)، لا يستطيع دوام ذلك لمزيد المشقة، فكذلك المتأخر في حفظ دينه، وأما المتقدمون فليسو كذلك؛ لكثرة المعين، وعدم المنكر، فعلى هذا ينزل الحديث. انتهى.
وعلى كل فلا شك أن الغربة هي غربة في الأول وغربة في الآخر، لكن لا شك أن الغربة الأولى الذين فيها هم خير الناس وأفضلهم، وجهادهم إنما هو مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وعندهم شيء غير الجهاد، وهو تحمل الكتاب والسنة، وكونهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم من الأجور والفضائل ما يتفوقون به على غيرهم، ولا يمكن أن يدانيهم أحد بعدهم ولو فعل ما فعل، كما حصل في قصة خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف ، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ومعنى ذلك: أن الكثير من المتأخرين من الصحابة لا يعادل القليل من عمل المتقدمين، وكذلك الذين يجيئون فيما بعد وإن كان أجرهم عظيماً، إلا أنه بمجموعه لا يعدل الشيء القليل من الذي حصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندهم زيادة على العمل الذي يعملون ويعمله غيرهم، وهو أنهم هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل صحابي يروي سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام له كل أجور من عمل بها من حين تكلم بها ذلك الصحابي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويدخل في ذلك هؤلاء الذين حصل لهم ما حصل، وأنهم يقبضون على دينهم كالقابض على الجمر.
السؤال: ما معنى قول ابن عمر (يريد أن ينخرم ذلك القرن)؟
الجواب: (انخرم) يعني: انتهى وانقضى ذلك القرن أو ذلك الجيل، أو تلك الفئة من الناس الذين كانوا موجودين على قيد الحياة، سواء من كان منهم في أول عمره أو من كان في نهاية عمره، لأن من كان في نهاية عمره يموت في أول تلك المائة، ومن كان في بداية عمره وشاء الله تعالى أن يعمر وأن يصل إلى مائة سنة، فإنه لابد وأن ينتهي قبل المائة السنة، ومن كان قبل ذلك وعمر فإنه ينقضي ولو كان بلغ عمره مائة وعشرين أو مائة وثلاثين أو أكثر من ذلك، المهم أن من كان على قيد الحياة سواء كان كبيراً أو صغيراً لن يأتي مائة سنة من تلك الليلة إلا وقد فنيوا جميعاً.
السؤال: هل يستثنى الخضر من الحديث الدال على انتهاء الجيل على رأس المائة السنة؟
الجواب: الخضر ليس مستثنى؛ لأنه ما جاء شيء يدل على حياته وبقائه، فما من دليل ثابت يدل على أنه حي وموجود، وإن كان قاله جماعة كثيرة من العلماء، وإنما الأدلة تدل على أنه قد مات، ومنها قول الله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، فإن هذه الآية عامة ولا يستثنى منها إلا إذا جاء دليل يدل على بقائه ووجوده كما تقدم في مسيح الهداية ومسيح الضلالة، ومنها هذا الحديث الذي معنا، فإن هذا يدل على أن من كان موجوداً في تلك الليلة لن تأتي عليه مائة سنة إلا وقد مات، فلو كان الخضر موجوداً فإنه سينتهي خلال هذه المدة، ولم يأت دليل يدل على استثنائه، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بدر، وكان سأل الله عز وجل ورفع يديه وألح على الله تعالى في الدعاء حتى سقط رداؤه وكان من دعائه قوله: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، ولو هلكت العصابة الموجودة، فإن الخضر موجود يعبد الله في الأرض إذا كان ما مات، وإذا كان على قيد الحياة.
ثم أيضاً: لو كان الخضر موجوداً والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله للناس كافة -وهو كما يقول الناس: إنه يصول ويجول في الدنيا- ألا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتشرف بصحبته ورؤيته ولقائه والجهاد معه، والذب عنه؟!
كيف يكون حياً ثم لا يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويجاهد معه وهو ذو بأس، كما يظنه من يظنه من الصوفية والذين لهم فيه أحاديث، وكلام كثير حول وجوده؟!
كيف يكون موجوداًولا يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)؟ فإذا كان الخضر حياً كيف لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتي إليه يتبعه؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى إنه إذا نزل سيحكم بشريعته.
فالقول الصحيح أنه غير موجود، وأنه قد مات، لما ذكرته من الأدلة التي ذكرها العلماء والدالة على موته وعدم حياته وبقائه.
وقد جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي يقتله الدجال ويقسمه قطعتين، ثم يعود، ذكر أحد الرواة أنه الخضر، وهذا في صحيح مسلم، وهو من زيادات الراوي عن الإمام مسلم ، وابن حجر رحمه الله ألف كتاباً سماه: الروض النضر في نبأ الخضر، وذكر أقوال الناس الذين قالوا بحياته ووفاته، والذين قالوا بنبوته أو عدم نبوته، وهو مطبوع ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، وكذلك ذكره أيضاً في الإصابة، ولكنه ألف فيه تلك الرسالة الخاصة المطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، والقول الصحيح: أنه نبي وليس بولي فقط، ودعوى ولايته عول عليها كثير من الناس، حتى جعلوا للأولياء منازل وصفات كلها بناءً على أن الخضر ولي، ومعلوم أن الولي يأخذ من النبي ويتلقى منه، ومعلوماته إنما تأتي من النبي، وليس عنده معلومات من دون أن تأتي من النبي، بل الحق والهدى ما جاء عن الأنبياء، والأولياء هم تابعون للأنبياء، والقول الصحيح أنه نبي وليس بولي، وقصته في سورة الكهف تدل على أنه نبي، وقد ثبت أنه قال لموسى: (أنت على علم من الله لا أعلمه وأنا على علم من الله لا تعلمه) وقال في نفس القصة، في سورة الكهف عدة مواضع آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، وفي آخرها وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82].
فهذا كله يدل على أنه نبي وليس بولي وقوله لموسى: (أنا على علم من الله) معلوم أن العلم الذي يكون عند الناس إما ولي جاء علمه عن طريق الأنبياء أو نبي جاء علمه عن الله عز وجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر