إسلام ويب

الرحالة الكبيرللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جابر بن عبد الله من أكثر الصحابة رواية لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الدرس يروي لنا أربع معجزات من معجزاته صلى الله عليه وسلم، ويذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وصاحبه الذي قتل نفسه ودخل الجنة بعد أن غفر الله له.

    وزيد بن خالد الجهني يروي حديثين عظيمين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مع صاحبه الدوسي

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28].

    سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    سلام الله عليكم في روضة من رياض المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم يجلس المؤمن مع الحبيب عليه الصلاة والسلام, فيتربى في رياضه, ويتعلم بآدابه, فإنه -بأبي هو وأمي- هو الذي رضيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للناس, وأوصد من بعده أبواب الجنة فلا تفتح إلا من بابه, فعلى قوله توزن الأقوال, وعلى حاله تقاس الأحوال, وعلى فعله تقبل أو ترد الأفعال، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    وبجلوسكم هذا لاستماع حديثه صلى الله عليه وسلم فإنكم تطلبون علماً من علم المصطفى صلى الله عليه وسلم, لست أنا المعلم في هذه الجلسة، بل المعلم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, والملائكة تحفكم بأجنحتها, فيبارك الله الجمع, وينزل الله الرحمة, ويغشيكم بالسكينة, ويرشدكم سواء السبيل, وجلوسكم في هذا المجلس طرد للنفاق وللريبة والشك والشبهة؛ لأن أهل النفاق لا يجلسون هذه المجالس, وأهل الدنيا لا يحبون هذه الأحاديث؛ لأن لهم أحاديث أخرى, لكن أحاديث أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام هي في هذه المجالس، يتغذون منها, ومنها يشربون ويستسقون.

    لها أحاديث من ذكراك تشغلها     عن الطعام وتلهيها عن الزاد

    لها بوجهك نور تستضيء به     ومن حديثك في أعقابها حادي

    إذا تشكت كلال السير أسعفها     شوق القدوم فتحيا عند ميعاد

    معنا حديث في صحيح مسلم الذي هو قمر بعد الشمس والشمس صحيح البخاري كما قال ابن القيم: البخاري ومسلم اللذان هما لنا شمسان, ومسلم أبو الحسين , مسلم بن الحجاج عالم رباني قدم هذا الكتاب هدية للأمة, فنحن نقتطف هذه الليلة حديثاً من صحيحه, وأنت إذا سمعت حديثاً رواه البخاري ومسلم فعض عليه بالنواجذ, فقد جاوز القنطرة، وقد أصبح رجاله عدولاً, رضيهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهم من خيرة الأمة لولا ذنوب البشر.

    الحديث الذي معنا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال: قدم p=1000010>الطفيل بن عمرو الدوسي

    على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة فقال: يا رسول الله! هل لك في حصن حصين ومنعة؟ قال عليه الصلاة والسلام: بماذا؟ قال: لنا حصن نحن معشر دوس في الجاهلية لا أمنع منه حصناً, فهاجر إلينا يا رسول الله! نمنعك من أعدائك فأبى صلى الله عليه وسلم لما ادخر الله للأنصار من الخير, فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر p=1000010>الطفيل بن عمرو الدوسي

    إليه في المدينة، ومعه رجل آخر من دوس, فمرض هذا الرجل الدوسي صاحب الطفيل بن عمرو، فلما مرض جزع من المرض, فأقدم على براجمه فقطعها بمشاقص, فمات من آثار الدم, فلما توفي رآه p=1000010>الطفيل بن عمرو الدوسي

    في المنام وهو في أحسن هيئة، وفي أجمل منظر، وهو يخبئ يديه في المنام, قال له: ما فعل الله بك؟

    قال: غفر الله لي ذنوبي بهجرتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال: فما بال يديك؟

    قال: قدمت على ربي وقد قطعت براجمي فقال الله: لا نصلح من جسمك ما أفسدت.

    قال الطفيل: فأتيت الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح فأخبرته, قال: (اللهم وليديه ) هذه روايه مسلم وله اختلاف في اللفظ؛ لأن الإمام مسلماً أتى به ثلاث مرات زاد بعض الزيادات وأنقص, ونسأل الله أن تكون هذه الرواية وافية أو قريبة.

    جابر بن عبد الله الأنصاري يخبر الناس بقصة الطفيل بن عمروالدوسي ودوس: قبيلة من قبائل زهران، ويكفيها أن منها الطفيل بن عمرو وأبا هريرة الراوي النحرير، والعلامة الكبير، صاحب الحديث النبوي، وراوية الإسلام, ودوس من القبائل الجنوبية التي تسكن جبال السروات قبيلة من قبائل زهران.

    قدم الطفيل مكة , بعد أن سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام أطل مشرقاً على جبال مكة بنور وضاء من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فقدم يطلب الخير والهداية قال: [[فلما قدمت، والله ما زال بي كفار قريش يخوفونني من محمد عليه الصلاة والسلام, قالوا: احذره على نفسك، حتى أخذت القطن فجعلته في أذني]] -لئلا يسمع شيئاً من الرسول صلى الله عليه وسلم!

    انظر إلى الدعاية المغرضة، وانظر إلى الإعلام الخائن الذي يشوه سمعة الصالحين! رسول الهدى، منقذ العالم صلى الله عليه وسلم؛ يريد إنقاذ البشرية ويلاحقه كفار قريش بالدعاية الآثمة المجرمة الغاشمة.

    يقولون: ساحر، شاعر، كاهن..! قال: فما زلت حتى وضعت القطن في أذني، فدخلت الحرم فرأيت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب -أنت إذا رأيت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ عرفت من أسارير وجهه أنه لا يكذب أبداً, حتى يقول ابن رواحة:

    لو لم تكن فيه آيات مبينة     لكان منظره ينبئك بالخبر

    فهو لا يكذب أبداً, يقول عبد الله بن سلام -كما في سنن الترمذي -: جفل الناس، وأنا في سوق المدينة فانجفلت من الذي انجفل, فنظرت إلى وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما تبينته عرفته بأن وجهه ليس بوجه كذاب.

    يقول الطفيل بن عمرو: قلت يا عجباً لي! أنا شاعر فصيح, أعرف جد الكلام من هزله, فلماذا لا أسمع ماذا يقول، فإن أعجبني أسلمت وإلا تركت, قال: فأزحت القطن من أذني واقتربت منه, فإذا هو يقرأ القرآن, فوقع الإسلام في قلبي ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4] -يهدي هذا ويضل هذا, ويقدم هذا ويؤخر هذا- قال: فأسلمت ثم عرض عليه القصة, قال له: (يا رسول الله! عندنا حصن حصين -أي: حصن منيع في بلاد زهران- فهاجر إلينا يا رسول الله! فإن عندنا منعة وعزاً ومجداً -أو كما قال- فأبى صلى الله عليه وسلم) قال جابر وهو أنصاري: لما ادخر الله للأنصار من الخير -لأنه شرف في الدنيا والآخرة أن يهاجر إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: فهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , وأما p=1000010>الطفيل بن عمرو الدوسي

    فرجع داعية إلى قومه, كما قال تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31] فأسلم معه أكثر دوس.

    وقد تأبوا عليه أول الأمر كما في صحيح مسلم في قصة أخرى، أنه قدم المدينة فقال: يا رسول الله! دوس فشا فيهم الزنا, وفي رواية: وكثر الربا, فادع الله يا رسول الله! على دوس, فرفع صلى الله عليه وسلم يديه واستقبل القبلة، قال الطفيل: هلكت دوس، هلكت دوس -ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يدعو عليهم بـ: اللهم اقطع دابرهم ودمرهم واجعل كيدهم في نحورهم, وما هكذا أسلوبه صلى الله عليه وسلم إنه أتى لإنقاذ الإنسان، ولإحياء القلوب، ولإنقاذ الشعوب من الضلالة, فكيف يدعو عليهم وهم ما سمعوا لا إله إلا الله- فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدِ دوساً وأتِ بهم, اللهم اهدِ دوساً وأتِ بهم) فعاد الطفيل وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم آية حتى يصدقوه وهي من الآيات التي للأولياء، (كرامات للأولياء) فأوتي نوراً فوضع النور في جبينه, فلما أشرف عليهم وإذا وجهه يسطع نوراً حتى أضاء ما قبل عينيه إلى قراهم, فقال: اللهم اجعلها في غير وجهي فإني أخاف أن يقولوا: مثلة -أي: لئلا يقولوا مرضاً، أو أصابه شيء من الجن، أو مس من الشياطين- فوقع النور في رأس السوط, فكان إذا رفع السوط برقت الأودية بالنور -أودية زهران جميعاً- فقدم عليهم فدعاهم فأسلموا، لم يبق منهم إلا بيوت, وفي السير: أسلموا جميعاً عن بكرة أبيهم.

    فقدم بكثير منهم، فلما وصل المدينة جلس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ومع رفيق آخر, فمرض هذا المسلم الآخر فلما مرض كلّ من المرض, وتعب وسئم, فأتى على مشاقص وهي أشبه شيء بالمقصات، أو السكاكين فقطع أصابعه براجمها -والبراجم عقد الأنامل التي يجتمع عليها العفن- فلما قطعها سالت دماؤه ثم توفي, فرآه الطفيل في المنام وهو في أحسن حالة, وصورة, وفي أجمل منظر, قال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: ما لك تخفي يديك؟ لأنه يخبئها في المنام قال: قال الله لي: لا نصلح من جسمك ما أفسدت, فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح, فقال: (اللهم وليديه فاغفر).

    ما أحسن هذه العبارة" وليديه فاغفر" هذا مجمل قصة الطفيل بن عمرو.

    وتتميماً لقصة هذا الداعية الشهير الطفيل , أخذ فداؤه وتضحيته في سبيل الله، يتنقل به من معركة إلى معركة حتى وصل اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وفي تلك الليلة التي يصبح صباحها المعركة رأى في المنام أن رأسه حلق, وأن طائراً خرج من فمه, وأنه دخل في فرج امرأة, فعرض ذلك على علماء الصحابة في الصباح، قالوا: هذه الشهادة، أما الطائر فروحك تسافر إلى الحي القيوم كما قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] , ولذلك يقول بعض أهل العلم: الطائر في المنام إذا رؤي قد خرج فهي الروح.

    وفي البداية والنهاية بسند حسن أورد ابن كثير في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما توفي في الطائف مكان مسجده الآن عرضت جنازته أمام الناس فرأوا طائراً أبيض على أكفانه، وسمعوا هاتفاً يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

    وأما المرأة التي تدخل فرجها فهذه الأرض, وأما حلق الرأس فالشهادة, لأنها تحلق الذنوب ولا تبقي خطيئة ولا سيئة, ورأى ابنه يلحقه ولا يدركه قالوا: يطلب الشهادة، ثم قتل ابنه في معركة أخرى.

    سلام على أولئك النفر, ورضي الله عنهم جزاء ما قدموا للإسلام.

    أما الراوي هنا فهو جابر بن عبد الله , وهنا لطيفة لأهل التخصص في علم الحديث, وهو أن هذا الحديث من رواية أبي الزبير وهي الصحيفة التي رواها أبو الزبير عن جابر , وأبو الزبير من التابعين وهو مدلس, والمدلس يروي عمن يروي دائماً وينقل، ولكنه لم يسمعه مباشرة منه، وهو تدليس الشيوخ, فهذا الحديث من الأحاديث التي دلسها أبو الزبير , كيف دلسها؟ كيف علم ذلك؟ وذلك لأنه يقول: قال جابر.. وعن جابر , فيحتمل أنه سمعه مباشرة من جابر أو من غير جابر.

    والأستاذ العلامة الألباني رفع الله درجته وأثابه الله يقول: الذي تحصل عند أهل العلم أن كل روايات أبي الزبير عن جابر إذا لم يصرح بها فإنها مظنة الضعف، إلا رواية الليث بن سعد , فإن الليث بن سعد إذا قال: عن أبي الزبير عن جابر.. فقد صح الحديث.

    وقال الذهبي رحمه الله: إذا روى أبو الزبير عن جابر فدلس ولم يكن من طريق ففي النفس منه شيء, ولو كان في صحيح مسلم , والصحيفة كلامها يطول وإنما ذكرتها لفتةً للمتخصصين في علم الحديث.

    1.   

    معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي رواها جابر

    جابر بن عبد الله هو ذلك العالم من علماء الأنصار الذي روى ما يقارب ثلاثة آلاف، وقيل أربعة آلاف من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام, وهو من أكثر الرواة في أحاديث السنة رضي الله عنه وأرضاه, وهو من أكثر من روى المعجزات في تاريخ الإسلام, وأبوه عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، الذي نتسلى بذكره وبقصصه دائماً، وهو الشهيد في معركة أحد والذي كلمه الله بلا ترجمان, والذي نظر الله إليه كفاحاً والله ينظر إلى كل مخلوق يوم القيامة كفاحاً, فقال: تمن يا عبدي! قال: أن تردني إلى الدنيا، فأقتل فيك ثانية, قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون, فتمنّ, قال: أتمنى أن ترضى عني, قال: فإني قد أحللت عليك وعلى إخوانك رضواني فلا أسخط عليكم أبداً.... القصة.

    وعند ابن كثير: فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد الجنة, فتأكل من أشجارها وتشرب من مائها, وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش.

    جابر بن عبد الله رضي الله عنه روى -فيما أعلم- أربع معجزات هي في الصحيحين، بعضها في صحيح البخاري وبعضها في صحيح مسلم.

    حنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    في صحيح البخاري يقول جابر: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة, وقد قال في حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري يقول البخاري: باب صنع المنبر أو صناعة المنبر أو نحو هذا, قال سهل بن سعد: قال صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: مري ابنك النجار يصنع لي منبراً أكلم الناس عليه, فصنع هذا الابن للرسول صلى الله عليه وسلم منبراً, وكان صلى الله عليه وسلم يتكئ على جذع نخلة قبل المنبر إذا أراد أن يخطب، فلما صنع له المنبر ترك هذا الجذع، وقام على المنبر يخاطب الناس عليه صلى الله عليه وسلم, فأول جمعة ترك الجذع فيها وقام على المنبر؛ خار الجذع، وصوّت في المسجد، وأصبح له بكاء كبكاء الأطفال, سمعه أكثر من ألف من الرجال والنساء والأطفال, فقطع صلى الله عليه وسلم خطبته ونزل أمام الناس ووضع يده عليه يدهدهه ويسكته حتى سكت, ولذلك تأثر الناس كثيراً، وبكى أكثر الناس؛ لأن هذا الجذع الخشب الجماد يبكي لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم, فكيف بالإنسان؟ وكيف بالتابع؟ وكيف الذي يريد السنة؟

    إذا مرضنا تداوينا بذكركم     ونترك الذكر أحياناً فننتكس

    هذه قصة في البخاري.

    معجزته صلى الله عليه وسلم مع الشجرة

    وهذه في صحيح مسلم ولا بد من تكرارها دائماً وأبداً حتى تحفظ.

    قالوا: تكرر قلت: أحلى     علماً من الأرواح أغلى

    وإذا سمعت محمداً     قال الملا: أهلاً وسهلا

    يقول جابر: {رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, فلما ذهب لقضاء حاجته تبعته في الصحراء, فقال: يا جابر! تعال, قال: فاقتربت منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يقضي حاجته عليه الصلاة والسلام قال: يا جابر! اذهب إلى تلك الشجرة فقل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: تعالي} إن للرسول صلى الله عليه وسلم ألف معجزة من الله عز وجل على صدقه، وعلى إخلاصه، وعلى نصحه.

    السماء تشهد أنه رسول الله، والأرض تشهد أنه رسول الله, والجبال تشهد أنه رسول الله, ولكن الكافر يوم أصبح عقله ودماغه كدماغ الحمار يقول: هذا سحر..! فلذلك يقول الله له إذا أورده جهنم: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] هل النار سحر؟

    يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15].

    {فقال جابر: فوالذي أعطاني بصري وذهب به - وكان قد عمي في آخر عمره- لقد رأيت الشجرة أقبلت تخد الأرض خداً -تشقها شقاً- حتى وقفت بجانبه عليه الصلاة والسلام, والرسول عليه الصلاة والسلام يتبسم، لا يزيد على أن يقول: أشهد أني رسول الله, فيقول: ادع لي الثانية وقل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: تعالي, فذهب فقال لها كما قال للأولى, فأقبلت تشق الأرض شقاً، أو تخد الأرض خداً حتى وقفت بجانبه عليه الصلاة والسلام} هذا الحديث في صحيح مسلم , سنده كنجوم السماء.

    من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    {فلما انتهى صلى الله عليه وسلم أمر جابراً أن يأمر الشجرتين أن تعودا إلى موضعهما فعادتا كما كانتا} وهذه معجزة.

    معجزته صلى الله عليه وسلم في تكثير التمر

    وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم , قال جابر: أتاني رجل من اليهود عليّ له دين, فقلت: أمهلني؟ فقال: والله لا أمهلك -أو حلف بإلهه وبآلهته- قلت: أنظرني قليلاً؟ قال: أنظرك, فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أشكو له حالي, قلت: {يا رسول الله! هذا يهودي له عليّ مال كثير، ومالي لا يقوم بأداء ماله عليّ, قال عليه الصلاة والسلام: أعندك شيء من تمر؟ قلت: يا رسول الله! شيء قليل من تمر, قال: اجمعه لي حتى آتيك يأتيه في قباء في ديار بني سلمة عند المسجد فأتى عليه الصلاة والسلام قبل صلاة الظهر فدخل قال: أعندك عريش؟

    قال: نعم, فنام فيه قليلاً صلى الله عليه وسلم, ثم استيقظ وأتى إلى التمر وهو حفنات قليلة, ودين اليهودي كثير, فأتى صلى الله عليه وسلم فأكل تمرة ثم دعا بالبركة في التمر, ثم قال: يا جابر! ادع ديانتك جميعاً -أي: كل من له دين عليك في المدينة ادعه ليأخذ من هذا التمر- فأعلن فيهم جابر فأتوا بأكياسهم، وأتوا بمواعينهم، وأتوا بكل ما يستطيعون أن يأتوا به فأخذوا, فقال جابر فوالله ما كأنه نقص تمرة واحدة، قال: فأشرفت على التمر, فتبسم عليه الصلاة والسلام قال: أتشهد أني رسول الله، اذهب إلى عمر بن الخطاب وأخبره بهذا} انظر من اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم كيف اختار عمر؛ لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه رجل إذا كسب فكأنه بألوف، بل بملايين من الرجال, فمثل هذه المعجزات تنفع في مثل عمر رضي الله عنه, فهو أشبه الناس بموسى عليه السلام, ولذلك كثّر الله لموسى من الآيات البينات, حتى موسى لما كلمه الله من فوق سبع سموات وليس بالأمر السهل فلما كلمه قال موسى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] , أي: لا أكتفي بالكلام.

    فلذلك لما ذهب وأخبر عمر قال عمر: لقد علمت والله أنه رسول الله, والله لقد علمت أنه ما أتاك إلا وسوف يبارك الله في ذاك التمر.

    معجزته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام في الخندق

    ومعجزة رابعة وقد تكررت وهي معجزة الطعام, لما دعا جابر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحاب الخندق فكثّر الله لهم الطعام من عناق واحدة، وما يكفي ثلاثة أنفار من الشعير, فدخلوا وهم أكثر من ثلاثمائة وبعضهم يزيد العدد إلى سبعمائة, فأكلوا عشرة عشرة.. وبقي الأكل كما هو حتى شبع جيران جابر.

    فهذه معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي عاشها جابر.

    1.   

    شرح حديث: (اللهم وليديه فاغفر)

    يقول في الحديث: " فاجتووا المدينة " يقول الطفيل بن عمرو: أتيت أنا وقريني هذا إلى المدينة فاجتوينا المدينة , فما معنى اجتوينا المدينة؟

    معنى الاجتواء

    أي لم تناسبهم المدينة وكرهوا جوها وبغضوا الحياة فيها؛ لأنها موبوءة ولذلك دعا لها صلى الله عليه وسلم بالبركة, وسأل الله أن ينقل حماها إلى الجحفة كما جاء عند البخاري , قال: {اللهم إن إبراهيم دعا لـمكة في صاعها ومدها بالبركة، فإني أدعوك أن تبارك في المدينة , اللهم انقل حمى المدينة إلى الجحفة} فنقلت حمى المدينة , لكن كأنه قدم الطفيل قبل أن تنقل الحمى, ولذلك لما قدم الصحابة المدينة وكانوا في جبال مكة , وهي وارفة وجيدة بالنسبة للجزيرة العربية , ماؤها طيب ووادي نعمان فيها، وفيها أرض لا بأس بها، لكن المدينة حارة، قاحلة، ذات حجار سود, فلما قدموا فيها استوخموها, حتى تقول عائشة في كتاب الطب في صحيح البخاري تقول: [[لما قدمنا المدينة مرض أبي، وعامر بن فهيرة وبلال بن رباح , فمررت على أبي فقلت: يا أبي كيف تجدك؟ قال:

    كل امرئ مصبح في أهله     والموت أدنى من شراك نعله

    أبو بكر الحمى تهزه, والحمى تؤثر على المزاج حتى ينشد الإنسان أناشيد ولو لم يستطع أن ينشد, يلقي قصائد ومحاضرات, ومن الحسن أن الحمى تجعل الإنسان يتحفظ محفوظات، ويعيد جدول الضرب، وينشد ويلقي إلقاء عجيباً لأنها حمى, ولذلك العرب تكره الحمى, ويقولون: إن الحمى لا تترك مفصلاً من ثلاثمائة مفصل إلا تدخل فيه, وهي المكفرة للذنوب, حتى يقول أحد الأعراب:

    زارت مكفرة الذنوب     فقلت لها ألا ترجعين

    يقول ابن القيم: ألا تقلعي. وفد المتنبي على كافور في مصر وكافور هذا إخشيدي يلعب على حبلين, يقوم الليل وفي الصباح تقوم الجواري يغنين على رأسه, يقرأ المصحف وبعده يرقص مع الجواري, ولذلك لم يعرف له اتجاه، فوصله المتنبي يريد أن يأخذ إمارة, - المتنبي عنده طموح في الدنيا ولكن لا كَسَب الدنيا ولا الدين، نسأل الله العافية, لكنه شاعر العربية - فلما وصل مرض عند كافور , فيقول في قصيدة الحمى، وهي من أحسن القصائد:

    ملومكما يجل عن الملام     ووقع فعاله فوق الكلام

    وزائرتي كأن بها حياءً     فليس تزور إلا في الظلام

    يقول: الحمى هذه كأنها تخجل مني, ما تأتيني إلا بعد صلاة العشاء, بعدما يتعشى ويشرب الشاي تأتيه الحمى بحفظ الله ورعايته.

    بذلت لها المطارف والحشايا     فعافتها وباتت في عظامي

    أبنت الدهر عندي كل بنت     فكيف نجوت أنت من الزحام

    يقول: عندي كل مصيبة في الدنيا وكلما وقعت على رأسي, وحتى أنت تزاحمين مع المصائب لتدخلي في عظامي, فالعرب تتشاءم من الحمى- قالت عائشة كما في البخاري -: فمررت على بلال قلت يا بلال: كيف تجدك؟ قال:

    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليل

    وهي من أحسن قصائد العرب وهي للهذلي أوردها صاحب الأغاني وغيره وابن قتيبة , يقول:

    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليل

    وهل أردن يوما مياه مجنة      وهل يبدون لي شامة وطفيل

    شامة: جبل في مكة , وطفيل: جبل, والإذخر: شجر, وجليل: قيل: شجر، وقيل: جبل, والحمد لله سواء كان شجراً أم جبلاً لا يوجب الخلاف بين أهل السنة والجماعة لأن بعض العلماء إذا لم يعرف اسم شجرة في كتاب قال: شجرة تنبت في الهند لأنه يدري أنك لن تسافر إلى الهند فأحالك إلى معدوم, ومن أحالك على معدوم فما أنصفك.

    قال: فاجتوينا المدينة والاجتواء أي: عدم الموافقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الله أن ينقل الحمى من المدينة، ولذلك وفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفد من عكل وعرينة, سبعة وقيل: ثمانية -وهذه رواية سلمة بن الأكوع في البخاري - أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأكراشهم قد كبرت من السقم, ومن الهرم ومن الإعياء, بطونهم منتفخة كبيرة ولكن أعضاؤهم صغيرة, فنظر إليهم صلى الله عليه وسلم وإذا هم صفر الوجوه، ضمروا من التعب والإعياء, فأراد أن يعالجهم صلى الله عليه وسلم وأن يداويهم وانظر إلى حسن الخلق، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: {اذهبوا إلى إبلي في الغابة فاشربوا من أبوالها وألبانها} وبول الإبل: طاهر, قال البخاري في صحيحه: باب طهارة أبوال الإبل، وأتى به في باب الوضوء, وبعض الناس إذا وقع عليه شيء رش من أبوال ما يؤكل لحمه, غسلوه وظنوا أنه تنجس ولم يتنجس, بل بول ما يؤكل لحمه طاهر- فذهب هؤلاء فشربوا من أبوالها، ثم شربوا من ألبانها فاصطحوا, فلما اصطحوا، ماذا كان الجزاء؟

    أتوا إلى خادم الرسول صلى الله عليه وسلم راعي الإبل فقتلوه, ثم جدعوا أنفه, ثم قطعوا أذنيه, ثم قطعوا يديه وكفروا بالله العظيم, ثم استاقوا الإبل وخرجوا, قال سلمة بن الأكوع: فخرجت قبل صلاة الفجر بفرس لـطلحة بن عبيد الله أريد أن أوصله الغابة فلقيني رجل من الخدم فقلت: ما لك؟ قال: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، ومثل به، واستيقت إبل الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: فأشرفت على جبل من جبال المدينة فصوَّتُ بصوتي حتى أسمعت ما بين لابتي المدينة -هذا إعلان طارئ، واستنفار عام من سلمة وكان من أقوى الناس صوتاً، ومن أسرع الناس، وربما يكون فيمن ذكر في السير- فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم الصوت قبل صلاة الفجر, فصلّى عليه الصلاة والسلام بالناس الفجر -لكن سلمة ما ترك هؤلاء بل خرج بعدهم- قال: فخرجت وراءهم حتى أدركني الضحى وأنا وراءهم، فإذا بهم بإبل الرسول صلى الله عليه وسلم يسوقونها إلى غطفان في نجد , فأخذت أرجمهم بالحصى وكنت من أسرع الناس, فإذا عادوا إليّ وبعضهم خيال أفر حتى أعتصم بالجبل, فإذا ذهبوا رميتهم بالحجارة وأريد تعطيلهم حتى يدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: حتى تحاجزنا مع الظهيرة يريدون الماء، وأبيت أن يشربوا من الماء، فيقول أحدهم: كم لقينا من هذا؟ وهو ينشد ويرتجز يقول:

    إني أنا ابن الأكوع      اليوم يوم الرضع

    قال: ولما أتى الظهيرة وإذا بغبار قد انعقد على رأسي وعلى رءوسهم، فإذا هي كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائدها كرز بن عبد الرحمن -البطل المجاهد الشاب, أعطاه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة خيال من الصحابة، ومن شجعانهم فطوقوهم ثم أتوا بهم، فلما استدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , أجلسهم في الحرة , ثم سمل أعينهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, ثم تركهم حتى يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا, وهذا جزاء من كفر بالله، وحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذا من الاجتواء.

    اجتوى: هذه الكلمة لا بد من معرفتها قليلاً، ولو أنها قد وضحت إن شاء الله, فمعنى اجتويت الشيء: ما ناسبني, يقول أبو شريح وقيل: أبو سحيم الرياحي وهي من أحسن القصائد عند العرب:

    أفاطم قبل بينك متعيني     وإن لم تفعليه كأن تبيني

    فإما أن تكون أخي بصـدق     فأعرف منك غثي من سميني

    يقول: أريد أن تكون واضحاً، لا تكون مجاملاً ومنافقاً معي..

    وإلا فاطرحني واتخذني     عدواً أتقيك وتتقيني

    فإني لو تخالفني شمالي     ببغض ما وصلت بها يميني

    إذاً لقطعتها لقلت بيني     كذلك أجتوي من يجتويني

    أي: أبغض من يبغضني.

    قال: (ثم قطع براجمه) وهي السلامى على الصحيح كما قال النووي: هي المفاصل, كم يكون في الأصابع أو في الكف الواحدة من سلامي!

    يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: { على كل سلامى من الناس صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين اثنين صدقه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم, فالتسبيحة صدقة، والتهليلة صدقة، والتحميدة صدقة, وأمر بمعروف صدقة, ونهي عن منكر صدقة, ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى, أي: أنك إذا صليت في الضحى ركعتين اثنتين، خفيفتين قصيرتين، كتب الله لك الأجر ثلاثمائة وستين حسنة، بعدد هذه المفاصل, وهذا فضل من الله عظيم, والبراجم هذه هي التي في رءوس الأصابع التي يجتمع عليها الأوساخ, وفي رواية صحيحة: {وغسل البراجم} عشر خصال من الفطرة، وذكر صلى الله عليه وسلم فيها غسل البراجم, لأن الجاهليين لم يكونوا يغسلون هذه البراجم, فمن السنة غسلها عند الوضوء أو عند غير الوضوء حتى يكون الإنسان طاهراً نقياً.

    من تلبس بمعصية ومات عليها

    من تلبس بمعصية هل يدخل الجنة إذا رجحت حسناته؟

    نحن لا نقول كما قالت الخوارج: من ارتكب كبيرة فهو خالد مخلد في النار, كذبوا لعمر الله وتبت أيديهم, فقد هلكوا في هذه المسألة وفي غيرها وغلو غلواً كبيراً, وهؤلاء الخوارج كفروا الناس بالذنوب, والمرجئة قابلوهم فقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب, وتوسط أهل السنة والجماعة والسلف الصالح وقالوا: لا, أخطأتم أيها الخوارج , فلا يكفر العبد بالذنوب إذا كانت أصول الإيمان عنده، ولكن من ارتكب كبيرة فهو تحت رحمة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، لكنا نخشى عليه العذاب, وأنتم أيها المرجئة! أخطأتم كذلك حينما قلتم: لا يضر مع الإيمان معصية, بل تضر المعصية فهي تنقص الإيمان، وتخدش الحياء، وتقطع الحبل مع الله, وتورث الوحشة، وربما يدخل بها صاحبها النار، لكن لا يخلد في النار, فهذا توسط أهل السنة والجماعة.

    فشاهدنا من هذه القصة أن هذا الرجل قتل نفسه.

    وما حكم قتل النفس؟! قتلها كبيرة من الكبائر, وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قتل نفسه بسم كان معه سمه في النار يتحساه, ومن قتل نفسه بسكين كانت معه سكينه يقتل أو يجأ بها في بطنه في النار, ومن قتل نفسه بشيء -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- عذب بهذا الشيء في النار} فهذا الرجل لما قطع براجمه استعجل والله عز وجل هو الذي أعطى الروح وأعطى النفس, فليست ملكاً لصاحبها حتى يبادر بإهلاكها وإزهاقها, فمن أكبر الكبائر أن يقتل الإنسان نفسه, أو ينتحر, وهذا ليس في الإسلام فإنه ليس في الإسلام صعوبة تصل بهذا العبد إلى هذه الدرجة, صحيح أن الذي ينتحر هو الذي ما ملأ قلبه بلا إله إلا الله, الذي ينتحر هو الذي ليست له مبادئ في الحياة, الذي ينتحر هو الذي لا يؤمن بالله عز وجل، لا يؤمن بنعيمه ودرجاته وثوابه.

    والعجيب أن صاحب كتاب " دع القلق وابدأ الحياة " دايل كرنيجي الأمريكي ترجم بتسع وخمسين لغة من لغات العالم، وهو من أشهر كتب الدنيا, هذا الرجل أراد أن يعالج الناس, يقول: إن القلق ضرب الناس حتى ملأت المستشفيات في أمريكا من أهل القلق والاضطراب، وأراد أن يعالجهم فألف لهم هذا الكتاب, ثم في آخر عمره انتحر هو بالسكين!! هو الذي يريد أن يعالج الناس انتحر بالسكين وقتل نفسه, لماذا؟ لأنه ما عرف طريق الله، وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

    فالشاهد هنا أن هذا الرجل لما حشر وذنبه دخل الجنة، لأن حسناته أكثر، أسلم وهاجر، وجاهد وصام وصلّى فكثرت حسناته على سيئاته فدخل الجنة.

    أقسام المسلمين عند الله عز وجل

    والناس عند الله عز وجل من المسلمين ثلاثة أقسام, فاعلم من أي الثلاثة أنت، والله لتنـزلن أحد المنازل الثلاثة إن كنت من المسلمين, ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإسلام, أما إذا خرج الإنسان عن الإسلام فهذا أمر آخر.

    يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] فأنت يوم القيامة إن كنت مسلماً سوف تنزل أحد المنازل الثلاثة ليس لك منزل رابع إلا من خرج عن الإسلام، نسأل الله العافية.

    القسم الأول: الظالم لنفسه: وهو من يخل ببعض الفرائض، ويرتكب بعض الكبائر, هذا تعريف, أي: يخل بفرائض الإسلام, قد يزني أو يشرب الخمر أو يسرق.. هذا ظالم لنفسه لكنه لم يخرج عن دائرة الإسلام, لا نقول كما قالت الخوارج أنه خرج من الإسلام.

    القسم الثاني: المقتصد: وهو الذي يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، لكنه لا يأتي بالمستحبات ولا يترك المكروهات.

    القسم الثالث: السابق بالخيرات: وهذا من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , هو الذي يأتي بالفرائض والنوافل والمستحبات ويترك الكبائر والمحرمات والمكروهات, فسيره حثيث دائماً.

    من لي بمثل سيرك المدلل     تمشي رويداً وتجي في الأول

    هؤلاء هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, قال ابن تيمية: الناس مقتصدون أصحاب يمين, وأبرار سابقون بالخيرات، يقصد الصلحاء ويأتي في الفجار من هو ظالم لنفسه، لكنه لا يزال في دائرة الإسلام، وهو تحت رحمة الله عز وجل, لكن نخشى عليه التنكيل والعذاب.

    وهنا مداخلة بسيطة، وهي عبارة عن سؤال حول هذه الآية: قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا [النساء:93] أحسن ما قيل فيها والله أعلم قول ابن عباس رضي الله عنه قال: [[جهنم جزاؤه إن شاء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جازاه بها فهو خالد مخلد وهي جزاؤه, وإن شاء غفر له]] لكن هنا مسألة كيف يكون خالداً مخلداً؟ قيل: هو من يستحل القتل, أي: أنه يرى أن القتل حلال, يقول له: كيف تقتل نفساً معصومة؟ قال: أحل الله القتل, فهذا خالد مخلد؛ لأنه أنكر أمراً من أمور الله عز وجل أو من نهيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وقيل: هذه ليست على الأشخاص لم يقل الله: فلان إذا قتل فلاناً دخل النار خالداً مخلداً, لكن جعلها الله على العموم وليس على الأشخاص, لكن جزاؤه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه, هذا من أحسن ما يقال فيمن يستحل القتل، أما الذي لا يستحل القتل، فقد ارتكب كبيرة وأمره عند الله عز وجل.

    أحسن الدعاء

    من رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته, دعاؤه لهم عليه الصلاة والسلام, ولذلك لم يغضب عندما أخبره الطفيل بن عمرو أن هذا قتل نفسه ومع هذا لم يغضب عليه الصلاة والسلام بل قال: {اللهم وليديه فاغفر} والرسول صلى الله عليه وسلم كان من أرحم الناس بالأمة, ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] فهو رؤوف بهم رحيم بهم عليه الصلاة والسلام، وقد دعا لأناس في مناسبات.

    {زار عليه الصلاة والسلام البراء بن معرور في المدينة فوجده مريضاً, فلما زاره وانتهى عليه الصلاة والسلام وعاد إلى مسجده وإذا بصوت البكاء فالتفت فقال: ما هذا؟ قالوا: توفي بعدك البراء يا رسول الله! فالتفت إلى القبلة وقال: اللهم الق البراء يضحك إليك، وتضحك إليه} هذا من أحسن الأدعية في الإسلام, لا يتصور الإنسان أن يلقى ربه وهو يضحك إليه، والإنسان يضحك إلى الله!

    وفي صحيح البخاري قال أبو موسى: {لما قتل أخي أبو عامر أتيت الرسول عليه الصلاة والسلام، قلت: يا رسول الله! ادع الله لأخي؟ قال: فتوضأ عليه الصلاة والسلام واستقبل القبلة يدعو قال: فوقفت بجانبه وقلت: ولي.. ولي يا رسول الله..!} -فقد استغلها فرصة، رضي الله عنه وأرضاه, هو أول الأمر نسي نفسه وأراد أخاه، وعندما قام صلى الله عليه وسلم يدعو فلما رأى اليدين ترتفعان، وعلم أنه مجاب الدعوة، وأنه أفضل خلق الله، قال: {ولي ولي يا رسول الله! فأخذ صلى الله عليه وسلم وهو يدعو يقول: اللهم ارفع أبا عامر وأبا موسى فوق كثير ممن خلقت وفضلهم تفضيلاً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    ودعا صلى الله عليه وسلم لـأبي قتادة فحفظه الله، وحفظ ذريته, يقول أبو قتادة: { سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -في غزوة تبوك - وكان صلى الله عليه وسلم على ناقته, فأخذ بعد صلاة الفجر ينعس حتى يكاد يسقط, فأقترب منه وأدعمه، وأرده على الناقة فينتبه وينظر إليّ, قال: فينعس صلى الله عليه وسلم فأرده حتى يستثبت, وقال: ثالث مرة مال عليه الصلاة والسلام فدعمته بيدي فانتبه فرآني فقال: حفظك الله بما حفظت نبيه} ما أحسن هذه الكلمة! فحفظه الله في ذريته، وفي قلبه، وفي بيته، فما أصابته فتنة أبداً, مرت به الفتن وكأنه في بروج مشيدة عنها, وكان أبناؤه من خيرة الناس، ولما نزلت الفتن لم تصب ذريته بفتنة، ولم تصب بالحوادث والكوارث، والفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {حفظك الله بما حفظت نبيه}.

    وكان عليه الصلاة والسلام يعطي كلاً ما يناسبه من الدعاء, إذا جاءه بنحيل البنية يسأله صلى الله عليه وسلم فماذا يدعو؟ يقول: {قل لا حول ولا قوة إلا بالله} , لأن لا حول ولا قوة إلا بالله كنـز وقوة, تقوي العبد كحالة أبي ذر رضي الله عنه فقد كان حاداً وضعيفاً فقال: {يا رسول الله! أوصني؟ فأوصاه بثمان -هذا عند ابن حبان - قال: وعليك بلا حول ولا قوة إلا بالله فهي كنـز من كنوز الجنة} فأتى الصحابة كما في الصحيحين من حديث أبي موسى - يصعدون الثنايا ويكبرون ويرفعون أصواتهم, قال عبد الله بن قيس وكنت أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله -ما يسمعه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: فاقتربت من الرسول عليه الصلاة والسلام فقال للصحابة: {يا أيها الناس أربعوا -أي: خففوا من الصوت- على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً وإنما تدعون سميعاً بصيراً، أقرب لأحدكم من عنق راحلته، ثم التفت إليّ وقال: يا أبا موسى يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنـز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله, قال: عليك بلا حول ولا قوة إلا بالله} فلا حول ولا قوة إلا بالله جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لحمل الأثقال للبنية الضعيفة، لمن يصعد الجبال لمن يزاول أموراً مهمات من أمور الدنيا, أما الإنسان الجالس على فراشه فأنسب له غير هذا ولو أنه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله لكتب له أجر, لكن إنسان نائم على فراشه وهو طيلة يومه: لا حول ولا قوة إلا بالله هو مأجور ومشكور لكن يقول أهل العلم: إن من الأحسن أن يتذكر الإنسان حاله ثم يأتي بحال تناسب أو بذكر يناسب هذا الحال.

    أنت إذا رأيت الجبال الشاهقة، والأشجار الوارفة، ورأيت آيات الله في الكون؛ لمع الضياء؛ وخرير الماء.

    وكتابي الفضاء أقرأ فيه      صوراً ما قرأتها في كتاب

    فما هو الذكر المناسب؟ المناسب إذا رأيت ذلك أن تقول: سبحان الله! لأن الله إذا أتى بالآيات في القرآن قال: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:23].

    لأنك تنـزهه، فهل بعد هذه الآيات، وبعد هذا الكيان، وبعد هذا الفلك، وبعد هذه القدرة يعبد من دون الله، سبحان الله! فأنسب شيء لهذه الآيات أن تقول: سبحان الله!

    رأيت نفسك وصحتك وأبناءك أمامك, ورأيت دارك ومسكنك وسيارتك فالأنسب أن تقول: الحمد لله! وأول من يدخل الجنة الحامدون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء.

    تذكرت ذنوبك وخطاياك وإسرافك وبلاياك وبعدك عن مولاك فالأنسب لذلك أن تقول: أستغفر الله.

    تذكرت الوحدانية، وأثقل كلمة في التاريخ هي لا إله إلا الله حتى يقولون: إن الكلمات كلها تنضم الشفتين فيها إلا لا إله إلا الله فتبقى الشفتان غير مضمومة في هذه الكلمة لا إله إلا الله, يقول ابن الجوزي: لا إله إلا الله لا تقبل المزاحمة حتى النقط ليس عليها نقط، الله أكبر فيها نقطة، سبحان الله فيها أيضاً نقطة, لكن لا إله إلا الله ليس فيها نقط لأنها كلمة دمرت الدنيا من أجلها خمس مرات, قال ابن تيمية: أفضل الذكر لا إله إلا الله.

    جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه حصين بن عبيد وهو أبو عمران بن حصين، بعض الناس ضبطه ابن معبد لكن صاحب الإصابة يقول: ابن عبيد , وصاحب أسد الغابة يقول: ابن عبيد , قدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -خزاعي من خزاعه- فقال عليه الصلاة والسلام: {كم تعبد يا حصين؟ قال: أعبد سبعة -أي: سبعة آلهة- قال عليه الصلاة والسلام: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء} لأن الجاهليين بلغ بهم الإسفاف وهبوط العقل إلى درجة عقول الأطفال, بل الأطفال يميزون أكثر من ذلك, يأتي بأثافي -والأثافي هذه حجارة توضع عليها القدر- فإذا طبخ وتغدى؛ قام على حجر من هذه الأثافي يصلي له، ويسجد له, أهذا عقل؟ وإذا أعجبته شجرة طويلة وجميلة سجد لها، وعبدها من دون الله, فإذا رأى شجرة أخرى تفل هذه ورجع إلى تلك.

    عمر رضي الله عنه وأرضاه قبل إسلامه أتى بصرة من التمر ولو أن في سند هذه الرواية نظراً، قال: فكان يصلي ويعبد ويسجد لها من دون الله عز وجل في الجاهلية، فإذا جاع أكل منها ما شاء الله، يأكل من ربه!!

    أحدهم ذهب إلى آلهة -في جدة في جهينة- فأتى وإذا آلهتهم صنم تبول عليه الثعالب, قال:

    أرب يبول الثعلبان برأسه     لقد ذل من بالت عليه الثعالب

    فالله عز وجل نقدهم في القرآن وشن عليهم وشجب أفعالهم بشيء عجيب, ولذلك إذا ذكر الله الشرك في القرآن فإنه يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويستهزئ بأصحابه, ويقول: أين العقول؟ يخاطبهم الله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] , أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس:3] , أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:72].

    فالشاهد في ذلك أن هذا أتى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة, قال: أين هم السبعة؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء, قال: من لرغبك ولرهبك؟} -أي: من إذا اشتدت عليك الأمور, وذلك أنهم كانوا إذا اشتدت عليهم الأمور تركوا التمر، والشجر، والحجر الذي يعبدون، وعادوا إلى الله, جُربوا في مواضع, إذا ركبوا من جدة في السفينة ومرت عليهم الريح عاصفاً، قاصفاً، وأحسوا بالهلاك قالوا: يا حي يا قيوم! يا رب يا رب! فإذا نزلوا في الساحل وقبل أن يأخذوا أمتعتهم من السفينة يكفرون بالله! قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].

    - قال: {من لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء, قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء, فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قال: ألا أعلمك دعاءً تدعو به ينفعك الله به؟ قلت: بلى يا رسول الله, قال: قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي} ينبغي أن نحفظ هذا الدعاء، وهو من أحسن الأدعية على الإطلاق, لأن حاله ملتبسة فيناسب أن يهديه صلى الله عليه وسلم لهذا الدعاء.

    يقول علي بن أبي طالب : {علمني يا رسول الله! دعاءً أدعو الله به, قال صلى الله عليه وسلم: قل اللهم اهدني وسددني, واذكر بهدايتك هدايتك الطريق، وبتسديدك تسديدك السهم} هذا حديث في صحيح مسلم فكان علي دائماً يقول: اللهم اهدني وسددني, فهداه الله وسدده, حتى في حروب الطوائف المارقة مثل الخوارج وغيرهم، هداه الله فقتل المارقين، ورفع راية الدين، واتبع سيد المرسلين فله الرضوان من رب العالمين.

    وأبو بكر يقول: يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو به في صلاتي؟ قال: {قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وفي رواية: كبيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}. هذا حديث أبي بكر في الصحيحين.

    وحديث معاذ يقول له صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! والله إني لأحبك -ما أحسنها من كلمة!- لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} فجعل صلى الله عليه وسلم لكل أحد ما يناسبه.

    وانظر كيف يقسم صلى الله عليه وسلم الأدعية بمناسبة الناس, يأتيه ابن عباس وهو شاب صغير متهيئ لطلب العلم فدعا له قال له كما في الصحيحين: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل } ففقهه الله فكان حبر الأمة, وترجمان القرآن, وبحرها وعلامتها، ولسان منبرها رضي الله عنه وأرضاه.

    هذا الحديث الذي معنا هذه الليلة ينتهي بقصة سعد قال للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة, قال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} ثم قال: {اللهم سدد رميته وأجب دعوته} فكان إذا رمى بالقوس لا تقع الرمية، ولا يقع السهم إلا في نحر كافر, يقول له صلى الله عليه وسلم يوم أحد: { ارم سعد فداك أبي وأمي} قال علي بن أبي طالب: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبيه وأمه إلا سعد بن أبي وقاص. كان عليه الصلاة والسلام إذا رمى سعد الكفار ارتفع صلى الله عليه وسلم من بين الناس ينظر الرمية، فيراها تقع في لبة كافر فإذا هو مشدوخ كالثور على الأرض, فيتبسم عليه الصلاة والسلام ويقول: {إرم سعد فداك أبي وأمي} , وكان يقول: {هذا خالي فليرني كلٌ خاله} كأنه يتحدى به, فـسعد هذا الأسد في براثنه.

    ولما خرج عمر رضي الله عنه لقيادة المعركة الفاصلة مع كسرى أنوشروان الضال جد الخميني , خرج عمر رضي الله عنه يريد تصفية حسابه فلما نزل في غدير الخضمات اجتمع به الناس, فأراد أن يقودهم فأتى أبو الحسن علي بن أبي طالب قال: يا أمير المؤمنين! إلى أين تذهب؟ قال: أقود المعركة أقود المسلمين, قال: يا أمير المؤمنين! إنك إن قتلت -انظر إلى عقلية أبي الحسن رضي الله عنه- لم يكن للناس درء ودرع بعدك، وإني أخاف أن يستحوذ على عاصمة الإسلام -المدينة - فأرى أن تبقى في المدينة وأن ترسل جيشاً فإذا غلبوا كنت لهم ردءاً وردفاً أو كما قال, فاستصوب عمر هذا الرأي, قال: لكن من يقوم بهذه المهمة؟ قالوا: نفكر -فدخلوا الخيمة يفكرون ملياً، من يختارون في هذا المنصب الخطير! فإنه ليس منصباً سهلاً، ليست إلقاء كلمة أو خطبة أو محاضرة، أو إرسال لرعي غنم أو إبل، أو رسالة يوصلها ويرجع، لا: بل هي دكدكة إمبراطورية الظلام، التي عشعشت في تاريخ الإنسان, ومعناها أن يجتاح هؤلاء الظلمة عن وجه الأرض، وأن تؤسس لا إله إلا الله في الأرض، فدخلوا في خيامهم وأتى عبد الرحمن بن عوف يهرول إلى عمر رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! وجدت الأسد في براثنه, قال: من؟ قال: سعد قال: أصبت أصاب الله بك الخير, واختاره عمر واسمع وصايا القائد الخليفة، للقائد العظيم يقول: يا سعد لا يغرنك قول الناس: إنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن الناس ليس بينهم وبين الله نسب, أحبهم إلى الله أطوعهم له فإياك والمعاصي، هذه وصايا صادقة من عمر تقبلها سعد رضي الله عنه تقبل الله منا ومنه, وخرج ودكدك ذلك الظلم, وبنى دولة الإسلام، ولما دخل إلى إيوان كسرى رآه مموهاً بالذهب، فكبر سعد فانصدع الإيوان من أوله إلى آخره, ودمعت عينا سعد دموع الفرحة, وقال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ [الدخان:25-28].

    ويذكر أهل السير أنه بعد ما يقارب خمسين سنة, دخل رجل اسمه أبو صخر وقيل: ابن مالك، (غامدي) دخل بغنمه فرعت حول الإيوان، ودخل بعضها في الإيوان, لأن شيئاً أسس على الضلال يعاد إلى هذا, ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: {إن على الله حقاً ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه}.

    القاهر أحد الخلفاء العباسيين -نسأل الله أن يغفر لنا ولكل من سلف- ذكر ابن كثير في ترجمته قال: أتى القاهر فكان أول ما فعل أن بطش بالناس، قتل كثيراً, وجمع الذهب والفضة وحفر بركاً في الأرض -خزانات- وأخذ الذهب والجواهر يصبها في الأرض صباً, فيقول له الناس: ما لك؟ قال: أريد ألا أفتقر أبداً, لأن الذي لا يستند إلى الله ولا إلى غنى الله وثروته؛ سوف يفتقر قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

    فهذا اعتمد على قوته ولم يعتمد على الله, أخذ الذهب والمجوهرات والفضة وكل شيء وأخذ يضعها في البرك, فإذا امتلأت البركة غطاها, ويفتح بركة أخرى, خزانات من الأموال, لكن في الأخير ماذا حصل..! عزل من خلافته, وسلبت أمواله, وفرق أولاده جميعاً، وسملت عيناه حتى عمي, وقام بعد عشرين سنة في مسجد المنصور في بغداد يمد يديه: من مال الله أيها الناس..! لأن من اكتفى بالله رعاه وكفاه, ومن حفظه حفظه, ومن ضيعه ضيعه, والجزاء من جنس العمل.

    1.   

    حديث زيد بن خالد الجهني

    هذا هو الحديث, وما بقي من الوقت لحديث آخر في الأحكام وهو حديث زيد بن خالد الجهني , يقول زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ضالة المال -وفي رواية ضالة الذهب- قال صلى الله عليه وسلم: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها, قال: يا رسول الله! فضالة الإبل؟ فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمر وجهه, ثم قال: ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر، قال: يا رسول الله! فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق على هذا الحديث, وفيه قضايا.

    انظر إلى فقه البخاري عندما بوب لهذا الحديث: باب الغضب في الموعظة, أي: هل يجوز للأستاذ أن يغضب؟ أو حرام عليه أن يدخل الحصة جميعاً من أولها إلى آخرها ثم لا يغضب أبداً ولا يحمر وجهه؟ لا. إن له أن يغضب، ومن المصلحة أن يغضب, والله يقول عن موسى وهو معلم من المعلمين وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ [الأعراف:154] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55].

    أي: أغضبونا، والمعنى: تجاوزوا الحد حتى انتقمنا منهم, والرسول صلى الله عليه وسلم غضب لكن غضبه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

    يقول أحمد شوقي:

    وإذا رحمت فأنت أم أو أب     هذان في الدنيا هما الرحماء

    وإذا غضبت فإنما هي غضبة     في الحق لا كبر ولا ظغناء

    وإذا سعيت إلى العدا فغضنفر     وإذا جريت فإنك النكباء

    فالرسول عليه الصلاة والسلام إذا غضب، غضب لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

    أتاه هذا السائل يقول: يا رسول الله! ضالة المال، هذه المجوهرات الثمينة، وهناك السوط وهو لا يعرَّف أو شيء يستحقر، أو لا تتبعه إلا همة أراذل الناس هذا لا يعرف, إنسان يجد حبلاً طوله متران في الأرض ويظل في الجوامع دائماً بعد صلاة الجمعة: من ضيع جداً طوله متران نايلون..؟!! لونه أصفر..!! وجدته الساعة كذا..!! في شمسان..! فمن هو حقه فعليه أن يأخذه..! أو يخبر به!! وأنا أريد أن أبرئ ذمتي..! هذا لا يستحق وقوفك ولو دقيقة معه, فهذا لا يعرف به, إنما يعرف بالأمور المهمة الخطيرة, وتعريفها سنة كما قال عليه الصلاة والسلام, وتعريفها في مجامع الناس, لكن قبل هذا ما هو المال الذي يعرف؟

    المال الذي يعرف هو ما له ثمن, إنسان وجد شيئاً من مال، فعليه أن يعرف وعاءه وعفاصه ووكاءه, والوكاء ما يوضع في فيه, والحبل الذي يشد به, إذا وجدت حقيبة فيها مال فتعرف عليها ثم عرفها, لا تأت إلى الناس وترفعها وتقول: من ضيع هذه الحقيبة، كلهم سيقولون: نحن أضعناها, أو تجد قلماً وتقول: من ضيع هذا القلم؟ فيأتي الطلاب كلهم يقولون: نحن ضيعناه؛ لأن الناس يريدون التملك, والقلوب بين يدي الله عز وجل, لكنك تأتي وتقول: من ضيع قلماً طوله كذا، وعرضه كذا ولونه كذا أو ساعة..! وتعرفها ثم يأتي صاحبها ويأخذها.

    هذا أشعب الطماع أحد الطفيليين في المدينة المنورة، كان شديد الطمع، وجد ثلاثين ديناراً في السوق, ثلاثون ديناراً تعني مكسباً وهو فقير مسكين, وسموه بالطماع؛ لأنه لا يسمع بمناسبة أو حفل زواج، أو أكل أو شرب، إلا ويذهب إليها, يقول: والله ما رأيت إنساناً يصنع الصحون إلا قلت: وسع..! وسع..! في الصحن, فيقول له الصانع: لماذا؟ قال: أخشى أن يهدى لي فيه طعام فيكون الطعام قليلاً..!

    وأتى مرة فاجتمع عليه أطفال المدينة يلعبون معه فآذوه, فلما آذوه قال: إن في ذاك البيت زواجاً, يريد أن يتخلص منهم, فهرولوا إلى ذاك البيت, فلحقهم وقال: قد يكون الخبر صحيحاً..!! ذكر ذلك الذهبي وغيره.

    شاهدنا في هذه القصة أنه وجد ثلاثين ديناراً في السوق, فلما رفعها قال: الحمد لله ما شاء الله هذا مكسب ولم يستحلها بهذه الطريقة, ذهب إلى عالم من علماء المدينة , قال: وجدت ثلاثين ديناراً, قال: عرفها في السوق, فذهب أشعب وقال: إذا عرفتها فسيأخذها الناس, فاشترى بها قطيفة وقال: من ضيع قطيفة؟! فلم يأخذها أحد فتملكها.

    فالمقصود أن الإنسان إذا وجد معيناً كما قال صلى الله عليه وسلم يعرفها بعينها, لا أن يجد خمسمائة ريال ورقة ويقول: من ضيع خمسمائة ريال متفردة، بالريال؟! أو يغير من لونها, يقول: (اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة).

    قال صاحب تيسير العلام: وللأجهزة الآن أن تتدخل في الإعلام، وهذا لا بأس به عند علماء الإسلام, لكن الأشياء الخطيرة مثل التلفاز والراديو والصحف اليومية، يجوز أن يعلن فيها لكن للأشياء الثمينة, أما أن يجد الإنسان خمسين ريالاً فيذهب إلى جريدة عكاظ وجريدة الجزيرة وجريدة الندوة يعلن ثلاثة إعلانات بمائة وخمسين ريالاً, من ضيع خمسين؟!!

    ضيع أعرابي ناقة, فقال: من وجد لي ناقة وله ناقة؟ قالوا: كيف تعطي على الناقة ناقة؟ قال: إنكم لا تعرفون بفرحة الغائب إذا أتى..! فهو يريد أن يدفع الحاضر حتى يجد الغائب.

    فغضب النبي عندما ذكر الإبل, لماذا غضب صلى الله عليه وسلم؟

    غضب لأنه تعرض لشيء لا يتعرض له, فمن قال لك أن تتصيد إبل الناس وهي تمشي ولا خوف عليها, قال: (يا رسول الله! ضالة الإبل, فغضب حتى احمر وجهه صلى الله عليه وسلم, قال: ما لك ولها؟ دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر) يقول عليه الصلاة والسلام أنت لست مكلفاً بها، الإبل لا يخاف عليها, لا يأكلها السبع، ولا يجترئ عليها الذئب, ولا تموت ظمأ, وفي الغالب لا تموت جوعاً, لأن الجمل يصبر على الجوع أياماً كثيرة، وكذلك الظمأ, وهو قد يصارع النمر، والأسد، فهو ينجو بنفسه, والذئب لا يجترئ على الجمل, فيقول صلى الله عليه وسلم: (دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر).

    قيل لـابن الجوزي: ما رأيك في الإنسان الجاهل إذا اعتزل عن الناس؟ قال: عزلته خبال ووبال وضلال, قالوا: والعالم إذا اعتزل؟ قال: العالم إذا اعتزل.. دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها, ومعنى ذلك أن الإنسان إذا وجد مثل هذه الأمور، يعني: الإبل فلا يتعرض لها.

    أما البقر فهي مسألة خلافية, وأما الغنم ماذا يفعل بها؟ قال صلى الله عليه وسلم: ( هي لك أو لأخيك أو للذئب) يقول عليه الصلاة والسلام إذا وجدت ضالة غنم فخذها، فإنك إن لم تأخذها أخذها الذئب, لكن ماذا تفعل بها؟ تستمتع بها، فإن جاء صاحبها فعليك أن تؤدي ثمنها له، وجدت شاة في الفلاة, وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان إلى الحارات فإذا وجد كبشاً داخل الحارة يأخذه: ويقول: هي لك أو لأخيك أو للذئب, -لا!- هذه في الفلوات.

    يقول الإمام مالك: حدود العمار لا يتعرض لها، أي: لا يتعرض لسوارح الناس ومواشيهم ومزارعهم فيأخذ الضالة ويقول: هي لك أو لأخيك أو للذئب, -لا- المقصود بذلك في الصحاري, يأخذها من الصحاري ثم يذبحها فإن أتى صاحبها فبها ونعمت، وإلا فليستمتع بها وغفر الله له ذنبه, وبعض أهل العلم يقول: لو تصدق بها على نية صاحبها لوصلت بإذن الله، مثلاً: إنسان كان له أجير عامل، اشتغل له في عمارة ثم ترك أجره وذهب إلى بلاده, ماذا يفعل؟ إذا لم يستطع إرسال هذا المال، وظن أنه لن يعود وغلب ذلك على ظنه، فليأخذ ماله، وليتصدق به على نية ذلك العامل, هذا هو الحكم إن شاء الله فيه.

    1.   

    زيد بن خالد يروي حديثاً في العقيدة

    زيد بن خالد الجهني له فيما أعلم أحاديث قليلة، ما يقارب أربعة أو خمسة أحاديث في البخاري، منها حديثه الشهير وهو من الأحاديث المعتمدة في كتاب التوحيد وفي العقيدة الإسلامية, وفيه فوائد جمة.

    يقول: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في الحديبية في إثر سماء من الليل أي: بعد نزول مطر في الليل فلما صلّى بنا صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر التفت إلينا قال: (أتدرون ماذا قال ربكم تبارك وتعالى؟ قلنا: لا يا رسول الله! -وربما قالوا: الله ورسوله أعلم, وهذا خطاب الصحابة دائماً- قال: يقول الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب, وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا.. فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب).

    هذا الحديث من أعجب الأحاديث, ولذلك أتى به الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد، وقرره كثير من أهل العلم كـابن القيم وابن تيمية قبله, وغيرهم كثير, وهو ينهى عن مسألة التعلق بالأسباب من دون الله عز وجل.

    معنى الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل في الحديبية ومعه الصحابة، أمطرت السماء بفضل الله عز وجل في الليل, فلما نزل المطر والغيث صلّى بهم صلى الله عليه وسلم, فالتفت بعد الصلاة يحدثهم عن هذه القضية العقدية الكبرى, قال: (أتدرون ماذا قال ربكم؟) من أخبره صلى الله عليه وسلم أن الله قال؟ إنه بطريق الوحي, الله يوحي إليه كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5].

    فقال الصحابة متهيبين متورعين مستحين: الله ورسوله أعلم, قال: (فإن الله يقول أصبح من عبادي) يعني: في هذا الصباح بعد هذا المطر, أصبح الناس صنفين:

    صنف يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته, وهذا مؤمن بالله كافر بالكواكب؛ لأن الكواكب لا تنفع ولا تضر, بل هي خلق من خلق الله عز وجل.

    وصنف آخر يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا.. وهذا موجود عند بعض الناس, أن يقول: مطرنا بنوء الثريا، أو بسهيل، أو بالسبع..! فهذا كافر بالله مؤمن بالكواكب, لكن في الأمر تفصيل.

    ومشهور عند الناس هنا وفي الأوساط الاجتماعية أنهم يقولون: إذا دخلت هذه السبع، أو دخل سهيل، أو دخلت الثريا نزل الغيث, فهل هذا تعليق للغيث بالكواكب أو كفر بالله؟ -لا- إن معنى كلامهم إن شاء الله -كما يقول ابن الأثير - إن هذه المواعيد وهذه الهيئات وهذه العلامات مواعيد لنزول الغيث من الله عز وجل, فهي علامات فحسب, فلا ضير عليهم وليس عليهم إن شاء الله بأس, الذي يقول مثلاً: يمطر بنوء كذا.. أو سوف يأتي نوء كذا ومعه المطر فمعناه: أنه علامة للمطر, وأنه في وقت نزول الغيث من الله عز وجل, وهؤلاء معتقدهم أن الذي ينـزل الغيث هو الله, وأنه هو الذي يكشف الضر والبأساء واللأواء.

    أما من قال: إن هذا النوء إذا جاء هو الذي يمطر الناس وغيره لا يمطر، فهذا الكافر, قد كفر بالله عز وجل.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يرد الأسباب إلى مسببها سُبحَانَهُ وَتَعَالى, والكواكب خصت لأنه وجد الصابئون وغيرهم من عبدة الكواكب, ولذلك ابن سيناء يتكلم في كتبه ويقول عنهابن تيمية: وإنه يدعو في بعض كتبه إلى عبادة الكواكب والنجوم من دون الله, ابن سيناء الذي يقعقع بذكره في المجالس، والأندية العلمية، والمؤسسات العلمية حتى في أوساطنا!

    فابن سيناء هذا ضال مضل, نسأل الله العافية مما أصابه, لقد تعلم علمه كما قال تعالى: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] باطني, فلسفي, كوكبي, إسماعيلي, صابئ, متكلم.

    قال ابن تيمية في كتاب المنطق المجلد التاسع: قال أهل خراسان: ابن سيناء ذكي كافر, فأنا قلت هذا لئلا يغتر بكتبه؛ لأن له مذكرات وكتيبات، وينقل منه في بعض المؤلفات, وهو يعظم الكواكب والنجوم من دون الله, ويقول: إن الإله الذي في الكون هو العقل الفعال, فإن صح عنه ذلك -كما قال أهل العلم- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, وإن كان قد تاب فيتوب الله على من تاب, لكن لا يغتر بمبادئه؛ لأن علم الكواكب شرك عند المسلمين وقد تناقلوه، وبعض المسلمين أخذه عن الصابئة.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذا الأمر.

    وهذا الحديث من أحاديث التوحيد الكبار, فالرسول صلى الله عليه وسلم يثبت الأسباب, لكن أين مسببها.. إنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولذلك يقول: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) ويقول له الأعرابي: إنها تزيل الوهن. قال: (لا تزيدك إلا وهناً) والتميمة هي: شيء من خيط، أو خرزة، أو ظفار، أو قرطاس يكتب فيه شيء, ومن كتب هذه الأمور من غير الآيات، واعتقد فيها نفعاً أو ضراً فقد أشرك بالله عز وجل، وكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

    وسمعنا في بعض الأوساط أن قوماً حرف الله قلوبهم, وأضلهم على علم, وطبع على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم: أنهم يتعاملون بالسحر, ويكتبون بعض الأوراق لبعض الناس, فمن أتاهم وصدقهم فقد كفر بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن أتاهم فلم يصدقهم لم تقبل له صلاة أربعين يوماً, وهذا موجود، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أتى لإنهاء هذه الخرافات والتبعية والتقليد والتأخر, والضحك على عقول الناس, وأكل أموال الناس بالباطل, فانتبهوا أثابكم الله لهذا الأمر.

    فمن ادعى علم الغيب من رجل أو امرأة فقد كذب على الله، والجن يخدمونهم, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يأتي هذا الإنسان الذي يدعي علم الغيب حتى يأتي وينجس نفسه لتتلبس به الجن، ويزيد بعض الكلام, ومن العجيب أن غلاتهم هؤلاء من الإنس، لم تأته الجن حتى اشترطت عليه شرطاً وهو أن يبول على المصحف! فبال على المصحف فتلبست به, قال تعالى: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا [الأنعام:128].

    يقول ابن تيمية: وكذلك يأتون إلى الأماكن الوسخة لتأتيهم الجن، فيجلسون في المزبلة والمجزرة والمقبرة ويدعون الجن من دون الله, ولا يقولون: باسم الله حتى تأتيهم الجن, ويقول: وقد قبضت على أناس كثر منهم حتى إن بعضهم يبقى في الجنابة عشر سنوات أو أكثر، لأنه لو اغتسل لا تأتيه الجن، ولذلك أعظم ما يؤمنك من الشياطين هو الوضوء، والغسل من الجنابة، وذكر الله عز وجل.

    فهؤلاء الذين يتعاملون بهذه المعاملة لا تقول: إنهم أولياء لله, وسمعنا في بعض الأوساط أنهم وجدوا من الرجال والنساء, امرأة تدعي علم الغيب، وهي تدعي إخراج الماء من الآبار وتريه للناس, وإنما يخدمها الجن، وهي من أفجر نساء العالمين وحسيبها الله عز وجل.

    وسمعت أن رجلاً إماماً في مسجد -أعجب من العجب- يكتب هذه الأوراق, ولما فتحت هذه الأوراق وجد أنه ليس فيها آية، ولا حديث، وإنما هي سحر وبهتان.

    وحد الساحر ضربة بالسيف, ومعنى ذلك أن من يسمع لهم أو يصغي لهم فقد أعان على تأصيل الكفر.

    والله قد يبتلي العبد, فتمرض زوجته فلا تجد علاجاً في مستشفيات العالم حتى العلاج عند هذا, ليرى الله هل تصبر على المرض، أو تأتي بها إلى هذا ليكشف ضرها, فإذا ذهبت بها وكشف الله ضرها, خسرت في الدنيا والآخرة.

    ويبتليك بولدك فيمرض مرضاً عجيباً، ويستعصي عليه الطب والأدوية، فإذا أتيت إلى هذا المجرم الأفاك الأثيم وجدت عنده العلاج, قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] وقال: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] وهذه الخرافة أتى صلى الله عليه وسلم لإنهائها.

    ويوم توجد مثل هذه الخرافات في المجتمع فإنها تدل على ثلاثة أمور:

    1- على أن الأمة هبطت في مستواها الثقافي هبوطاً لا يعلمه إلا الله.

    2- تضحك علينا أمم العالم, ماذا يقول أعداء البشرية من الأمريكان والإنجليز إذا رأوا الناس المصلين الصائمين، أهل القرآن، وأهل العقيدة يذهبون إلى مقرطسين؟

    3- إن معناها تأصيل الكفر, وخاصة في الجزيرة العربية , التي عصمها الله فلا يجتمع فيها دينان, فمن فعل ذلك فقد أعان على تأصيل الكفر.

    وإنما نبهت على هذه القضية لأنها من أخطر القضايا, وحبذا لو كتب فيها الكثير, وخطب فيها، وتكلم في المجالس العامة لأنها وجدت ويجدها خاصة من يداخل الناس, ويرى بعض المنشورات, وبعض الأخبار والأعلام.

    نسأل الله لنا ولكم الهداية والسداد والتوفيق والرشد, وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يتولانا وإياكم في الدارين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755982652