قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن! قالت: وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين شهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإن إحداكن تفطر رمضان، وتقيم أياماً لا تصلي) ].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، وقد تقدم في باب رد الإرجاء، أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن أهل السنة وسط بين المرجئة وبين المعتزلة والخوارج فيما يتعلق بأسماء الإيمان، والحكم في الآخرة، فهم فيما يتعلق بإطلاق اسم الإيمان وعدم إطلاقه وسط بين المرجئة الذين قالوا: إن كل المسلمين مؤمنون كاملو الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا هو جانب التفريط والإهمال والضياع والانفلات من الأحكام الشرعية، ويقابل هذا التفريط إفراط، وهو أن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وهذا عند الخوارج، وأما عند المعتزلة فهو في منزلة بين المنزلتين، ويكون عندهما في الآخرة خالداً مخلداً في النار لا يخرج منها أبد الآباد، فسلبوا منه الإيمان بالكلية، فهذان طرفان متقابلان: تفريط وإفراط، تفريط المرجئة، وإفراط الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فعندهم أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً كامل الإيمان، وليس خارجاً من الإيمان كلية، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، فقول أهل السنة: هو مؤمن، فارقوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن، وأنه قد خرج من الإيمان، فالخوارج قالوا: إنه دخل في الكفر، والمعتزلة قالوا: إنه في منزلة بين الإيمان والكفر، ولكنهم متفقون مع الخوارج في تخليده في النار أبد الآباد، وبقولهم: إنه ناقص الإيمان، فارقوا المرجئة الذين قالوا: إنه كامل الإيمان.
إذاً: فقول أهل السنة: مؤمن ناقص الإيمان، هاتان الكلمتان فيهما تحديد مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فلم يسلبوه مطلق الإيمان الذي هو أصله، ولم يعطوه الإيمان المطلق الذي هو الكمال، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، يحب على ما عنده من الإيمان، ويبغض على ما عنده من الفسق والعصيان، فيكون محبوباً باعتبار، ومبغوضاً باعتبار آخر.
ولا مانع من أن يجتمع في الشخص محبة وبغض، فتكون المحبة باعتبار، والبغض باعتبار، كما يقول الشاعر:
الشيب كره وكره أن أفارقه
فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
فالشيب؛ إذا نظر إلى ما تقدمه وهو الشباب فليس مرغوباً فيه ولا محبوباً، ولكن إذا نظر إلى ما وراءه وهو الموت صار مرغوباً فيه ومحبوباً، ولا يراد مفارقته إلى ما بعده.
فأهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه فلم يدخله النار وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار ولكنه لا يخلده فيها، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله عز وجل أن يبقى فيها، ثم يخرجه ويدخله الجنة.
فالمعتزلة والخوراج غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، والمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، وأما أهل السنة والجماعة فأخذوا بالوعد والوعيد جميعاً، ولهذا يأتي في القرآن كثيراً الجمع بين الوعد والوعيد؛ للترغيب والترهيب، فإذا جاء ذكر الترغيب فإنه يأتي بعده ذكر الترهيب، كقوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، فهذا ترغيب وترهيب، وقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام:147]، فهذا ترغيب، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:147]، وهذا ترهيب، وقوله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وهذا ترغيب وترهيب، فأهل السنة والجماعة يأخذون بهذا وهذا، ويقول بعض العلماء: إن المسلم يسير إلى الله عز وجل بالخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ويقول بعضهم: إن الخوف والرجاء للمسلم كالجناحين للطائر، فإذا كان الجناحان سليمين فإن الطيران بهما يكون سهلاً ميسوراً، وإذا اختل أحد الجناحين اختل الطيران.
فأهل السنة يجمعون بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، فلا يأخذون بالبعض ويتركون البعض الآخر، وإنما يأخذون الجميع، وعلى هذا فهم وسط في أمور الدنيا، وفيما يتعلق بأحكام الإيمان والكفر، وهم أيضاً وسط في أحكام الآخرة.
قال الإمام أبي داود هنا: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، ثم أورد جملة من الأحاديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو عند أهل السنة يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) أي: لذي عقل منكن، أي: من النساء، فوصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، ومحل الشاهد منه نقص الدين، فالإيمان يزيد وينقص، وفسر نقصان الدين هنا بأن المرأة يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وهذا -كما هو معلوم- ليس من قبلها، وليس الأمر في ذلك إليها، وإنما هذا شيء كتبه الله عليها، فهو بقضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، والفرق بينهن وبين الرجال أن الرجال مستمرون في الصيام والصلاة، فعندهم إذاً زيادة في الأعمال في هذه المدة التي لا يصلي فيها النساء ولا يصمن، فيكون في ذلك زيادة ثواب عند الله عز وجل، فتكون الصلاة والصيام عند الرجال باستمرار، ولا يمنعهم من ذلك مانع إلا الأمور الطارئة التي تحصل للرجال والنساء، كالمرض وكالسفر، فهذا النقص يكون لأمر يرجع إلى الإنسان كفعل المعاصي، ويكون بشيء لا يرجع إليه كما جاء في هذا الحديث من كون النساء ناقصات عقل ودين، وسألته النساء عن ذلك فأخبر بأنه يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وأما نقصان العقل فإن شهادتها بشهادة نصف رجل كما جاء ذلك في القرآن فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].
