لا زال الله جل جلاله يصف لنا من حال الكفار وعنادهم، وأقوالهم الصلعاء التي لا منطق لها، ولا عقل فيها، ولا دليل عليها، إن هي إلا هراء وسخافة، وكذب على الله، وإصرار على الباطل، يقول الله جل جلاله: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء:36].
أي: إذا رآك الكفار قائماً مصلياً لا يتخذونك إلا هزواً، فيستهزئون بدينك، وبرسالتك وكلامك، إصراراً على الباطل، وزيادة في الكفر والعناد، ولتصيبهم اللعنة في الدنيا قبل الآخرة.
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء:36] يهزءون بك، ويسخرون منك، ويقولون: أهذا الذي يذكر آلهتكم، دون أن يسموك، ودون أن يصفوك بما هو معروف عنك من الصدق والأمانة.
قوله: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36] أي: أهذا الذي يعيبها ويشتمها؟ لقد استكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر من الأحجار والأوثان، ومن الأباطيل والأضاليل، وينفي عنها العقل والحياة، والضر والنفع، قالوا عن هذا: عيب، وقالوا: شتيمة، وقالوا: تنقيص.
قوله: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36] أي: يعيبها في ذكره، ويتنقصها، ويعنون آلهتهم كهبل وغيره من الأصنام التي كانوا يضعونها في جوف الكعبة، وفي خارجها.
والكلام عن هؤلاء وعن كل من يتخذ الأوثان والأصنام آلهة من دون الله، من اليهود الذين اتخذوا العزير والعجل إلهاً، ومن النصارى الذين عبدوا عيسى ومريم ، والذين اتخذوا الأخشاب والأصنام والحجارة آلهة يعبدونها من دون الله، أو يعبدونها مع الله، فكانوا يهزءون بالنبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول هذا عن آلهتهم، حتى إذا رأوه ماراً أو طائفاً بالكعبة أخذوا يقولون: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36] أي: يعيبها ويتنقصها، يقول الله عنهم: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء:36].
هؤلاء الذين يكفرون بالرحمن، ويكفرون بالله، ويتخذون معه شريكاً يصفونه بما لا يليق أن يوصف به، لا يعدون ذلك عيباً، ولا يعدون ذلك تنقيصاً، فهم يأتون إلى سيد الخلق والبشر صلى الله عليه وسلم عندما يعظهم ويرشدهم، ويوجههم إلى اتباع الحق، واتباع الصراط المستقيم، وأنهم ليسوا على شيء، وأنهم لا يتبعون إلا باطلاً، وديناً كاذباً، فهم يأتون لهذه الدعوة الكريمة يهزءون بها، ويعتبرون من تنقص أوثانهم وأحجارهم وآلهتهم المزيفة كافراً، مع أنهم يكفرون بالرحمن ولا يؤمنون به إلهاً واحداً، ولا يؤمنون به رباً قادراً، أهناك شيء في العجب أكبر من ذلك!
هؤلاء يقولون: أين هذا الذي ذكرت يا محمد من نزول الصواعق، والغلبة، والعقاب، ومن الذل والهوان الذي ينزل علينا؟ إن كان هذا حقاً فعجل به، فقال الله عنهم: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] أي: الإنسان جبل على العجلة والتسرع، لا يريد أن يهدأ وينتظر ويفكر فيما هو عليه أحق هو أو باطل؟ قبل أن يطلب لنفسه العذاب، ويستعجل العقوبة، فلا يفلت منها إذا جاءت، ولا يردها عنه راد.
وقالوا هنا: إن أبانا آدم عليه السلام عندما خلقه الله، ونفخ فيه من روحه، جاءت الروح من رأسه، فوصلت عينيه ففتحهما، فوصلت إلى فيه فنطق، فوصلت إلى جوفه، فشعر بالشهوة، ورأت عيناه الثمر، وتكلم لسانه يطلبها، واشتهى ذوقه وبطنه أن يأكل من هذه الثمرة، فحاول أن يقف ليجنيها ويأخذها بيده، وإذا به يقع؛ لأن الروح لم تصل بعد إلى رجليه، ليستطيع القيام، فكانت هذه هي العجلة التي وصف بها، وأصبحت صفة لازمة للإنسان، قيل هذا، ولم ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يؤكده؛ لكنه نقل عن بعض التابعين، وهذا أشبه ما يكون بالإسرائيليات.
والقرآن نزل بلغة العرب، ومن عادة العرب أن تقول لمن أكثر من شيء وبالغ فيه: فلان خلق من الغضب، أي: كثير الغضب مثلاً، فلان خلق من عجل، أي: كثير العجلة، وكان الإنسان عجولاً.
وما أكثر عجلة الإنسان وعدم تأنيه إلى أن يستوعب الأمور ويتدبرها! ومن هنا جاء في الآثار النبوية: (التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان) والعجلة قلما تأتي بخير.
فقوله: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] أي: ما أكثر عجلته، وعدم تأنيه! والإنسان لولا الوحي والرسل، ولولا الكتب السماوية لكان وحشاً ضارياً، وهذا ما أكده القرآن عندما قال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، أي: أن الإنسان خاسر هالك إلا من استثناه الله، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
الإنسان غير الخاسر هو من آمن، وأتى بعد الإيمان بالصالحات، وأتى بعد العمل بالصالحات: الأمر بالمعروف، والتواصي على الحق، ويأتي بعد ذلك في الدرجة العليا: الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله عندما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37] أي: لا تستعجلوا لهؤلاء الكفار سيريهم الله آيته وقدرته، وعقابه وانتقامه، دون أن يستعجل فهو آت لا محالة، قال تعالى: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81].
في هذه الحالة والنبي صلى الله عليه وسلم يعظهم على كفرهم، ويأمرهم بعدم العجلة، وأن عقاب الله لمن أقام على الكفر، واستمر عليه، فيأتيه لا محالة، ستأتيه قدرته وعقوبته؛ لكفره واستهزائه بسيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أي: يقولون للنبي صلوات الله عليه ولأتباعه من المسلمين متحدين مكذبين معاندين، يقولون: إن كنت يا محمد رسولاً حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب من ربك، لم يطلبوا العفو، ولم يطلبوا اليقين، ولم يطلبوا أن يشرح الله نفوسهم وقلوبهم للتمييز بين الحق والباطل، ولكنهم عجلوا وبادروا في طلب العقوبة.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:38] أي: متى هذا الوعد بالهلاك؟! متى هذا الوعيد بما زعمت يا محمد؟ ويا أتباع محمد! ائتونا بهذا إن كنتم صادقين، إن كنتم مؤمنين حقاً بنبيكم وإلهكم فاطلبوه أن ينزل على الكفار -على هؤلاء المستعجلين- عذاباً ونقمة وعقوبة.
وقد فعل الله ذلك بهم أما في الدنيا فعوقبوا يوم بدر عقوبة مدمرة مهلكة، قتل فيها زعماؤهم، وأسر فيها سادتهم وكبراؤهم، وشرد الجيش ودمر، وقطع شذر مذر بما كان سبب الفتح أخيراً، وخروجهم من مكة، أو خضوعهم للإسلام صاغرين، وهم من يسمون مطلقة الفتح، أي: الذين عندما جمعهم صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقال لهم: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم! وابن أخ كريم! قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وما أكرم العفو بعد المقدرة! وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم، ومنهم من حسن إسلامه، ومنهم مع الأيام من صار عظيماً فاتحاً، بقي مدة حياته يستغفر الله على عناده السابق، ومنهم من فر وقتل أو مات على الكفر.
أما هؤلاء المستهزئون أمثال أبي جهل وأبي لهب وأضرابهما، فقد قال الله لنبيه: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
وقال ابن تيمية : ما من أحد عرف بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم -سواء في حياته، أو بعد مماته، أو على مدى العصور- إلا وعوقب بسوء الخاتمة، وبالهوان والذل في الدنيا، والموت على الكفر، والذهاب إلى جهنم خالداً مخلداً، وهكذا فسر قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
وحكى بذلك أمثالاً شاهدها، وأمثالاً رواها، وقصصاً عاشرها وعايشها.
وَيَقُولُونَ [الأنبياء:38]: أي: يقول هؤلاء الكفار مستهزئون ومستعجلون: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:38].
إن كنتم يا معاشر المسلمين، فيما تروون عن ربكم، وتروون عن نبيكم، وأن الله القادر على كل شيء، وأن النبي المحبوب لربه لينتقم له من أعدائه، فأين هذا الذي ذكرتم؟ استعجلوا العقوبة، ومع الأيام قد حلت، ودمرت وأهلكت.
قوله: (لو يعلم الذين كفروا) الجواب محذوف للعلم به، أي: لآمنوا، لأسلموا، لتابوا، أي: لندموا على ما هم عليه من شرك، وبادروا إلى التوبة والتوحيد الإيمان.
أي: لو يعلمون عندما يدخلون النار، ويعاقبون، وتلفحهم في وجوههم، وتتبعهم من ظهورهم، وسياط ملائكة النار خلفهم، لو يرون العذاب ذلك الحين وهم لا يستطيعون كفاً ولا دفعاً، (ولا ينصرون) فلا يجدون من ينصرهم من ربهم، فلا تنفعهم آلهتهم المزيفة الباطلة، إنه يوم لا يجدون إلا أنفسهم مع العقاب والعذاب الذي أوعدوا به.
يقول تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:39] أي: لو يعلمون هذه الحالة، وبؤسها وألمها، وإيجاعها، لو يعلمون حين لا يكفون عن وجوههم النار، لو يعلمون عندما تلفحهم النار وتحرقهم، ويعذبون فيها، وهم لا يستطيعون ردها ولا دفعها، ولا يستطيعون أن يوقفوا لظاها، ولا عذابها، ولا يوقفوا نارها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، حينما تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الأنبياء:39] لا يجدون ناصراً، ولا معيناً ومؤازراً.
وجواب قوله: (لو يعلمون) هو: لما ارتدوا ولما كفروا، ولما استعجلوا العذاب، وحذف للعلم به، كما يقول ابن مالك في ألفيته النحوية:
وحذف ما يعلم جائز.
أي: ما يعلم من مضمون الكلام، وهو من البلاغة، والقرآن مليء بذلك.
(بل) حرف إضراب عن الماضي، عن هؤلاء الذين استهزءوا، وعن هؤلاء الذين لم يفكروا ويغتنموا فرصة حياتهم فيتوبوا إلى الله، ويعودوا للإيمان والطاعة، دعك من كل ذلك، فلم ينفعهم، ولم ينتهزوا شبابهم قبل شيخوختهم، ولا حياتهم قبل مماتهم، وبقوا هكذا إلى أن أحاط بهم عذاب الله وعقوبته ونقمته.
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الأنبياء:40] تأتيهم العقوبة.. تأتيهم النار.. يأتيهم عذاب الله.. يأتيهم ما استعجلوا به من العذاب والنقمة بغتة وفجأة، قد يأتيهم وهم نائمون، وقد يأتيهم وهم ضاحكون، وقد يأتيهم على حالة لا يكادون يتصورون وجود ذلك فيها، فتبهتهم، فيصبحون حيارى تائهين زائغي العيون، ضائعي النفوس، وهكذا كمن أصيب بمس، فلم يعرف ما يقدم ولا ما يؤخر.
قوله: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الأنبياء:40] أي: تحيرهم، وتذهلهم.
قوله: فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا [الأنبياء:40] أي: فلا يستطيعون رد العذاب والعقوبة، ورد النقمة ودفعها وكفها عنهم.
قوله: وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [الأنبياء:40] أي: لا يتربص بهم، ولا ينتظر بهم وقتاً آخر لعلهم يرجعون؛ لأنهم قد مضت المدة التي سمى الله مع نفسه، وأرجعه فيها، وأمهله فيها، فلم ينتفعوا بها، وحينما تأتيهم -ويصبحون في العذاب- لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.
هذه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع له، وتقوية لنفسه من ربه ومرسله وخالقه جل جلاله.
قوله: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنبياء:41] أي: رسل أرسلناهم قبلك، منذ أبينا آدم إلى إدريس.. إلى نوح.. إلى إبراهيم.. إلى جماعة أنبياء بني إسرائيل.. إلى النبي الذي سبقك ببضع قرون وهو عيسى عليه وعلى نبينا وعليهم جميعاً السلام، تلك عادة الكفار، وسنة المرسلين؛ ليكونوا قدوة للمؤمنين بعدهم؛ حتى إذا استهزئ بهم لا يكلون ولا يملون، ولا يتراجعون، بل يمضون قدماً إلى النجاح أو الموت، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم، فعندما جاء كفار قومه إلى عمه أبي طالب ، وعرضوا عليه الملك والتزويج بمن شاء من بنات قريش، وعرضوا عليه الغنى حتى يصبح أغناهم على الإطلاق، وإذا بـأبي طالب كأنه ظن أن هذا إنصاف من قومه، فعرض ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجيب النبي صلى الله عليه وسلم عمه بكلمته الصارمة، وهو الأسوة والقدوة لكل داعية بعده، فيقول: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي -ومن ملك الشمس والقمر ملك الدنيا بحذافيرها؛ لأن الكون لا يعيش بلا شمس، ولا يعيش بلا قمر- على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام على كثرة ما آذوه وشتموه، وعلى كثرة ما تآمروا عليه، وأدموا قدميه الشريفتين، وكسروا رباعيته، وهجروه السنين حتى كان يأكل ورق الشجر، وحتى كان يربط على بطنه الحجر من الجوع، وهو في كل ذلك صامد صمود الجبال، راسٍ رسو الجبال الشوامخ، لا تأخذه في الله لومة لائم، يدعو إلى ربه ليلاً ونهاراً، حضراً وسفراً.. إلى أن حج بهم حجة الوداع، قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام بأشهر، وهو يشهد الله ويشهد خلقه، قائلاً: (اللهم هل بلغت؟) فيقول الحاضرون: نعم قد بلغت، فيقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد).
فقد أشهد ربه على أنه قد بلغ رسالته، وعلى أن من بلغهم يشهدون بذلك ويعترفون به؛ ولذلك لقي الله راضياً مرضياً، مطمئن النفس على أنه قد قام بما أرسل به، وبلغ أحسن بلاغ.. إلى أن هيأ للرسالة من يحملها بعده من أمثال الرعيل الأول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وجاء الرعيل الثاني من التابعين فحملوا الرسالة، وهكذا كل جيل يحملها إلى الجيل الذي بعده حتى عصرنا، رغم كفر الكافرين، ويهودية اليهود، ونصرانية النصارى، وفي الحديث المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، وهم على ذلك إلى يوم القيامة)، ولكن الله يبتلي بالشر والخير فتنة، فمن بلي في نفسه، أو في جسمه وهو يدعو إلى الله، فإن صبر فله الجنة، والفوز أخيراً، فالله ناصر رسله وعبادة المؤمنين، والعاقبة للمتقين.
فمعنى الآية: ولقد استهزئ برسل من قبلك يا محمد، فاحمل وصفه، واتخذ من الأنبياء قبلك أسوة، فلست بدعاً من الرسل، فكما استهزئ بك استهزئ بهم، فصبروا وتحملوا، وعاشوا على ذلك إلى لقاء الله، وقبل الموت كان الظفر والنصر لهم، سحق الله أعداءهم، وجعلهم خاضعين عند قدميه، وقد ذلوا، وشردوا وقتلوا، وأسروا وهدى الله من كتب له الهداية، وعلم في قلبه الخير، قال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70].
قوله: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنبياء:41].
أي: فأحاط بالذين سخروا من هؤلاء الكفار عقوبة أخرى أشد من عقوبة الكافرين عموماً، فالكافر عن جهل ينتظر به لعل الله أن يهديه، والكافر المستهزئ العنيد لا يكتب الله له إلا سوء الخاتمة؛ نتيجة عناده وحرصه على الكفر واستهزائه بعباد الله المكرمين وبرسله صلوات الله عليهم أجمعين، فحاق العذاب بهؤلاء المستهزئين من بيننا، وحاقت بهم النقمة، وماتوا على سوء الخاتمة، وضلوا في الدنيا، وعوقبوا يوم القيامة بالسعير خالدين مخلدين أبداً: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر