قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الرفق.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس وحميد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) ].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [ باب في الرفق ].
والمراد بالرفق الرفق في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي النصح، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل هذا مطلوب فيه الرفق، وكذلك معاملة الناس تكون بالرفق.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن المغفل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، والعنف ضد الرفق.
قوله: (إن الله رفيق) يدل على أن من أسماء الله الرفيق، وهو يحب الرفق، مثل: (إن الله جميل يحب الجمال) ومثل (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو رفيق يحب الرفق.
قوله: [ (ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) ].
يعني: أن الذي يرفق في الأمور فإنه يحصل الخير، ويحصل من النفع ما لا يحصل بالعنف والشدة والقسوة والغلظة، وقصة الأعرابي الذي جاء وبال في المسجد معروفة، فقام الصحابة ليزجروه وينهروه؛ لأن فعله هذا شيء عظيم، ولأن المسجد لا يبال فيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتركوه، فالرسول صلى الله عليه وسلم رفق به؛ لأنه لو قام حين زجروه لملأ ثيابه، وملأ جسده، ولتناثرت قطرات البول في المسجد، فيحتاج إلى أن تطهر كل البقعة التي مر عليها؛ لأن النجاسة وصلت إليها، ولكن مادام أنه قد بدأ بالبول فبقاؤه في مكانه يجعل مكان النجاسة محصوراً، وبعد ذلك يطهر هذا المكان الذي علم بأنه تنجس، فالرسول أمرهم بأن يتركوه، ثم إن الرجل تأثر من هذا الذي حصل من الزجر، وأعجبه هذا الذي حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرفق، ولهذا جاء أنه قال: اللهم! اغفر لي ولمحمد ولا تشرك في رحمتنا أحداً.
قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس ].
يونس هو يونس بن عبيد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
الحسن هو الحسن بن أبي الحسن البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن مغفل ].
عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزاز قالوا: حدثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: (سألت
قال ابن الصباح في حديثه: محرمة يعني: لم تركب ].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن البداوة فقالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى بعض هذه التلاع) والتلاع: هي الأماكن التي يكون فيها الماء، وينزل من علو إلى سفل، فيقال: تلعة للماء إذا كان في الجبل ثم ينزل إلى مكان منخفض، فكان يذهب أحياناً، والرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البادية، لكن الذي هو غير سائغ أن يترك الإنسان الحاضرة ويذهب للبادية، فيصير من أهل البوادي، ويصير من أهل الفلاة بدل ما كان من أهل الحاضرة، وأما الذهاب في بعض الأحيان للبادية فلا يجعل الإنسان بدوياً، كما أن البدوي لو جاء للمدينة ومكث يوماً أو يومين أو ثلاثة فلا يقال: إنه حضري، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج أحياناً.
وقد كان أئمة اللغة يخرجون لأخذ الكلام العربي من الأعراب ومن البوادي، ويدونون ذلك في كتبهم، فلم يخرجوا بذلك عن كونهم من أهل الحضر إلى كونهم من أهل البادية، بل إن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما ذكر الله عز وجل أنه جاء من البدو ليس معنى ذلك أنه كان في البادية، ولكنه ذهب إلى البادية؛ لأن الرسل كلهم من الحاضرة وليسوا من البادية، كما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، فالرسل من أهل القرى وليسوا من البادية، وما جاء من قوله: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100] هو من جنس ما ذكرنا من أن الإنسان يخرج إلى البادية في بعض الأحيان، ولا يخرج إليها ليفارق الحاضرة ويكون بدوياً.
قوله: [ (سألت
يعني: يخرج إلى هذه التلاع.
قوله: [ (وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة) ].
أي: أنه أراد أن يذهب إلى البادية مرة من المرات فأرسل إليها ناقة محرمة، يعني: غير ذلول، وغير مدربة على الهدوء والسير، وإنما يكون في ركوبها صعوبة؛ ولهذا يقال: يركب الصعب والذلول، فالصعب ضد الذلول، والذلول: المذللة، والصعب: التي يصعب قيادها.
قوله: [ (يا
قوله: [ حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة ].
هذا الإسناد فيه تقديم عثمان على أبي بكر ، وكما قلت من قبل فإن التقديم والتأخير لا يدل على الكبر، فإن عثمان أكبر، ومع ذلك قدم أبا بكر في بعض الأحيان، وقدم عثمان هنا في هذا الإسناد.