وهذه المسألة -وهي نقصان العقل في حق النساء- واحدة من خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وكذلك الميراث لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وكذلك في العقيقة؛ فالغلام يعق عنه بشاتين والجارية بشاة واحدة، وكذلك في العتق، (من اعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن اعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، والخامسة: الدية، فهذه خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاءت النصوص تفرق بينهما.
قوله:[ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ حدثنا ابن وهب ].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن بكر بن مضر ].
بكر بن مضر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ عن ابن الهاد ].
هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن دينار ].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن عمر ].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يقال هنا: أليست الحائض إذا انقطعت عن الصلاة والصيام يكتب لها أجر تلك الأيام مثل الرجل إذا مرض أو سافر فإنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم؟
فيقول: هذا الحديث يدل على أن الرجل يزيد عليها بالأعمال في مثل هذه المدة التي منعت فيها، وأما ذاك فقد جاء فيما يتعلق بالأشياء التي كانت واجبة على الجميع، فإذا حصل شيء يمنع كالسفر أو المرض فإن الله يكتب له مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم.
ومعلوم أن الإيمان ينقص بالمعصية، وفي هذا الحديث ذكر أنها في هذه الحالة تكون ناقصة دين مع أنها لم تعمل معصية، وبناء على هذا فيكون نقصان دينها إنما هو بالنسبة للرجال، فهم عندهم زيادة بالصلاة، وهن ليس عندهن هذه الصلاة، إذاً ففيهن نقص عن الرجال.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما توجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله! فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]) ].
أورد أبو داود حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى الكعبة) أي: بعد أن كان متوجهاً إلى بيت المقدس أمر أن يستقبل البيت الحرام، وذلك أن القبلة كانت إلى بيت المقدس، فاستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة واستقبلها الناس معه، وكان ذلك بعد الهجرة بستة عشر شهراًً، عند ذلك قال جماعة من الصحابة: (ما بال إخواننا الذين كانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولم يصلوا إلى هذه القبلة؟)، أي: أنهم لم يدركوا هذا الشيء الذي حصل، (فأنزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143])، والمقصود بالإيمان هنا: الصلاة، أي: يضيع صلاتكم إلى البيت المقدس.
وفي هذا إطلاق الإيمان على الصلاة، فهو يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ فالصلاة هي مجموعة أعمال وقد سماها إيماناً.
وأما من ناحية الزيادة فتظهر في أن الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس أولاً، وكتب الله لهم الحياة حتى أدركوا الصلاة إلى بيت الله المسجد الحرام، فإن عندهم زيادة في الأعمال على من مات قبلهم، لكن قد جاء ما يدل على أن السابقين الأولين ممن تقدم إسلامه، ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القليل منهم لا يساويه الكثير ممن جاء بعد ذلك وتأخر إسلامه، كما جاء في حديث: (لا تسبوا أصحابي) وذلك عندما جرى بين خالد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعض الشيء، ومعلوم أن الإنسان كلما طال عمره وحسن عمله فإن ذلك زيادة خير وثواب عند الله عز وجل.
قوله: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود .
[ وعثمان بن أبي شيبة ].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فإنه أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[ حدثنا وكيع ].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن سفيان ].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن سماك ].
سماك هو ابن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن عكرمة ].
هو عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] على كفر تارك الصلاة، ويمكن أن يكون وجه الاستدلال أنه سمى الصلاة إيماناً، لكن هناك أدلة واضحة تدل على أن ترك الصلاة كفر، كحديث: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الأئمة الذين يجوز الخروج عليهم: (لا ما صلوا). وقد جاء في حديث آخر (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة: (عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) ].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وقوله: (من أحب لله) حذف فيه المفعول وهو متعلق بمن وبما، والمعنى أحب لله من يحبه الله، وأحب لله ما يحبه الله، والمراد: من يحبه الله من الأشخاص، وما يحبه الله من الأعمال والأقوال، إذاً فالحب يكون للأشخاص وللأقوال وللأفعال التي يحبها الله ويرضى بها، (من أحب لله، وأبغض لله) أي: أبغض من يبغضه الله، وأبغض ما يبغضه الله، (وأعطى لله) أي: من أجل الله، (ومنع لله) أي: من أجل الله، فلا يريد بإعطائه الرياء ولا غير ذلك، وإنما يعطي من أجل الله، ويرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، وكذلك يمنع وفقاً لما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فيكون إعطاؤه من أجل الله، ومنعه من أجل الله، وحبه من أجل الله، وبغضه من أجل الله، فيكون بذلك قد استكمل الإيمان، ولهذا جاء في حديث أنس بن مالك الذي في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، فالحب يكون في الله ومن أجل الله، وجاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فالحب والبغض من أعمال القلوب، والإعطاء والمنع من أعمال الجوارح، وكلها من الإيمان، وهي تكون نافعة إذا كانت من أجل الله، سواءً كانت من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح.
قوله: [ حدثنا مؤمل بن الفضل ].
مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ].
محمد بن شعيب بن شابور صدوق صحيح الكتاب، أخرج له أصحاب السنن.
[ عن يحيى بن الحارث ].
يحيى بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[ عن القاسم].
هو القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي ، وهو صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[ عن أبي أمامة ].
أبو أمامة : هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة : (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يدل على زيادة الإيمان؛ لأنه ذكر أن ذلك هو أكمل المؤمنين إيماناً، فمعنى ذلك أن الناس متفاوتون في الإيمان.
قوله: [(أحسنهم خلقاً)]، وهذا يدلنا على فضل الأخلاق الحسنة، وأن صاحبها يكون بهذه المنزلة الرفيعة التي بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو أكمل المؤمنين إيماناً، وذلك لأنه يعاملهم بالمعاملة الطيبة، ويخالق الناس بالمخالقة الحسنة، ويعامل الناس كما يحب أن يعملوه، ومعلوم أن الإنسان يحب أن يعامله الناس معاملة طيبة، فعليه أيضاً أن يعامل غيره معاملة طيبة، فيحب لغيره ما يحب لنفسه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس).
قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا يحيى بن سعيد ].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن محمد بن عمرو ].
هو محمد بن عمرو بن علقمة الوقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي سلمة ].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جماعة فأعطى رجالاً ولم يعط رجلاً، وهذا الذي لم يعط شيئاً كان أعجبهم إلى
ثم إن لفظ الإيمان ولفظ الإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر شمل المعاني التي افترقت عند الاجتماع، فإذا أطلق الإسلام شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أطلق الإيمان شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جمع بينهما فسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام بالأعمال الظاهرة، كما في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وهذه أمور ظاهرة، وسأله عن الإيمان فقال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذه أمور باطنة، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، فأعطى الإيمان ما يتعلق بالباطن، وأعطى الإسلام ما يتعلق بالظاهر، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مثل قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] فإنه يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا مثل لفظ الفقير والمسكين، فإنه إذا جمع بينهما في الذكر فسر الفقير بمعنى، والمسكين بمعنى، وإذا فصل أحدهما عن الآخر شمل معنييهما عند الاجتماع، فالله تعالى جمع بين الفقير والمسكين في آية تقسيم الصدقات: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، حيث فسر الفقير بأنه من ليس عنده شيء أصلاً، والمسكين بأنه الذي عنده شيء ولكنه لا يكفيه، فهو أحسن حالاً من الفقير، لكن إذا جاء لفظ الفقير مستقلاً فإنه يدخل تحته من ليس عنده شيء، ومن كان عنده شيء لا يكفيه، كما في حديث معاذ بن جبل (فإن هم أجابوك لذلك -أي: إلى الصلاة- فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فلفظ الفقراء هنا يشمل المساكين، وكذلك لفظ البر والتقوى، فإذا جمع بينهما فإن البر يفسر بالأوامر المطلوبة، وتفسر التقوى بالمنهيات، وأما إذا جاء لفظ البر لوحده، وجاءت التقوى لوحدها، فإن البر يشمل الأوامر والنواهي، والتقوى تشمل الأوامر والنواهي، أي: أن الإنسان يتقي الله عز وجل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك البر امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقد جمع بينهما في قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
فالخلاصة أن لفظ الإيمان والإسلام من جنس لفظ الفقير والمسكين، ومن جنس لفظ البر والتقوى إذا اجتمعا أو افترقا.
وأما مرتبة الإحسان فهي أكملها، وهي أعلى من الإيمان، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فكما أنه لا يقال: كل مسلم مؤمن، فكذلك لا يقال: كل مؤمن محسن؛ لأن الإحسان أخص وأعلى من درجة الإيمان.
قوله: [ حدثنا محمد بن عبيد ].
محمد بن عبيد يحتمل أن يكون محمد بن عبيد بن حساب ، ويحتمل أن يكون محمد بن عبيد المحاربي ، وكل منهما محتج به، وقد مر ذكرهما.
[ حدثنا محمد بن ثور ].
محمد بن ثور ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ عن معمر ].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عامر بن سعد ].
هو عامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ].
أبوه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو سعد بن مالك ، فأبوه اسمه مالك، وكنية أبيه أبو وقاص مشهور بكنيته، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [(إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم)]، فهذا يدل على أن من لا يعطى ليس ذلك لكونه لا يستحق، وإنما قد يعطى من هو دونه لأنه يخشى عليه، لذلك فهو يؤلف قلبه بالإعطاء، وليس هناك مجال لإعطاء الجميع.
فالأولى ألا يقال لشخص بأنه مؤمن، بل يقال له: مسلم، وإذا قال إنسان عن غيره: إنه مؤمن على اعتبار أنه عنده قوة إيمان، وأنه معروف بكثرة الأعمال الصالحة فلا بأس، لكن المحذور أن يقول الإنسان عن نفسه: إنه مؤمن، ففي هذا الحديث قال ذلك عن غيره، فالأدب والوصف الذي ليس فيه إشكال أن يقال: هو مسلم، والمشهور عند أهل السنة -كما عرفنا- هو التفريق بين الإسلام والإيمان، وأن الإيمان أكمل من الإسلام، وأعلى درجةً منه، وبعضهم يقول: إن الإسلام هو الإيمان، واستدلوا بقوله عز وجل: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] وهذه تتعلق بقوم لوط الذين استثنوا من الهلاك، فوصفوا بأنهم مسلمون ومؤمنون، إذاً فالإسلام هو الإيمان، لكن يقول ابن كثير : إن هؤلاء المؤمنين وصفوا بأنهم مسلمون، فالإسلام يدخل في الإيمان، ومن كان مؤمناً فإنه يصدق عليه أنه مسلم، لكن ليس كل مسلم يقال عنه: مؤمن، وهذا هو الذي نهى الله عنه الأعراب حيث قال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فهؤلاء الذين نجاهم الله مع لوط هم مؤمنون ومسلمون؛ لأن كل مؤمن مسلم، فقد جمعوا بين هذين الوصفين، ولا يصح العكس فليس كل من كان مسلماً يقال عنه: مؤمن، ولهذا أنكر على الأعراب قولهم: آمنا، وأمروا أن يقولوا: أسلمنا، ولكن من كان مؤمناً فهو مسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر قال: وقال الزهري : قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] قال: نرى أن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل ].
وفي الإسناد السابق قال: وأخبرني الزهري، فجاءت بالواو، والأصل والغالب أن يأتي بدون واو (أخبرني)، والمراد بالإتيان بالواو هناك أنه قد حدثه بحديث آخر، ثم حدثه بهذا الحديث، فترك المعطوف عليه وأتى بالمعطوف الذي هو المقصود وفيه محل الشاهد.
وأورد أبو داود هذا الأثر عن الزهري قال: نرى أن الإسلام: الكلمة، والإيمان العمل.
فالإسلام: الكلمة، أي: النطق والكلام، فهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأما الإيمان فيكون بالعمل، وليس الوقوف عند كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقول الزهري رحمه الله: الإسلام: الكلمة، أي: القول، فالإنسان يدخل الإسلام بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا فيما يظهر للناس، وأما البواطن فعلمها عند الله عز وجل، وأما الإيمان وهو العمل، فيدخل فيه عمل القلوب وعمل الجوارح، ومعلوم أن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، كالخشية والرجاء وما إلى ذلك، فإن الجوارح يكون فيها التنفيذ كما جاء في حديث النعمان بن بشير الذي أشرت إليه آنفاً: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وكذلك قول بعض السلف: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقرته القلوب، وصدقته الأعمال.
قوله: [ حدثنا محمد بن عبيد عن ابن ثور عن معمر قال: وقال الزهري ].
الزهري مر ذكره، وهذا الأثر مقطوع، وهو المتن الذي ينتهي إلى التابعي أو من دونه، وهو غير المنقطع؛ لأن المنقطع من صفات الأسانيد، وأما المقطوع فهو من صفات المتون، فالمنقطع هو سقوط في أثناء الإسناد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قال في كتاب (الإيمان) عن كلمة الزهري : إن فيها حقاً من وجه، وخطأ من وجه، فما أدري شيئاً عن كلام شيخ الإسلام ، فإذا كان المقصود بالإيمان العمل فقط دون أن يكون هناك شيء في القلوب، فنعم هو ليس بصحيح، وأما إذا قيل: إن العمل يكون في القلوب ويكون في الجوارح فهو كلام مستقيم.
ولا يفهم من كلام الزهري هذا أنه لا يكفر الشخص بترك الأعمال، إذا ثبت له الإسلام الذي هو أصل الإيمان بالنطق بالشهادتين، نعم الإسلام يثبت للإنسان بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، لكنه لا يعني ذلك أنه يبقى على هذا حتى يموت عليه، من غير أن يسجد لله سجدة، ولا أن يركع لله ركعة، فإذا جاء وقت الصلاة فإنه يطالب بالصلاة، وإذا تركها تهاوناً أو كسلاً فإنه يكون كافراً، وأما الجحود فقد عرفنا أن أي جحد لأمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة ولو كان دون الصلاة بكثير فإن ذلك كله يكون كفراً وردة عن الإسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق ح وحدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان المعنى قالا: حدثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قسم بين الناس قسماً فقلت: أعط فلاناً فإنه مؤمن، قال: أو مسلم؟ إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكب على وجهه) ].
وهذا من جنس الذي قبله.
قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق ].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ ح وحدثنا إبراهيم بن بشار ].
إبراهيم بن بشار حافظ له أوهام، أخرج له أبو داود والترمذي .
سفيان هو ابن عيينة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه ].
قد مر ذكرهم جميعاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة قال: واقد بن عبد الله أخبرني عن أبيه أنه سمع ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) ].
ذكر أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا الحديث أورده المصنف في هذا الباب من أجل أن ضرب المؤمنين رقاب بعضهم يعد كفراً، والمقصود بذلك أنه كفر دون كفر، وهو يدل على أن في ذلك نقصاً للإيمان، وإن أريد به أنه كفر مخرج من الملة، فيكون المقصود أنهم لا يرتدون بعده، فيحصل مع ارتدادهم وكفرهم أن بعضهم يضرب رقاب بعض، ويكون المقصود بذلك ما حصل من بعض الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم الصديق وكان ذلك من أجل أعماله رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد بذل جهده في أن يرجع الناس إلى ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فسعى في إصلاح الخلل الداخلي، ثم بعد ذلك انتقل إلى جهاد الكفار وغزوهم في بلادهم بعد أن قاتل المرتدين، فرجع من رجع منهم إلى الإسلام، وقتل من قتل منهم على الردة.
فإنه يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون المقصود به حصول المشابهة للكفار الذين يسهل عليهم القتل، فإن من شأنهم التقاطع وقتل بعضهم بعضاً، وشأن المسلمين بخلاف ذلك، فهم متوادون ومتراحمون ومتعاطفون.
وعلى هذا فإيراد المصنف الحديث هنا في زيادة الإيمان ونقصانه على اعتبار أن هذا الفعل ليس ردة، ولا يتعلق بالمرتدين، وإنما يتعلق بالمسلمين الذين يحصل منهم التقاتل بغير حق.
وقد جاء في بعض الأحاديث: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، والمقصود من ذلك أنه كفر دون كفر، فيكون ذلك: من قبيل المعاصي الكبيرة، ومعلوم أن الذنب الذي يوصف بأنه كفر يكون من أكبر الكبائر، ومن أخطر الأشياء.
قوله: [ حدثنا أبو الوليد الطيالسي ].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا شعبة ].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ واقد بن عبد الله أخبرني ].
هو واقد بن عبد الله بن محمد بن زيد العدوي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
وهذا فيه تأخير الصيغة عن الراوي أو المحدث؛ لأنه قال: واقد أخبرني، بدلاً من أن يقول: أخبرني واقد عن أبيه، ومعروف عن شعبة أنه كان يستعمل ذلك أحياناً.
وهناك طريقة لبعض العلماء في تقديم المتن وتأخير السند، وهذا الأسلوب كان يستعمله ابن خزيمة ، وقد جاء عنه أنه قال: أنه يحرج على من يأخذ من كتابه ألا يغير الصيغة التي أتى بها، بل عليه أن يروي عنه كما روى، وكما جاء عنه، وجاء عند البخاري رحمه الله في مواضع قليلة تقديم المتن وتأخير الإسناد، وقد جاء ذلك عنه في كتابه التفسير من صحيحه، وذلك في أول تفسير سورة فصلت، فإنه ذكر أثراً طويلاً عن ابن عباس ، فأتى بالمتن أولاً ثم أتى بالإسناد في الآخر، وكذلك فعل أيضاً في أثر علي رضي الله عنه الذي فيه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) وقال الحافظ ابن حجر : إن هذا فيه إشارة إلى أن هذا ليس على شرطه، أي: مثل هذه الصيغة، ثم ذكر كلام ابن خزيمة وطريقته وأنه يمنع أن تغير طريقته عند النقل منه، بل ينبه على ما حصل منه من التقديم والتأخير.
وهذا الأثر والكلام الذي ذكره الحافظ ابن حجر موجود عند تفسير سورة فصلت في الجزء الثامن من فتح الباري، وهذا الجزء مشتمل على كتاب التفسير من صحيح البخاري .
وأبوه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أنه سمع ابن عمر ].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس ، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة ، فهم إذاً ستة رجال وامرأة واحدة، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
ولا يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً) على ما آلت إليه القبائل العربية في الجزيرة بعد قرون من الزمان من قتال بعضهم لبعض، وسلب بعضهم لبعض، فصاروا كحالة الجاهلية الأولى لا يدل على ذلك فقط، لكن كونه يحصل شيء فيما بعد يطابق ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جزء من المراد، فالحديث أعم من ذلك، ولكن هذا المعنى ليس مطابقاً لما أورده المصنف هنا من كونه كفراً دون كفر، وأن الصديق رضي الله عنه قاتلهم، فرجع إلى الإسلام من رجع، وقتل على الردة من قتل، وهم المعنيون بما جاء في حديث الذود عن الحوض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أي: أنهم ارتدوا وقتلوا على الردة، وهؤلاء الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا من أصحابه، ولكنهم أدركهم الخذلان وارتدوا عن الإسلام، وقاتلهم الصديق رضي الله عنه، وقتل منهم من قتل على الردة، ومنهم من رجع إلى الإسلام، عدد يسير.
يقول الخطابي عن هذا الحديث: هذا يتأول على وجهين:
أحدهما: أن يكون معنى الكفار: المتكفرين بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، فكفر به نفسه، أي: سترها، وأصل الكفر: الستر، ويقال: سمي الكافر كافراً لستره نعمة الله عليه، أو لستره على نفسه شواهد ربوبية الله ودلائل توحيده.
وأقول: كونه يتكفر بالسلاح أو يستتر به، أو يحمله هذا لا يكفي، ولكنه يئول أمره إلى كونه يفعل ذلك مستعداً للقتل، فيحصل منه القتل، وأما مجرد ستر نفسه بالسلاح، أو أنه يلبس السلاح، فمجرد هذا لا يكفي بأن يقال عنه: إنه ذنب، وإنه منهي عنه، فالسلاح يلبس عند الحاجة إليه ولا يصير مذموماً، ولكن إذا آل ذلك إلى أمر لا يسوغ، أو أنه فعله استعداداً لفعل أمر لا يسوغ فالعبرة بهذه النهاية، لا بمجرد اللبس فقط، وكون المعنى اللغوي للكفر أنه الستر لا يكفي في أن يكون هو المقصود.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر) ].
أورد المصنف حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر) أي: إذا كان المقول له ذلك كافراً، أي: حصل منه كفر، فإن الكلام يكون مطابقاً للواقع، ويكون صحيحاً، وأما إذا لم يكن كذلك ولم يكن كافراً فإن الكفر يعود على القائل، فيكون هو الكافر، ومعنى ذلك: أنه يرجع عليه إثمه ومغبته، لا أنه يكون كافراً خارجاً من الإسلام بمجرد أنه قال هذه الكلمة، فهذا فيه وعيد شديد، وبيان أن ذلك الأمر ليس بالهين، وأن التكفير ليس أمراً سهلاً، وإنما هو صعب وخطير، ولا ينبغي التهاون والتساهل فيه، ولا ينبغي للإنسان أن يتكلم فيه بغير علم. ومثل هذا مسألة الاتهام بالتبديع والتفسيق.
قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[ حدثنا جرير ].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن فضيل بن غزوان ].
فضيل بن غزوان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن نافع ].
هو نافع مولى ابن عمر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عمر ].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر ذكره في الحديث الذي قبل هذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) ].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، وهذه الأمور كلها من النفاق العملي، وليست من النفاق الاعتقادي، فالنفاق الاعتقادي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وأهله في الدرك الأسفل من النار، فلما كان للإسلام قوة وصولة وشوكة لم يستطيعوا أن يظهروا ما في بواطنهم فلجئوا إلى أن يتظاهروا بالإسلام وهم يبطنون الكفر، كما ذكر الله عنهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
فهذه الأمور الواردة في هذا الحديث من النفاق العملي، وليست من النفاق الاعتقادي، لكن من أتى بهذه الأمور مستحلاً لها فإنه يكون كافراً بهذا الاستحلال.
وقوله: [(من كن فيه كان منافقاً)، أي: أن من كانت هذه الأمور مجتمعة فيه فقد وصل إلى حد عظيم فيما يتعلق بهذا الوصف، فيكون منافقاً خالصاً في النفاق العملي وليس الاعتقادي، فلا يكون كافراً بمجرد اتصافه بهذه الصفات الذميمة، ولكن يكون عنده تمكن في النفاق، ومن وجدت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، وأما إذا اجتمعت كلها فيه فقد وصل إلى النهاية والقمة في النفاق العملي، ويكفر العبد -كما قلنا- باستحلال هذه الخصال الذميمة، فمن استحل الكذب فإنه يكفر، وهذا فيما لا يسوغ فيه الكذب وأما ما جاء فيه جواز الكذب سواءً كان صريحاً أو تلويحاً، كالإصلاح بين الناس، وبين المرأة وزوجها، فلا بأس بذلك، وأما استحلال الكذب مطلقاً فلاشك أنه كفر.
قوله: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي ، وهو ممن أكثر عنه الإمام مسلم ، بل لم يرو عن أحد أكثر مما روى عنه، فقد قيل: إنه روى عنه أكثر من ألف وخمسمائة حديث، ولهذا فالذي يقرأ في (صحيح مسلم ) لا يكاد يفتح صفحة أو صفحات إلا ويمر فيه أبو بكر بن أبي شيبة ؛ لأنه روى عنه عدداً كثيراً من الأحاديث فهو مكثر عنه، ويليه زهير بن حرب أبو خيثمة ، فإنه روى عنه أكثر من ألف ومائتي حديث.
[ حدثنا عبد الله بن نمير ].
عبد الله بن نمير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا الأعمش ].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن مرة ].
عبد الله بن مرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن مسروق ].
هو مسروق بن الأجدع ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن عمرو ].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو صالح الأنطاكي أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) ].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)، أي: أنه عندما يحصل منه الزنا فإنه يحصل له نقص في الإيمان؛ لوقوعه في المعصية، فيقع النقص في الإيمان من حين يبدأ بالمعصية وهي الزنا هنا إلى أن يتوب منه، وليس أنه بمجرد توبته منها يكفي ذلك، فقد يكون لتلك المعصية حد في الدنيا، وإن أقيم عليه الحد كان كفارة له، وإن لم يقم عليه الحد فإن أمره إلى الله عز وجل، فإن كان تاب منها فالله تعالى يتوب على من تاب، ولهذا جاء في آخر الحديث: (والتوبة معروضة بعد) أي: بعد هذا الذي حصل من ارتكاب الفاحشة، وهذا إذا لم تصل الروح إلى الغرغرة، وإن مات على تلك المعصية والجريمة فإن أمره إلى الله عز وجل: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه وأدخله النار، ولكنه إذا أدخله النار فإنه لا يخلده فيها، بل يخرجه منها ويدخله الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها، سواءً كانوا كفاراً أصليين، أو مرتدين، أو منافقين نفاقاً اعتقادياً، فإن أولئك هم الذين يبقون فيها إلى غير نهاية.
أما من كان مرتكباً للكبائر -سواءً كانت واحدة أو أكثر- فإن أمره إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فكل ذنب دون الشرك هو تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فإنهم يعتبرون صاحب الكبيرة فاسقاً، ولا يخرجونه من الإسلام، ولا يجزمون بعذابه، وإذا عذب فإنهم لا يقولون بتخليده، بل أمره إلى الله عز وجل: إن شاء عفا عنه ولم يعذبه، وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه بالنار فلابد أن يخرجه من النار ومآله إلى الجنة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي: أنه عند مواقعته المعصية لم يكن عنده كمال الإيمان، بل عنده نقص في الإيمان.
وأما الخوارج فإنهم يقولون بكفر الزاني وغير الزاني ممن ارتكب الفواحش والمحرمات، ويقولون بتخليده في النار إلى غير نهاية، ويقول المعتزلة: إنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين منزلة الإيمان والكفر، ولكن في النهاية قولهم مطابق لقول الخوارج بأنه يخلد في النار.
فقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ليس معنى ذلك: أنه ينتفي عنه الإيمان حتى يكون كافراً خارجاً من الإسلام، ولكن المراد أن إيمانه ينقص، ويكون فيه ضعف، ولا يكون كاملاً، بل يكون بسبب الفاحشة أنقص مما كان عليه قبل أن يفعل الفاحشة، وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها أبو داود في زيادة الإيمان ونقصانه، فهذا فيه ينقص الإيمان، (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد)، والله تعالى يتوب على من تاب، فإن التوبة تجب ما قبلها، فالشرك وهو أعظم الظلم، وأبطل الباطل إذا تاب الكافر منه تاب الله عليه، فكذلك ما دونه.
قوله: [ حدثنا أبو صالح الأنطاكي ].
أبو صالح الأنطاكي هو محبوب بن موسى، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ أخبرنا أبو إسحاق الفزاري ].
أبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد بن الحارث ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ].
الأعمش مر ذكره.
[ عن أبي صالح ].
أبو صالح السمان اسمه ذكوان ، ولقبه السمان ، ويلقب أيضاً بـالزيات نسبة إلى بيع السمن والزيت؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت ويبيعهما، فيقال له: السمان ، ويقال له: الزيات ، وهذه نسبة إلى الحرفة، وهذا مثلما يقال: نجار وحداد وخباز.
[ عن أبي هريرة ].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا إسحاق بن سويد الرملي حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا نافع -يعني ابن يزيد - حدثني ابن الهاد أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان) ].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا زنى المسلم خرج منه الإيمان وكان فوقه كالظلة، فإذا انقلع) أي: انتهى وفرغ من الزنا أو أقلع عن الزنا فإنه يرجع إليه، وهذا فيه وعيد شديد للزناة، فالزنا أمره خطير، وشأنه عظيم، لكن -كما هو معلوم- لا يقال: إن الزاني يكفر في حال زناه استدلالاً بهذا الحديث، فهناك أحاديث أخرى تبين أنه مرتكب كبيرة، وأن أمره إلى الله عز وجل، وأن التوبة معروضة بعد، وهذا الحديث يدل على خطورته، وأنه فاحشة عظيمة.
قوله: [ حدثنا إسحاق بن سويد الرملي ].
إسحاق بن سويد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ حدثنا ابن أبي مريم ].
ابن أبي مريم هو سعيد بن أبي مريم ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا نافع -يعني ابن يزيد ].
نافع بن يزيد ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ حدثني ابن الهاد ].
ابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
أبو هريرة مر ذكره.
السؤال: هل ورد الاستثناء في الإسلام؟
الجواب: لا أدري، لكن حتى الإسلام يتفاوت، فقد جاءت بعض النصوص التي تدل على أنه يتفاوت في الإطلاق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: المسلم الكامل، لكن لا نعلم أنه يستثنى في الإسلام، ويمكن أن يكون المعنى الذي جاء في قوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، من جنس أنه مؤمن، لكن المعروف أن الإسلام هو الدرجة الدنيا، وهي الدرجة التي يتميز بها عن الكفار، ويكون الإنسان بها من المسلمين.
السؤال: ما صحة هذه العبارة: يقول الخطابي : وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر؟
الجواب: قد يكون العبد مستسلماً في الظاهر وليس عنده الكمال في الباطن، وهذا هو الذي جاء في قول الله عز وجل: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] أي: لم يتمكن في القلوب، وإن كان الأصل موجوداً وهو الإسلام، وإذا وجد الاستسلام والانقياد في الباطن فإنه يتبعه الاستسلام في الظاهر؛ لأن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث النعمان بن بشير (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وجاء عن بعض السلف أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال).
السؤال: هل لفظ الكفر والشرك من الألفاظ التي نقول فيها: إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت؟
الجواب: لفظتا الكفر والشرك بينهما فرق ولو لم يجتمعا، فالكفر أعم من الشرك، حيث إن الشرك يطلق على ما إذا عبد مع الله غيره، وأما الكفر فإنه يطلق على أمور كثيرة يدخل فيها الشرك، فبينهما إذاً عموم وخصوص مطلق، فكل شرك كفر، وليس كل كفر شركاً؛ لأن الشرك هو دعوة غير الله معه، لكن قد لا يدعو غير الله معه ولكنه يأتي بمكفر آخر كأن يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسب الله تعالى، أو يجحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، فهذا مكفر، ولكن لا يقال له: شرك.
السؤال: قولهم: ليس كل مسلم مؤمناً، هل المراد أنه ليس مؤمناً أصلاً، أم أنه لابد من قدر مجزئ من الإيمان؟
الجواب: أصل الإيمان موجود، ولهذا قالوا: إن من جاء عنهم من السلف عدم الاستثناء في الإيمان فإنهم يقصدون بذلك أصل الإيمان، ولا يقصدون بذلك التزكية، وأنهم كاملو الإيمان.
السؤال: هناك رجل عندنا ينتقد سلف الأمة بالإهمال والتقصير الكبير في تدوين التاريخ الإسلامي، فيقول: وهذا بعكس أهل الغرب الذين دونوا تاريخهم، ويطعن أيضاً في أهل السنة حيث إنهم يروون عن الضعفاء والروافض، فلم يصححوا تلك المرويات التاريخية، فأصبح للمسلمين تاريخ غير ثابت، فما نصيحتكم لنا تجاه هذا الرجل، وهو أستاذ لنا في الجامعة؟
الجواب: هذا الكلام كلام باطل وغير صحيح، ومعلوم أن العلم قد دُوِّن، والتاريخ منه ما دون بالأسانيد، ومنه ما جاء بغير أسانيد، ولكن الثبوت لا يعتبر إلا بصحة الأسانيد، والشيء الذي لم تصح به الأسانيد فلا يعتبر ثابتاً، ولكن يمكن أن يذكر على سبيل الحكاية وما إلى ذلك، وأما رواية سلف هذه الأمة عن بعض أهل البدع فإنما هي في شيء لا يؤثر، ولا يتعلق ببدعهم، أو أن غيرهم تابعهم على ذلك ولم تقبل روايتهم على سبيل الاستقلال، وأما الشيء الذي يتعلق بالبدع فإنهم يجتنبونه، وقد تكلم العلماء وبينوا أحوال هؤلاء الذين تكلم فيهم من هذه الناحية، وبينوا الاعتذار عمن روى عنهم كما ذكر آنفاً.
والحاصل أن الواجب على كل مسلم أن يحفظ لسانه عن أن يتكلم في علماء أهل السنة والجماعة بما لا ينبغي، بل عليه أن يحسن الظن بهم، وأن يعرف أنهم قد بذلوا جهوداً عظيمة مضنية حفظ الله تعالى بها ما جاء عنه سبحانه وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله تعالى عن الصحابة ومن تبعهم بإحسان، والكلام في علماء أهل السنة ضرره كبير على المتكلم به، كما قال الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
ثم هذا الذي يتكلم بمثل هذا الكلام ماذا قدم للإسلام، أو ماذا سيقدم للإسلام؟! كل ما قدم أنه جنى على نفسه بأن تكلم وقدح في علماء أهل السنة والجماعة بمثل هذا القدح، وغالباً أن مثل هؤلاء الذين يتكلمون في مثل هذا الشيء يعود عليهم مضرته، ولا يأتون بشيء تعود عليهم منفعته.
السؤال: أود الاستفسار عما تطلبه جماعة التبليغ من النساء، وهو خروج المرأة لمدة ثلاثة أيام من منزلها مع مجموعة من النساء في بلد من البلدان داخل مصر، وأما أزواجهن فيكونون في مسجد قريب، ويقضون ثلاثة أيام في سماع ما يسمى بالبيان، وأنا زوجة لرجل من هذه الجماعة، وهو رجل فاضل، وعندي منه ثلاثة أولاد، لكن ولدي الأكبر -وهو في سن المراهقة- بدأ يسير في طريق البعد عن الله، ويفعل أشياء كثيرة مخالفة للهدى والشرع، وزوجي يلح علي أن أُخرج معي ابني في هذا الخروج؛ حتى يصلح الولد، لأنه مقتنع تماماً بهذا العمل، ويتهمني بأني أنا المسئولة عن ضياع ابني؛ لأني لا أسير معه بهذا الطريق، وأني سأضيع أولادي الآخرين بهذا السلوك، فهل طاعتي له في هذا الأمر واجبة؟ وإذا لم أطعه هل أدخل تحت من تُغضب زوجها فتلعنها الملائكة، علماً بأني دائماً أرد عليه بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد؟
الجواب: النساء مأمورات بالقرار في البيوت، والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما هذا الخروج الذي انتهجته هذه الجماعة فهم غالباً مفتقرون إلى العلم، ومفتقرون إلى معرفة التوحيد، فهم لا يعنون بالتوحيد، ولا يعنون بالاشتغال بالعلم، ولهذا يأتون إلى العامي الذي لا يعرف شيئاً ويطلبون منه الخروج إلى الدعوة إلى الله عز وجل، وهو نفسه بحاجة إلى دعوة! والذي ينبغي عليهم وعلى غيرهم أن يتفقهوا في دين الله عز وجل، وأن يتعلموا العلم النافع، وأن يدعوا إلى الله عز وجل على بصيرة. وهذه المرأة عليها أن تناصح زوجها بأن يبقى معها وألا يخرج معهم، فيبقى هو وإياها يتعاونان على تربية الأولاد، وأما أن يخرج هو ويضيع أهله، أو يطلب من أهله أن تخرج أيضاً معه فإن هذا الخروج ليس بصحيح، وتفقه الإنسان في دين الله عز وجل، ومحافظته على أهله وعلى أولاده أفضل من أن يخرج وهو جاهل، ولا يحصل من وراء هذا الذهاب إلا أن يضيع أهله وأولاده.
فالحاصل أن على هذه المرأة أن تنصح زوجها بأن يترك الخروج معهم، وأن يبقى معها، وأن يحرصوا على التفقه في دين الله عز وجل، وعلى تربية الأولاد تربية طيبة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر