إسلام ويب

تفسير سورة مريم [35-40]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كذب الله النصارى وغيرهم في زعم الولد لله تعالى، ونزه نفسه عن ذلك، وذكر أنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. ثم ذكر اختلاف النصارى واقترافهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ثم هدد وتوعد الذين كفروا وظلموا من مشهد يوم عظيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كان لله أن يتخذ من ولد ...)

    قال الله جل جلاله: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:35-36].

    بعد أن علمنا الله جل جلاله وقص علينا قصة زكريا وقصة ولده يحيى، وقصة خلق عيسى من غير أب، ختم الله ذلك بقوله: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم:35] أي: لا يليق بجلاله ولا يليق بحق ألوهيته ولا بصفاته أن يكون الرب أباً كالمخلوقات.

    قال تعالى: سُبْحَانَهُ [مريم:35] فالله ينزه نفسه جل جلاله عن أن يشبه خلقه في ولد أو ولادة أو في شيء مما يتعلق بالمخلوق، فالله هو الخالق والرازق والذي أكسب هؤلاء قوة ليكون لهم أولاد وصواحب، وأما هو جل جلاله فهو منزه عن ذلك ومعظم عنه فلا يليق به ولا بألوهيته، قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    قال تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا [مريم:35] أي: إذا سبق في علمه وقضائه وإرادته أن يكون له أمر كأن يخلق شيئاً، فهو لا يحتاج لصاحبة ولا ولد، وإنما يقول للشيء: كن فيكون، فالله لا يريد ولداً ولا يليق بجلاله أن يكون له ولد من حمل أو من غير حمل.

    فعيسى عليه السلام كان من نفخة الروح، فحملته أمه تسعة أشهر ثمَّ ولدته كما يلد النساء حملاً ووحماً وعذاباً ومخاضاً وولادة، والله جل جلاله لا يحتاج لذلك ولا يليق به أن يكون له ولد، إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم:35] أي: إذا تعلقت إرادته وقدرته بالشيء، فيكفي أن يقول له: كن فيكون، فكما خلق آدم من تراب وحواء من ضلع آدم، وخلق السماوات العلا والأرضين السفلى وما بينهما، فلم يحتج إلا إلى قوله: كن فكان ذلك، ولا يزال الخلق مستمراً، ولا يزال الله وسيبقى الخالق المدبر الرازق المعطي المانع المحيي المميت، فكل ما يريده جل جلاله لا يحتاج منه إلى أكثر من قوله له: كن فيكون.

    يقول عيسى عليه السلام: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36]، وقرئ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم:36] عطف على قول عيسى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31] أي: وأوصاني بأن اتخذ الله رباً؛ لأن الخلق جميعاً مربوبون فما خلقنا إلا لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    فعيسى عندما ولد طفلاً رضيعاً أنطقه الله تعالى وآتاه الحكم والكتاب والنبوة صبياً، فكان أول ما قال: إنه عبد الله، وهنا يؤكد ذلك ويقول لنفسه وللناس: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم:36] أي: إن الله جل جلاله هو ربي وخالقي ورازقي، فهو يزيف بذلك ما زعمه النصارى عنه من أنه الرب أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.

    فقوله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم:36] أي: كما هو خالقي فهو خالقكم، وكما هو رازقي فهو رازقكم، والأمر بيده إحياءً وإماتةً.

    فالله جل جلاله أنطق عيسى عند الطفولة وهو لا يزال في المهد: أن يكذب ما سيكون بعد ذلك من اتهام اليهود له، وقذفهم له أنه ابن يوسف النجار ، أو غلو ومبالغة النصارى عندما جعلوه الله وعبدوه، فعيسى قد قال عن نفسه: إنما أنا عبدٌ لله، وربي الله كما هو ربكم، فلا يعبد سواه، ولا ينزه سواه، ولا يعظم سواه جل جلاله.

    قال تعالى: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36] يقول عيسى: هذا الذي أتيتكم به صراط سوي واضح بين، ليس فيه عوج ولا أمت، وهو يدعو إلى عبادة الله الواحد، فالكل عبيد له ومخلوقون له، وأن دينه الذي أتى به دين سوي مستقيم لا يفسد على الناس عقولهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( فاختلف الأحزاب من بينهم ...)

    قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم:37].

    مع هذا الذي أعلنه عيسى في بني إسرائيل من أتباع التوراة والإنجيل فقد اختلفوا، ولذلك فإن النصارى يقولون عن التوراة: العهد القديم، وعن الإنجيل: العهد الجديد، فلا تزال التوراة بالنسبة لهم غير منسوبة، والإنجيل مؤكد.

    ومن هنا نعلم أن النصارى كانوا يهوداً أولاً ثم صاروا نصارى، فزادوا على فساد اليهودية وخزعبلاتها، وحرفوا كتاب الله الإنجيل، وقد جمعوا بين الشرين كما جمعوا بين الكفرين.

    قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مريم:37] أي: اختلف قوم عيسى إلى أحزاب وطوائف ومذاهب، فكانت النصرانية موضع خلاف عند المتمسكين بها والعابدين على أساسها، فشكل قسطنطين وهو من كبار ملوكهم مؤتمراً ليخرج منه بشيء خاص يدعو إليه جميع النصارى، فاجتمعت أحزاب النصارى كلها، فقال بعضهم: عيسى هو الله، وقد قص الله علينا ذلك في كتابه، وقال قوم: هو إله وابن إله، وقال قوم: هو ثالث ثلاثة، وقد كذبوا جميعاً وأفكوا، حاشى لله من هذا القول، فاختلفوا إلى طرائق قدد كفراً منهم وجحوداً.

    قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم:37] أي: كفروا بما أنزل الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه كمثل آدم خلقه الله من تراب، ثم قال له: كن فكان، فكان عيسى فرعاً من آدم، فكما خلق آدم بلا أب ولا أم خلق عيسى من أم بلا أب، وخلق حواء من ضلع آدم.

    فأحزاب النصارى كفروا بما أنزل الله، وأن عيسى عبد الله ونبيه، وابن الصديقة مريم، وأن الله واحد لا شريك له، ولا يليق أن يكون له ثان جل جلاله وعلا مقامه.

    فقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم:37] أي: ويل للكافرين بالحق وبالوحدانية، والويل: نهر من قيح في النار، ومعناه: يا مصيبتهم، ويا بلاءهم يوم يدخلون النار فيكون شرابهم من قيح جهنم، ويخلدون فيها أبداً سرمداً إذا هم ماتوا على الشرك والوثنية.

    واليوم العظيم: هو يوم القيامة، يوم العرض على الله، ويوم الحساب يوم يكون فيه قوم إلى الجنة وقوم إلى السعير، ويوم يعرض الناس على ربهم في يوم كألف سنة مما تعدون، ويكون اليوم عظيماً شديداً يشتد فيه العرق على المعروضين على الله جل جلاله، فالبعض يصل عرقه إلى كعبيه، والبعض إلى ساقيه، والبعض إلى ركبتيه، والبعض إلى ثدييه، والبعض يلجمه العرق إلجاماً.

    ويكون في هذا اليوم من ميزة المؤذنين أن تكون أعناقهم طويلة، فمهما بلغهم العرق فإنه يبقى الرأس وما فيه من حواس بمنجى من الاختناق بماء العرق، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، ومن لم يعلم هذا لا يعلم معنى الحديث، فكونهم دعاةً إلى الله وإلى عبادته ويؤذنون لدخول الوقت أكرموا بذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ...)

    قال تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38].

    يقول الله عن هؤلاء الكافرين الذين لهم آذان لا يسمعون بها، وأبصار لا ينظرون بها، وقلوب لا يفقهون بها، وهكذا غفلوا وضاعوا، وضلوا عن سماع الحق ورؤيته وفقهه وعلمه، لكنهم لم يكونوا كذلك يوم العرض على الله، فالله يقول: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38] أي: ما أشد سمعهم وما أشد بصرهم، فلا تكاد تفوتهم كلمة تقال يوم القيامة، ولا يكاد يفوتهم منظر يوم القيامة، فهم حداد البصر شديدو السمع يوم القيامة، وهم إذ ذاك يرون ما أوعدهم الله به من عذاب أليم ومحنة دائمة، ومن الويل في نار جهنم، فتجدهم كلهم آذاناً وأسماعاً وقلوباً تفقه وتدرك، ولم يكونوا كذلك في دار الدنيا؛ لأنهم عاشوا شاكين مرتابين، ويوم القيامة أصبح الشك حقيقة والخيال واقعاً، وأصبح ما كانوا يكذبون به يعيشون في وقته وحاضره وواقعه.

    فقوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38] أي: ما اشد سمعهم وأقوى بصرهم يوم القيامة، وقد بعثوا من بعد الموت، وعرضوا على الله خالقهم؛ ليحاسب كل مخلوق على عمله إما إلى جنة وإما إلى نار.

    قال تعالى: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38] أي: لكن الظالمون أنفسهم بالشرك والكفر والضلال هم اليوم -أي: في دار الدنيا- في ضلال مبين وضياع واضح وفساد بين، فلا يعرفون الحق ولا يريدون أن يعرفوه، فإذا قرئ عليهم كتاب الله أعرضوا عنه وتولوا، وإذا قال لهم رسول من رسل الله: أنا رسول الله إليكم كذبوه وآذوه، وفرقوا الناس عنه، وصدوا عن طاعته، فهكذا هم اليوم في دار الدنيا يعيشون في ضلال واضح وبلاء بين، ولكنهم إذا أتوا يوم القيامة فما اشد سمعهم وما أقوى أبصارهم!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ...)

    وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39].

    أي: وانذرهم يا محمد! على ضلالهم وعلى فسادهم وصم آذانهم وعمي أبصارهم، ومعنى: (أنذرهم): خوفهم مما سيكون عليهم إن بقوا هكذا إلى الموت؛ لتكون حجة الله البالغة، وليكون أمر الله هو النافذ، فإذا أتوا ربهم يوم القيامة، وسألتهم الملائكة: ألم يأتكم رسول وينذركم ويبشركم؟ ألم يأمركم وينهكم؟ لم يجرؤ أحد أن يكذب، ولو كذبوا شهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بأنهم كانوا كاذبين.

    ويوم الحسرة: هو يوم القيامة، يوم يتحسر المؤمنون ويتحسر الكافرون، والحسرة: هي الندم في شدته والألم في نهايته، يوم يندمون كلهم ولات حين مندم، فيندم المسلمون ويتحسرون؛ لأنهم لم يزدادوا طاعة وإيماناً وإيقاناً وعبادة.

    ويتحسر الكافر؛ لأنه طالما أنذر وذكر وهو حي يرزق، وقد يكون بعضهم عمر سنين وأعواماً وقارب المائة أو تجاوزها، ولم يزدد من الله إلا بعداً، وبالأنبياء كفراً، وبكتب الله الحق إبعاداً وتزييفاً وإفساداً، وصداً للناس عنها، ففي هذا اليوم يبعثون ويعرضون على الله، ويسمى بالنسبة لهم يوم الحسرة؛ إذ يتحسرون ويندمون ويتألمون ويتوجعون، ولو أنهم انتبهوا في دار الدنيا فآمنوا بالله على الأقل رباً، وبأنبيائه عبيداً مكرمين رسلاً لكان خيراً لهم، ولكن هيهات فقد سبق السيف العذل، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

    فطالما أنذرهم كتاب الله، وأنذرهم الهادي رسول الله، وأنذرهم ورثة الأنبياء العلماء العارفون بالله مثل هذا اليوم، أنذروهم عذاباً وغضباً ولعنة، وما زادهم ذلك من الله إلا بعداً.

    قال تعالى: إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ [مريم:39] أي: الأمر الذي كانوا يرتابون فيه من بعث بعد الموت، وجنة ونار، فيكون قد قضي وتم وعلم أهل الجنة من أهل النار، وأهل الرحمة من أهل الغضب.

    ومن هنا يزدادون حسرةً وألماً وندماً، فيمنون أنفسهم بأن العذاب إذا اشتد سيموتون ويستريحون وهيهات أن يكون لهم ذلك، بل يؤتى بكبش فيقال لأهل النار: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويقال لأهل الجنة: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم، هو الموت، فيذبح الموت، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فيزدادون بذلك حسرةً وألماً وتوجعاً.

    وكما ورد في الآثار النبوية يفرح المؤمنون يوم ذاك فرحة لم يفرحوا مثلها قط، ويزداد الكافرون حسرة إلى حسرتهم، فمن في النار كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، ومن في الجنة لا يملون ولا يقنطون، فهم من درجة إلى درجة، ويتزاورون ويجتمعون ويتحدثون عن تاريخهم في الدنيا، ويبحث المؤمن عن أهله في الجنة، فإذا وجدوا أهاليهم زادوا بذلك فرحاً وشكراً لله على نعمه وآلائه.

    فقوله تعالى: إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ [مريم:39] أي: إذ تم الأمر الذي كانوا فيه شاكين مرتابين، فيوم القيامة الذي أنكروه سيعيشون في واقعه، والجنة والنار التي أنكروها كذلك سيعيشون في واقعها، فبعضهم في الجنة وبعضهم في السعير.

    فعندما يقضى الأمر تبدو حسرة الناس: حسرة المؤمنين أنهم لم يكونوا ازدادوا إيماناً وعبادة، وحسرة الكافرين أن لو كانوا آمنوا ولو باللسان: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] بمعنى: لو أنهم آمنوا بالله لساناً وجناناً حتى ولو لم يعملوا فهم مؤمنون على كل حال ويطمعون، والإيمان كلٌ لا يتجزأ، فعندما يؤمن الجنان تنطق الحواس، وكل حاسة نطقها بحسبها، فعبادة اللسان بالذكر وبالتلاوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا لكل حاسة عبادة.

    قال تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]، فقد كانوا في دار الدنيا غافلين عن هذا القضاء، غافلين عن يوم القيامة لاهين ساهين رغم كونهم سمعوا ذلك أكثر من مرة، وحضروا ذلك أكثر من مرة، ولكنهم لم يستقبلوا ذلك إلا بالاستهزاء والسخرية بأنبياء الله وبالعلماء العارفين بالله، وما زادهم ذلك إلا خسراناً وكفراناً، وهكذا إلى أن وجدوا أنفسهم قد ماتوا ثمَّ بعثوا، عاشوا في الدنيا في غفلة وهم لا يؤمنون بالله رباً ولا بأنبيائه رسلاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون)

    قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40].

    فيكون الكون قد ماتت فيه كل حركة ونسمة، وأصبح كل شيء تراباً، فمات الملك والسلطان، ومات النفوذ والأولاد، ومات الجند والعشيرة، وعادت الدنيا لما كانت عليه قبل خلقهم خراباً ليس فيها حركة ولا حياة، وفي هذه الحالة يقول الله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16] فلا مجيب، فيجيب نفسه بنفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] .

    يوم يرث الله الأرض ومن عليها ويكون قد مات كل حي قبل البعث، فلا يبقى أحد في الكون: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، ففي هذه الحالة يكون الله هو الوارث، وهو من قبل الخالق، والكل له حتى في وقت ادعاء الملكية، فيرثهم الله ويأخذ ملكهم وقواهم وجيوشهم وجبروتهم وطغيانهم، فكل ذلك لا يبقى له مالك إلا هو، فهو ملك الملوك جل جلاله.

    قوله: وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40] أي: هلكوا وماتوا ومرجعهم إلى الله، أي: أنهم يبعثون بعد الموت، وهناك الجميع يتحسرون على عبادة لم يقوموا بها، أو على إيمان لم يقوموا بواجبه، ولم يقوموا بحقيقته، فإن ماتوا وهلكوا لم يبق إلا الله وارث الكون، ثم إليه يرجعون ويبعثون للحساب وللعقاب وللعرض عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756037050