[ ومحمد بن الصباح البزاز ].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا شريك ].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن المقدام بن شريح ].
المقدام بن شريح ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن أبيه ].
هو شريح بن هانئ ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ سألت عائشة ].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مر ذكرها.
قوله: [ قال ابن الصباح في حديثه: محرمة يعني: لم تركب ].
هذا: تفسير لكلمة محرمة، يعني: أنها ليست مذللة، وما ألفت الركوب عليها؛ ولهذا فإنها تكون فيها صعوبة، فهي إذا كانت لم تركب فإنها تحتاج إلى وقت لتكون على الحال المطلوبة من السهولة واليسر، وترك النفور الذي كانت متصفة به من قبل.
وفي الحديث دلالة على أن إبل الصدقة يمكن استخدامها بالنسبة لـعائشة ، ومعلوم أن عائشة لا تحل لها الصدقة أو الزكاة، لكن جاء في هذا الحديث: (فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة).
وكان المقصود من ذلك أنها ستركب عليها وستذهب إليه، فهذا يدل على جوازه، والركوب غير التملك وغير البيع، وغير كونها تتصرف فيها كيف تشاء، إنما المقصود أعطاها إياها من أجل أنها تذلل، أي: من أجل تمرينها، وعائشة وإن كانت لا تستحقها إلا أن في ذلك إصلاح لتلك الناقة.
ومثل ذلك ما جاء في قصة الرجل الذي كان يسوق بذمته إلى الحج وقال: إنها هدي، فأمره النبي أن يركبها وهو يعلم أنها هدي، وهذا معناه أنه جاز استخدامها، وهنا أيضاً يمكن أن يكون المقصود أن تعودها وتذللها لتصير سهلة القياد، ويكون في ذلك مصلحة لمن يستحقها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) ].
أورد أبو داود حديث جرير رضي الله عنه، وهو يدل على عظم شأن الرفق حيث قال: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) أي: أنه لا يحصل خير من وراء العنف، وإنما يحصل منه الضرر.
قوله: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ].
أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن تميم بن سلمة ].
تميم بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن عبد الرحمن بن هلال ].
عبد الرحمن بن هلال ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن جرير ].
هو جرير بن عبد الله رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد حدثنا سليمان الأعمش عن مالك بن الحارث قال الأعمش : وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال الأعمش : ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) ].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) يعني: التؤدة مطلوبة في كل شيء إلا في عمل الآخرة فإنه يبادر فيها، ويحرص عليها، ولا يتهاون فيها، ولا تترك الفرصة لاقتناء ما يعود على الإنسان بالخير.
قوله: [ (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) ].
يعني: أن أمور الدنيا يتأنى الإنسان ويتروى فيها، وأما بالنسبة لأمور الآخرة فلا يتأنى فيها، بل يقدم ويسارع، وهذا يدلنا على أن أمور الآخرة لا بد فيها من منافسة ومسابقة، ولا بد فيها من الجد والاجتهاد، ولا بد فيها من اغتنام الفرص وعدم التساهل، بخلاف أمور الدنيا فالإنسان يتأنى، وقد يكون في التأني الخير الكثير، بخلاف العجلة فإنه قد يترتب عليها شيء من الضرر، فأمور الدنيا التأني والتروي فيها لا شك أنه خير للإنسان.
قوله: [ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ].
الحسن بن محمد بن الصباح ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ حدثنا عفان ].
هو عفان بن مسلم الصفار ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عبد الواحد ].
هو عبد الواحد بن زياد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا سليمان الأعمش عن مالك بن الحارث ].
الأعمش مر ذكره، ومالك بن الحارث ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي .
[ قال الأعمش : وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد ].
مصعب بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وإسناد الحديث صحيح، وعنعنة الأعمش لا تؤثر.
وقول الأعمش : وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد معناه: أن مالك بن الحارث وأناساً مع مالك بن الحارث ذكروه عن مصعب ، ولم يذكر الأعمش عمن روى مالك بن الحارث وأقرانه هذا الحديث، فالواسطة بين مالك ومصعب غير مذكورة، إلا أنه جاء في المستدرك عن مالك عن مصعب، وهنا يوجد آخرون مع مالك .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في شكر المعروف.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) ].
قوله: [ باب في شكر المعروف ].
أي: أن الإنسان يشكر المعروف الذي يسدي إليه، ومعلوم أن كل خير فهو من الله سبحانه وتعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، فكل خير حصل للإنسان فالله تعالى هو المتفضل به، ومن الخير الذي يتفضل الله به على من يشاء من عباده أن يسوق إليه إنساناً يسخره له ويلين قلبه له بحيث يحسن إليه، وهذا الإحسان هو في الحقيقة من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى هو الذي وفق من أراد أن يحسن إليه للإحسان إليه، فهو سبحانه وتعالى متفضل بكل شيء، ولكن كما أن العبد فاعل باختياره، وأنه يحمد على ما يحصل منه من الخير، وكذلك يذم على ما يحصل منه من الشر، فإنه إذا حصل منه الإحسان فإنه يحمد على إحسانه وعلى معروفه، ويشكر على ذلك، والشكر لله عز وجل أولاً وآخراً؛ لأنه هو المتفضل بكل شيء، فهو يتفضل بالخير بسبب أحد من الناس، أو بدون أن يكون هناك سبب من أحد من الناس، فالكل بفضل الله عز وجل، والكل بإحسانه وجوده وكرمه سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يشكر الله عز وجل على كل النعم الظاهرة والباطنة؛ لأنها كلها من الله تقديراً وتوفيقاً، ومن ساق الله تعالى الخير على يديه لإنسان فإنه يشكره ويثني عليه ويدعو له، سواء كان هذا المعروف يتعلق بأمر دنيوي أو بأمر ديني.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، ومعنى ذلك: أن الإنسان إذا كان من عادته أنه لا يبالي بالإحسان الذي يقع له من بعض الناس ولا يشكره، فإن هذا يجره إلى ألا يشكر الله عز وجل، وأن يستهين بالنعم التي حصلت له، فلا يشكر الخالق ولا يشكر المخلوق، بل يغفل عن ذلك ويسهو عنه، ولكنه إذا شكر من جعله الله سبباً، وكان من عادته أن يعرف المعروف لأهله، وأن يشكر صاحب المعروف على معروفه، فإنه يكون شاكراً لله عز وجل؛ ولهذا قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) أي: أن الذي لا يشكر الناس على إحسانهم، بل يقصر في ذلك؛ فإنه أيضاً يقصر في حق الله سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يشكر النعم التي حصلت له بسبب المخلوق الذي جعله الله سبباً في وصولها إليه، ويشكر النعم التي تحصل من الله عز وجل بغير سبب، فيحمد الله ويشكره على كل حال.
قوله: [ حدثنا مسلم بن إبراهيم ].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا الربيع بن مسلم ].
الربيع بن مسلم ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ عن محمد بن زياد ].
محمد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه، وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود .
شكر الناس يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بهما معاً، فيمكن أن يحسن الإنسان إلى من أحسن إليه، ويكافئ من أحسن إليه، ويدعو له، فيجمع له بين هذا وهذا.
ويمكن أن يحمد الإنسان من يسدي إليه خيراً، والحمد أعم من الشكر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس : (أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله! ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم) ].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن المهاجرين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لا، ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم) أي: أنكم بدعائكم لهم وثنائكم عليهم تحصلون الأجر؛ لأنكم عرفتم الفضل لأهل الفضل.
ومن المعلوم أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن المهاجرين معهم الهجرة والنصرة، والأنصار معهم النصرة دون الهجرة، والله جمع للمهاجرين بينهما بقوله: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] فوصفهم بأنهم مهاجرون ووصفهم بأنهم أنصار، وهم إنما تركوا بلادهم لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه، والدفاع والذب عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكن الأنصار كانوا أهل البلد وعندهم الأموال، فكانوا ينفقون، وأولئك تركوا أموالهم وبلادهم، ولا شك أن من أنفق من ماله فهو مأجور وهذا خير له.
قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا حماد ].
هو حماد بن سلمة بن دينار ، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن ثابت ].
هو ثابت بن أسلم البناني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أنس ].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا الإسناد أيضاً من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود .
وقولهم: (ذهبت الأنصار بالأجر كله) أي: بالبذل والعطاء والإنفاق، وليس معناه أن المهاجرين ليسوا أفضل منهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا بشر حدثنا عمارة بن غزية قال: حدثني رجل من قومي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره).
قال أبو داود : رواه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل عن جابر .
قال أبو داود : وهو شرحبيل ، يعني: رجلاً من قومي، كأنهم كرهوه فلم يسموه ].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ (من أعطي عطاء فوجد فليجز به) ].
يعني: وجد مالاً، أو وجد قدرة على أن يكافئ ويجزي به، فإنه يجزي به، بمعنى: أن من صنع إليه معروفاً فيكافئه الإنسان مقابل ما حصل منه من الإحسان، فيقابل الإحسان بالإحسان، فإذا كان واجداً، ذا قدرة مالية؛ فإنه يكافئه ويجزي به ذلك الذي أحسن إليه وأعطاه.
قوله: [ (فإن لم يجد فليثن به) ].
يعني: يثني على ذلك الذي أحسن إليه بعطائه ويشكره، وهذا هو المقصود من الترجمة، أن الإنسان يشكر، ومعلوم أن الثناء والدعاء يمكن أن يكون مع المكفاءة والعطاء، فالإنسان حتى إذا قدر على المبادلة والإحسان فإنه أيضاً يدعو مع ذلك ويشكر عليه ويثني عليه بذلك، لكن إذا لم يكن عند الإنسان شيء يقابل به، فلا أقل من الثناء والدعاء لمن حصل منه الإحسان إليه.
قوله: [ (فمن أثنى به فقد شكره) ].
أي: من أثنى على من أحسن إليه بهذه النعمة, فقد شكره.
قوله: [ (ومن كتمه فقد كفره) ].
أي: كفر هذه النعمة، ومعلوم أن كون الإنسان يشكو من أعطاه، هذا أمر واضح وليس فيه إشكال، وأما أن يخبر الناس أنه حصل له كذا وكذا، وأنه أعطي من فلان، فهذا إذا كان فيه مصلحة فيمكن له ذلك، وإن لم يكن هناك مصلحة، أو كان ذلك الذي أعطاه لا يريد منه أن يذكر ذلك لأحد، أو أن يعلن ذلك، فإنه يخفيه، ولكنه يشكر ويثني على ذلك الذي أحسن إليه.
قوله: [ حدثنا مسدد ].
هو مسدد بن مسرهد ، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا بشر ].
هو بشر بن المفضل ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عمارة بن غزية ].
عمارة بن غزية لا بأس به، وهي بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ حدثني رجل من قومي ].
هذا الرجل من قومه لم يذكر، ولكنه ذكر في الإسناد الثاني، وهو شرحبيل بن سعد ، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة .
[ عن جابر بن عبد الله ].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو صحابي بن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ قال أبو داود : رواه يحيى بن أيوب ].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عمارة بن غزية عن شرحبيل عن جابر ].
الثلاثة مر ذكرهم.
[ قال أبو داود : وهو شرحبيل يعني: رجلاً من قومي ].
يعني: أن ابن غزية قال في الإسناد الأول: رجل من قومي، وفي هذا الإسناد قال: عن شرحبيل ، وهذا هو ذاك.
قوله: [ كأنهم كرهوه فلم يسموه ].
يعني: فيه كلام فلم يسموه في الإسناد الأول.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أبلى بلاء فذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره) ].
هذا مثل الذي قبله في الجملة من ناحية الذكر والشكر، وعدم الذكر والشكر.
قوله: [ (من أبلي بلاء) ].
أي: من أحسن إليه بإحسان، فذكر ذلك الإحسان وأثنى على صاحبه أو مدح صاحبه، أو حمده فقد شكره.
قوله: [ (وإن كتمه فقد كفره) ].
أي: كفر ذلك الإحسان، أو كفر هذه النعمة، وهو مثل الذي تقدم: (من وجد فليجز به، وإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)، فهذا مثل الجملة الأخيرة من الحديث السابق.
وكون الإنسان يذكر النعمة ويذكر صاحبها في نفسه أو فيمن له علاقة به، فهذا يكفي، أما إعلان ذلك في الناس وقوله: فلان أعطاني كذا وأعطاني كذا، فهذا لا يلزم؛ لأنه في هذه الحال قد يتسبب لذلك الشخص بالإحراج، بأن يؤتى إليه ويقال: أعطيت فلاناً فأعطنا.
قوله: [ حدثنا عبد الله بن الجراح ].
عبد الله بن الجراح صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة .
[ حدثنا جرير ].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي سفيان ].
هو طلحة بن نافع ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن جابر ].
جابر رضي الله عنه مر ذكره.
الشكر القولي ليس له صيغة معينة، فيجوز بأي لفظ كان، كأن يقول: شكر الله لك، جزاك الله خيراً، لقد أحسنت، أحسن الله إليك، فكل هذا من الصيغ التي فيها شكر.
ومن المعلوم أن أعظم المنن علينا هي وصول هذا الدين غضاً طرياً بفضل الله، ثم بجهود السلف الصالح رحمهم الله، لاسيما الصحابة رضي الله عنهم الذين بلغوا دين الله تعالى.
وقد سبق أن ذكرنا أن الإحسان قد يكون دينياً وقد يكون دنيوياً، والدنيوي: كالإحسان بالمال، والديني: كالإحسان بالعلم، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أجل الإحسان وأعظمه؛ لأن الإحسان في أمور الدنيا إنما هو زاد للحياة الدنيا، وأما الإحسان في الدين، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالحق والهدى، فهذا فيه مساعدة وإعانة على الزاد الذي يتزود به في الآخرة، ومعلوم أن الحياة الدنيا لا بد لها من نهاية، والإنسان سيأخذ رزقه الذي كتبه الله له، سواء ساقه الله إليه بواسطة أو بغير واسطة، وأما بالنسبة للدين والتفقه في الدين ومعرفة الحق والهدى، والخروج من الظلمات إلى النور، فهذه أعظم النعم وأجلها؛ ولهذا كان حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -الذي ساق الله للمسلمين على يديه هذه النعمة- أعظم حق، ويجب أن تكون محبته فوق محبة كل محبوب من البشر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دل الناس على الحق والهدى، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور.
فالنعمة التي ساقها الله على يديه لا تماثلها نعمة، ولا تدانيها نعمة، بل إن الوالدين اللذين أحسنا إلى الإنسان، وكانا سبب وجوده، وقاما بتنشئته وبتربيته حتى بلغ مبلغ الرجال، حقهما دون حقه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)؛ لأن النعمة التي ساقها الله للناس على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم النعم، وأجل النعم، ولا تماثلها، ولا تساويها نعمة.
وبعد الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الناس فضلاً وإحساناً إلى الناس أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين هم الواسطة بين الناس وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، الذين تلقوا الكتاب والسنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلغوهما إلى الناس، فكل خير حصل للناس إنما جاء عن طريق الصحابة، والناس ما عرفوا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الصحابة، فهم الذين جمعوا القرآن، وهم الذين حفظوا السنة، وهم الذين نقلوا الكتاب والسنة وأدوهما إلى الناس، فكل من حفظ سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأداها إلى الناس فإن الله تعالى يثيبه مثلما يثيب من استفاد من هذه السنة.
وقبل ذلك فإن كل من حصل منه إحسان، أو معروف، أو تقوى وإيمان، فإن للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجور كل أمته من أولها إلى آخرها؛ لأنه هو الذي دلهم على الحق والهدى، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله) وقال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)وعلى العكس من ذلك: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل إثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، وعلى هذا فإن المحبة تكون للرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي بينه عليه الصلاة والسلام، وهي المحبة التي تفوق محبة الوالدين، ومحبة الناس أجمعين.
وأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يدعا لهم، ويشكرون ويذكرون بالجميل اللائق بهم، ولا يذكرون بسوء، وإنما يذكرون بالخير؛ لأن كل خير وصلنا فإنما هو عن طريق الصحابة، ومن قطع صلته بالصحابة فإن صلته بالرسول صلى الله عليه وسلم مبتوتة؛ لأنه لا يوصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة إلا عن طريق الصحابة؛ ولهذا كانوا أفضل هذه الأمة، وخير هذه الأمة، وكان أي واحد منهم أفضل من أي واحد يجيء بعدهم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم بقوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)فقرن الرسول صلى الله عليه وسلم الذين رأوه هم خير الناس، ثم قرن التابعين، ويليهم قرن أتباع التابعين.
والحاصل: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد ساق الله هذا الخير الذي بعث نبيه صلى الله عليه وسلم به عن طريقهم، فإنهم يحبون ويدعا لهم، ويذكرون بالجميل اللائق بهم، وتنزه الألسنة والقلوب عن أن يكون فيها شيء مما لا ينبغي، بل تكون القلوب والألسنة سليمة في حقهم، فلا يكون في القلوب إلا المحبة والذكر الجميل اللائق بهم رضي الله عنهم وأرضاهم، والكف عما شجر بينهم، وألا يذكر منهم أحد إلا بأحسن الذكر؛ لأنهم هم الذين جعلهم الله واسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكرهم يكون بالدعاء لهم والثناء عليهم وذكرهم بالجميل اللائق بهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر